وحدة الإحياءحوارات

الفلسفة العامة لقانون الأسرة.. بين الاجتهاد المقاصدي وروح التحكيم الملكي

حوار مع د. عائشة الحجامي

حاورها د.عبد السلام طويل
أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية
 ورئيس الوحدة العلمية للإحياء

أولا: تعتبرين الأستاذة عائشة سليلة أسرة عالمة؛ جمعت في كسبها بين الشريعة، والحقيقة (الصوفية السنية)، والجهاد. هل لكم أن تبرزوا أهم تجليات ومظاهر وآثار هذا المعطى على تبلور شخصيتكم ومساركم المعرفي والحياتي؟

لقد كان من فضل الله علي أنني نشأت في بيت علم وتصوف وجهاد، فقد كان والدي أحمد بن محمد الحجامي الحسني الإدريسي رحمة الله عليه من علماء القرويين، كما أنه انخرط في المقاومة المسلحة للاستعمار مع والده وعمره لا يتجاوز الرابعة عشرة وذلك سنة 1914. أما والده فقد كان صاحب زاوية يهتم بالتربية الروحية والدينية لمريديه، غير أنه لما وصلته أخبار عقد الحماية الفرنسية نادى للجهاد في القبائل وقاد حملة على مدينة فاس، بهدف تحريرها، قوامها عشرون ألف مجاهد ينتمون إلى خمس وعشرين قبيلة لبت نداءه كما ورد في كتابات المارشال ليوطي والوثائق العسكرية الفرنسية. وعلى الرغم من انهزامه في هذه المعركة في ماي 1912، إلا أنه ظل يجاهد في نواحي فاس وتازة وبني زروال والريف حتى ألقي عليه القبض سنة 1929 ووضع تحت الإقامة الإجبارية إلى أن توفي رحمه الله سنة 1945. وقد كان أبي يحكي لنا كثيرا عن هذه المعارك التي حضر جلها. أما من جهة والدتي رحمها الله سليلة أبي عبد الله محمد بن أبي جمعة الهبطي صاحب “تقييد وقف القرآن”، فقد أدركت خالي سيدي محمد الهبطي الإدريسي الذي كان من علماء القرويين.

فكان من الطبيعي أن تكون أجواء المنزل العائلي مفعمة بالذكر والمدارسات العلمية التي كان أبي حريصا عليها، ويحضرها عدد من علماء فاس، أذكر منهم على الخصوص الفقيه سيدي عبد الرحمان الغريسي والفقيه الطاهري اللذان كانا من أصدقائه المقربين. وقد أتيحت لي فرصة مجالستهما والاستفادة من علمهما خاصة في مجال حقوق المرأة في الإسلام والمنظور الفقهي لها، وقد كان للمناقشات حول هذه القضية معهما ومع أبي رحمه الله أثر كبير على توجهي للبحث فيها لاحقا نظرا لما كانوا يتمتعون به، ثلاثتهم، من فكر متفتح، وقبول للاختلاف، وتشجيع على إعمال الفكر النقدي.

ومن جهة أخرى قيض الله لي أن أدرس في معهد الفتيات التابع للقرويين والذي أسسه جلالة الملك محمد الخامس رحمه الله، وتخرجت منه مجموعة من عالمات المغرب. وقد تلقيت في هذا المعهد مختلف العلوم الشرعية من فقه، وحديث، وأصول، ومنطق…على يد أساتذة أجلاء من مثل الفقيه مولاي أحمد الصقلي، والفقيه سيدي محمد الأزرق، والفقيه البكاري، والفقيه بلحاج ولد سيدي الطايع وغيرهم. وكانوا يعتبروننا مثل بناتهم ويقومون بمهمة تدريسنا بجدية وإخلاص نادرين. جزاهم الله أوفر الجزاء، ورحم الله من توفي منهم، وأطال عمر من لا زال منهم على قيد الحياة. وأذكر أنني وأختي رحمها الله التي كانت زميلتي في القسم، كنا عند عودتنا إلى البيت نتلقى من والدنا مزيدا من الشرح والتعمق في الدروس التي تلقيناها في المعهد، وكان يحثنا على مطالعة المراجع ذات العلاقة بالموضوع من أمهات الكتب الدينية.

وعلى الرغم من أن تكويني اللاحق كان في القانون الخاص بكلية الحقوق بالرباط ثم في القانون العام بجامعة باريس، إلا أنني ظللت دوما مهتمة بالعلوم الشرعية، وخاصة ما تعلق منها بوضعية المرأة في الإسلام قرآنا وحديثا وفقها. ذلك أن احتكاكي في فرنسا بجمعيات نسائية فرنسية ذات توجه يساري علماني، وبالفكر الحقوقي الغربي عموما، جعلني أطرح على نفسي مجموعة من التساؤلات الجديدة والمثيرة حول قضايا المرأة في مجتمعاتنا العربية الإسلامية على خلفية تكويني الشرعي وترعرعي في بيئة دينية عالمة، وقد كان هذا الأمر حافزا لي لكي أسترجع التفكير في العديد من المسلمات الفقهية الملتبسة ببيئة إنتاجها، والبعيدة عن روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها. ولا أنكر أن كتاباتي حول الموضوع تتغذى من المرجعتين الفكريتين معا، الإسلامية والغربية، وتحاول أن تنقب عن المشترك بينهما بوصفه إرثا حضاريا إنسانيا من شأنه أن يساعدنا على إيجاد الحلول للعديد من المشاكل التي تتخبط فيها مجتمعاتنا حاليا.

ثانيا: سبق لكم أن أسهمتم بدراسة بعنوان “الفلسفة العامة لقانون الأسرة” هل لكم أن تحددوا المعالم الكبرى لهذه الفلسفة على ضوء ما شهده سن هذا القانون من زخم وجدل قانوني ومعرفي وأيديولوجي؟

 لقد كانت هذه الدراسة موضوع مداخلة ألقيت في ندوة حول مدونة الأسرة عقب صدورها في الرابع من فبراير من سنة 2004. وقد حاولت من خلالها إبراز أهم عناصر المقاربة التي اعتُمدت في إنجازها والتي تمثلت في حضور المقاربة التوافقية والتوفيقية، سواء في الجانب المسطري أو في الشق المتعلق بمضامين المدونة.

 فمن المعروف أن مدونة الأسرة الجديدة كانت ثمرة نقاش اجتماعي وسياسي طويل شغل الساحة المغربية منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي. والأمر يعود بالأساس إلى ارتباط قانون الأسرة بالقضية النسائية التي تشكل في المغرب أحد أوجه الصراع بين توجهين اثنين ينتمي كل منهما إلى حقل مرجعي ومنظور فلسفي مغاير. توجُّه يعطي الأولوية للحقوق النسائية كما وردت في المواثيق والمعاهدات الدولية، أو ما يعبر عنه بالحقوق الإنسانية “الكونية”. ولم يكن هذا التيار وقتها يقبل بإصلاح قوانين الأسرة خارج هذا الإطار نظرا لقناعته بأن الوضعية الدونية للمرأة في مجتمعاتنا ما هي إلا نتيجة للنصوص الدينية نفسها، أو للتأويلات الفقهية التي انحرفت عن مقاصدها. وكان هنالك توجه آخر يرى بأن مرجعية حقوق الإنسان بهذا المفهوم تتناقض مع الشريعة الإسلامية في منطلقاتها ومناهجها وأهدافها، لكونها ثمرة الثقافة الغربية التي تنطلق من فكرة الحقوق الطبيعية، ذات النزعة الفردانية والنفعية في تصورها للإنسان والمجتمع، المتناقضة مع التصور الإسلامي الذي يتمثلهما من منظور مغاير يقوم على الوحدة والجماعة والتكافل والتكامل. وقد كانت إشكالية المرجعية هذه تشكل عقبة كأداء أمام محاولات الإصلاح التي عرفتها مدونة الأحوال الشخصية منذ تبنيها سنة 1957.

وقد انعكس الخلاف حول المرجعية على المنظور لمسطرة الإصلاح، حيث إن التيار الكوني أو الحداثي كان يطالب بإعمال المسطرة التشريعية المتبعة في تبني القوانين التشريعية العادية باعتبار أن قانون الأسرة ينبغي معالجته في إطار القوانين المدنية الصرفة المتخلصة من البعد الديني. هذا في الوقت الذي كان التيار المحافظ يصر على إبقاء معالجة أحكام الأسرة ضمن المنظومة الفقهية الشرعية، وينادي بضرورة الاجتهاد فيه في إطار ضوابط الاجتهاد وشروطه المعروفة لدى الفقهاء، ومن بينها اختصاص علماء الشريعة بالقيام بهذه المهمة دون غيرهم. ولا يفوتني هنا أن أشير إلى أن التقاطب بين هذين التيارين لم يخل من تقاطع وتداخل في المواقف بين مختلف الفرقاء. غير أن ما زاد من حدة التعارض آنذاك بين التيارين هو ما جرى من تسييس للقضية النسائية، واستعمالها في الصراعات السياسية الضيقة، الأمر الذي كان من نتيجته هيمنة المزايدات السياسية والحزبية، وتغييب النقاش العلمي الهادئ والرصين حول مسألة الإصلاح وأدواته.

ولهذا، فإن المقاربة التوافقية والتوفيقية التي اعتُمدت في إعداد مدونة الأسرة شكلت بحق نموذجا راقيا في التعاطي مع قضية احتدم حولها النقاش داخل المجتمع بمختلف مكوناته وطبقاته، وكاد أن يعصف بالأمن الروحي والاجتماعي للمواطنين والمواطنات. وقد كانت هذه المقاربة من تخطيط جلالة الملك محمد السادس على إثر طلب التحكيم الملكي الذي تقدم به الوزير الأول في حكومة التناوب الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، والذي جاء بناء على توافق ضمني بين مختلف الفرقاء المتنازعين بخصوص خطة إدماج المرأة في التنمية وإصلاح قانون الأسرة.

ومن تجليات هذه المقاربة من حيث المسطرة، أن تشكيلة اللجنة الاستشارية الملكية المعينة من قبل جلالة الملك محمد السادس والمكلفة بإعداد مشروع الإصلاح، عكست تمثيلية َ المنتمين إلى الحقلين المرجعيين معا، التيار الحداثي والتيار المحافظ. كما أن إدماج العلماء في اللجنة الاستشارية، قابله احتفاظ أمير المؤمنين بتأطير عملية الاجتهاد وتوجيهها، من خلال تطعيم اللجنة بتخصصات حديثة (القانون وعلم الاجتماع والطب، إلى جانب التخصص الفقهي الشرعي)، وتحديد مجال اشتغالها. ويدخل في سياق نفس التوجه التوفيقي تواجد العنصر النسوي داخل اللجنة، وإشراكه في عملية الاجتهاد، الأمر الذي يعد سابقة في المغرب والعالم الإسلامي في العصر الحالي.

كما أن الجانب المسطري زاوج ما بين إسناد الاجتهاد إلى اللجنة المختصة، ومصادقة المؤسسة التشريعية (البرلمان بمجلسيه) على نتائج أعمالها. وكانت هذه المزاوجة مؤشرا على إرادة تفعيل المؤسسات الدستورية وتدعيم دورها، وإضفاء الشرعية الدستورية على الإصلاح من الناحية المسطرية.  مع ملاحظة استمرارية التمييز بين ما يندرج في الحقل الديني من مقتضيات المشروع، يبقى الاختصاص فيه لأمير المؤمنين كما ورد في خطاب 10 أكتوبر من سنة 2003 في افتتاح الدورة التشريعية، وما يكتسي منها طبيعة مدنية، يمكن للبرلمان أن يناقشه ويبث فيه كأي قانون تشريعي عادي.

أما مضامين مدونة الأسرة فقد عكست التوفيق بين مبادئ حقوق الإنسان المنصوص عليها في المواثيق الدولية والتي صادق عليها المغرب وأعلن تشبثه بها في مختلف دساتيره منذ دستور 1992، وإعمال الاجتهاد المقاصدي في الأحكام الوارد فيها نصوص من القرآن أو السنة الصحيحة. وكان من نتائج هذا الاجتهاد ردم الفجوة ما بين المرجعيتين في العديد من القضايا المتعلقة بحقوق النساء من مثل المساواة في سن الزواج بين الجنسين، وجعل الولاية في الزواج اختيارية بالنسبة للفتاة الراشدة، وجعل الأسرة تحت رعاية الزوجين معا، ومنح الزوجة الحق في طلب التطليق والحصول عليه دون إلزام لها بإثبات الضرر…وغيرها من النصوص التي أنصفت المرأة بالاعتماد على مقاصد الشريعة الإسلامية ومبادئها المؤسسة للمساواة والعدل والإنصاف، دون إغفال مرجعية الواقع الاجتماعي المغربي وتحولاته وانتظارات نسائه بخصوص حقوقهن.

   كما تكمن أهمية المقاربة التوفيقية من جهة أخرى، في كونها سمحت مرحليا بتجاوز الخلاف القانوني بين الفرقاء، وشكلت خطوة أساسية نحو تجاوز عائق الازدواجية في المرجعية الذي تعاني منه المنظومة القانونية المغربية والذي يقف حجر عثرة أمام كل إصلاح. فالنظام القانوني المغربي يتصف بطابعه “المركب” الذي يتجلى في تواجد نوعين من البنى القانونية ينتمي كل منها إلى حقل مرجعي وثقافي متمايز وينتظمهما منطق اشتغال داخلي مغاير: بنية قانونية ينظمها النص الديني والفقه الإسلامي وهي المتعلقة أساسا بأحكام الأسرة؛ وبنية قانونية مؤطرة لباقي الميادين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والتي تم اقتباسها عموما خلال فترة الحماية من القانون الفرنسي، وتم تطويرها ومغربة بعض مقتضياتها بعد الاستقلال.

ولهذا فإن كيفية معالجة إصلاح قانون الأسرة لسنة 2004 سواء من حيث المسطرة المتبناة، أو من حيث مضامين الإصلاح، شكلت بالفعل نموذجا رائدا في السعي إلى التوفيق بين المرجعيتين، وفتحت الآمال لبلورة أرضية فكرية جادة، تسترجع التفكير في مفاهيم المنظومتين المرجعيتين معا، بهدف تأصيلها وضبطها، واستثمارها في التأسيس لمشروع مجتمعي موحد، يحوِّل التعارض بينهما إلى تكامل خلاق، خاصة وأن الدساتير المغربية تنص في نفس الآن على كون المملكة المغربية دولة إسلامية، يشكل الإسلام أحد مقومات هويتها الوطنية؛ كما تتعهد بالتزام ما تقتضيه المواثيق الدولية من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا.

ثالثا. في صلة بالتساؤل السابق؛ أثارت خطة إدماج المرأة في التنمية سجالا عبر، رغم كل سلبياته ومخاطره الانقسامية، عن مدى حيوية المجتمع المدني المغربي من جهة، وعن مدى الأهمية التاريخية والسياسية والدستورية والحضارية الكبرى لمؤسسة إمارة المؤمنين باعتبارها قطب ارتكاز متين للتعبير عن إجماع المغاربة، والإسهام في بلورة توافقاتهم، وصمام أمان دون تصدع اجتماعهم السياسي وعمرانهم من خلال سلطتها الدستورية المعيارية في التحكيم بين مختلف مكونات الأمة المغربية ومصالحها. كيف تنظرون إلى مركزية هذه الوظيفة التحكيمة في إيجاد التكييفات القانونية والفقهية والدستورية والسياسية لمختلف القضايا الخلافية، وفي صدارتها قضايا المرأة والأسرة المغربية؟    

حقيقة، لقد كان للسجال الذي عرفته قضية إصلاح الوضعية القانونية للمرأة والذي تمحور حول الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية التي أعلن عنها الوزير الأول في حكومة التناوب في مارس 1999، إيجابيات لا يمكن إنكارها. فقد ساهم هذا النقاش الذي اخترق مختلف الأوساط الاجتماعية، في تحسيس الرأي العام المغربي وتوعيته بهذه القضية، وفي تداول وتعميم نوع من المعرفة الدينية والقانونية والحقوقية، والاستئناس بمجموعة من المصطلحات المرتبطة بها، وذلك من خلال الصحافة المكتوبة والمسموعة، واللقاءات العلمية والتجمعات وغيرها من الأنشطة التي كانت تفور بها الساحة المغربية في تلك الفترة. وهذا يعكس بالفعل حيوية ودينامية المجتمع المدني بكافة توجهاته.

غير أنه بعد احتدام الصراع بين الفرقاء، وانسداد آفاق التوصل إلى حل متفق عليه، حصل نوع من التوافق على طلب التحكيم الملكي للخروج من الأزمة. وقد كان من نتائج تدخل جلالة الملك محمد السادس برمزيته الدينية المتمثلة في إمارة المؤمنين المنصوص عليها في المادة 19 من الدستور، تجنيب البلاد مخاطر الفتنة خاصة بعد تسييس القضية وظهور تقاطب عميق بين مؤيدي الخطة ومعارضيها كما ظهر ذلك بجلاء في المسيرتين الضخمتين بكل من الرباط والدار البيضاء يوم 12 مارس من سنة 2000 الأولى تؤيد الخطة والثانية تعارضها. كما أن التحكيم الملكي قوَّم مسار الإصلاح ووضع له إطارا يأخذ بعين الاعتبار المرجعية الدينية في انفتاح على كل ما هو إيجابي في المواثيق والمعاهدات الدولية، مع عدم إغفال الواقع الاجتماعي المغربي وسياقاته الحالية. فالفضل في إصلاح الوضعية القانونية للمرأة عن طريق مدونة الأسرة يرجع الفضل فيه أولا وأخيرا للإرادة الملكية التي جعلت هذه القضية من أولوياتها كما ورد في أول خطاب للعرش سنة 1999.

وتنبغي الإشارة هنا إلى أن التحكيم الملكي سبق وأن استُعمل في محطة سابقة سنة 1992 من قبل المرحوم جلالة الملك الحسن الثاني لحسم الخلاف حول إصلاح مدونة الأحوال الشخصية على إثر المواجهة التي حدثت بين الحركة النسائية والعلماء بخصوص مرجعية الإصلاح ومسطرته. وقد أكد جلالته حينها في خطاب عيد العرش على أن قوانين الأسرة تدخل في المجال الديني الذي يملك أمير المؤمنين وحده صلاحية النظر فيه حيث قال:” فاعلمي بنيتي العزيزة المرأة المغربية، أن المدونة هي قبل كل شيء في عنقي… ولا يمكن ان يحل هذا المشكل إلا عبد ربه لأنه أمير المؤمنين”. ثم حدد عند استقباله لممثلات الجمعيات النسائية المطالبة بالإصلاح في شتنبر من نفس السنة، إطارا لمسطرة الإصلاح يتمثل في عرض مطالب الحركة النسائية على لجنة فقهية قانونية معينة من قبله مهمتها دراسة تلك المطالب وتقديم اقتراحات بشأنها، موضحا أنه في حال عدم التوصل إلى اتفاق بين الطرفين “…فسأقوم آنذاك بالمسؤولية الملقاة على عاتقي كأمير للمؤمنين”. كما أنه وضح حدود الإصلاح كما تلزمه بها صفته كأمير للمؤمنين قائلا:”… لا يمكنني أن أحرم ما أحل الله، ولا يمكنني كذلك أن أحلل ما حرم الله…”. وهي نفس العبارة التي أفصح عنها جلالة الملك محمد السادس في خطاب تعيين اللجنة الاستشارية في أبريل من سنة 2001.

وقد كان من نتائج إعمال التحكيم الملكي في الحالة الأولى التوصل إلى تعديل جزئي لمدونة الأحوال الشخصية في شتنبر 1993، والذي رغم محدوديته وعدم تلبيته لجميع مطالب الحركة النسائية والحقوقية، فإنه دشن إمكانية مراجعة مدونة الأحوال الشخصية التي كانت غالب مقتضياتها أحكاما فقهية اجتهادية قابلة للمراجعة عن طريق اجتهاد مقاصدي يعطي الأولوية لمبادئ العدل والمساواة التي أقرها الإسلام في محكم الكتاب والسنة.

وتعود جذور التحكيم الملكي إلى تاريخ الدولة المغربية منذ إنشائها حيث كان من عادة القبائل أن تلجأ إلى السلطان لحل النزاعات التي تنشب بينها تجسيدا لاعترافها بالمشروعية الدينية والرمزية للسلطان. كما يجد التحكيم سنده أيضا في الإشارة إليه في القرآن والسنة كوسيلة لإصلاح ذات البين بين الناس سواء في الحياة العامة أو داخل الأسرة بين الأزواج. وقد أجاز العديد من الفقهاء اللجوء إلى التحكيم ولو بوجود قاض.

وعلى الرغم من أن الدساتير المغربية قبل دستور 2011 لم تكن تنص صراحة على الدور التحكيمي للملك، إلا أن الفصل 19 منها كان متضمنا لمعاني هذه السلطة التحكيمية من خلال تنصيصه على أن الملك أمير المؤمنين. وهي صفة تؤسس لمشروعية دينية وتاريخية في نفس الآن لكونها تحيل على الأدوار التاريخية التي كان يقوم بها سلاطين المغرب. كما أنها مشروعية تجعل من الملك مرجعية عليا في جميع الشؤون الدينية، كما يوضحها نفس الفصل من خلال التأكيد على صفته ك”حامي حمى الدين”. فيكون تدخل الملك كسلطة تحكيمية في قضية إصلاح قانون الأسرة يندرج في وظيفته كأمير للمؤمنين من مسؤوليته حماية حمى الدين، وذلك بالنظر للطبيعة الدينية للأحكام المتعلقة بالأسرة.

ثم إن نفس الفصل 19 يشير إلى مهام أخرى تُشرعِن لتدخل الملك في حال حدوث شرخ في المجتمع أو حصول ما يهدد وحدة الأمة واستقرارها الأمني أو السياسي أو الروحي، حيث ينص على كون الملك هو “الممثل الأسمى للأمة، ورمز وحدتها، وضامن دوام الدولة واستمرارها”. كما أنه نظرا لسياق المطالبة بإصلاح الوضعية القانونية للمرأة وما تلاه من سجال حول شرعية وقانونية هذه المطالب، فإن تولي الملك معالجة هذا الملف يندرج في مهمة أخرى خولها له الدستور وهي مهمة “صيانة حقوق وحريات المواطنين…” في وقت تبين فيه عجز المؤسسات الدستورية عن إيجاد حل متوافق عليه، سواء في بداية التسعينيات أو في بداية الألفية.

 أما دستور سنة 2011، فإنه نص صراحة ولأول مرة في التاريخ الدستوري المغربي على السلطة التحكيمية للملك ضمن اختصاصه كرئيس للدولة. فهو “الحَكم الأسمى بين مؤسساتها” كما ورد في الفصل 42، بحيث أصبحت وظيفة التحكيم مقننة وتكتسي صبغة دستورية. وقد وضح نفس الفصل ما يندرج في هذه المهمة كما يلي: “… يسهر على احترام الدستور وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية”. فالدستور الجديد ميز بين اختصاصات الملك كأمير للمؤمنين تشمل كل ما له علاقة بالأمور الدينية كما وضحها الفصل 41، بينما يوضح الفصل 42 اختصاصاته كرئيس دولة دستورية حديثة يكون فيها حكَما بين المؤسسات الدستورية، يسهر على احترام الدستور وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة.  وفي هذا التمييز إبراز لرغبة الملك في تعزيز دولة المؤسسات ودولة الحق والقانون.

غير أن ما يثير الاستغراب هو كون بعض الفاعلين السياسيين لا زالوا لم يستوعبوا بعدُ مرامي الإصلاح الدستوري لسنة 2011 وبُعده الديمقراطي، كما حدث عندما توجه حزب سياسي سنة 2013 بطلب التحكيم الملكي في قضية تتعلق بنزاع بين مكونات الأغلبية الحكومية. وهي خلافات سياسية، لا تتعلق ب”مؤسسات دستورية” التي تحتاج إلى تفعيل التحكيم الملكي. وإنما ينبغي أن تُحل بعيدا عن التحكيم الملكي حفاظا على سمو المؤسسة الملكية والنأي بها عن الصراعات الحزبية. وبالفعل، فإن جلالة الملك محمد السادس لم يتدخل في النزاع وأحال طالبي التحكيم على الفصل 47 الذي يسمح للوزراء بالاستقالة الفردية أو الجماعية. وفي هذا الموقف الملكي الحكيم تذكير ودرس للفاعلين السياسيين بضرورة احترام الشرعية الدستورية. كما أن فيه تفعيلا لدوره كساهر على احترام الدستور. وتجدر الإشارة هنا إلى أن المغرب شهد محطات سابقة لجأ فيها فاعلون سياسيون إلى طلب التحكيم الملكي للالتفاف على الشرعية الدستورية عندما لا تخدم هذه الأخيرة أهدافهم، كما حدث سنة 1992 بخصوص القانون الانتخابي، حيث فضلت أحزاب الكتلة الديمقراطية اللجوء إلى التحكيم الملكي عوض المسطرة التشريعية التي لم يكن تطبيقها يسمح بتأييد مواقفها. وقد قبل المرحوم الحسن الثاني طلب التحكيم هذا، ولكنه في نفس الوقت ذكَّر الكتلة بعدم دستورية هذا الطلب حيث صرح في خطابه بأنه ليس في الدستور ما يسمح له بالتحكيم في مثل هذه القضايا.

ولهذا أعتقد بأن اللحظة التاريخية الحالية تستدعي من الفاعلين السياسيين المساهمة في تعزيز المؤسسات خدمة للاختيار الديمقراطي الذي أصبح أحد ثوابت الأمة إلى جانب الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية؛ كما نص على ذلك الفصل الأول من الدستور الجديد. كما ينبغي الابتعاد عن إقحام المؤسسة الملكية في الصراعات السياسية بين الأحزاب.

دة. عائشة الحجامي

أكاديمية مغربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق