مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

خزائن السماوات الغيوب، وخزائن الأرض القلوب

    في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، هي محل نظر الله تعالى، كما قال سيد الخلق أجمعين عليه من ربنا أفضل الصلاة وأزكى التسليم: (إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم)[1]. فالقلب هو  مَلِك الجوارح، يُوجهها كيف شاء؛ إذا صلُح البصر فإنه لا ينظر إلا إلى خير، وإذا صلُح السمع فلا يسمع إلا خيرا، وإذا صلُحت اليد فإنها لا تأخذ إلا خيرا ولا تعمل إلا في الخير، وإذا صلُحت الرِّجْل فلا تمشي إلا في خير، وإذا صلُح البطن فإنه لا يأكل إلا حلالا…

    إن القلب هو أساس صلاح الجسد، وهو محور الاعتقاد ومحله، لهذا أعطاه الصوفية مكانة متميزة وعظيمة في السير والسلوك، بعد التخلية والتحلية؛ تخليه عن الرذائل وعن الأمراض التي تفسد القلوب وتجعلها خربة، وتحلّيه بأكمل الصفات وأعلاها، حتى يتجلى فيه نور الإيمان، والتصديق الكامل، واليقين الراسخ.

    لامس الإمام الجنيد رضي الله عنه مسألة القلوب، كغيره من أهل التصوف، فكانت له دُرَر، ذكرنا من بينها الآتي:    

    ● قال الجنيد قدس الله سره: القلوب المحفوظة لا يعرضها وليُّها؛ لمجانبة محادثة غيره، ضنا منه لها، ونظراً منه لها، وإبقاء عليها؛ لِيخْلُصَ لهم ما أصفاهم به، وما جمعهم له، وما عاد به عليهم[2].

    ● قال الجنيد: التوكل عمل القلب، والتوحيد قول القلب[3].

    ● وقال رحمة الله عليه: كانوا يكرهون أن يتجاوز اللسان مُعْتَقَدَ القلب[4].

   ● قيل للجنيد: يا أبا القاسم يكون لسان بلا قلب؟ قال: كثير. قلت: فيكون قلب بلا لسان؟ قال: نعم، قد يكون؛ ولكن لسان بلا قلب بلاء، وقلب بلا لسان نعمة. قلت: فإذا كان لسان وقلب؟ قال: فذاك الزُّبد بالنِّرْسِيان، [يعني العسل][5].

    ● قال الجنيد: صفاء القلوب على صفاء الذكر، وخلوصه من الشوائب[6].

     ● قال رضي الله عنه: إن الله عز وجل يخلص إلى القلوب من بره، حسبما خلصت القلوب به إليه من ذكره، فانظر ماذا خالط قلبك[7].

    ● قال الجنيد في قوله تعالى: ﴿في قلوبهم مرض﴾: علل القلوب من اتباع الهوى، كما أن علل الجوارح من مرض البدن[8].

    ● يقول الجنيد حاكيا: كنت يوما في مجلس السري وعنده عصابةٌ من الرجال، وأنا كنتُ أصغرهم، فقال السري: من أي شيء يطير النوم؟ فقال بعضهم: من الجوع. وقال واحد: من قلة الماء. فلما وصلت نوبتي قلت: علمُ القلوب باطّلاعِ الله على كلّ نفسٍ بما كسبت. قال: أحسنت يا بُني. وأجلسني إلى جنبه. فأنا من ذلك اليوم مُقدّم على الناس[9].

    ● قال الجنيد في قوله تعالى: ﴿اشترى من المؤمنين﴾: إنه سبحانه اشترى منك ما هو صفتك وتحت تصرفك، والقلب تحت صفته وتصرفه، لم تقع المبايعة عليه، ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن)[10].[11]

    ● يقول الجنيد: من فتح على نفسه باب نية حسنة فتح الله عليه سبعين بابا من التوفيق، ومن فتح على نفسه باب نية سيئة فتح الله عليه سبعين بابا من الخذلان من حيث لا يشعر[12].

    ● يحكى أن شابا كان يصحب الجنيد رحمه الله، وكان له قلب فطن، وربما يتكلم بخواطر الناس، وما يعتقدون في سرائرهم، فقيل للجنيد ذلك، فدعاه، وقال: أيش هذا الذي يبلغني عنك؟ فقال: لا أدري، ولكن اعتقد في قلبك ما شئت، قال الجنيد رحمه الله: اعتقدتُ، فقال الفتى: اعتقدتَ كذا وكذا، فقال الجنيد رحمه الله: لا، فقال: اعتقد مرة أخرى، فقال الجنيد رحمه الله: لا، قال: فاعتقد ثالثا، فقال الجنيد رحمه الله: اعتقدتُ، فقال الشاب: هو كذا وكذا، فقال الجنيد رحمه الله: لا، فقال الشاب: هذا والله عجيب، أنت عندي صادق، وأنا أعرف قلبي، وأنت تقول لا. قال: فتبسم الجنيد رحمه الله ثم قال: صدقت يا أخي في الأول وفي الثاني وفي الثالث، وإنما أمتحنك هل تتغير عما أنت عليه[13].


[1] صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، رقم 2564.

[2] اللمع، السراج الطوسي، ص: 440.

[3] الرسالة القشيرية، عبد الكريم بن هوازن القشيري، ص: 8.

[4] اللمع، السراج الطوسي، ص: 238.

[5] قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد، أبو طالب المكي، 1/ 397.

[6] الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية، المناوي، 453/1.

[7] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، 297/10.

[8] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، 193/1.

[9] نفحات الأنس من حضرات القدس، نور الدين الجامي، 368/1.

[10] سنن ابن ماجة، باب فيما أنكرت الجهمية، رقم 199.

[11] روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، شهاب الدين الآلوسي، 54/11.

[12] الطبقات الكبرى المسماة بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار، عبد الوهاب الشعراني، ص: 124.

[13] اللمع، السراج الطوسي، ص: 407.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق