مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

تفضيل علم الإيمان واليقين على سائر العلوم

     اعلم أن كلّ علم من العلوم قد يتأتى حفظه ونشره لمنافق أو مبتدع أو مشرك إذا رغب فيه وحرص عليه؛ لأنه نتيجة الذهن وثمرة العقل، إلا علم الإيمان واليقين، فإنه لا يتأتى ظهور مشاهدته والكلام في حقائقه إلا لمؤمن موقن، مِن قِبَلِ أن ذلك تقرير مزيد الإيمان وحقيقة العلم والإيمان، فهو آيات الله تعالى وعهده عن مكاشفة قدرته وعظمته.  وآيات الله تعالى لا تكون للفاسقين، وعهده لا ينال الظالمين، وعظمته وقدرته لا تكون شهادة للزائغين، ولا وجداً للمبطلين، إذ في ذلك توهين لآيات اللّه وحججه، وانتقاص لبراهينه وقدرته، ودخول الشك في اليقين الذي هو محجة المخلصين، والذين هم بقية الله من عباده، واشتباه الباطل بالحق الذي هو وصف أهل الصدق الذين هم أدلته عليه من أهل وداده، وهذا من أدل دليل على فضل علم المعرفة على غيره، قال اللّه عزّ وجلّ: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَني إسْرَائيلَ). [الشعراء: 197]، وقال تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ في صُدُورِ الَّذين أُوتُوا الْعلِمَ). [العنكبوت: 49]، وقال سبحانه وتعالى: (إِنَّ في ذلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمينَ). [الحجر: 75]، وقال: (قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُون)، [البقرة: 118]. وقال عزّ وجل: (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ، [الأنعام: 105].

      فهؤلاء العلماء بالله تعالى الناطقون عن اللّه عزّ وجلّ جعل لهم أنصبة منه ومكاناً عنده، ولا يكون ذلك لمن ليس أهلاً  له ولا حقيقاً به، لأنهم آيات الله تعالى وبيناته وشهوده وبصائره كاشفو طريقه ومظهرو بيانه، إذ يقول تعالى: (ثُمَّ إنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ). [القيامة: 19]، ثم قال تعالى: (خلَقَ الإنسانَ عَلَّمَهُ الْبيانَ). [الرحمن: 3 –4]. بعد قوله: (وكانَ حقَّاً عَلَيْنا نصْرُ الْمُؤْمنين). [الروم: 47]، مع قوله تعالى: (وكانُوا أحَقَّ بها وأَهْلها). [الفتح: 26]. فنصروه بما نصرهم به، وتحققوا بما حققهم منه، وشهدوا له ما شهد لهم عنه، فكانوا للمتقين إماماً، وإلى الهداية أعلاماً.

      وقال بعض أهل المعرفة: من لم تكن له مشاهدة من هذا العلم لم يعْرَ من شرك أو نفاق، لأنه عارٍ من علم اليقين، ومن عري من اليقين وجد فيه دقائق الشك، وقال بعض العارفين: من لم يكن له نصيب من هذا العلم أخاف عليه سوء الخاتمة، وأدنى النصيب منه التصديق به وتسليمه لأهله. وقال آخر: من كان فيه خصلتان لم يفتح له من هذا العلم شيء: بدعة أو كبْر، وقالت طائفة من أهله: من كان محباً للدنيا أو مُصراً على هوى لم يتحقق به.

      وقال أبو محمد سهل: أقل عقوبة من أنكر هذا العلم أن لا يرزق منه شيئا أبداً، واتفقوا على أنه علم الصديقين، وأن من كان له منه نصيب، فهو من المقربين، وينال درجة أصحاب اليمين.

      وأعلم أن علم التوحيد ومعرفة الصفات مباين لسائر العلوم، فالاختلاف في سائر العلوم الظاهرة رحمة، والاختلاف في علم التوحيد ضلال وبدعة، والخطأ في علم الظاهر مغفور، وربما كانت حسنة إذا اجتهد، والخطأ في علم التوحيد وشهادة اليقين كفر، من قبل أن العباد لم يكلفوا حقيقة العلم عند الله تعالى في طلب العلم الظاهر، وعليهم واجب طلب موافقة الحقيقة عند الله في التوحيد، ومن ابتدع شيئاً ردت عليه بدعته، وكان مسؤولاً عنه، ولم يكن حجة لله تعالى على عباده ولا غيثاً نافعاً في بلاده، بل كان موصوفاً بالدنيا وفيها من الراغبين، ولم يكن دليلاً على الله عزّ وجلّ ولا من دعاة الدين ولا إماماً للمتقين، وقد جاء في الخبر: العلماء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، فإذا دخلوا في الدنيا فاحذروهم على دينكم، والخبر المشهور: من أحدث في ديننا ما ليس فيه فهو ردّ.

      وقد روينا عن عيسى عليه السلام وقيل له: من أشد الناس فتنة؟ فقال: زلة عالم إذا زلّ بزلته عالم، وقد روينا معناه عن نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مما أخاف على أمتي زلة عالم وجدال منافق في القرآن، وكان بعض السلف يقول: مثل العالم إذا زل مثل سفينة إذا غرقت غرق معها خلق كثير، ومثل كسوف الشمس يصيح الناس: يا غافلون الصلاة، وإنها عند العامة آية يفزع منها.

      ويروى في خبر غريب: من غشّ أمتي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. قيل: يا رسول وما غِشّ أمتك؟ قال: أن يبتدع بدعة في الإسلام يحمل الناس عليها، وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: ويل للعالم من الأتباع، وويل للأتباع من العالم، يزل العالم بزلة، فيتبعه عليها فئام من الناس، وتبلغ الآفاق.

      وما أعلم أحداً أعظم جُرماً ممن ابتدع في دين الله عزّ وجلّ، فنطق في كتاب الله تعالى وفي علم المعرفة بما لم يأذن به الله، ثم لم يعبأ بسنن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي هو حجة الله تعالى على جميع خلقه وطريق مقربيه من عباده، فأضل بذلك عباد الله عزّ وجلّ، فإن مثل من ابتدع في الدين، واتخذ وليجة دون الكتاب والسنّة، وبين طريق المؤمنين إلى جنب من يكاثر في أمور الدنيا، وارتكب فيها شهوات الأهواء، كمثل من اجترح المظالم بين الناس في الأموال والدماء إلى جنب من ظلم نفسه بكسب الذنوب بينه وبين ربه. إن مظالم العباد أعظم وهو الديوان الذي لا يترك، كذلك التمويه في الدين أعظم، لأنه مظالم الآخرة، وقطع طرقات المؤمنين، ومحو شريعة المرسلين.

      ومثله أيضاً مثل من أذنب وجحد ذنبه واحتج لنفسه إلى من أذنب واعترف بذنبه واعتذر من نفسه، فهو أقرب للعفو وأرجى للرحمة من الآخر، كذلك من اعتلّ بالتقصير والتفريط في العمل، ولم ينصح لنفسه إلا أنه أظهر حقيقة العلم ونصح لله تعالى ولرسوله، ببيان كتابه وذكر سنته أقرب إلى حسن الإخلاص وأولى بالتدارك في العافية، ممن شرع في دين الله تعالى وابتدع في الأمة ما يخالف به الكتاب والسنّة، هكذا كأنه قد قلب ملة وبدّل شريعة. فهذا يولد النفاق في قلبه حتى يختم له به.

      ومثل من ابتدع في الملة مخالفاً للسّنة، إلى من أساء إلى نفسه بالذنوب، مثل من عصى الملك في قلب دولته، وتظاهر عليه في ملكه بالإزالة، إلى جنب من عصى أمره وقصر في حقه من الرعية، وقد قال بعض الحكماء: ثلاث لا يحسن من الملك أن يغفرها: من قلب دولة من رعيته، أو عمل فيما يوهن الملك، أو أفسد حرمة من حرمه.

      وروينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن لله تعالى ملكاً ينادي كل يوم: من خالف سنّة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تنله شفاعته، وقال علي كرّم الله وجهه: الهوى شريك العمى، وقال الله تعالى: (وَمَنْ أصْدَقُ مِنَ الله قيلاً). [النساء: 87]. (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضلّ الناس بغير علم)، ثم قال تعالى: (أوْ قَالَ أُوحِيَ إليَّ وَلمْ يُوحَ إليْهِ شَيْءٌ ومنْ قالَ سأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزلَ الله). [الأنعام: 93]، فسوّى بين الكذاب في الفرية على الله تعالى وبين المتشبه المضاهي للربوبية.

      وكذلك من أعظم المنكر بعد هذا إنكار الحق من أهله وردّه عليهم بالتكذيب. وقد سوّى تعالى أيضاً بين التكذيب بالحق وبين ابتداء الكذب على الخالق في قوله عزّ وجلّ: (ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى على الله كَذِباً أوْ كَذَّبَ بِالْحقِّ لَمَّا جَاءَهُ). [العنكبوت: 68]، وقال تعالى في مثله: (فَمَنْ أظْلمُ مِمَّنْ كذبَ على الله وكذَّبَ بِالصدْقِ إذْ جاءَهُ). [الزمر: 32]. كذلك أيضاً في ضده سوّى، كما سوّى عزّ وجل بين الصادق بالصدق والمصدق به، فقال تعالى: (والَّذي جاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بهِ أُولئكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). [الزمر: 33].

      قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: العالم والمتعلم شريكان في العلم، وقال عيسى عليه السلام بمعناه: المستمع شريك القائل، ولكن الله تعالى قد جعل هذه الطائفة من أهل العلم بالله تعالى ترد على جميع الطوائف من الشاطحين والمبتدعين أهل الجهالة بالدين، والحيدة عن سبيل المؤمنين، بما أراهم الله تعالى من علم اليقين وبما شهد لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعلم والتعديل في قوله: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فالغالون: هم الشاطحون لأنهم قد جاوزوا العلم ومحوا الرسم فأسقطوا الحكم، والمبطلون: هم المدّعون المبتدعون، لأنهم جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، وافتروا بالدعوى وابتدعوا بالرأي والهوى، والجاهلون: هم المنكرون لغرائب العلم، المفترون لما عرفوا من ظاهر العقل، كما روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله عزّ وجلّ، فإذا نطقوا به لم يجهله إلا أهل الاغترار بالله تعالى. ولا تحقروا عالماً آتاه الله تعالى علماً، فإن الله عزّ وجلّ لم يحقره إذ آتاه.

      وكل من تأول السنن بالرأي أو المعقول، أو نطق بما لم يسبق إليه السلف من القول أو بمعناه فهو متكلف مبطل، فأهل العلم بالله تعالى يردّون علوم المعقول بعلم اليقين، وعلم الرأي بعلم السنة، يثبتون أهل الآثار، ويؤيدون نقلة الأخبار، بما يفصلون من أخبارهم، ويفسرون من حديثهم، مما لم يجعل للنقلة طريق إليه، ولم يهتد الرواة إلى كشف منه بما أشهدهم الله عزّ وجلّ، واستودعهم، ونوّر به قلوبهم ونطقهم، فهم ينطقون عن الله سبحانه وتعالى فيما يخبرون عنه، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون). [السجدة، 24].
      وقد قال بعض العلماء: ما تكلّم فيه السلف فالسكوت عنه جفاء، وما سكت عنه السلف فالكلام فيه تكلف. وقال آخر: الحق ثقيل، من جاوزه ظلم، ومن قصر عنه عجز، ومن وقف معه اكتفى، وقال علي رضي الله عنه: عليكم بالنمط الأوسط الذي يرجع إليه العالي، ويرتفع عنه القالي.

      وهكذا سيرة السلف أنه لا يستمع إلى مبتدع لأنه منكر، ولا يرد عليه بالجدال والنظر لأنه بدعة، ولكن يخبر بالسنن ويحتج بالأثر فإن قيل فهو أخوك في الله عزّ وجلّ ووجبت عليك موالاته وإن لم يرجع وأنكر نُقِض بإنكاره، وعرف ببدعته، وحقّت عداوته، وهُجر في الله تعالى، وهذا طريق لا يسلكه في وقتنا هذا إلا من عرف فضله وطريقة السلف فيه.

      وحُدثت عن إبليس لعنه الله أنه بث جنوده في وقت الصحابة، فرجعوا إليه محسورين، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء القوم، ما نُصيب منهم شيئاً، قد أتعبونا، فيقول: إنكم لا تقدرون عليهم، قد صحبوا نبيهم، وشهدوا تنزيل ربهم، ولكن سيأتي بعدهم قوم تنالون منهم حاجتكم، فلما جاء التابعون بث جنوده فيهم فرجعوا إليه منكسرين منكوسين، فقال: ما شأنكم، قالوا: ما رأينا أعجب من هؤلاء القوم، نُصيب منهم الشيء بعد الشيء من الخطايا، فإذا كان من آخر النهار أخذوا في الاستغفار، فتبدل سيئاتهم حسنات، فقال: إنكم لن تنالوا من هؤلاء شيئاً، لصحة توحيدهم، واتباعهم سنّة نبيهم، ولكن سيأتي بعد هؤلاء قوم تقرّ أعينكم بهم، تلعبون بهم لعباً، وتقودونهم بأزمة أهوائهم كيف شئتم، إن استغفروا لم يغفر لهم، ولا يتوبون، فتبدل حسناتهم سيئات، قال: فجاء قوم بعد القرن الأول، فبعث فيهم الأهواء، وزين لهم البدع فاستحلّوها واتخذوها ديناً، لا يستغفرون منها ولا يتوبون إلى الله، قال: فتسلطت عليهم الأعداء وقادتهم أين شاؤوا، وقد قال ابن عباس رضي الله عنه: إن للضلالة حلاوة في قلوب أهلها.
      وقد قال الله تعالى: (اتَّخذُوا ديَنَهُمْ لَعِباً وَلهْواً). [الأنعام: 70]، وقال تعالى: (أفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلهِ فَرَآهُ حَسَناً). [فاطر: 8]. كما قال تعالى: (أفمنْ كانَ على بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ). [هود: 17].

      فالعلم رحمك الله هو الذي كان عليه السلف الصالح، المقتفي آثارهم، والخلف التابع المقتدي بهديهم، وهم الصحابة أهل السكينة والرضا، ثم التابعون لهم بإحسان من أهل الزهد والنهي، والعالم هو الذي يدعو الناس إلى مثل حاله حتى يكونوا مثله، فإذا نظروا إليه زهدوا في الدنيا لزهده فيها، كما كان ذو النون رحمه الله يقول: جالس من يكلمك علمه لا من يكلمك لسانه، وقد قال الحسن رضي الله عنه قبله: عظ الناس بفعلك ولا تعظهم بقولك، وقال سهل رحمه الله: العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل، وقد روينا معنى ذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قيل له: أي جلسائنا خير؟ فقال: من ذكركم بالله تعالى رؤيته، وزاد في علمكم منطقه، وذكركم بالآخرة عمله، فأمّا الذي يطلب دنياهم حتى يكون مثلهم، فإذا رأوه اغتبطوا بحالهم، فهذا شر منهم، لأنه يدعو إلى نفسه لا إلى مولاه، ولأنه طامع فيهم وهم زاهدون فيه، فالعلماء الذين هم ورثة الأنبياء هم الورعون في دين الله عزّ وجلّ، الزاهدون في فضول الدنيا الناطقون بعلم اليقين والقدرة لا علم الرأي والهوى، والصامتون عن الشبهات والآراء، لا يختلف هذا إلى يوم القيامة عند العلماء الشهداء على الله تعالى برأي قائل ولا بقول مبطل جاهل.

      كما روي عن عبد الله بن عمر وعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صلح أول هذه الأمة بالزهد واليقين ويهلك آخرها بالبخل والأمل، وقال يوسف بن أسباط: كتب إلى حذيفة المرعشي: ما ظنك بمن قد بقي لا يجد أحداً يذكر الله تعالى معه إلا كان آثماً وكانت مذاكرته معصية، وذلك أنه لا يجد أهله. قلت ليوسف: يا أبا محمد وتعرفهم؟ قال: لا يخفون علينا.

      ويقال: إن الأبدال إنما انقطعوا في أطراف الأرض، واستتروا عن أعين الجمهور، لأنهم لا يطيقون النظر إلى علماء هذا الوقت، ولا يصبرون على الاستماع لكلامهم، لأنهم عندهم جهّال بالله تعالى، وهم عند أنفسهم وعند الجاهلين علماء، فقد صاروا من أهل الجهل، وأهل الجهل بالجهل على الوصف، الذي قال سهل رحمه الله: إن من أعظم المعاصي الجهل بالجهل والنظر إلى العامة، واستماع كلام أهل الغفلة أيسر عندهم، لأنهم لا يعدمون ذلك، حيث كانوا من أطراف الأمصار، لأن العامة لا يموّهون في الدين، ولا يغرون المؤمنين، ولا يدّعون أنهم علماء لأنهم يتعلمون، وبالجهل معترفون، فهم إلى الرحمة أقرب، ومن المقت أبعد.

      وكان أبو محمد أيضاً يقول: قسوة القلب بالجهل بالعلم أشد من القسوة بالمعاصي، لأن الجاهل بالعلم تارك ومدّع، والعاصي بالفعل مقرّ بالعلم، ويقول أيضاً: لأن العلم دواء به تصلح الأدواء، فهو يزيل فساد الأعمال بالتدارك، والجهل داء يفسد الأعمال بعد صلاحها، فهو يزيل الحسنات فيجعلها سيئات، فكم بين ما يصلح الفاسد وبين ما يفسد الصالحات، وقد قال الله تعالى: (إنَّ الله لا يُصْلِحُ عَملَ الْمُفْسِدينَ). [يونس: 81]، وقال تعالى: (إنَّا لا نُضيعُ أجْرَ الْمُصْلِحينَ). [الأعراف: 170]. فهذا من أدل دليل على فضل العالم المقصر على العابد المجتهد، وأعلم أن العبد إذا باين الناس في كل شيء من أحوالهم، انفرد عن جمعهم، ولم يألف أحداً منهم وإن باينهم في أكثر أحوالهم، اعتزل عن الأكثر منهم، فإن فارقهم في بعض الأحوال ووافقهم في بعض حاله خالط أهل الخير وفارق أهل الشر[1].

الهوامش:


[1] أبو طالب المكي: قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد، 1 /475-483.

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق