مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

تَـيْسيرُ قَواعِد الإعْراب في كُتُب النُّحاة

د.عبد الرحمن بودرع
اهتمَّ كثيرٌ من أئمّة النّحويّينَ بِوَضْعِ مُختصَراتٍ تأخذُ بأيدي النّاشئةِ في طَريقِ تعلّمِ الإعْرابِ وقَواعِدِ النَّحْو، عِنْدَما أحسّوا بِفُشُوِّ اللَّحْنِ و بُدُوِّ الضّعفِ  وضَياعِ هِمَمِ التّعلُّمِ، ثُمَّ يُضافُ إلى ذلِك ما عَرَفَه النَّحْوُ مِن تَعَدّدِ الآراءِ واخْتِلافِها والإغْراقِ في التّأويلِ والتَّعْليلِ والتَّقْديرِ، والإكْثارِ مِنَ الطّولِ المُفْرِطِ الناشئ عَنِ التَّكرارِ والاسْتطرادِ و الحَشوِ والفُضولِ، ومُعالجَةِ المَسائلِ الأجنبيةِ التي لا صِلَةَ لَها بالنَّحوِ، فَضلاً عَن الشَّغَفِ بالمُناقَشاتِ و الجَدَلِ، والمُبالَغَةِ في تتبُّع العِللِ، والإكثارِ مِنَ التَّقسيمِ والتَّفريعِ1، ومِنْ كُتبِ النّحوِ ما يتعذّرُ استيعابُه على الدّارسينَ المُتَخصّصينَ أنفُسِهِم ؛ و ذلِك لامْتِلائها بالحَشوِ، أو كَما قالَ ابنُ مَضاء القُرطبُيّ «بالمُماحَكاتِ و التَّخْييلِ» ، ففيها حُشودٌ من المُجادَلاتِ الذّهنيّةِ العَقيمةِ و ألوانٌ من العِلَلِ و العَوامِلِ التي يُسوِّغُها منطِقُ العَقلِ لا مَنْطِقُ اللّغةِ .
1- فَممّن ألّفَ في قَواعِدِ الإعْرابِ و تَيسيرِ النّحوِ خَلَف الأحْمَرُ الذي وَضَعَ “مُقَدِّمَة في النَّحو” ، قالَ في أوّلِه : « لَمّا رأيت النَّحويين وأصحابَ العَربيةِ قَد استعَملوا التَّطويلَ وأكْثروا العلَلَ وأغْفلوا ما يَحتاجُ إليه المُتبلّغُ في النَّحوِ مِن المُختَصَر …أمْعنتُ النَّظرَ في كتابٍ أؤلفُه وأجمعُ فيه الأصولَ والأدَواتِ والعَواملَ على أصولِ المبتدئينَ ، لِيستغنِيَ به المُبتدئُ عن التَّطويلِ2.
و لهذِه الأسبابِ عَمدَ المُخْتَصِرونَ إلى وضعِ مُخْتَصَراتِهم عِلْماً منهم أنّ اللّغةَ مَلَكَةٌ راسِخَةٌ في الطَّبْعِ ، تُكْتَسَبُ بكَثْرَةِ تَرْديدِ النُّصوصِ الفَصيحَةِ و تَعَلُّمِها وحِفْظِها – « والمَلَكاتُ لا تَحْصُلُ إلاّ بِكثْرَةِ الأفْعالِ»3- و لَيسَ بحفظِ كثرةِ القَواعِدِ النَّظَرِيّةِ التي تُجرَّدُ مِنْ نُصوصِها التّطبيقِيّةِ .
2- و مِمّن ألّفَ في قَواعدِ الإعْرابِ أبو الحَسنِ الخاوراني الشّوكاني (ت.571)  ولَه في المَوضوعِ كِتابُ “القَواعِد و الفَوائِد في الإعْرابِ”4، وهو مُختصَرٌ في عِلْمِ الإعْرابِ ، جَعلَه على ثلاثةِ أقسامٍ : قِسم في مُقدِّماتٍ تتعلّقُ ببيانِ النّحوِ والكلِم والكَلامِ و الإعرابِ و البِناءِ، و قِسم في المَقاصدِ وهي العَواملِ المُختلِفةِ: الرّوافِعِ والنّواصبِ و الخَوافضِ و الجوازمِ ، و قِسم في اللّواحقِ ، منها بيانُ المعرِفةِ والنّكرةِ و التّوابعِ، وقَواعِد في التّصغيرِ والنّسبِ والإمالةِ والوَقفِ. وتتخلّلُ هذه الأقسامَ قواعدُ و فوائدُ لا يستغني عَنها طالبُ الإعْرابِ، و تَنتَهي بعَشرِ مَسائلَ مِن المُشكِلاتِ، كالفرقِ بين “مَنْ” و”ما” و الفرقِ بين “إذا” و “إنْ”، وإضافةِ ظروفِ الزّمانِ إلى الفعلِ ، ووُقوع الجارِّ و المجرورِ صفةً و حالاً، وبَعضِ أحكامِ التقديمِ و التّأخيرِ … وهو بتَصْريحِ صاحِبِه مُخْتَصَرٌ في الإعرابِ جَمَعَه ممّا سَمعَه مِن أفواهِ العُلَماءِ و أملاه عَلى بعضِ تَلامذتِه .
3- و ممّن ألّفَ في القَواعدِ الموجزَةِ أيضًا أبو العَبّاسِ شِهابُ الدّينِ القَرافِيّ (ت.684) العالِمُ الفقيهُ اللُّغوِيُّ صاحبُ المُصَنّفاتِ الكثيرةِ المبنيّةِ على أساسِ القواعدِ والمسائلِ، ومنها رِسالَتُه الموجَزَةُ في “القواعدِ الثلاثينَ في علم العربية”5 التي تتضمّنُ مادَّةً نَحويةً وصَرفيةً وشَواهدَ فَصيحةً, وتعالجُ قضايا تركيبيةً و إعرابيةً يحتاجُ إليها الطّالِبُ في علمِ العربيّةِ، كمسألةِ التّعلُّقِ في الظّروفِ وحروفِ الجرِّ، واخْتلافِ الجملِ و أشباهِ الجملِ بعد النّكِراتِ والمعارِفِ ومسألةِ عَودِ الضّميرِ عَلى متقدّمٍ أو متأخّرٍ، وأنواعِ الحالِ باعتبارِ الزّمانِ وباعتبارِ الذّاتِ .
4- و ألّفَ جمالُ الدّينِ ابنُ هشامٍ الأنصارِيُّ (ت.761) كِتابَ “مُغْني اللَّبيبِ عن كُتُبِ الأعاريبِ”6، و هو كِتابٌ ضخمٌ لم يَجْرِ عَلى مثالٍ سبَقَ في التّصنيفِ النّحوِيّ؛ إذْ تَناولَ موضوعاتٍ نحويّةً مُختلفةً تَناولاً شاملاً مُفصّلاً ، فقدْ عقَدَ أبوابًا لمَعاني الحُروفِ و الأَدَواتِ، وباباً في تَفسيرِ الجُملِ و ذِكرِ أقْسامِها و أحْكامِها الإعْرابيّةِ و باباً في الظّرفِ و الجارِّ و المَجْرورِ وهُو شِبه الجُملةِ ، وأبواباً في أحْكامِ الإعْرابِ و ما يَنبَغي للمُعْرِبِ أن يَعْلَمَه و ما يَقْبُحُ به أن يَجْهَلَه، وباباً في كُلّيّاتٍ نَحويّةٍ يتخرّجُ عليها ما لا يَنحَصِرُ من الصّورِ الجُزئيّةِ .
و يهمُّنا من أسبابِ التأليفِ التي ذَكَرَها في مُقدِّمةِ كِتاب “المُغْني” أنّه قصَدَ به إلى تَيسيرِ فَهمِ القُرآنِ الكريمِ و فَتحِ أغْلاقِ مَسائلِ الإعرابِ و إيضاحِ ما أشكَلَ على الطّلاّبِ فهمُه من قَواعِدِ النّحوِ و عَويصِ مَسائلِه ، و تَصْحيحِ أخْطاءِ المُعرِبينَ …
5- و من كُتُبِه أيضاً “الإعْرابُ عن قَواعِد الإعْراب”7، وهو كِتابٌ صغيرُ الحجمِ كَبيرُ الفائِدَةِ ، ألّفَه قَبْلَ “مُغْني اللّبيب”  تَناولَ فيه ابْنُ هشامٍ الجُملَةَ وأَحْكامَها و شبهَ الجُملَةِ وأموراً يحْتاجُ إليها المُعْرِبُ …
6- و قد تَناوَلَه بالشَّرحِ عَدَدٌ من العُلَماءِ مِنْهُم مُحْيي الدّين الكافيجيّ (ت.879) في كِتابِه “شَرْح قَواعِد الإعْراب”8، هو كِتابٌ في أصولِ الإعْرابِ وتَطْبيقاتِه « يضمُّ خِبْرَةَ قُرونٍ مُتَوالِياتٍ، ويَبْسُطُ نَماذِجَ عمليّةً لتطوّرِ أساليبِ المُعْرِبينَ، وصُوَراً مُختلِفةً من ضُروبِ  التَّحْليلِ النّحويّ للنُّصوصِ، فيُهيّءُ سُبُلَ تَمرينِ الخاطرِ و النَّظَرِ ومَعالِمِ التّدريبِ العَمَلِيّ للدّارِسِ و الباحثِ والمُحقِّق»9.
7- و شرَحه أيضاً الشّيخُ خالِدٌ الأزهَرِيّ (ت.905) في كِتابِه “موصِل الطّلاّب إلى قَواعِد الإعْراب” ؛ قالَ فيه : « هذا شَرحٌ لَطيفٌ عَلى قَواعدِ الإعرابِ سَألَنيه بَعضُ الأصْحابِ يحلُّ المَباني و يُبينُ المَعاني ، سَمّيتُه “موصل الطُّلاّبِ إلى قَواعدِ الإعْراب” »10.
ونَعودُ إلى كِتابِ “مُغْني اللَّبيب” ، فَنَرى أنّ ابنَ هشام قد أوْلى “مَنْهَجَ الإعْرابِ” و”خِدْمَةَ الإعْرابِ للمعنى” اهْتماماً بارزاً ؛ فقد اشْتَرَطَ على المُعرِبِ أن يفهَمَ مَعنى ما يُعْرِبُه مُفرَداً ومُركَّباً؛ وأن يجعَلَ الإعْرابَ أداةً لبُلوغِ المَعنى، على ألاّ يقتَصِرَ عليْه و ألاّ يجْعلَ الصِّناعةَ الإعرابِيّةَ مقصودةً لذاتِها، أو يلتَمِس المَعْنى وحدَه و يُهْدِر القَواعِدَ النّحويّةَ ، فَرِعايَةُ المَعْنى مصْحوبَةٌ بِرِعايةِ الصِّناعَةِ الإعرابيّةِ11، وكَلَّفَه هذا النَّظَرُ السَّديدُ بِناءَ كِتابِه عَلى مَصادِرَ كثيرَةٍ منها آراءُ كِبارِ أئمّةِ النّحوِ البصرِيّ كالخَليلِ بنِ أحمدَ و يونُسَ بنِ حبيبٍ وسيبَوَيْهِ، ومنها الأخذُ عنِ أئمّةِ المدرَسَةِ الكوفيّةِ كالكِسائيِّ والفَرّاءِ و ثَعْلَبٍ، وعَن نُحاةِ الأمصارِ الأخرى، وكَلَّفَه هذا النَّظَرُ أيضاً تأسيسَ كِتابِه عَلى مادَّةٍ علميّةٍ غزيرةٍ و مُتَعَدّدةٍ؛ فلَم يقتصِرْ عَلى المَسائلِ النّحويّةِ الخالِصةِ، ولكنّه أدرَجَ في منهجِه موادَّ لغويّةً ممّا يخدمُ تفسيرَ المَسائلِ النّحويّةِ، وضمّنَ كِتابَه كثيراً من اللّهجاتِ العربيّةِ، والفَوائِدِ البَلاغيّةِ والبَيانيّةِ، وكثيراً من آراءِ المُفسِّرين والفُقَهاءِ12. وهذِه الثّقافَةُ الواسعةُ المُتنوِّعةُ مكّنتْه من إيلاءِ المَعْنى ما يستحقُّه من قيمةٍ في أثناءِ الإعرابِ، ومنْ رِعايةٍ لقواعِدِ الصّنْعةِ الإعرابيةِ، وهو منهجٌ مُتكامِلٌ برهَنَ عليه صاحبُه بالنّماذِجِ التّطبيقيّةِ والأدلّةِ المَلْموسةِ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش :
1 في إصلاح النحو العربي دراسة نقدية ، د. عبد الوارث مبروك ، دار القلم الكويت ط1 ، 1985 م
2 مُقَدِّمَة في النَّحْو : 34 ، لخَلَف الأحْمَر ، تحقيق عز الدين التنوخي ، دمشق 1961م
3  أبجد العُلوم/ الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم ، القنوجي صدّيق بن حسن خان البخاريّ ، تح. أحمد شمس الدّين ، دار الكتب العلمية ، بيروت، ط.1 / 1420-1999 . البابُ الخامس، مطلَبٌ في أنّ اللّغةَ مَلَكَةٌ صِناعِيّة
4  تح. د. عبد الله بن حَمَد الخثْران، دار المعرفة الجامعيّة، الإسكندريّة، 1413هـ-1993م .
5  تح. د. طه محسن،و الرّسالةُ منشورةٌ بمجلّة آداب الرّافدين،و قد قدّم لها المحقِّق بمقدِّمةٍ في اثنتين و ثلاثين صفحةً. انظر: مجلّة آداب الرّافدين، الصّادِرة عن كلية الآداب، جامعة الموصل، ع:12 ، 1400هـ-1980م،
6تح. د. مازِن المُبارَك و ذ. محمّد عليّ حَمد الله، و مُراجعَة د. سعيد الأفغاني، دار الفكر، بيروت، ط/5 ، 1979 وقد حظيَ هذا الكِتابُ باهتمامِ كثيرٍ من العُلَماء فألفوا فيه الشُّروحَ والحَواشي، منها شرح الدّمامينيّ (ت.828) وشرح ابن الملاّ (ت.1003)وشرح القاضي مصطفى الأنطاكي (ت.1100) … و شرح الشّواهِد الصّغرى وشرح الشّواهِد الكُبْرى، للمؤلِّف نفسِه، و حاشية الشّمنّي(ت.872)  المُسمّاة “المُنصف من الكلامِ على مُغْني ابنِ هِشام”، و حاشية الدّسوقي (ت.1230)، و حاشية الأمير (ت.1232)
7  و سَمّاه مُصنّفُه “بالمُقدّمة الصُّغْرى” أيضاً ، و كِتابُ “الإعْراب عَن قَواعِد الإعْراب” حَقَّقَه رَشيد عَبْد الرّحن العبيدي ، و نُشِرَ في بَيْروت سنةَ 1970م .
8 تح. د. فَخْر الدّين قَباوة، ط. طلاس للدّراسات و التّرجمة و النّشر، سوريا، ط/2 ، 1993 .
9 مُقدّمة تحقيق كِتابِ “شَرْح قَواعِد الإعراب” ص:7 ، د. فَخر الدّين قَباوة .
10 موصِل الطّلاّب إلى قَواعِد الإعْراب : 1/23 للشّيخِ خالِد بنِ عبدِ الله الأزهرِيّ (ت.905) ، وقدْ وَضَعَ هشام السّيّد محمّد المغاوري تهذيباً لشرحِ الشّيخ خالدٍ الأزهريّ على كتاب الإعراب عن قواعد الإعراب للعلامة ابن هشام الأنصاري ، سمّاه “إرْشاد الطّلاب إلى قَواعِد الإعراب” نَشر أبي محمّد هشام السيد محمد المغاوري، السعودية (2005) [نسخة إلكترونية : نُشِرت في صيغة ملف Adobe eBook Reader] وهو إخراج لقواعِد الإعراب في صورة عصرية توضح القواعد بأيسر سبيل وأسهل عبارة يفهمها المبتدئ والمنتهي ، وذلك دون الإخلال بالأصل .
11 انظُرْ تفصيلَ الكَلامِ عن هذِه الشُّروطِ الإعْرابيّةِ ، في البابِ الرّابِعِ الذي عَقَدَه ابنٌ هشامٍ لِذكْرِ الجِهاتِ التي يَدْخُلُ الاعْتِراضُ عَلى المُعْرِبِ مِنْ جِهَتِها ، و عِدّةُ صَفَحاتِه ما يُقارِبُ المائتَيْنِ: مُغْني اللَّبيب: من ص:588 إلى ص:782
12انظر تفْصيلَ الكلامِ عن منهجِ ابنِ هِشامٍ: منْهَج ابْنِ هِشامٍ مِن خِلالِ كِتابِه “المُغْني”: من ص:157 إلى ص:250 د. عمران عبد السلام شعيب الدّار الجماهيريّة للنّشر والتّوزيع ، ط/1، 1986م .
وانظُرْ أيضاً: ابن هِشام وأثَره في النَّحْو العَرَبيّ، د.يوسُف عَبد الرّحمن الضّبع، دار الحديث، القاهِرة، ط.1 / 1418هـ-1998، وكَذا: ابْن هِشام النَّحْويّ، د.سامي عوض، دار طلاس للدّراسات والتّرحمة والنّشر، دمشق، ط.1 / 1987م

اهتمَّ كثيرٌ من أئمّة النّحويّينَ بِوَضْعِ مُختصَراتٍ تأخذُ بأيدي النّاشئةِ في طَريقِ تعلّمِ الإعْرابِ وقَواعِدِ النَّحْو، عِنْدَما أحسّوا بِفُشُوِّ اللَّحْنِ و بُدُوِّ الضّعفِ  وضَياعِ هِمَمِ التّعلُّمِ، ثُمَّ يُضافُ إلى ذلِك ما عَرَفَه النَّحْوُ مِن تَعَدّدِ الآراءِ واخْتِلافِها والإغْراقِ في التّأويلِ والتَّعْليلِ والتَّقْديرِ، والإكْثارِ مِنَ الطّولِ المُفْرِطِ الناشئ عَنِ التَّكرارِ والاسْتطرادِ و الحَشوِ والفُضولِ، ومُعالجَةِ المَسائلِ الأجنبيةِ التي لا صِلَةَ لَها بالنَّحوِ، فَضلاً عَن الشَّغَفِ بالمُناقَشاتِ و الجَدَلِ، والمُبالَغَةِ في تتبُّع العِللِ، والإكثارِ مِنَ التَّقسيمِ والتَّفريعِ1، ومِنْ كُتبِ النّحوِ ما يتعذّرُ استيعابُه على الدّارسينَ المُتَخصّصينَ أنفُسِهِم ؛ و ذلِك لامْتِلائها بالحَشوِ، أو كَما قالَ ابنُ مَضاء القُرطبُيّ «بالمُماحَكاتِ و التَّخْييلِ» ، ففيها حُشودٌ من المُجادَلاتِ الذّهنيّةِ العَقيمةِ و ألوانٌ من العِلَلِ و العَوامِلِ التي يُسوِّغُها منطِقُ العَقلِ لا مَنْطِقُ اللّغةِ . 

1- فَممّن ألّفَ في قَواعِدِ الإعْرابِ و تَيسيرِ النّحوِ خَلَف الأحْمَرُ الذي وَضَعَ “مُقَدِّمَة في النَّحو” ، قالَ في أوّلِه : « لَمّا رأيت النَّحويين وأصحابَ العَربيةِ قَد استعَملوا التَّطويلَ وأكْثروا العلَلَ وأغْفلوا ما يَحتاجُ إليه المُتبلّغُ في النَّحوِ مِن المُختَصَر …أمْعنتُ النَّظرَ في كتابٍ أؤلفُه وأجمعُ فيه الأصولَ والأدَواتِ والعَواملَ على أصولِ المبتدئينَ ، لِيستغنِيَ به المُبتدئُ عن التَّطويلِ2.

و لهذِه الأسبابِ عَمدَ المُخْتَصِرونَ إلى وضعِ مُخْتَصَراتِهم عِلْماً منهم أنّ اللّغةَ مَلَكَةٌ راسِخَةٌ في الطَّبْعِ ، تُكْتَسَبُ بكَثْرَةِ تَرْديدِ النُّصوصِ الفَصيحَةِ و تَعَلُّمِها وحِفْظِها – « والمَلَكاتُ لا تَحْصُلُ إلاّ بِكثْرَةِ الأفْعالِ»3- و لَيسَ بحفظِ كثرةِ القَواعِدِ النَّظَرِيّةِ التي تُجرَّدُ مِنْ نُصوصِها التّطبيقِيّةِ .

2- و مِمّن ألّفَ في قَواعدِ الإعْرابِ أبو الحَسنِ الخاوراني الشّوكاني (ت.571)  ولَه في المَوضوعِ كِتابُ “القَواعِد و الفَوائِد في الإعْرابِ”4، وهو مُختصَرٌ في عِلْمِ الإعْرابِ ، جَعلَه على ثلاثةِ أقسامٍ : قِسم في مُقدِّماتٍ تتعلّقُ ببيانِ النّحوِ والكلِم والكَلامِ و الإعرابِ و البِناءِ، و قِسم في المَقاصدِ وهي العَواملِ المُختلِفةِ: الرّوافِعِ والنّواصبِ و الخَوافضِ و الجوازمِ ، و قِسم في اللّواحقِ ، منها بيانُ المعرِفةِ والنّكرةِ و التّوابعِ، وقَواعِد في التّصغيرِ والنّسبِ والإمالةِ والوَقفِ. وتتخلّلُ هذه الأقسامَ قواعدُ و فوائدُ لا يستغني عَنها طالبُ الإعْرابِ، و تَنتَهي بعَشرِ مَسائلَ مِن المُشكِلاتِ، كالفرقِ بين “مَنْ” و”ما” و الفرقِ بين “إذا” و “إنْ”، وإضافةِ ظروفِ الزّمانِ إلى الفعلِ ، ووُقوع الجارِّ و المجرورِ صفةً و حالاً، وبَعضِ أحكامِ التقديمِ و التّأخيرِ … وهو بتَصْريحِ صاحِبِه مُخْتَصَرٌ في الإعرابِ جَمَعَه ممّا سَمعَه مِن أفواهِ العُلَماءِ و أملاه عَلى بعضِ تَلامذتِه .

3- و ممّن ألّفَ في القَواعدِ الموجزَةِ أيضًا أبو العَبّاسِ شِهابُ الدّينِ القَرافِيّ (ت.684) العالِمُ الفقيهُ اللُّغوِيُّ صاحبُ المُصَنّفاتِ الكثيرةِ المبنيّةِ على أساسِ القواعدِ والمسائلِ، ومنها رِسالَتُه الموجَزَةُ في “القواعدِ الثلاثينَ في علم العربية”5 التي تتضمّنُ مادَّةً نَحويةً وصَرفيةً وشَواهدَ فَصيحةً, وتعالجُ قضايا تركيبيةً و إعرابيةً يحتاجُ إليها الطّالِبُ في علمِ العربيّةِ، كمسألةِ التّعلُّقِ في الظّروفِ وحروفِ الجرِّ، واخْتلافِ الجملِ و أشباهِ الجملِ بعد النّكِراتِ والمعارِفِ ومسألةِ عَودِ الضّميرِ عَلى متقدّمٍ أو متأخّرٍ، وأنواعِ الحالِ باعتبارِ الزّمانِ وباعتبارِ الذّاتِ .

4- و ألّفَ جمالُ الدّينِ ابنُ هشامٍ الأنصارِيُّ (ت.761) كِتابَ “مُغْني اللَّبيبِ عن كُتُبِ الأعاريبِ”6، و هو كِتابٌ ضخمٌ لم يَجْرِ عَلى مثالٍ سبَقَ في التّصنيفِ النّحوِيّ؛ إذْ تَناولَ موضوعاتٍ نحويّةً مُختلفةً تَناولاً شاملاً مُفصّلاً ، فقدْ عقَدَ أبوابًا لمَعاني الحُروفِ و الأَدَواتِ، وباباً في تَفسيرِ الجُملِ و ذِكرِ أقْسامِها و أحْكامِها الإعْرابيّةِ و باباً في الظّرفِ و الجارِّ و المَجْرورِ وهُو شِبه الجُملةِ ، وأبواباً في أحْكامِ الإعْرابِ و ما يَنبَغي للمُعْرِبِ أن يَعْلَمَه و ما يَقْبُحُ به أن يَجْهَلَه، وباباً في كُلّيّاتٍ نَحويّةٍ يتخرّجُ عليها ما لا يَنحَصِرُ من الصّورِ الجُزئيّةِ . 

و يهمُّنا من أسبابِ التأليفِ التي ذَكَرَها في مُقدِّمةِ كِتاب “المُغْني” أنّه قصَدَ به إلى تَيسيرِ فَهمِ القُرآنِ الكريمِ و فَتحِ أغْلاقِ مَسائلِ الإعرابِ و إيضاحِ ما أشكَلَ على الطّلاّبِ فهمُه من قَواعِدِ النّحوِ و عَويصِ مَسائلِه ، و تَصْحيحِ أخْطاءِ المُعرِبينَ … 

5- و من كُتُبِه أيضاً “الإعْرابُ عن قَواعِد الإعْراب”7، وهو كِتابٌ صغيرُ الحجمِ كَبيرُ الفائِدَةِ ، ألّفَه قَبْلَ “مُغْني اللّبيب”  تَناولَ فيه ابْنُ هشامٍ الجُملَةَ وأَحْكامَها و شبهَ الجُملَةِ وأموراً يحْتاجُ إليها المُعْرِبُ …  

6- و قد تَناوَلَه بالشَّرحِ عَدَدٌ من العُلَماءِ مِنْهُم مُحْيي الدّين الكافيجيّ (ت.879) في كِتابِه “شَرْح قَواعِد الإعْراب”8، هو كِتابٌ في أصولِ الإعْرابِ وتَطْبيقاتِه « يضمُّ خِبْرَةَ قُرونٍ مُتَوالِياتٍ، ويَبْسُطُ نَماذِجَ عمليّةً لتطوّرِ أساليبِ المُعْرِبينَ، وصُوَراً مُختلِفةً من ضُروبِ  التَّحْليلِ النّحويّ للنُّصوصِ، فيُهيّءُ سُبُلَ تَمرينِ الخاطرِ و النَّظَرِ ومَعالِمِ التّدريبِ العَمَلِيّ للدّارِسِ و الباحثِ والمُحقِّق»9.

7- و شرَحه أيضاً الشّيخُ خالِدٌ الأزهَرِيّ (ت.905) في كِتابِه “موصِل الطّلاّب إلى قَواعِد الإعْراب” ؛ قالَ فيه : « هذا شَرحٌ لَطيفٌ عَلى قَواعدِ الإعرابِ سَألَنيه بَعضُ الأصْحابِ يحلُّ المَباني و يُبينُ المَعاني ، سَمّيتُه “موصل الطُّلاّبِ إلى قَواعدِ الإعْراب” »10.

ونَعودُ إلى كِتابِ “مُغْني اللَّبيب” ، فَنَرى أنّ ابنَ هشام قد أوْلى “مَنْهَجَ الإعْرابِ” و”خِدْمَةَ الإعْرابِ للمعنى” اهْتماماً بارزاً ؛ فقد اشْتَرَطَ على المُعرِبِ أن يفهَمَ مَعنى ما يُعْرِبُه مُفرَداً ومُركَّباً؛ وأن يجعَلَ الإعْرابَ أداةً لبُلوغِ المَعنى، على ألاّ يقتَصِرَ عليْه و ألاّ يجْعلَ الصِّناعةَ الإعرابِيّةَ مقصودةً لذاتِها، أو يلتَمِس المَعْنى وحدَه و يُهْدِر القَواعِدَ النّحويّةَ ، فَرِعايَةُ المَعْنى مصْحوبَةٌ بِرِعايةِ الصِّناعَةِ الإعرابيّةِ11، وكَلَّفَه هذا النَّظَرُ السَّديدُ بِناءَ كِتابِه عَلى مَصادِرَ كثيرَةٍ منها آراءُ كِبارِ أئمّةِ النّحوِ البصرِيّ كالخَليلِ بنِ أحمدَ و يونُسَ بنِ حبيبٍ وسيبَوَيْهِ، ومنها الأخذُ عنِ أئمّةِ المدرَسَةِ الكوفيّةِ كالكِسائيِّ والفَرّاءِ و ثَعْلَبٍ، وعَن نُحاةِ الأمصارِ الأخرى، وكَلَّفَه هذا النَّظَرُ أيضاً تأسيسَ كِتابِه عَلى مادَّةٍ علميّةٍ غزيرةٍ و مُتَعَدّدةٍ؛ فلَم يقتصِرْ عَلى المَسائلِ النّحويّةِ الخالِصةِ، ولكنّه أدرَجَ في منهجِه موادَّ لغويّةً ممّا يخدمُ تفسيرَ المَسائلِ النّحويّةِ، وضمّنَ كِتابَه كثيراً من اللّهجاتِ العربيّةِ، والفَوائِدِ البَلاغيّةِ والبَيانيّةِ، وكثيراً من آراءِ المُفسِّرين والفُقَهاءِ12. وهذِه الثّقافَةُ الواسعةُ المُتنوِّعةُ مكّنتْه من إيلاءِ المَعْنى ما يستحقُّه من قيمةٍ في أثناءِ الإعرابِ، ومنْ رِعايةٍ لقواعِدِ الصّنْعةِ الإعرابيةِ، وهو منهجٌ مُتكامِلٌ برهَنَ عليه صاحبُه بالنّماذِجِ التّطبيقيّةِ والأدلّةِ المَلْموسةِ .

ــــــــــــــ

هوامش :

1-في إصلاح النحو العربي دراسة نقدية ، د. عبد الوارث مبروك ، دار القلم الكويت ط1 ، 1985 م

2- مُقَدِّمَة في النَّحْو : 34 ، لخَلَف الأحْمَر ، تحقيق عز الدين التنوخي ، دمشق 1961م

3 – أبجد العُلوم/ الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم ، القنوجي صدّيق بن حسن خان البخاريّ ، تح. أحمد شمس الدّين ، دار الكتب العلمية ، بيروت، ط.1 / 1420-1999 . البابُ الخامس، مطلَبٌ في أنّ اللّغةَ مَلَكَةٌ صِناعِيّة

4 – تح. د. عبد الله بن حَمَد الخثْران، دار المعرفة الجامعيّة، الإسكندريّة، 1413هـ-1993م.

5 – تح. د. طه محسن،و الرّسالةُ منشورةٌ بمجلّة آداب الرّافدين،و قد قدّم لها المحقِّق بمقدِّمةٍ في اثنتين و ثلاثين صفحةً. انظر: مجلّة آداب الرّافدين، الصّادِرة عن كلية الآداب، جامعة الموصل، ع:12 ، 1400هـ-1980م،  

6-تح. د. مازِن المُبارَك و ذ. محمّد عليّ حَمد الله، و مُراجعَة د. سعيد الأفغاني، دار الفكر، بيروت، ط/5 ، 1979 وقد حظيَ هذا الكِتابُ باهتمامِ كثيرٍ من العُلَماء فألفوا فيه الشُّروحَ والحَواشي، منها شرح الدّمامينيّ (ت.828) وشرح ابن الملاّ (ت.1003)وشرح القاضي مصطفى الأنطاكي (ت.1100) … و شرح الشّواهِد الصّغرى وشرح الشّواهِد الكُبْرى، للمؤلِّف نفسِه، و حاشية الشّمنّي(ت.872)  المُسمّاة “المُنصف من الكلامِ على مُغْني ابنِ هِشام”، و حاشية الدّسوقي (ت.1230)، و حاشية الأمير (ت.1232)

7- و سَمّاه مُصنّفُه “بالمُقدّمة الصُّغْرى” أيضاً ، و كِتابُ “الإعْراب عَن قَواعِد الإعْراب” حَقَّقَه رَشيد عَبْد الرّحن العبيدي ، و نُشِرَ في بَيْروت سنةَ 1970م .

 8- تح. د. فَخْر الدّين قَباوة، ط. طلاس للدّراسات و التّرجمة و النّشر، سوريا، ط/2 ، 1993 . 

9- مُقدّمة تحقيق كِتابِ “شَرْح قَواعِد الإعراب” ص:7 ، د. فَخر الدّين قَباوة .

10- موصِل الطّلاّب إلى قَواعِد الإعْراب : 1/23 للشّيخِ خالِد بنِ عبدِ الله الأزهرِيّ (ت.905) ، وقدْ وَضَعَ هشام السّيّد محمّد المغاوري تهذيباً لشرحِ الشّيخ خالدٍ الأزهريّ على كتاب الإعراب عن قواعد الإعراب للعلامة ابن هشام الأنصاري ، سمّاه “إرْشاد الطّلاب إلى قَواعِد الإعراب” نَشر أبي محمّد هشام السيد محمد المغاوري، السعودية (2005) [نسخة إلكترونية : نُشِرت في صيغة ملف Adobe eBook Reader] وهو إخراج لقواعِد الإعراب في صورة عصرية توضح القواعد بأيسر سبيل وأسهل عبارة يفهمها المبتدئ والمنتهي ، وذلك دون الإخلال بالأصل .

11 -انظُرْ تفصيلَ الكَلامِ عن هذِه الشُّروطِ الإعْرابيّةِ ، في البابِ الرّابِعِ الذي عَقَدَه ابنٌ هشامٍ لِذكْرِ الجِهاتِ التي يَدْخُلُ الاعْتِراضُ عَلى المُعْرِبِ مِنْ جِهَتِها ، و عِدّةُ صَفَحاتِه ما يُقارِبُ المائتَيْنِ: مُغْني اللَّبيب: من ص:588 إلى ص:782

12-انظر تفْصيلَ الكلامِ عن منهجِ ابنِ هِشامٍ: منْهَج ابْنِ هِشامٍ مِن خِلالِ كِتابِه “المُغْني”: من ص:157 إلى ص:250 د. عمران عبد السلام شعيب الدّار الجماهيريّة للنّشر والتّوزيع ، ط/1، 1986م . وانظُرْ أيضاً: ابن هِشام وأثَره في النَّحْو العَرَبيّ، د.يوسُف عَبد الرّحمن الضّبع، دار الحديث، القاهِرة، ط.1 / 1418هـ-1998، وكَذا: ابْن هِشام النَّحْويّ، د.سامي عوض، دار طلاس للدّراسات والتّرحمة والنّشر، دمشق، ط.1 / 1987م   

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق