وحدة الإحياءدراسات عامة

دور السياق في التأصيل للدراسات المستقبلية في الفكر الإسلامي المعاصر

أكرم الإسلام المجتهد وأنـزله منـزلة خليفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لتمكنه من الاستنباط انطلاقا من النص، وهذه ميزة تشريف وتكريم لعلماء الأمة، فاعملوا الوسع في أن تبقى الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان إدراكا منهم أن “الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية، والنصوص والأفعال متناهية، ومحال أن يتقابل ما لا يتناهى بما يتناهى”[1].

وقد كان اعتبار السياق عند أهل الاجتهاد أهم محددات دلالات النص في المجالات التشريعية وغير التشريعية، واعتبر هذا الأمر ملكة عندهم يقتدرون بها على الإجابة عن عدد من الأسئلة والنوازل والأقضية. بل إن تعاملهم مع نص الوحي كان من قبيل الذوق التفسيري كما أكد ذلك الإمام الزركشي حين قال: “معرفة مقامات الكلام لا تدرك إلا بالذوق”؛ ولعل هذا الذوق الرفيع هو الذي سماه الإمام ابن دقيق العيد بالطريق إلى معرفة الدلالات حين قال: “السياق طريق إلى بيان المجملات، وتعيين المحتملات، وتنـزيل الكلام على المقصود منه”[2].

ومن خلال ما يشتمل عليه السياق من قرائن وإفادات ودلالات ارتأيت أن أعرض في هذه المداخلة دور السياق في التأصيل للدراسات المستقبلية في الفكر الإسلامي المعاصر من خلال حديث رسول الله، عليه الصلاة والسلام، الذي قال فيه: “إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها”[3].

اعتبر أهل العلم هذا الحديث من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، فقد قال الإمام النووي: (وهذا الحديث فيه معجزات ظاهرة، وقد وقعت كلها بحمد الله كما أخبر به صلى الله عليه وسلم”[4].

وقوله عليه الصلاة والسلام: “إن الله زوى لي الأرض”؛ أي قبضها وجمعها لأجله صلى الله عليه وسلم حتى يراها جميعا. وزوى الشيء زويا وزيا أي جمعه وقبضه واحتازه، وفي هذا إشارة يراد بها تقريب البعيد واستشرافه قصد الاطلاع عليه. وتفسير الحديث كما ذكر ذلك شراحه هو إخبار للرسول عليه الصلاة والسلام لما ستؤول إليه حال الأمة الإسلامية مستقبلا. والقرينة الحالية واللفظية للنص تدلان على هذه الإفادة[5]. بمعنى أن النص الحديثي تضمن رؤية استشرافية ومستقبلية لما سيحدث من أمور وأحداث. وقد وقعت فعلا، وصدقت نبوءة الرسول الكريم.

وإذا أضفنا إلى القرينتين السابقتين: الحالية واللفظين القرينة العقلية، كما نص على ذلك الإمام الغزالي والإمام السمرقندي في تقسيمهما للقرينة[6]، اتضح أن اكتساب نظر بعيد في شتى العلوم والقضايا أمر يقره العقل وتحمده الحكمة، واستشراف عوالم المستقبل والتفكير فيه والتخطيط له استكمال لثلاثية الزمن: الماضي والحاضر والمستقبل.

وإذا كان من الصعب الحديث عن الدراسات المستقبلية في الفكر الإسلامي القديم، فإن الفكر الإسلامي المعاصر يعتبر متجاوزا بشكل كبير من طرف الفكر الغربي الذي أسس لنفسه مشروعا علميا يقوم على الدراسات المستقبلية. وليس من العقل في شيء أن يظل الفكر الإسلامي المعاصر حبيس مواجهة التحديات المعاصرة فقط، ولكن عليه أن يبحث لنفسه عن منهج يتجاوز به هذه “المواجهة”، ويخرج من دائرة الدفاع عن النفس إلى دائرة التأثير وإعطاء المثال والنموذج الحي لما يجب أن تكون عليه الحضارة الإنسانية برمتها.

ويلاحظ أن الاهتمام بالدراسات المستقبلية قليل جدا في الفكر الإسلامي المعاصر، بل إن الأصوات التي ترتفع من حين لآخر للدعوة إلى هذا النوع من العلوم قليلة جدا، وتعد على رؤوس أصابع اليد الواحدة، وكأنها تدعو إلى ممارسة التنبؤ أو الكشف عن الغيب!! وإذا كانت هناك بعض الدراسات التي تناولت هذا الموضوع، فإن غاية ما في الأمر أنها محاولات خجولة، لا تتحدث عن “الدراسات المستقبلية” كعلم قائم بذاته، بقدر ما تتحدث عن محاولة التفكير في “استشراف” المستقبل!

ولهذا فإن الحاجة ماسة إلى “تجاوز” هذه “المحاولة”، والدخول في “استشراف” المستقبل و”دراسته”، وهذا واضح من المعنى اللغوي الذي يزكي هذا الطرح ويعضده[7]. فلسنا أمام تخيلات أو تهيؤات، وإنما نحن أمام اجتهاد علمي قائم بذاته قطع الباحثون فيه أشواطا ومراحل، واعتبره البعض منا ضربا من التيه والتخريف والجهل!..[8]

ولقد وردت تعريفات بعض الباحثين المتخصصين في الدراسات المستقبلية، منها تعريف الأستاذ أحمد صدقي الدجاني الذي قال: الدراسات المستقبلية هي امتداد للدراسات التاريخية. فكلتاهما رحلة عبر الزمان الذي ميز الله سبحانه وتعالى الإنسان عن غيره من مخلوقاته بإدراكه. وهي تتناول بالحديث المستقبل من خلال النظر في الحاضر والماضي، ودراسة المستقبل من تم ليست تنبؤا يقوم على الرجم بالغيب، وإنما هي محاولة علمية تتكامل فيها الدراسات معرفة جوانب صورة الحاضر وتحليلها والتعرف على مجرى الحركة التاريخية من خلال دراسة الماضي وملاحظة سنن الكون، والانطلاق من ذلك كله إلى استشراف المستقبل وتشوفه وصولا إلى طرح الرؤية[9].

وإذا كان هذا التعريف قد ربط بين الدراسات المستقبلية والدراسات التاريخية، فإن تعريف الأستاذ المهدي المنجرة أكثر دقة وتحديدا للمنهج والهدف المتبعين في هذا العلم، فجاء تعريفه كالآتي: “الدراسات المستقبلية هي دراسة وضع معين بشكل مفتوح على البدائل والخيارات، لنفحص جميع التطورات واستقراء النتائج الممكنة المترتبة عن هذا القرار أو ذاك على هذه التطورات، لهذا نتكلم عن مستقبلات بصيغة الجمع في ميدان الدراسات، وليس المستقبل الفرد، وتستلزم الدراسات المستقبلية أن يتسم تحليل معطيات الواقع واتجاهات الأحداث من جهة، والطريقة المنهجية المتبعة من جهة أخرى، بطابع الدقة والموضوعية، إلا أن الغاية من هذه الأداة تكتسي صبغة معيارية في جوهرها، إذ هي استجلاء المرامي والأهداف”[10].

ويربط الأستاذ المنجرة الدراسات المستقبلية بمسألة التسيير: إما تسيير مبني على المقاصد والأهداف على المدى الطويل، أو تسيير مبني على الكوارث، أي ننتظر حتى تحصل الكارثة لنحاول أن نواجهها، وكلما تأخر الإنسان في الاستعداد لمواجهة المشاكل صعب عليه حلها[11].

وهناك تعاريف أخرى تكاد تلتقي مع هذين التعريفين في أن الدراسات المستقبلية [12]، أو علم المستقبل كما يحلو للبعض أن يسميه، ليس رجما بالغيب، وإنما هو استقراء منهجي للماضي والحاضر وأحداثهما بغية بناء تصور لما يستقبل من الأمور والقضايا، ودراستها ومحاولة إيجاد حلول لما يمكن أن تطرحه من إشكالات.

ويعتبر الأستاذ محمد بريش أن من بين المصائب التي أصابت أمتنا في أس كيانها الحاضر، ومعقل قواها لإعداد الغد عدم عنايتها بالمستقبل كمجال إرادة وحرية لإنجاز مشروع إصلاح نهضوي يخرجها من ليلها الدامس الذي حل بها بعد أفول شمس العلم والعدل، وأجواء الحرية والأمان، التي ظلت ترفل في ظلال مجتمعاتها حينا من الدهر على مناهج النبوة الخاتمة[13].

وحين حديثه عن تعميق الفهم في الفكر الاستراتيجي[14]، اعتبر الأستاذ بريش الاستشراف الأداة التي تحكم المستقبل، وتكمن صور محتملة الشهود للمستقبل من العناصر الأساسية للاستراتيجية في الفكر الإسلامي المعاصر. هذه الإستراتيجية هي التي تعمل على تطوير الفكر والمنهج والمعرفة بما يسمح لها بالانتقال من مجتمع ذي أغلبية صامتة، إلى مجتمع ذي أغلبية فاعلة، مقدمة على التصريح بما تعانيه، ومناقشة ما تعيشه من مشاكل، ومشاركة في صياغة برامج الإصلاح، أي إستراتيجية تسمح بالانتقال من مجتمع سلطة جزافية إلى مجتمع ذي سلطة واعية[15].

أما فيما يخص مناهج دراسة المستقبل فهي متعددة ومختلفة، وتختلف من باحث لآخر، ومن مرجعية لأخرى، ومن بلد لآخر. وقد تناول الأستاذ أحمد صدقي الدجاني المناهج المتبعة في دراسة استشراف المستقبل في العالم العربي الإسلامي، وذكر جملة من الملاحظات حولها، فهناك منهج إصدار نبوءات يقوم على انتقاء بعض المتغيرات التي يعتقد بوجود أهمية خاصة لها، وتتبع مساراتها، كالمتغير السكاني مثلا أو متغير الموارد بفعل استنـزافها. وقد تركزت عملية نقده على أنه يعتبر المستقبل قدرا محتوما تحدد سلفا. وهناك منهج إجراء تنبؤات هي أساس بناء قاعدة صلبة من المقدمات تبنى عليها نتائج يجري استخلاصها منها. ويعاب عليه أنه يغرق في أرقام قد تكون غير دقيقة، وأنه ينتقد النظرة المجتمعية التي تلاحظ ما يقوم في المجتمع من وشائج. وهناك منهج التخطيط للمستقبل الذي يضع نصب عينيه هدفا محددا مرغوبا فيه يحدد تجاه الدراسة، ويرى ناقدوه أنه يجعل الدراسة تخطيطية أكثر من كونها مستقبلية. وهناك منهج الاستعانة بالدراسات “المستقبليات” التي ترتكز على ما تشهده التقنية من تقدم، ولا تلتزم بمنهج محدد فتأتي مفتقدة الشمولية المطلوبة.

وهناك أخيرا منهج التحليل المستقبلي الاستشرافي، وهو منهج مركب لا يسعى إلى تنبؤ أو تخطيط، بل يقوم بإجراء مجموعة من التنبؤات المشروطة أو المشاهد التي تفترض الواقع تارة والمأمول فيه تارة أخرى، دون أن تنتهي إلى قرار بتحقيق أي من هذه الصور، فهذا أمر يدخل في حيز التخطيط، والقصد هو إطلاع القوى الفاعلة في المجتمع على متطلبات تحقيق إحدى الصور المأمول فيها.[16]

ويضاف إلى هذه المناهج السابقة منهج الأستاذ المهدي المنجرة الذي يضفي عليها صبغة إسلامية واضحة، فهو يعتمد في طرحه للدراسات المستقبلية أسلوبين: أسلوب السيناريو[17] وأسلوب الإحصاء. ويقضي أسلوب السيناريو بأن يقوم الباحث ببناء مسلسل افتراضي من الأحداث لتركيز الانتباه في عمل المسببات، وفي المواطن التي تتخذ فيها القرارات. وبواسطة السيناريو يجيب الباحث على أهم الأسئلة: كيف تحدث الحالة الافتراضية خطوة بعد خطوة، وذلك لوقف العملية أو تحويل مجراها أو تسهيل سيرها، ويمكن استخدام البديل لبناء سيناريو آخر[18]. أما أسلوب الإحصاء فهو طريقة بيداغوجية تقوم على الأرقام والحسابات لتنظيم بعض الأفكار وجعلها قابلة للفهم والتبسيط.

ويعتبر الأستاذ المنجرة أن وجود مستقبل أفضل للمجتمع العربي الإسلامي رهين بتحقيق أربعة أمور أساسية:

 ـ إعادة النظر في النماذج التنموية الحالية..

ـ وضع استراتيجيات وتصاميم للعلم والتكنلوجيا..

ـ التزام سياسي صريح بتدعيم البحث العلمي..

ـ وحدة المجتمع العربي الإسلامي..[19].

وإذا انتقلنا إلى لغة الأرقام، فإن الأستاذ المنجرة يفسر بعض النصوص القرآنية والحديثية تفسيرا مستقبليا بطريقته الخاصة، فيترجم تلك المميزات الواردة في النصوص إلى أرقام و دلالات، ولهذا نجده يقول عن مستقبل التيارات الدينية: حين نهاية الاجتياح المكثف لديار الإسلام من طرف القوة الاستعمارية سنة 1830م، وحسب إسقاطات من مصادر غربية، كان حجم التيار اليهودي المسيحي يمثل 31% والتيار الإسلامي يمثل 17%، وفي سنة 2025م ستنخفض نسبة التيار اليهودي المسيحي إلى 25% وسترتفع نسبة التيار الإسلامي إلى 33%..[20] ثم يأتي بجدول تبييني ليوضح قوة المسلمين العددية ونموهم الديموغرافي في المستقبل[21]:

التيارات الروحية 1980 2000

2025

2100 2125
اليهودية المسيحية 31 28 25 20 15
الصينية 23 21 18 14 15
تيارات أخرى 28 28 26 26 27
الإسلام 18 23 31 40 43
المجموع 100 100 100 100 100

وهذه الأرقام والإحصاءات هي مستقبل الأمة، ويعتبره الأستاذ المنجرة مرهونا إلى درجة كبيرة بمدى قدرة المسلمين من خلال مؤسساتهم وهيآتهم وحركاتهم على جعل الإسلام المحور المرتكز لوجودهم بكل جوانبه، ومدى قدرتهم على إحياء قيم الإسلام الكبرى وبثها في حياتهم بكل أوجهها[22].

ويتضح من خلال هذا العرض المختصر، أن “النظر الابتساري” عند الأستاذ المهدي المنجرة يجمع بين ما ترمي إليه بعض النصوص القرآنية والحديثية من مبشرات مستقبلية، وبين تصوره الخاص لما ستؤول إليه الأمور مستقبلا. وهذا ما يجعله يدافع عن الدراسات المستقبلية دفاعا كبيرا، ويحث الباحثين في الفكر الإسلامي المعاصر على اعتمادها والتركيز عليها، أو على الأقل الاستئناس بها في بحوثهم ودراستهم لقضايا الأمة العربية الإسلامية، اعتقادا منه أن الإسلام يشكل نظرة شاملة للعالم الدنيوي والأخروي، وهو يحمل في طياته بالصلة التي يقيمها بين العالمين ديناميكية أساسها التغيير، وذلك في جميع المجالات: سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، ديناميكية تجعل الإنسان مسؤولا عن مستقبله، مفجرا طاقات التغيير والسعي نحو الأفضل بين حاضره الآني ومستقبله القريب[23].

ومن الأبحاث الجديدة التي صدرت في السنوات القريبة الأخيرة مقال الأستاذ سهيل عناية الله، عضو هيئة اتحاد مستقبلات العالم، وهو تحت عنوان: “استشراف مستقبل الأمة”، عرض فيه المشاهد المستقبلية للعالم الإسلامي، وركز على نماذج عالمية لمقاربة وفهم المستقبل، وفائدتهما في فهم مستقبل الأمة الإسلامية، ودعا الباحثين في الفكر الإسلامي إلى إيلاء هذا الموضوع اهتماما أكبر، وحثهم على أن يتخيلوا ويصيغوا إسلاما يصنع المستقبل ولا ينوء بعبء التقدم في تقنيات الموروثات والمعلومات والعولمة، إسلاما يجب أن ينشغل في ثورة العلم والتقنية العالمية ولكن في إطار القيم والمصطلحات الإسلامية للعلم الإسلامي.[24] ثم خلص إلى عرض مجموعة من “التوصيات” أو المنهج الذي يجب اعتماده في هذا الإطار، وهو يتضمن الأمور التالية:

  1. يجب أن تتضمن جهود المستقبل أبعاد تخطيط استراتيجي وتوجهات مستقبلية أبعد تتسم بطابع الرؤية، ويجب استخدام مناهج كمية (بما يفضي إلى الدقة) وكيفية (بما يفضي إلى الرؤية).
  2. يجب أن يستكشف المسلمون المستقبلات البديلة ناظرين للواقع على أنه يعتبر منشأ اجتماعيا، ومع ذلك أن يختار المسلمون مستقبلا معينا ثم تطوير خططه لتحقيقه.
  3. تحتاج الأمة إلى الانشغال بنطاق واسع من الأنشطة المستقبلية المحتملة والأقرب للوقوع والمرغوبة والممكنة، أو بعبارة أخرى التنبؤية والاختبارية والنقدية وذلك من خلال مؤسسات مثل منظمة المؤتمر الإسلامي والبنك الإسلامي للتنمية.
  4. يجب أن يدير المسلمون بحوثا عن الأبعاد الزمنية في الحضارة الإسلامية (على مستويات متنوعة: على المستوى الفردي ومستوى الجماعة والمجتمع العالمي)، والقيام بمسوح لتوقعات المستقبل والرغبات والاحتياجات ومقارنتها بمشاريع المسوح الأخرى..
  5. يجب أن تتضمن جهود تخيل المستقبل والتنبؤ به إثارة القضايا البازغة سواء لمعرفة كيف تخلق أنماط التفكير التقليدي أو معرفة نفعها في التنبؤ[25].

ويلاحظ أن عرض الأستاذ سهيل عناية الله، أو غيره من العروض السابقة، تطرح أكثر من سؤال، وتحتاج إلى توضيح هذه الرؤية الخاصة بالدراسات المستقبلية في العالم العربي الإسلامي. ولكن الذي يشفع لها في طرحها وتصورها هذا، ويشفع لنا في عدم مسايرتها والاندماج الكلي مع آرائها هو حداثة عهدها بنا، وميلادها الجديد بيننا!

ولو فرضنا جدلا أن هذه التصورات التي سبق ذكرها في هذا المبحث تنبعث من مؤسسة، أو مؤسستين أو ثلاثة على أبعد تقدير، علمية خاصة بالدراسات المستقبلية في العالم العربي الإسلامي قد أثارت نقاشا واسعا فيما بيننا، فإن وجه الغرابة يكمن في وجود أكثر من ثلاثمائة مؤسسة علمية في الغرب متخصصة في الدراسات المستقبلية، يؤطرها أزيد من خمسة آلاف باحث في مجال علم المستقبل..! والشاهد عندنا هنا، أن ما هو غريب وغير واضح المعالم فيما بيننا، هو ذلكم العلم القائم بأدواته ومشاريعه وباحثيه ومدارسه ومصنفاته عند غيرنا..! وهذا ما يجعل العالم العربي الإسلامي يعيش أزمة كبيرة. فحين يترك مجتمعاته تسير بدون ابتسار واستشراف مستقبلي، وتخطو خطواتها المستقبلية على منهج الصدفة والعفوية، فعليه أن ينتظر كل المفاجئات والتطورات التي سيلقاها في منعطفات الطريق المستقبلي..!

وبناء على ما سبق، أضحى من الواجب التأكيد على الباحث في الفكر الإسلامي المعاصر الاهتمام بالدراسات المستقبلية واعتماده نظرا ابتساريا لتجاوز التحديات المعاصرة؛ أو بصيغة الحديث النبوي الذي اعتمدناه في هذا العرض أن يزوي الباحث المسلم القضايا المستقبلية زيا حتى لا يكون عمله مكررا مرتين: فإذا كان من الضروري الآن مواجهة التحديات المعاصرة، فإنه ليس من الضروري أن تضيع جهود أخرى في مواجهة ثانية لتحديات أخرى كان من الممكن تجاوزها بناء على اعتماد نظرة استشرافية للمستقبل. وبهذا، فيكون من الواجب على الباحثين والدارسين والمهتمين بقضايا الفكر الإسلامي المعاصر تخصيص فريقين للعمل في هذا الشأن: أحدهما يهتم بالتحديات المعاصرة: رصدا وتحليلا ومعالجة، ويواجهها بشتى السبل. والفريق الثاني يعمل على سن منهج واضح لتجاوز هذه التحديات والسير بالأمة العربية الإسلامية قدما نحو آفاق مستقبلية حضارية رفيعة.

الهوامش

  1. ابن رشد: بداية المجتهد، مقدمة الكتاب، ص: 6.
  2. البرهان: ج:2، ص: 124.
  3. رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة من حديث ثوبان الهاشمي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، ج: 4، ص: 2215.
  4. شرح النووي على صحيح مسلم: 9/241.
  5. قسم الإمام الرازي القرينة في السياق المقالي إلى قسمين:
    • قرائن حالية، وتشمل حال المتكلم من حيث الصدق والكذب، والهيئات المخصوصة القائمة به، وخصوص الواقعة التي ورد فيها الخطاب.
    • قرائن مقالية، وهي ما يذكره المتكلم من كلامه مما يدل على مراده.

 المحصول: ج: 1. ص: 332.

  1. الغزالي: المستصفى. ج: 1. ص: 229-300.

 السمرقندي: ميزان الأصول. ص: 285.

  1. جاء في لسان العرب: (مادة “تشرف” الشيء واستشرفه، وضع يده على حاجبه كالذي يستظل من الشمس حتى يبصره ويستبينه (..) وفي حديث أبي طلحة رضي الله عنه، أنه كان حسن الرمي، فكان إذا رمى استشرفه النبي صلى الله عليه وسلم لينظر مواقع نبله، أي يحقق نظره ويطلع عليه، والاستشراف أن تضع يدك على حاجبك وتنظر، وأصله من الشرف العلو، كأنه ينظر إلى موضع مرتفع فيكون أكثر لإدراكه)، أنظر: ج: 9/171/172.

 وجاء في القاموس المحيط: (واستشراف الشيء: رفع بصره إليه، وبسط كفه فوق حاجبه كالمستظل من

 الشمس)، الفيروز آبادي، ص:1065.

  1. اختلف كثير من الباحثين في الدراسات المستقبلية في الإجابة عن السؤال التالي: هل “دراسة المستقبل” علم قائم بذاته؟ وقد حاولت ندوة قضايا المستقبل الإسلامي، التي انعقدت في الجزائر من 4 إلى 7 من شهر مارس 1990، الإجابة عن هذا السؤال، ولكن الاختلاف ظل قائما. ويمكن القول أن “الدراسات المستقبلية”، وإن لم تكن علما قائما بذاته مثل باقي العلوم الأخرى، فإنها تعتمد على مناهج علمية تؤهلها لاتخاذ مكان خاص بينها.
  2. دراسة المستقبل برؤية مؤمنة وسليمة، مجلة المسلم المعاصر، ع: 62، ص: 113.
  3. الحرب الحضارية، ص: 276.
  4. المرجع السابق، ص: 41.
  5. أنظر: محمد جابر الأنصاري: العالم والعرب سنة 200، ص: 6.

 قسطنطين زريق: نحن والمستقبل، ص:86.

  1. نحو صياغة معاصرة للمصطلح المستقبلي/ندوة الدراسات المصطلحية والعلوم الإسلامية/فاس، ج: 2، ص: 716/717.
  2. عرف الأستاذ محمد بريش الاستراتيجية على أنها فن قيادة المعارك، وهي تختلف عن التخطيط وإن كانت تترادف أحيانا معه، وهي تعتمد أساسا على استقراء الواقع واستشراف المستقبل. انظر مقاله: تعميق الفهم في الفكر الاستراتيجي / مجلة إسلامية المعرفة، ع: 9.
  3. محمد بريش: تعميق الفهم في الفكر العربي الاستراتيجي، مجلة إسلامية المعرفة، ع: 9، ص:96.
  4. أحمد صدقي الدجاني: دراسة المستقبل برؤية مؤمنة و مسلمة، مجلة المسلم المعاصر، ع: 62، ص: 119.
  5. أسلوب “السيناريو” أو “المشاهد المستقبلية” كما يطلق عليه أحد الأساتذة المتخصصين في الدراسات المستقبلية:

 سهيل عناية الله. انظر موضوع: (استشراف مستقبل الأمة)، مجلة إسلامية المعرفة، ع: 17.

  1. المستقبلية علم العلوم، مجلة الفكر العربي، العدد: 10، سنة 1979.
  2. الحرب الحضارية الأولى، ص: 197، ص: 295.
  3. المرجع السابق، ص: 287.
  4. المرجع السابق، ص: 289.
  5. المرجع السابق، ص: 294.
  6. المرجع السابق، ص: 274.
  7. سهيل عناية الله: استشراف مستقبل الأمة، مجلة إسلامية المعرفة، ع: 17، (1420ﻫ/1999م)، ص: 87.
  8. استشراف مستقبل الأمة، مجلة إسلامية المعرفة، ع: 17، ص: 87/88.
Science

الدكتور مولاي مصطفى الهند

• عضو الرابطة المحمدية للعلماء.
• أستاذ الفكر الإسلامي ومناهج البحث في جامعة الحسن الثاني المحمدية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ المحمدية.
• حاصل على دكتوراه الدولة في الدراسات الإسلامية 2001.
• رئيس مجموعة بحث في تجديد الفكر الإسلامي وحوار الحضارات.
• عضو المركز الجامعي للدراسات والبحوث في الحديث والسيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق