مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثقراءة في كتاب

تقريب الأمل البعيد في نوازل الأستاﺫ أبي سعيد

تقريب الأمل البعيد في نوازل الأستاﺫ أبي سعيد

لما كانت كتب النوازل تحتوي من الفقه، والثقافة، والعادات، والوقائع، والأحكام الاجتهادية على اختلاف ألوانها وطبائع أهلها، فإنها جديرة بالانكباب عليها ودراستها للاستفادة منها واستخراج حقيقة هذه الوقائع والأحكام، ومناهج الفقهاء في عرضها وتحليلها. ومن الكتب المفيدة في هذا الباب نوازل الإمام المجتهد الأستاذ أبي سعيد ابن لب الغرناطي (تـ782هـ) التي اعتنى بعض أهل العلم بجمعها في كتاب سماه: «تقريب الأمل البعيد فينوازل الأستاذ أبي سعيد».

وصاحب هذه النوازل هو الإمام أبو سعيد فرج بن قاسم بن أحمد بن لب الغرناطي الثعلبي، شيخ الجماعة، وعمدة فقهاء غرناطة، ولد سنة إحدى وسبعمائة(701هـ)، ونشأ في غرناطة عاصمة دولة بني الأحمر التي استقرت بها بقايا علوم الأندلسيين ومعارفهم بعد أن امتد الغزو الصليبي على ما تبقى من ديارهم وأموالهم، فارتحل إليها كثير من العلماء. فأخذ ابن لب عن عدد منهم من أمثال الإمام أبي الحسن علي بن عمر القيجاطي(تـ730هـ)، والإمام أبي عبد الله محمد بن جابر الوادي آشي(تـ749هـ)، وغيرهما من البارزين في زمانهم، فذاع اسمه بين عصرييه، واشتهر علمه في الآفاق، فانكب عليه التلاميذ من كل صوب قاصدين التتلمذ على يديه؛ ومن أبرز اليواقيت في عقد حلقاته الإمام المجدد الأصولي أبو إسحاق الشاطبي (تـ790هـ)، الذي أخذ عنه وتتلمذ على يديه وكان ينعته بالأستاذ الكبير الشهير، ثم استفاضت مكانته بين العلماء بعلو كعبه في الفقه والحديث والأصول وعلوم الأدب واللسان.

وكتاب نوازل ابن لب هذا من أبرز كتب النوازل التي عايشت فترة حالكة المعالم من تاريخ المسلمين بالأندلس، ولم يفصح جامعها عن سبب تصدّيه لجمعها أو منهجه في ترتيبها، إلا أنه فيما يبدو قاده لذلك أهمية فتاوي ابن لب وحاجة الفقهاء إلى جمعها في سفر واحد تسهيلا للإفادة منها.

وبالنظر في كتاب تقريب الأمل البعيد نجده يعرض نوازل ابن لب على طريقة كتب النوازل المعروفة كنوازل ابن رشد الجد، وأبي الأصبغ ابن سهل، وأبي المطرف المالقي، وغيرهم؛ وهو خال من المقدمة مما جعلنا نجهل اسم جامع هذه النوازل، ومن أسف أن تقديم المحققين لا يتضمن بحثا في تحقيق نسبة هذه النوازل؛ إذ لم يتطرقا لهذا الموضوع المهم مما يجعل القارئ يتوهم أن ابن لب هو نفسه الذي قام بجمع نوازله، مع أن مصادر ترجمته لا نجدها تنسب إليه كتابا بهذا العنوان، والذي يبدو ـ والله أعلم ـ أن جامع هذه النوازل أحد العلماء الذين عاشوا في فترة متأخرة عن عصر ابن لب كما تشير إلى ذلك عبارة وردت في قيد ختام النسخة المعتمدة في التحقيق جاء فيها: «الحمد لله تعالى، هذا ما ألفيته من مسائل شيخ الجماعة وإمامها الفقيه الأستاذ العالم الحجة القدوة أبي سعيد فرج بن لب التغلبي رحمه الله تعالى بمنه».

والمتأمل في أجوبة ابن لب يجده لا يخرج عن الأصول المعتمدة عند فقهاء المالكية في الإفتاء؛ فيعتمد القرآن والسنة كأصلين لا محيد عنهما عند توفر الحكم فيهما، كما يصرح أحيانا باعتماده لبعض المقاصد الشرعية عند رغبته في تعليل أحكامه وإعطائها صبغة الواقعية والشرعية، وهو يشدد في بعض فتاويه لأهل بلده باعتماد العرف والعادة  ـ سواء بالتضمين أو التصريح  ـ كأصل من أصول الفتوى.

ومن مشارب الإفتاء عنده أيضا بحثه عن الراجح من الأقوال والمشهور من الآثار للخروج من مسائل الخلاف، فتتردد عنده عبارات «ويجوز ذلك على المشهور والصحيح»، «ومشهور مذهب مالك…»، وهو في كل ذلك لا يُلزم مستفتيه بما ترجح عنده، بل يحكي الخلاف كما هو، ويترك للمستفتي سعة الأخذ بأيها شاء.

ومن الأصول المعتمدة كذلك عند ابن لب الإفتاء بما جرى به العمل؛ إذ نجد في أجوبته الكثير من الأحكام كان مردها ما جرى عليه عمل الفقهاء والقضاة في النوازل المتشابهة.

ويبدو أن الجامع لفتاوى ابن لب قد نظم مادته بنهج مغاير لما سلكه المحققان؛ فقد عمدا إلى النص المخطوط  وغيَرا ترتيبه، وبوّبا فصوله، حتى يُسَهِّلا ـ بزعمهم ـ على القارئ الرجوع إلى المسألة التي يريدها دون عناء، وهذا مخالف لمناهج العلماء في تحقيق النصوص، وزيادة على ذلك فقد يستفاد من ترتيب الجامع لهذه النوازل الشيء الكثير.

ونجد ابن لب في فتاويه يصرح بالنقل عن جماعة من علماء المالكية من أمثال: سحنون، وابن حبيب، وابن زرب، وابن أبي زمنين، وابن أبي زيد، والبراذعي، وابن الحاج، وغيرهم، ومن غير المالكية: الإمام الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وابن جرير الطبري، وأمثالهم من مختلف المذاهب، وهذ يظهر غناء فتاوي ابن لب وسعة علمه.

وقد حظيت فتاوي ابن لب بتنويه بالغ وثناء جميل؛ نظرا لما تميزت به من وضوح المسلك ووسطية المنهج، وهذا ما دفع الإمام المواق أن يسجل شهادته فيه بقوله: «شيخ الشيوخ أبو سعيد، نحن على فتاويه في الحلال والحرام»، وقال في حقه ابن الخطيب: «هذا الرجل من أهل الخير والطهارة، والزكاة والديانة، حسن الخلق فأصبح حامل لواء التحصيل، عليه مدار الشورى، وإليه مرجع الفتوى ببلده لغزارة حفظه»، وهذه الشهادات وغيرها ما جعلت الناس يتلقون فتاويه بقبول تام منقطع النظير، فاعتمده غير واحد ممن عنوا بهذا الشأن، من أبرزهم الونشريسي صاحب المعيار المعرب، والمهدي الوزاني صاحب النوازل الكبرى، وغيرهما ممن اشتهروا في هذا الفن ونبغوا فيه. وممن عني بجمع فتاوي ابن لب القاضي أبو الفضل بن محمد بن طركاظ في نوازله الموجودة في قسم الوثائق من المكتبة الوطنية بالرباط، ومجموع ما تتضمنه من فتاوي ابن لب ثلاثة وعشرون مسألة.

وقد صدر الكتاب محققاً عن دار الكتب العلمية بعناية حسين مختاري وهشام الرامي، وإشراف الدكتور مصطفى الصمدي.

الكتاب تقريب الأمل البعيد في نوازل الأستاﺫ أبي سعيد.
المؤلف أبو سعيد فرج بن قاسم بن أحمد بن لُب الغرناطي الثعلبي (تـ782هـ).
مصادر ترجمته الإحاطة (4/253)، أوصاف الناس (32)، درة الحجال (2/453).
تحقيق حسين مختاري، وهشام الرامي، بإشراف الدكتور مصطفى الصمدي.
دار النشر دار الكتب العلمية ـ بيروت، الطبعة الأولى 1424هـ/2004م.
الثناء على المؤلف قال الإمام المواق: شيخ الشيوخ أبو سعيد، نحن على فتاويه في الحلال والحرام.

إنجاز: ذ. نور الدين شوبد

Science

الدكتور نور الدين شوبد

باحث مؤهل متعاون مع مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط

أستاذ مساعد بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية أبو ظبي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق