أخبار الرابطة

رهان الحضارة في زمن الوباء

والعالم يعيش على وقع الوباء الخطير، تجندت الدول والأمم في حرب ضروس على عدو جاء ليختبر قدرة الإنسان علىالصبر والتحمل ومدى الاجتهاد والإبداع في دفع الضرر وحفظ صحة الإنسان…

فالصين تخرج كل ما في جعبتها للقضاء على الفيروس وحفظ ماء وجه حضارة عريقة أمدت الإنسانية بكثير من الحكمة والعلم وفن العيش، ودول أخرى صامدة في وجه العدو المتربص، الذي يستغل كل فجوة للانغراس في جسم الأمم لتمزيق أوصالها والعبث بأهلها والتشكيك في قدراتها وأسس حضارتها..

في ظل هذا الهلع العالمي الشامل يستبق المغرب الأحداث، ويعد العدة ويتجند قيادة وشعبا ومؤسسات عسكرية ومدنية من أجل التصدي للوباء الرهيب، من أجل وقف زحفه والسهر على سلامة المغاربة بفضل من الله…

لست مضطرا هنا لتفصيل مظاهر الاستعداد والتصدي التي أتحذت ببلادنا والتي يعرفها ويتتبعها الجميع عبر وسائل الإعلام، ويكفيني القول هنا إنها استثنائية ومشرفة وتستحق كل تقدير، وأحب هنا أن أحيي الشرفاء من أهل العلم والرياسة والتدبير الذين أبانوا على علو كعب وكثير همة وإخلاص للوطن…

ما أريد التأكيد عليه هنا أن هذا الاستعداد الرشيد الحكيم هو امتداد طبيعي لعمق حضارة المغرب العريقة في أبعادها التاريخية والعمرانية والتربوية والأخلاقية والإنسانية….

وإذا كانت الحوادث والإكراهات وتغير الأحوال وتبدل مسارات العيش وفق سنن التدافع والتداول قد أحالت كثيرا من عناصر تفوق حضارة المغرب إلى الخفوت وجعل توفقها وعمقها الإنساني منسيا متواريا، فإن الحضارة تبقى ما بقي الإنسان..

لما دخل المستعمر إلى بلادنا سعى جاهداإلى التقليل من شأن علم المغاربة وتحضرهم، فوصفوا الشعب المغربي باستفحال المرض، وكثرة الإصابات الجرثومية وانتشار الأوبئة وقلة النظافة و سيادة مظاهر البؤس والمرض والجهل… في الوقت نفسه، وبشكل يثير الاستغراب، نجد عديد الباحثين في الفترة نفسها، يبحثون وينقبون عن التاريخ الطبي للمغرب ومدى قوته وإسهامه في تطور الطب في حوض البحر الأبيض المتوسط مثبتين أن المدارس الكبرى للطب في أوربا مثل مدرسة ساليرنو ومدرسة مونبولييه ومدرسة بولونيا مدينة لكثير من أسس المعرفة الطبية التي تبلورت فوق أرض المغرب الإسلامي منذ مدراسه الأولى مع ابن الجزار وابن زهر والزهراوي وابن رشد إلى ابن البيطار وابن الرومية والغافقي وصولا إلى الوزير الغساني وما بعده، إذ لم تخفت جذوة الطب في بلادنا إلا في أواخر القرن التاسع عشر، لكنها لم تضعف بشكل نهائي كما سيتضح ذلك مع المدرسة الطبية العلمية التي أرسى دعائمها العلامة الطبيب الفلكي سيدي عبد السلام العلمي رحمه الله في حاضرة فاس….

وتشير عديد الدراسات إلى أنه حتى خلال القرن التاسع عشر طلب من المغرب أن يساهم بشكل فعال في الحد من انتشار الأوبئة في حوض البحر الأبيض المتوسط، وقد نجح إلى حد كبير في ذلك.. لا بد أن نذكر أن المغرب عرف حارات خاصة بالجذمى منذ العصر المرابطي والعصر الموحدي، وهي نوع صارم من الحجز الصحي، أشهرها الحارة التي كانت تقع خارج باب أغمات بحاضرة مراكش حرسها الله، وهي الحارة التي كان فيها ولي صالح هو سيدي يوسف بن علي الصنهاجي، أحد رجال مراكش السبعة المعروف اليوم بسيدي يوسف بن علي صاحب الغار..

وكانت هناك حارة جذمى أخرى بحاضرة فاس خارج باب عجيسة المعروف اليوم بباب الجيسة، ناهيك عن الماريستانات–أشهرها الماريستانالموحدي زمن المنصور بمراكش- وما عرفت به من إتقان علمي وعملي وخدمات صحية شهد بها علماء مختصون في تاريخ الطب مثل لوكليرك ورينو وغيرهم.. بل إن هذا الأخير، في كتابه عن الطب القديم بالمغرب، يشير إلى أنه حتى في مرحلة ضعف الطب بالمغرب، لاحظ تفوق المغاربة في مجال التعقيم، وذلك لتوفرهم-كما لا حظ ذلك ميدانيا- على عقاقير وخلطات طبيعية يستعملونها بنجاعة للقضاء على التعفنات المختلفة…

خلاصة القول إن المغاربة أمة حضارة وعمران، ولا يمكن استيعاب أسس الاجتماع الإنساني ببلاد المغرب إلا عبر استحضار مجموع العناصر الحضارية والفكرية والثقافية والعمرانية التي تشكل عصب الحياة في بلادنا… فالحضارة والرقي أصل من أصول وجودنا، وإذا كان التفوق موجودا بالقوة بحكم التاريخ والأنثربولوجيا وقواعد العمران فإن وجوده بالفعل مسألة نسبية ترتبط بعوامل معرفية وتربوية واقتصادية وسياسية متداخلة، على الرغم من كل هذا فما أظهره المغاربة في زمن الوباء يذكرنا بهذا العمق الحضاري الذي يميز بلادنا، وبعدما سينجلي هذا الوباء ويرتفع البلاء بفضل من الله، وجب على الكل أن يفكر مليا في قضية وجودية هي أن جيناتنا الحضارية أبت إلا أن تطفو على السطح محملة بالأسس الثقافية والأخلاقية والإنسانية التي ميزت بلادنا عبر تاريخها الطويل، ولن يسمح لنا بعد زوال الوباء أن نفرط بعد اليوم في عنصر واحد من عناصر هذه الحضارة المباركة، تراثا مكتوبا وتراثا ماديا وتراثا روحيا، أسوارا وأبراجا ومنارات وحدائق تاريخية وسقايات وزوايا وروضات وعناصر الزخرفة الراقية والمتاحف والألبسة الأصيلة ووصفات الطبخ المغربي الصحي العريق–بدل الأكل السيء الذي انتشر- وموسيقى المغرب والأندلس والملحون والسماع بدل ما تعرفون، والأوانيالأصيلة والحفاظ ما أمكن على النقش على الخشب والجبس والزليج والفسيفساء في استمرارية لروائع القرويين والعطارين والبوعنانية والبديع والباهية وفندق النجارين والتطاونيين ..،

ومع كل هذا عدم التفريط في حب العلم والعمل والإتقان ونكران الذات- وهي الأمور التي سيتذكرها المغاربة بشكل خاص في هذه الظروف- والارتباط بالأرض والاقتراب من الطبيعة والتحلي بقيم العدل والمساوة والإخاء والمحبة، فكل هذه العناصر تحكي في مجموع شديد التركيب عن علاقة شعب بأرض مباركة أنتج حضارة عظيمة بفضل من الله…

أتمنى أننعيد طرح المسألة الثقافية ببلادنا من جديد، وقتها سنفهم لماذا يتألق المغاربة بشكل كبير وقت الأزمات..
وأرجو من الله أن يرفع عنا البلاء وعن الإنسانية جمعاء.

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق