مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات محكمة

جواب أبي عبد الله الفاسي (ت1214ه‍) عن حكم تكرار البسملة لكل مقرإ عند الجمع والإرداف

هذه فتوى مسلولة من أجوبة له عن أسولة رفعت إلى أبي عبد الله محمد بن عبد السلام الفاسي 1214ه‍، في قطعة كاغد ــ كذا قال أول جوابه ــ، وليس ههنا مقام بيان أحقيته رحمه الله بوسم «المرجع عند الاستشكال والحجة عند الاستدلال»، وإنما وقع الاختيار والاقتصار على هذا الجواب لما فيه من ملامح الإمامة والفرادة عنده، مسعفا المستفتي بما يربو عن الحكم، إلى التوجيه، والاستدلال بالنص والرواية، ومناقشة الرأي المخالف، وعرض ما له، قبل النقد والنقض، ومن ذلك ما عن لي ذكره في مسألة تكرار البسملة أول السورة عند الأداء بالجمع والإرداف:

لا يرى الفاسي في المسألة جواز الأداءين، مع اختيار أحدهما، وهما: العود لكل قارئ، والاكتفاء بواحدة، بل قال بتعيُّنِ الأول وبمنع الثاني، وقال في ما رآه الصواب « وهذا هو الحق الذي لا معدل عنه»، ونصَّ رحمه الله على أن الرواية عن ابن غازي وابن القاضي بالعود إلى البسملة وتَـكرارها لكل قارئ عند الجمع، وردَّ ما حكاه تلميذ ابن القاضي  الرضي السوسي عن شيخه من خلاف ذلك.

قلت: الأداء اليوم عند المغاربة على ترك البسملة عند كل رجعة، رغم أنهم يسندون قراءتهم للفاسي، ثم منه إلى ابن القاضي وابن غازي، وقد نافح عن تكرارها على ما تقف عليه، ولم يقرأ إلا به على شيخه المنجرة الابن، وإن كان قد أقرأ غيرَه بترك الرجوع، وقبِل منهم ذلك ولم يردهم، وهو خلاف مقرإ والده المنجرة الأب، الذي ذهب مذهب العود والتكرار، وبذلك أقرأ الفاسي رحمه الله؛ إذ أصل السؤال هو الرواية عنه من بعض الآخذين عنه، وقد نال من الشيخ المدح والترضي، قال : « فقد صدق تلميذي علي ـ جزاه الله خيرا وحفظه ـ ، إني أفعل ذلك وأراه متعينا».

وكعادته في توجيه ما أوجب وارتضاه، انتصـر بالظاهر والنص والـمفاد، من الحرز، ثم آزره بنشر ابن الجزري، وتلك مـمدوحة له؛ إذ الحال كما وصف «فَـقَـلَّ ما تـجد من يقرأ السبعة إلا وهو يستظهرها ـ أي الشاطبية ـ ويضـرب أولها بآخرها، ولا ذكر لغيرها من كتب الخلاف عندهم إلا التيسير اسمـا لا رسمـا، وإلا النشـر للحافظ ابن الجزري ذكرا لا علمـا»، فالاستشهاد بنص النشـر، ومناقشة مضمنه، والاستقواء بظاهره ومقتضاه، في زمن الفاسي وقبيله، مـمـا يوجب التنويه، لسبق حصوله، خصوصا وأمر الدراية حينها إلى كساد، ووجه الأداء إلى فساد.

وسألت عددا من قراء المغرب مـمن أسند قراءته اليوم وقرأ بالجمعين المغربي والمشـرقي، وكلهم على ترك البسملة، والذي أراه إذ يسندون مقرأهم إلى الفاسي وعنه ومنه إلى السبعة أن ينزلوا عند اختياره للعود في كل مرة إلى البسملة، والله أعلم.

وقد وقفت على كلام له في سفره العظيم «المحاذي» بباب «اختلافهم في البسملة»، خلال تحقيقي لنصه، تأكيدا لفتواه هذه، قال : «وعلى ذلك من كتب في لوحة سورة طه أو سورة الحجر مثلا أو سورة النحل ثم اشتغل بدرسه فإنه تطلب منه البسملة في كل عودة إلى رأس السورة، وهذا إذا قرأ لراو واحد، ومثله ما إذا كان يقرأ للجماعة بصناعة الإرداف لاثنين أوثلاثة أو للسبعة كلهم، فإنه لا بد به من البسملة لكل راو عاد إليه من رأس السورة لاستيعاب القراء أو الرواة عنهم او الوجوه عن الراوي الواحد، كما ذكره الحامدي عن شيخه العلامة أبي محمد، ابن  عاشر الفاسي صاحب المرشد المعين، وعن شيخه العلامة أبي عبد الله محمد بن يوسف التنملي المراكشي، وهو خلاف ما ذكره الشيخ الراضي السوسي عن شيخ الجماعة أبي زيد بن القاضي.

والحق ما أفتى  به شيخه ابن عاشر وشيخه التنملي، وبه أخذ علي شيخي رحمه الله، وعليه ألقن المتعلمين علي، وإن كان شيخي رحمه الله لم يكن يرد من قرأ بين يديه بما لابن القاضي إلى غيره، وكل هذا يشمله قول صاحب التيسير «ولا خلاف في التسمية في أول فاتحة الكتاب، وفي أول كل سورة ابتدأ القارئ بها ولم يصلها بما قبلها في مذهب من فصل ومن لم يفصل» انتهى، فأنت تراه أطلق ولم يخص ابتداءا حقيقيا ولا ناشئا عن وقف أو قطع، وعليه قول ولي رحمه الله:«ولا بد منها في ابتدائك سورة سواها».

لا يقال إنك قررت في باب الوقف وغيره أن الابتداء بالشـيء لا يستلزم الوقوف على ما قبله، وعليه فيكون العائد إلى أول السورة لاستيعاب القراء أو رواتهم أو الوجوه عنهم أو لتكرير الدرس للحفظ والتمرن واصلا لذلك المبدأ بالبسملة لأنه غير مقرر الوقوف عليها، فهي في حكم الموصول بما بعده، لما يقال إن الأحكام إذا ورد النص في عين جزئي من جزئياتها بما يخالفها، كان عائدا على ذلك الحكم الكلي بالتقييد كمسألتنا؛ لأنهم لما تعرضوا إليها بالنص على استعمالها في الابتداء، واستثنوا منه ابتداء «براءة» مقتصرين عليه، تعين أن يحمل على كل ابتداء غيره كما سبق على ما استظهره صاحب النشر، وأفتى به ابن عاشر والتنملي، والله أعلم» انتهى بتمامه من المحاذي.([1])

ثم وقفت بعد مدة على نص جوابٍ له على مسائل ستة رفعت إليها، كان موضوع الثالثة منها هو موضوع هذه الثانية عينها، ونص سؤالها هو : « من كتب في لوحه جزءا أوله هو أول سورة، كسورة «سبحان»، هل يعيد البسملة في كل عودة؟»، ويورد الفاسي خلال جوابه شاهدَ البدء بسورة النحل كما ورد في أجوبتنا هذه، ومخالفتُه لشيخه ولما عليه الأداء أوضح وأظهر لصريح عبارته ثم.

وفي جوابه عن مسألة البسملة وأخواتها من مسائل قطعة الكاغد غير ما ذكر من الفوائد، يوقف عليها في تقديمي لنصها محققا، وهو تحت الطبع.

 

نص السؤال:

« قال: وأخبرني بعض تلامذتك أنك تبسمل لكل قارئ في ابتداء السورة ولا تكتفي بالبسملة الأولى، فهل ذلك كذلك؟ وهل يجوز الاكتفاء لمن أراده؟».

نص جواب أبي عبد الله محمد بن عبد السلام الفاسي:

وأما ما ذكرتَ عن بعض تلامذتي من قوله عني إني أبسمل لكل قارئ كلما ابتدأت برأس السورة، فقد صدق تلميذي علي ــ جزاه الله خيرا وحفظه ــ ، إني أفعل ذلك وأراه متعينا، فإذا قرأت مثل قوله تعالى ﴿ بِسمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ أَتَىٰٓ أَمرُ ٱللَّهِ ﴾ [النحل/1] أو ﴿ÈýcÏJ!t9t&﴾[الأعراف/1] أو ﴿ýhÉJ!t9r&﴾[الرعد/1] أو ﴿Èÿvè1‹1g!u2﴾[مريم/1] مفتتحا بها أو مُرَّ بـهـا لأصحاب البسملة، فإني أقول في الاستفتاح بالسورة الأولى مثلا «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» واقفا عليه، ثم أبسمل واقفا عليها، ثم أقرأ لورش، ثم أعود لقراءة قالون فأبسمل له واصلا لها، ثم أقرأ له الإشباع، ثم أعود فأبسمل واصلا لها وأقرأ له القصـر، ثم أعود للشامي وعاصم فأبسمل لهما واصلا لها وأقرأ لهما، ثم أعود لقراءة حمزة فأبسمل له واصلا لها أيضا ثم أقرأ له، ثم أعود للكسائي فأبسمل له وأقرأ، وهكذا أفعل برأس كل سورة ابتدأت بها.

وحاصل الأمر أني كلما تلفظت بأول حرف من السورة لأي قارئ كان، أبسمل لقول الشاطبي رحمه الله:«ولابد منها في ابتدائك سورة سواها» إلى آخره، وهو الذي ذكره في النشـر([2])، وهو الـمروي عن ابن غازي وعن ابن القاضي ، خلاف ما روى عنه أبو عبد الله الرضي السوسي من أنه كان يكتفي بالبسملة الأولى.

وكان الطلبة يقرؤون بين يدي شيخنا ــ رحمه الله ــ عليه، ولا يردهم([3])، والذي قرأتُ به عليه العود إليها لكل قارئ، وهو الذي ذكره أبوه  ــ رحمهما الله ــ، وهو الذي ذكره أيضا الحامدي([4]) في كتاب أنوار التعريف([5]) عن شيخه أبي عبد الله محمد بن يوسف التينملي([6]) وعن شيخه أبي محمد ابن عاشر، ونصه من الكتاب المذكور:

« تكميل: حدثنا الشيخ عن بعض مشائخه وكذلك شيخنا سيدي عبد الواحد بن عاشر الأندلسي عن بعض مشائخه أن القارئ إذا ابتدأ سورة وفي مبدئها أوجه من الأداء لمن يبسمل، فلابد له من البسملة مع كل وجه، لا تكفي الأولى.

وعليه المتعلم الذي يدرس لوحته إذا كانت مبدوءة بالسورة، فلابد من البسملة مع كل عودة»([7]) انتهى.

وهذا هو الحق الذي لا معدل عنه، ويكفينا نص الشاطبي رحمه الله، ونص صاحب التيسير رحمه الله، وهو: «ولا خلاف في التسمية في أول فاتحة الكتاب، وفي أول كل سورة ابتدأ القارئ بها ولم يصلها بمـا قبلها في مذهب من فصل ومن لم يفصل»([8])انتهى.

وإذا كانت النصوص ناصة على العود إلى البسملة لكل قارئ كما سمعتَ، فلا يجوز تركها، لكن بالمنع الأدائي الذي يتلى عليه القرآن في صناعة الأداء، لا المنع الشـرعي الذي يأثم مخالفه؛ لأن التسمية في ذلك حكمها في الشرع الاستحباب، وترك المستحب لا إثم فيه، على أنها لو كانت من القرآن اتفاقا وتركت في التلاوة ما أثم تاركها كسائر آيات القرآن؛ لأن تلاوة جميع آياته واجب على الكفاية، فلا يتعين على أحد.

([1])  نقلته من نص رسالتي تحقيقا للمحاذي، أطروحة الدكتوراه.

(2) « أن كلا من الفاصلين بالبسملة والواصلين والساكتين إذا ابتدأ سورة من السور بسمل بلا خلاف عن أحد منهم» النشر 1/263 .

(3) أي بدون تكرار البسملة.

(4)  محمد بن أحمد بن بلقاسم، ابن الغازي الجزولي الحامدي. ن سوس بوابة الصحراء  لبنعبد الله عبد العزيز  ص280 و معجم طبقات المؤلفين لابن زيدان 2/277.

(5) أنوار التعريف لذوي التفصيل والتعريف، في العشـر النافعية، الخزانة الحسنية نسخ عديدة، منها 8885، 13389.

(6) خلال جزولة 2/12، نشر المثاني 1/177.

(7) ن أنوار التعريف لذوي التفصيل والتعريف، مخطوط ص2.

(8) التيسير للداني ص 110.

د.يوسف الشهب

  • باحث متعاون بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق