مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةحوارات

حوار مع الدكتور محمد أبلاغ

– أنجزتم بعض التحقيقات العلمية لنصوص تنتمي لتاريخ العلوم العربية، كما أشرفتم على مجموعة من الرسائل بخصوص هذا الموضوع. ماهي في نظركم العقبات التي تعترض عملا من هذا القبيل؟ وما هي المكتسبات الإيجابية التي يمكن جنيها من عملية تحقيق النصوص عموما والنصوص العلمية بشكل خاص؟

هذا الحديث ذو شجون بالنسبة لي، لأنه مرتبط بالعوامل التي جعلتنا لا نتقدم بخطى حثيثة في هذا المجال المهم بالنسبة لنا ولثقافتنا الوطنية. أولا عندما نتحدث عن العقبات التي تعترض الباحثين في هذا المجال فمن الضروري الحديث عن بنيات البحث العلمي في المغرب، حيث وبسبب التجربة التي خضتها في الجامعة المغربية، لا يمكن ترك البحث العلمي في يد المسالك الجامعية، بل من الضروري وجود معاهد متخصصة، لأن البحث في تاريخ العلوم يقتضي تكوينا خاصا، على سبيل المثال فمسالك الفلسفة التي يعتبر الباحثون في تاريخ العلوم تابعين لها، لا توفر سوى تكوين نظري في المجال الفلسفي والإبستملوجي، بينما الباحث في تاريخ العلوم يحتاج لتكوين خاص، يجمع بين تقنيات تحقيق النصوص، ومعرفة بالتاريخ في منظوره العام، وكذلك بتاريخ العلوم وخصوصية كل مرحلة، والعلاقة الرابطة بين مرحلة سابقة وأخرى لاحقة في تاريخ العلوم، والتمكن التقني من المادة العلمية المعروضة في الكتب العلمية، وكذلك البحث البيو ـ ببليوغرافي، فضلا عن التكوين الفلسفي، حتى  لا يسقط في التحليل التقني للنصوص العلمية دونما إبراز لقيمتها الثقافية، وهي في هذه الحالة ليست بذات قيمة كبيرة بالنسبة لنا، لأن العلم يتم تجاوزه تقنيا، لكن روحه الثقافية تبقى سارية في المجتمعات التي تجعل من البعد العلمي بعدا ثقافيا قارا في شخصيتها الحضارية.

أما المكتسبات الايجابية من تحقيق النصوص فهي واضحة، وهي بالإضافة إلى كل ما ذكر أعلاه، تعمل على تصحيح التاريخ العام للعلوم، فمثلا النصوص المغربية الرياضية المحققة في العقود الأخيرة بينت بما لا يدع مجالا للشك، أن كثيرا من النظريات والقوانين الرياضية خصوصا في مجال التحليل التوافقي وفي علم الحساب، المنسوبة خطأ اليوم لرياضيين أوروبيين هي في الحقيقة إبداع مغربي تم خصوصا في مدينتي مراكش وفاس خلال القرنين 13م و 14م. ولا يزال ينتظرنا الكثير في هذا المجال.

– هل كانت عملية نقل علوم الأوائل خاضعة للصدفة والتلقائية أم أنها كانت محكومة ببرامج وأهداف محددة؟ بعبارة أخرى، هل كان هذا الانفتاح محكوما بالفضول الفردي للعلماء أم أنه جاء تلبية لحاجيات المجتمع الناشئ؟ وما هو دور السلطة السياسية في هذه العملية؟

قد تكون مقاربتي لهذه المسألة مختلفة شيئا ما عن الرائج حاليا من دراسات تتعلق “بالعقل العربي أو الإسلامي” ودوره في الاهتمام بعلوم الأوائل ونقلها إلى العربية، فأنا كمؤرخ للعلوم أنظر للأمور بشكل أكثر بساطة، ذلك أن الاهتمام بالعلوم يكون مرتبطا أساسا بقيادة العالم على المستوى السياسي والعسكري، هذا المستوى الذي يؤدي إلى الازدهار الاقتصادي، وعندما يكون هناك ازدهار على المستوى الاقتصادي يكون من الضروري حتما الاهتمام بالعلوم، لأنها أداة للسلطة بمختلف مظاهرها: عسكرية وسياسية واقتصادية، فعندما كان المسلمون أسياد العالم على المستوى العسكري، وكانوا مسيطرين على الطرق الاقتصادية لذلك العصر، فرضت اللغة العربية نفسها كلغة للعلم، فكتب بها المسلم والمسيحي واليهودي والصابئ.

هذا هو المستوى الأول أما المستوى الثاني فمرتبط بالإسلام نفسه كآخر الأديان السماوية والذي كان من المفروض أن تتبعه على المستوى النظري كل من الفلسفة والعلم، فالله عز وجل ليس كمثله شيء، مما يجعل أن العقل الإنساني لا يمكنه أن يتصوره إلا نظريا، مما أدى على المستوى العلمي، إلى الاهتمام بالعلوم النظرية المجردة وعلى رأسها الرياضيات، فتفوقت بذلك الحضارة الإسلامية على كل الحضارات الأخرى، من حيث أن مساهمتها على المستوى الرياضي فاق بكثير كل الحضارات الأخرى مجتمعة.

فالجبر والمقابلة كانت الحاجة إليه ملحة لحساب المواريث، كما أن تطوير علم الفلك وحساب المثلثات كان ضروريا لرؤية الأهلة والتحديد الدقيق للقبلة، كما أن التحليل التوافقي كان ضروريا لبناء المعاجم اللغوية، ولكن إن كانت هذه الحاجيات خاصة بالمجتمع الإسلامي فهذا لم يمنع هذه الأدوات من أن تصبح أدوات عالمية فيما بعد تستعمل في كثير من مجالات الحياة الإنسانية اليوم. المهم بالنسبة لنا هو ان الإسلام كدين وكحضارة ساهم في تطوير كثير من مجالات العلوم وبالأخص الرياضية منها.

أما بالنسبة للارتباط بين العلم والسياسة أو ان الاهتمام ارتبط بالدعم الذي حظيت به العلوم من قبل بعض الخلفاء فكان ذلك سببا في تقدمها وهو ما دافع عنه بعض مفكرينا وعلى رأسهم أستاذنا محمد عابد الجابري فلا أتفق معه نهائيا، لأنه قول سبقه إليه بعض المستشرقين للقول أنه لولا السياسة لما اهتم المسلمون بالعلوم الفلسفية، وذلك لزعمهم أن روح الإسلام تنفر من العلوم. الاهتمام بالعلوم لم يكن ناتجا عن رغبة ذاتية لبعض الخلفاء بل بقوة الأشياء نفسها، فطبيعي عندما تكون مسيطرا على المستوى السياسي والعسكري أن تكون لك الريادة العلمية، المشكلة أن بعض المثقفين المسلمين فطنوا أنه لكي يدوم رقي الدولة وتقدمها من الضروري أن تتبنى الدولة العلم وتجعله جزءا من الثقافة الإسلامية نفسها، وهو ما قام به الكندي في رسالته في الفلسفة الأولى الموجهة للخليفة العباسي المعتصم، التي هي عبارة عن أول بيان فلسفي في تاريخ الإنسانية، لأنها تتضمن برنامجا فلسفيا محتاجا لتبنيه من لدن الخليفة نفسه حتى تصبح العلوم العقلية جزءا لا يتجزأ من الثقافة الإسلامية نفسها. قرونا بعد ذلك وضع قاضي قرطبة أبو الوليد ابن رشد فتوى شرعية توجب النظر في العلوم على من تتوفر فيه الشروط العلمية والخلقية اللازمة، بعد ابن رشد ميز أستاذي ومعلمي ابن البنا المراكشي بدقة بين مجال العلم الإلهي اللامتناهي ومجال العلم الإنساني المتناهي، فحافظ للدين على قدسيته وتعاليه، ولمجال العلوم العقلية على أهميته كمجال عقلي ضروري لبناء فكر الأمة واطراد تقدمها في جميع المجالات، ونزع عن العلوم الطابع اليوناني  باعتبارها علوما كونية غير خاصة بحضارة ولا بمجموعة بشرية معينة، وهو ما ساهم في انتشار العلوم العقلية ليس فقط في المدن التي كانت مراكز علمية كفاس ومراكش، بل انتشرت في كل مناطق المغرب، قراه ومدنه، وهو ما تشهد به الشروح التي وضعت على تلخيص أعمال الحساب لابن البنا، لأن الشراح ينتمون لمختلف مناطق المغرب. إلا أن هذه المحاولات الفكرية لم تجد قوة سياسية حاضنة، فجاء ابن خلدون لإعلان انتهاء دورة العمران، في انتظار دورة عمران أخرى أكثر قوة ومتانة.

– ماهي العوامل التي أسهمت في نظركم في تطوير الأنشطة العلمية في الحضارة الإسلامية أو بالمقابل في تراجعها؟

العوامل التي ساهمت في تطوير الأنشطة العلمية في الحضارة الإسلامية هي العوامل العامة التي تصنع مجد كل حضارة وسؤددها، فالحضارة الإسلامية كانت متحكمة في الطرق التجارية العالمية مما جعل من المدن الإسلامية مراكز علمية يقصدها كل من كان يرغب في المعرفة حتى من الدول الأوربية، أما أسباب التراجع فهي أنك عندما تفقد المبادرة على المستويين السياسي والعسكري تفقدها في المجالات الأخرى، خصوصا الاقتصادية، فينعكس ذلك على الاهتمام بالعلوم وتميل الحضارة إلى الانكماش على نفسها، لابد هنا من التذكير بتاريخين مأساويين في تاريخ الإسلام، هزيمة العقاب سنة 1212م في الأندلس أمام الجيوش المسيحية الأوربية الموحدة، ودخول التتر إلى بغداد سنة 1259م، فالأمر لا يتعلق بفقدان الأراضي وكذلك السقوط المتتالي لمدن الأندلس الإسلامية في يد المسيحيين، لكن المهم من كل هذا هو الانعكاس السلبي للهزيمة على البنية الذهنية نفسها للإنسان المسلم، حيث تم التخلي التدريجي عن الدور الحضاري الذي كان المسلمون يلعبونه إبان فترات الازدهار، فتركوا زمام المبادرة على المستوى العلمي للحضارة اللاتينية التي كانت آنذاك في طور النشوء والتطور.

– كيف تفسرون هذا الغياب الواضح للفكر العلمي داخل المقاربات التراثية المعاصرة؟ وكيف ينعكس هذا الأمر على قيمة هذه المقاربات؟

يرجع السبب في نظري إلى أن الباحثين في التراث العربي الإسلامي وعلى رأسهم محمد عابد الجابري وعبد الله العروي وكذلك محمد أركون، سقطوا في مقولة القرن التاسع عشر، التي جعلت الفلسفة والعلم خاصية فكرية أوروبية، فاهتموا بكل جوانب التراث الأخرى على أساس أنها تراث إسلامي أو كما كان يدرس في الجامعة على أساس أنه فكر إسلامي، أما الفلسفة والعلم فإنهم بما أنهم سلموا بأنها خاصية أوربية، فكانت بذلك مجهوداتهم تصب في اتجاه كيفية إدماج هذا الفكر ” الغريب عنا” في فكرنا المعاصر. ولهذا الموقف أسباب متعددة، لذلك سأقف عند السبب الذي يهمني أكثر وهو التأخر بالنسبة لنا في الاهتمام بتاريخ العلوم، وكذلك بتحقيق النصوص العلمية التراثية، فلو كان تاريخ العلوم حاضرا بقوة في مناهجنا التعليمية، ولو كنا على معرفة وافية بتراثنا العلمي، لثبت لدينا أن العلم فكر كوني مشترك بالنسبة للإنسانية جمعاء، ولكان من المستطاع أن نتناوله كجانب من الجوانب المشكلة لتراثنا، كغيره من المجالات الأخرى، تبقى هذه المهمة منوطة بالباحثين الشباب وبمراكز البحث كمركزكم هذا لاستكمال هذا النقص الذي تعاني منه الدراسات التراثية.

– باعتباركم من أبرز الباحثين في تاريخ الرياضيات في الغرب الإسلامي، ما مدى انتشار الفكر العلمي الرياضي في المجالات الثقافية الإسلامية بالغرب الإسلامي؟ وماهي قيمة ذلك الانتاج الرياضي؟

الرياضيات في الغرب الإسلامي كانت جزءا من البرنامج التعليمي للغرب الإسلامي، حيث أن الدارس لابد في تكوينه أن يدرس الرياضيات وهو ما تشهد به كتب الصلات من ابن الفرضي إلى ابن الزبير، وكذلك العدد الكبير من المؤلفات الرياضية التي أنجزت في الغرب الإسلامي والتي ضاع معظمها للأسف الشديد. أما مجالات الفكر الإسلامي التي كان للرياضيات دور كبير فيها فهي حساب المواريث والمعاملات التي كتب فيها الرياضيون في الغرب الإسلامي كتبا ضاعت للأسف، ككتب الزهراوي في هذا المجال وابن السمح، وما يمكن أن نضيفه هو أنه بدءا من القرن 13م بدأت الرياضيات تستعمل كآلية في مجالات جديدة بالنسبة لها وخصوصا المباحث اللغوية وبناء المعاجم. نذكر هنا على سبيل المثال كتاب فقه الحساب لابن منعم وكتاب لغوي استعملت فيها آليات رياضية وهو الروض المريع في صناعة البديع لابن البنا المراكشي.

أما قيمة الإنتاج الرياضي للغرب الإسلامي فأصبحت لا تدع مجالا للشك، خصوصا بعد اكتشاف أجزاء مهمة من كتاب الاستكمال للمؤتمن بن هود الذي تبين معه أن الرياضيات في الغرب الإسلامي وصلت إلى نفس المستوى الذي كان لها في المشرق، ولا ننسى أيضا أعمال ابن البنا المراكشي خصوصا تلخيص أعمال الحساب ككتاب ينفرد بأنه كتاب في تعليم الحساب، ولكن يفتح آفاقا في البحث يمكنها أن تواكب تطور المجتمعات الإسلامية، وهو ما جعله يحظى بشهرة واسعة، تزكيها الشروح التي وضعت عليه، ليس فقط في المغرب، بل وصل إشعاعه إلى المشرق فشرحه رياضيون مشارقة.

– خصصتم حيزا مهما من أطروحتكم الجامعية وحجما مهما من مقالاتكم لموضوع النسبة والتناسب، فما المقصود بهذين المفهومين؟ وما هي قيمتهما الإبستمولوجية والأنطولوجية؟

يحتاج هذا الموضوع إلى كثير من الوقت للإجابة عنه، لذلك سأكون جد مركز في إجابتي هذه، إلى حدود ابن رشد كان الكتاب المستعمل كمنهج للعلوم على المستوى الإبستملوجي هو كتاب البرهان في شروحه الإسلامية، خصوصا شرحي الفارابي وابن رشد، وكان ينظر إلى العلوم كأجناس متباينة، لا يمكن أن ننقل براهين علم إلى علم آخر، إلى درجة أن ابن رشد يرفض أية علاقة بين علم العدد والهندسة، نظرا لأن العدد كم منفصل والهندسة كم متصل، وهذا المستوى الإبستمولوجي له مستوى أنطلوجي كذلك، وهو عدم الاتصال في الكون بين عالمين: عالم ما تحت القمر أي العالم الأرضي والعالم السماوي، الأول فاسد متحول والثاني أزلي وأبدي. عندما حدث في المغرب تحول من المنطق إلى الرياضيات مع ابن البنا المراكشي ومدرسته، سيتم من الناحية الإبستملوجية تعويض كتاب البرهان المنطقي بالمقالة الخامسة من كتاب الأصول لأقليدس الخاصة بالنسبة، إلى ماذا سيؤدي هذا القول؟ سيؤدي إلى القول بأن العلوم جنس واحد، فالأشياء المتناسبة هي التي بينها تناسب ولا يهم إن كانت من نفس الجنس أم لا. بمعنى آخر نقوم بفحص الأشياء والمقارنة فيما بينها، فإن تبين لنا أن هناك تناسبا بينها فنقول بالتناسب، أما إن ثبت أنها لا تخضع لقانون التناسب الرياضي القائم على ثبوت النسبة، فنقول أنها غير متناسبة، وهو ما ساهم في إدخال التجريب في العلوم ووحد العالم، بمعنى آخر ان هذا المستوى الإبستملوجي أدى على المستوى  الأنطلوجي إلى توحيد العالم على اعتبار أن العوالم متصلة لا منفصلة، وهذا الاتصال بين العوالم، عالم الحوادث وعالم التكوين وعالم العناصر، هو الذي سمح لابن خلدون لأنه تلميذ لمدرسة ابن البنا المراكشي بكتابة مقدمته التي تقدم تصورا شموليا للكون، وهو ما لم يكن ممكنا في ظل النسق الأرسطي ـ الرشدي. الطريف في الأمر أن نفس الأداة، أي قانون النسبة، هو الذي سيسمح لجاليلي فيما بعد ببناء الفيزياء على الرياضيات، حيث كسر به الفرق الماهوي الذي كان النسق الأرسطي ـ الرشدي قد وضعه بين الكم والكيف، بالنسبة لجاليلي إن الله خلق العالم بقوانين هندسية. قلت طريف لأن في إطار حضارة أكملت دورتها الأولى، وفي انتظار دورة ثانية أقوى بحول الله، بنى ابن خلدون بقانون النسبة والتناسب علم التاريخ، وفي ظل حضارة ناشئة هي الحضارة اللاتينية بنى بها جاليلي علم الفيزياء، كمؤشر لانطلاقة جديدة للعلوم.

ما هي المكانة الأنطولوجية التي احتلتها الرياضيات لدى علماء الغرب الإسلامي خصوصا إبان القرنين 13 و 14 الميلاديين؟ وهل يسمح لنا هذا أن نقول بوجود علاقة وطيدة بين مبحثي الرياضيات والفلسفة لدى علماء الغرب الإسلامي؟

أفضل القول بأن العلاقة هي علاقة ثلاثية لأنها تتعلق بالعلاقة بين الدين والفلسفة والعلم، هذه العلاقة هي التي سمحت بإعطاء الرياضيات مكانة أنطلوجية متميزة، وذلك لأنها العلم الذي من خلاله يمكننا أن نمر من تناهي العلم الإنساني إلى لا تناهي العلم الإلهي، وذلك لأن الرياضيات هي العلم الذي يستحضر مفهوم اللامتناهي بشكل مكثف في بناء قوانينه العقلية. وهو ما لم يكن ممكنا مثلا عند ابن رشد الذي جعل العلاقة ثنائية، أي بين الفلسفة والرياضيات، وهو ما جعل هذه الأخيرة لا تلعب دورا أنطلوجيا بالنسبة لابن رشد، وذلك لأنه ينطلق من تصور فلسفي يجعل العالم متناهيا مغلقا، وهو ما لا يستقيم مع طبيعة الرياضيات التي تستحضر كما قلنا اللامتناهي في بناء قوانينها، لذلك لم تلعب أي دور أنطلوجي عند ابن رشد، وعكس ذلك سيحصل كما قلنا مع الرياضيين.

هل يمكن أن تقدموا للقارئ نبذة عن أهم التقاليد الرياضية التي كانت سائدة بالغرب الإسلامي؟

يجب أن نشير في البداية إلى أن الرياضيات في الغرب الإسلامي بدأت في القيروان التي كانت مركزا للغرب الإسلامي عند الفتح الإسلامي، وذلك إلى حدود القرن 9م، ثم انتقل مركز الثقل الحضاري إلى الأندلس مع الإمارة والخلافة الأموية بها. التقليد الرياضي الأول الذي يمكننا أن نشير إليه هو التقليد الذي بدأه كثير من الرياضيين في القرن 10م، والذين جمعوا في تكوينهم بين علم العدد والهندسة وعلم الفلك التطبيقي، ويمكن أن نقول بأن الذي توج هذا القرن هو أبو مسلمة المجريطي الذي ترك لنا تلامذة شكلوا أهم الرياضيين في القرن 11م، كابن السمح والزهراوي، وإلى جانب هؤلاء لابد من ذكر رياضيين آخرين جمعوا بين التكوين الرياضي والفلسفي، على رأسهم ابن باجة والمؤتمن بن هود. القرن 12م هو القرن الذي ألفت فيه كتب رياضية ضخمة في علم الحساب على يد الحصار صاحب الكامل في صناعة العدد، وابن منعم الذي جمع في كتابه بين نظرية الأعداد وعلم الحساب، والقرشي الذي له شرح كبير  في علم الجبر والمقابلة على كتاب الكامل في الجبر لأبي كامل المصري. أما بدءا من القرن 13م فيمكن الحديث عن مدرسة ابن البنا في علم الحساب والتي استمرت لقرون عديدة.

أشرتم في بعض كتاباتكم إلى وجود توجهين أساسيين للرياضيات بالغرب الإسلامي: الاتجاه الرياضي العملي-الديني والاتجاه الرياضي الفلسفي النظري. ما هي خصائص كلا هذين التوجهين؟ وكيف أغنى التقليد الذي أرسته مدرسة ابن البنا البعد التكاملي بين العقل والدين؟

الصفحة السابقة 1 2 3الصفحة التالية
Science

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. تحية حب ومودة صادقة ﻷستاذنا العزيز "محمد أبلاغ". صراحة ما يعجبني في هذا اﻷستاذ هو اعتزازه بالفكر المغربي والعربي، وعدم النظر إليه كمجرد نقل أو ترجمة، كما يرى الكثير من الدارسين… إلى جانب أن هذا اﻷستاذ يعمق أبحاثه ودراساته في مجال العلوم والفلسفة في المغرب والوطن العربي، أعماله التي تشكل زخما كبيرا، وإطراءا للمكتبات العربية والمغربية… دامت لك الصحةة والعافية أستاذنا الغالي والمتواضع.

  2. بوركتم أستاذي محمد أبلاغ، وفقكم الله في ما تقومون به أعمال نبيلة خدمة لقضايا الأمة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق