الرابطة المحمدية للعلماء

رسالة ملكية إلى مؤتمر إطلاق مشروع “علاء الدين” للحوار بين الثقافات

علينا أن نمسك بزمام الأمور والعقل وتأسيس فضاء للتساكن والمودة

افتتح الجمعة الماضي، بمقر منظمة (اليونيسكو) بباريس، مؤتمر إطلاق مشروع “علاء الدين” من أجل الحوار بين الثقافات، الذي يقوم على الحقيقة التاريخية والمعرفة والاحترام المتبادل.

ويرمي مشروع “علاء الدين”، الذي تم بمبادرة من مؤسسة “ذاكرة المحرقة”، والذي يحظى بدعم العديد من الشخصيات، من بينها مثقفون ومؤرخون وشخصيات سامية من العالم العربي والإسلامي، إلى توفير معلومات موضوعية باللغات العربية والفارسية والتركية، حول العلاقات اليهودية الإسلامية، والمحرقة والثقافة اليهودية على قاعدة حوار مبني على المعرفة والاحترام المتبادل.
وقد تميزت أشغال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر بالرسالة، التي وجهها صاحب الجلالة الملك محمد السادس، إلى المشاركين في مؤتمر إطلاق مشروع “علاء الدين” للحوار بين الثقافات، وفي ما يلي نص الرسالة الملكية التي تلاها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السيد أحمد التوفيق:
 
“الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، أصحاب المعالي، حضرات السيدات والسادة.

ياله من اختيار مميز، ويالها من مسؤولية، تلك التي حدت بأصحاب هذه المبادرة إلى استلهام أسطورة علاء الدين من أجل دعوتنا جميعا للالتئام والانكباب وفق أسلوب مغاير على تدارس واحدة من بين أكثر مخلفات التاريخ الحديث كارثية، وأشدها استعصاء عن الوصف.

إنها، بالفعل، مسؤولية كبرى، واختيار فريد من نوعه، ذلك أن أيا منا، حضرات السيدات والسادة، لا يستطيع أن يدعي القيام بقراءة للهولوكست، إلا إذا كانت قراءته قراءة شمولية، تستند إلى منطق لا يقبل الدحض أو التنازل عن المسلمات، ولا يقبل إبداء أي شكل من أشكال التساهل، أو أي محاولة لإسكات صوت الضمير.

وقد يكون الدافع إلى نهج مثل هذا السلوك المبني على التنازل عن المسلمات، أو التساهل معها، نابعا مما تمليه التصورات القائمة في الوقت الراهن، أو نقاط الضعف، التي تعتري تلك الذاكرة الآثمة، لكونها تتميز بطابعها الانتقائي المقصود.

إن قراءتي للهولوكست، وقراءة شعبي لهذه المأساة، لتنأيان تماما عن تلك المقاربات، التي تعكس نوعا من أنواع الإصابة بفقدان الذاكرة.

تنكب قراءتنا هذه على تمحيص ونبش أحد الجروح التي تختزنها ذاكرتنا الجماعية، والتي عملنا على إلحاقها بأحد الوقائع التاريخية الأكثر إيلاما ضمن فصول التراث الكوني.

هناك أشخاص آخرون غيري ممن سيكونون محقين في التأكيد على أن هذه الحقائق المعبر عنها ليست بالأمر المستجد بالنسبة للمملكة المغربية، وأنها لن تشكل أبدا عنوانا لأي خطاب مناسباتي.

وإنني إذ أود، اليوم، التذكير بهذه الحقائق، فلأن فريق التفكير الذي تلتئمون في إطاره، والمسمى “علاء الدين”، قد وضع نصب عينه هدفا يكتسي أهمية قصوى، ألا وهو التوجه، أخيرا، إلى باقي دول العالم من أجل إطلاعها على حيثيات المقاومة، التي انخرطت فيها دول من العالم العربي والإسلامي، على غرار بلدي، في مواجهة النازية، وهي الدول التي كانت لها الشجاعة على أن تصيح بأعلى صوتها: لا للهمجية البربرية وللقوانين الآثمة التي صدرت عن حكومة فيشي.

ولطالما أمعن المنتظم الدولي في التساهل والتأقلم مع قراءة انتقائية للوقائع التاريخية المرتبطة بهذه الحقبة الحالكة، والموصومة بالتراجع والانحسار.

إن قراءة من هذا القبيل هي السبب في إطلاق العنان لكافة أشكال التوهمات والتخيلات. ففي أي من كتب التاريخ، والتربية الوطنية المعمول بها حاليا في الغرب، يمكن، بالفعل، أن نقرأ بأن المغرب قد بادر، منذ عقد الثلاثينيات من القرن الماضي إلى فتح أبوابه لاستقبال الجاليات اليهودية الأوروبية، التي تبدى لها آنذاك، وفي الوقت المناسب، خطر النازية وهو يلوح في الأفق؟ وفي أي من المعاهد أو المنتديات الفكرية، سواء في أوروبا أو في الولايات المتحدة، يجري الحديث عن الموقف المثالي والتاريخي، الذي أبان عنه، في ذلك الإبان، جدنا المنعم، صاحب الجلالة المغفور له الملك محمد الخامس، تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه؟ إذ أن جلالته قد عرف كيف يتصدى لأي محاولة ترمي إلى تطبيق القوانين العنصرية لحكومة فيشي، التي كانت تستهدف المواطنين المغاربة من ذوي الديانة اليهودية، وذلك على الرغم من التضييق الذي كان يتعرض له في ممارسته لسلطاته، بحكم ما كانت تفرضه الحماية الفرنسية من إملاءات صارمة.

لذا، سيدرك الجميع، ممن هم حاضرون هنا، أنني لا أود أن أكتفي بمجرد سرد الحقائق بشكل منصف، من خلال دعوتكم إلى القيام بقراءة متمعنة وأمينة للوقائع المرتبطة بهذه الحقبة التاريخية.
فإننا، اليوم، نعيش في زمن لا يتسم بغلبة منطق الحياد، ذلك أن المخيال الجمعي لكافة مجتمعاتنا يستلهم مقوماته وعناصره من إرهاصات الإقصاء والفشل، التي باتت تتبدى في الأفق، بينما تلوح، في الوقت نفسه، بوادر الوعود لإقامة الحوار بين حضاراتنا، وثقافاتنا، وأدياننا.

ومن هذا المنطلق، يتعين علينا جميعا أن نتأهب وننطلق للإمساك، من جديد، بزمام الأمور، بسلطان المنطق والعقل، وإعادة تملك القيم التي تضفي الشرعية اللازمة على الرغبة في تأسيس فضاء للتساكن والمودة، حيث تكتسي قيم الكرامة، والعدالة، والحرية، نفس المعاني والدلالات، وتتمازج في ما بينها وفق نفس المتطلبات، وذلك كيفما كانت الجذور التي نتحدر منها، وكيفما كانت ثقافتنا ومعتقداتنا الروحية.

ها هي ذي، إذن، المقومات التي تستند إليها في المغرب قراءتنا لواجب الذاكرة الذي تمليه مأساة الهولوكست.
ونظرا لما ينطوي عليه واجب الذاكرة من عمق وبعد مأساوي فريد من نوعه، فإنه يملي علينا، بقوة، ما ينبغي أن تكون عليه الملامح المعنوية والأخلاقية والسياسية لعالم الغد، وكلها عناصر ستشكل الضمانات الحقيقية لإقرار السلم، القائم على العدل والكرامة، باعتبارهما قيمتان يتم تقاسمهما على قدم المساواة ، ذلكم السلم الذي يتطلع إليه السواد الأعظم من الفلسطينيين والإسرائيليين”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق