مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

تعلق القصد والنية بأعمال المكلف وضرورة موافقتها لقصد الشارع

 

          لما كانت مقاصد الشارع معروفة وواضحة للجميع، ومن السهل التعرف عليها لوجود المسالك الموصلة إليها، وكانت قد حظيت باهتمام العلماء، فإن مقاصد المكلف على العكس من ذلك، تبقى غير واضحة، فليس في وسع أي كان الحكم على قصد أي إنسان بالموافقة لقصد الشارع أو المخالفة، ذلك لأن النوايا لا يعلمها إلا الله، و القصود يستأثر صاحبها بعلمها، فهو الوحيد الذي يحدد نيته ويوجهها، ويعلم ما الذي قصده بعمله هل وجه الله أو شيئا آخر، فالنية والقصد شيء خاص ولصيق بالمكلف ومن الصعب معرفته والكشف عنه، والعمل التابع لهذه النوايا و القصود إما أن يوافق الشرع وإما أن يخالفه، ومن ثم فإن الجزاء والثواب يكون تابعا للعمل المسبوق بالنية الصحيحة.

            فما معنى كل من النية و القصد؟ هل يؤديان نفس المعنى، أم أنهما من قبيل الألفاظ التي إذا اجتمعت يكون لها معنيان مختلفان، وإذا افترقت كان لها نفس المعنى؟ ثم كيف يؤثر القصد في عمل المكلف فيجعله صحيحا أو فاسدا؟ وماهي الضوابط التي جعلها العلماء للكشف عن مقاصد المكلف؟

          النية والقصد  في اللغة والاصطلاح: 

          أولا: النية:

         أ- النية لغة:  “النية والنوى الوجه الذي ينويه المسافر من قرب أو بعد … والنية مخففة، معناها القصد لبلد غير البلد الذي أنت فيه مقيم. وفلان ينوي وجه كذا أي يقصده من سفر أو عمل، والنّوى الوجه الذي تقصده … وفي الحديث: “النية خير من العمل”، قال: وليس هذا بمخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من نوى حسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن عملها كتبت له عشرا”، والمعنى في قوله:” نية المؤمن خير من عمله أنه ينوي الإيمان ما بقي ، وإنما يخلده الله في الجنة بهذه النية لا بعمله … فالنية عمل القلب، وهي تنفع الناوي وإن لم يعمل الأعمال، وأداؤها لا ينفعه دونها، فهذا معنى قوله نية الرجل خير من عمله….قال الجوهري: نويت نية، ونواة : أي عزمت”[1].

           قال صاحب جامع العلوم والحكم: “اعلم أن النية في اللغة نوع من القصد و الإرادة …”[2]، وهي الفكر قبل الفعل، والخطة قبل التنفيذ، والإرادة قبل القدرة ورؤية الهدف وعلم الطريق واختيار الوسيلة الموصلة إلى الهدف، وهي العزيمة على الوصول قبل بدء الإقلاع”[3].

         ب- النية اصطلاحا:

          “النية عبارة عن الصفة المتوسطة وهي الإرادة المتوسطة وهي الإرادة وانبعاث النفس بحكم الرغبة والميل إلى ما هو موافق للغرض، إما في الحال أو في المآل، فالمحرك الأول هو الغرض المطلوب وهو الباعث، والغرض الباعث هو القصد المنوي والانبعاث هو القصد و النية، و انتهاض القدرة لخدمة الإرادة بتحريك الأعضاء هو العمل”[4]، فمن خلال قول الإمام الغزالي يتبين أن “النية والإرادة والقصد عبارات متواردة على معنى واحد وهو حالة وصفة القلب”[5]، ويقلل الإمام الغزالي أيضا:” النية عزم لا ينعطف على الماضي”[6].

          يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام:”إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى”.الحديث إخبار عن الأعمال الاختيارية أنها لا تقع إلا عن قصد من العامل، هو سبب عملها ووجوبها ويكون قوله: (إنما لكل امرئ ما نوى) إخبارا عن حكم الشرع، وهو أن حظ العامل من عمله نيته، فإن كانت صالحة فعمله صالح فله أجره، وإن كانت فاسدة فعمله فاسد فعليه وزره … فإن الجملة الأولى دلت أن صلاح العمل وفساده بحسب نيته الصالحة، وأن عقابه عليه بحسب نيته الفاسدة.”[7]

     ثانيا: “القصد”

       أ- القصد لغة: “استقامة الطريق … قال تعالى في كتابه العزيز: (وعلى الله قصد السبيل)[8]، على الله تبين الطريق المستقيم والدعاء إليه بالحجج والبراهين الواضحة”[9].

          “قال ابن جني أصل  قصد ومواقعها في كلام العرب الاعتزام والنهود والنهوض نحو الشيء على اعتدال كان ذلك أو جور، هذا أصله الحقيقة، وإن كان قد يخص في بعض المواضع بقصد الاستقامة دون الميل، ألا ترى أنك تقصد الجور تارة كما تقصد العدل تارة أخرى، فالاعتزام والتوجه شامل لها.”[10]

           ب- “القصد” اصطلاحا:

           عند الإمام الشاطبي: “استعمل الإمام الشاطبي هذا المصطلح بصيغتيه المصدرية والفعلية وبتراكيب أخرى، والمعنى الجامع لهذه الاستعمالات هو أم الشيء ونيته والتوجه إليه، وما تعنيه كلمة قصد في إطار نسبتها إلى الشارع هو إرادته التشريعية أو التكليفية جاء في الموافقات: “فإذا رأيت في هذا التقييد إطلاق لفظ القصد وإضافته إلى الشارع فإلى معنى الإرادة التشريعية أشير وهي أيضا إرادة التكليف.”[11]

        ج- الفرق بين النية والقصد:

        يقول الإمام القرافي رحمه الله:” اعلم أن جنس النية هو الإرادة وهي صفة تقتضي التخصيص لذاتها عقلا شاهدا و غائبا، كما يقتضي العلم الكشف لذاته عقلا شاهدا وغائبا، ثم إن هذه الإرادة متنوعة إلى العزم، والهمة، والنية، والشهوة، والقصد، والاختيار، و القضاء، والقدر، و العناية، و المشيئة، فهي عشرة ألفاظ”[12]، وقد عمل الإمام القرافي رحمه الله على توضيح الفرق بين هذه المصطلحات، وفي الفرق بين النية والقصد يقول القرافي: “وأما النية، فهي إرادة تتعلق بإمالة الفعل إلى بعض ما يقبله لا بنفس الفعل من حيث هو فعل، ففرق بين قصدنا لفعل الصلاة وبين قصدنا لكون ذلك قربة، أو فرضا أو نفلا أو أداء أو قضاء…”[13]، “وأما القصد فهو الإرادة الكائنة بين جهتين: كمن قصد الحج من مصر وغيرها، ومنه السفر القاصد أي: في طريق مستقيمة، وبهذا المعنى يستحيل على الله تعالى”[14]، وبعد أن وضح الفرق بين كل تلك المفردات قال: “فهذه التعابير والتغيرات بين هذه المعاني العشرة عليها الاستعمال والأصول الموجبة لعدم الترادف، فتلخص: أن النية غير التسعة الباقية، لِما ذُكر فيها من الخصوصية المتقدمة، وخصوصيات كل واحد من التسعة المفقودة في النية، فيجزم الناظر بالفرق حينئذ، ولا يضر كون الاستعمال قد يتوسع فيه، فيستعمل “أراد ومراده نوى، وأراد ومراده عزم أو قصد أو عنى فإنها متقاربة المعاني، حتى يكاد يجزم بينها بالترادف …”[15]

         وبهذا يظهر معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “الأعمال بالنيات” ولم يقل “الأعمال بالإرادات” أو العنايات أو غير ذلك، فإنه عليه السلام لم يرد إلا الإرادة الخاصة المميلة للفعل إلى جهة الأحكام الشرعية، كما تقدم في تفسير النية …”[16]

          ويظهر لنا الفرق بين النيات والمقاصد في قول آخر للإمام القرافي رحمه الله قال: “وأما كون الإنسان يثاب على نية واحدة، وعلى الفعل عشرا إذا نوى، فلأن الأفعال هي المقاصد، والنيات وسائل والوسائل أخفض درجة من المقاصد والنيات أخفض من القصود أو المقاصد”[17].

            يقول بن رجب الحنبلي:” واعلم أن النية … نوع من القصد والإرادة”[18]، وفي هذا إشارة إلى أن هناك فرقا بين المصطلحين.

             وقد يكون الفرق بين المصطلحين متمثلا في كون النية تأتي دائما في البدء ثم بعدها القصد، كأن يقول القائل: نويت عمل كذا قاصدا به هذا الوجه، فالنية تكون لصيقة بالنفس، والقصد بالعمل الظاهر، أما الحكم فيكون حكما على العمل المترتب على النية، بمعنى أنه يكون على النية أصلا وعلى العمل المرتبط بالقصد بالتبع والله أعلم.

موقع النية والقصد من تصرفات المكلف

         لا يكتمل الحديث عن مقاصد الشارع و معرفتها، إلا إذا قابله حديث عن مقاصد المكلف، وقد أولى الإمام الشاطبي رحمه الله عناية خاصة بهذا القسم كاعتنائه بالقسم الأول، ذلك أن المكلف هو المقصود بالتشريع، وعلى وفقه يسير لتستقيم حياته، وتنتظم علاقته بخالقه، و علاقته بغيره؛ مع خالقه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ومع غيره بعدم إلحاق الضرر بهم أو إهدار حقوقهم، و بتمتين العلاقات الاجتماعية التي تضمن للفرد كرامته وللمجتمع سلامته.

        إن موقع النية والقصد من تصرفات المكلف هي بمثابة الأساس من البناء، فلا بقاء لبناء دون أساس، ولا اعتبار لعمل دون نية أو قصد صحيح، يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: “الأعمال بالنيات والمقاصد معتبرة في التصرفات في العبادات والعادات…”[19]، فالقصد هو لب الأعمال حتى إن العمل لا يتعلق به حكم إلا بحسب القصد الذي كان باعثا عليه، يقول رحمه الله: “ويكفيك منها، أن المقاصد تفرق بين ما هو عادة، وما هو عبادة، وفي العبادات بين ما هو واجب، وما هو غير واجب، وفي العادات بين الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه، والمحرم، والصحيح، والفاسد، وغير ذلك من الأحكام”[20]، ويضيف الإمام الشاطبي مبينا علاقة النوايا بالأعمال، وما يتعلق بها من أحكام: “وأيضا فالعمل إذا تعلق به القصد تعلقت به الأحكام التكليفية، وإذا عري عن القصد لم يتعلق به شيء منها، كفعل النائم والغافل والمجنون”[21].

ضرورة موافقة قصد المكلف لقصد الشارع

         بدأ الإمام الشاطبي حديثه عن هذه المسألة بقوله : “قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التشريع”[22]، ذلك لأن الشريعة وضعت لمصالح العباد في العاجل و الآجل، وإذا كان الأمر كذلك فالمكلف مطالب بأن يجعل قصده في العمل موافقا لقصد الشارع، وأن يمتثل لعبادة الله، وأن يقوم بما هو مسؤول عنه – باعتباره خليفة الله في الأرض – وللقيام بذلك على أكمل وجه، من الواجب أن يصحح المكلف قصده ونيته حتى لا يصبح عمله ضربا من العبث الذي لا يحقق المعنى المقصود من خلافة العباد في الأرض، حتى ولو على نفسه وعلى أهله، وعلى من تعلقت له به مصلحة، فهو إذن مطالب بأن “يكون قائما مقام من استخلفه، يُجري أحكامه ومقاصده مجاريها” [23].

بطلان العمل الذي قصد به غير ما قصده الشارع

         يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: “كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله في المناقضة باطل”، ذلك أن الشرع قاصد لتحصيل العبد للمصالح ودرئه للمفاسد، فمن قصد بفعله وجه الله، فهو عين ما قصده الشرع، وإذا عمل على غير ذلك، فهو واقع في المناقضة لا محالة، لابتغائه ما لم توضع له الشريعة.

القصد المخالف أو الموافق وما يترتب عليه من أحكام:

          تحدث الإمام الشاطبي عن حالات موافقة فعل المكلف أو تركه لقصد الشارع، وبيّن حكم كل حالة منها، ذلك أن”فاعل الفعل أو تاركه، إما أن يكون فعله أو تركه موافقا أو مخالفا، وعلى كلا التقديرين إما أن يكون قصده موافقة الشارع أو مخالفته”[24]، وقد حدد كل ذلك في أربعة أوجه:

          أحدها: أن يكون الفعل أو الترك موافقا للشرع وقصده كذلك، كالقيام بالعبادات بقصد الامتثال لأمر الله تعالى، فهذا لا شك في صحة عمله، “فمن أدى الصلاة المفروضة ليحصل له ما شرعت لأجله، من تهذيب النفس، وإبعادها عن الفواحش في الدنيا، ونيل الثواب في الآخرة، فعمله صحيح موصل إلى الغرض المقصود شرعا، وكذلك من صلى لأن الله أمره بالصلاة بصرف النظر عما يترتب على الصلاة من منافع”[25]

         الثاني: أن يكون الفعل أو الترك مخالفا للشارع والقصد مخالف كذلك، كترك الواجبات وفعل المحرمات، وقصد المكلف كذلك، وهذا العمل ظاهر البطلان فمن “صلى ليخدع الناس، ويحملهم على الاعتراف بصلاحه وتقواه مثلا، فصلاته مردودة عليه، وغير موصلة إلى المقصود الشرعي منها”[26].

        الثالث: أن يكون الفعل أو الترك موافقا وقصده مخالف وهو على وجهين:

         أ- ألا يعلم بكون الفعل أو الترك موافقا وقصده مخالف كمن شرب شرابا ظانا أنه خمر، فهذا واقع في العصيان لقصده المخالف رغم عدم وجود آثار لفعله أو تركه كعدم ذهاب العقل.

         ب- علم المكلف بالموافقة وبقاء قصده المخالف كصلاة المصلي رياءً و”هذا القسم أشد من الذي قبله، و حاصله أن هذا العامل الذي جعل الموضوعات الشرعية التي جعلت مقاصد، وسائل لأمور أخر لم يقصد الشارع جعلها لها، فيدخل تحته النفاق والرياء، والحيل على أحكام الله تعالى، وذلك كله باطل لقوله تعالى:(إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار)[27][28].

         الرابع: أن يكون الفعل أو الترك مخالفا للشرع والقصد موافق وفيه حالتان:

         أ- العلم بالمخالفة، وهذا من قبيل البدع المنهي عنها شرعا والزيادة على ما شُرع بقصد المزيد من التقرب من الله عز وجل.

        ب- الجهل بالمخالفة، وهذا كذلك ينظر إليه من جهتين:

  أن القصد موافق حتى لو كان عمله مخالفا، لأنه قد يكون وقع في المخالفة بالخطأ لا بالعمد، ومن لم يقصد المخالفة يحكم عليه انطلاقا من قصده ونيته.

أن القصد مخالف لقصد الشرع والفعل أو الترك مخالف كذلك “لهذا فإن قصده لم يحقق قصد الشارع، الذي لا يتحقق بمجرد النيات، وإنما يتحقق بالفعل، والفعل هنا مخالف”[29].

       وفي كلتا الحالتين فإن لكل من”الموافقة القصدية، أو المخالفة الفعلية أثره في الحكم على الفعل وما ترتب عنه”[30].

تعلق قصد المكلف بالغير

        فعل المكلف قد يقصد به مصلحة نفسه، لكنه قد يصاحب ذلك قصد الإضرار بالغير وقد بين الإمام الشاطبي في المسألة الخامسة” وجوه التعارض – وعدمه – بين مصالح ومفاسد المكلف الفرد، ومصالح غيره ومفاسده، مع مراعاة القصد وعدمه، ويمكن تسمية هذه المسألة: قانون التعارض والترجيح بين مصالح الناس و مضارهم”[31]، وفي ما يلي بيان تلك الأوجه:

       أولا إذا قصد جلب مصلحة لنفسه دون الإضرار بالغير فحكمه أنه “باق على أصله من الإذن ولا إشكال فيه، ولا حاجة إلى الاستدلال عليه لثبوت الدليل على الإذن ابتداء”[32].

        ثانيا– إذا كان الفعل أو الترك مصحوبا بقصد إضرار الغير “فلا إشكال في منع القصد إلى الإضرار من حيث هو إضرار  لثبوت الدليل على أن لا ضرر ولا ضرار في الإسلام”[33]، أما إذا كان الفعل أو الترك من غير قصد الإضرار بالغير ففي هذه الحالة ينظر إلى ذلك الضرر هل هو عام، خاص، قطعي أم ظني؟

        وقد فصّل الإمام الشاطبي رحمه الله الحديث عن هذا الجانب في المسألة الخامسة[34]، ويمكن الحديث عنها كالآتي:

         1- عموم الضرر: الضرر العام يرفع بالجملة، فيمنع جالب المصلحة أو دافع المفسدة مما هو مقدم عليه لأن المصالح العامة تقدم على المصالح الخاصة، فاعتبار الضرر العام أولى، ومثال ذلك مسألة الترس التي فرضها الأصوليون فإذا تترس الكفار بمسلم، وعلم أنه إذا لم يقتل استؤصل الإسلام فإن المحافظة على كلي الدين واجب، وإن كان الإسلام قد أمر بحفظ النفس إلا أن الدين مقدم على النفس وغيره، وإذا أمكن تلافي الضرر الخاص من وجه آخر بآن يكون مثلا في أمور مالية، فالضرر يرفع جملة.

        2خصوص الضرر: هذا الوجه ينظر إليه من جهتين:

             أ- إثبات الحظوظ: حق الجالب أو الدافع مقدم وإن استضر غيره بذلك لأن جلب المنفعة أو دفع المفسدة مطلوب للشارع مقصود، ولذلك أبيحت بعض المحرمات كالميتة، وبيع الدرهم بالدرهم إلى أجل، للحاجة الماسة للمقرض والتوسعة على العباد، فكل ذلك وما شابهه مما دلت الأدلة على قصد الشارع إليه إذا سبق إليه الإنسان فقد ثبت حقه فيه شرعا بحوزه له دون غيره، أو سبقه إليه لا مخالفة فيه للشرع، فتقديم حق المسبوق على السابق ليس بمقصود إليه شرعا إلا مع إسقاط السابق لحقه وهذا لا يلزمه بل قد يكون له حق إسقاط حقه في الضروريات وهذا لا يلزمه بل قد يكون له حق إسقاط حقه في الضروريات وهذا في دفع الضرر وجلب المصلحة واضح كذلك إذا كان عدمها يضر به.

          ب- إسقاط الحظوظ: إسقاط الاستبداد والدخول في المساواة على حد سواء وهذا محمود جدا، فمسقط الحظ هو من يرى غيره مثل نفسه أو كأحد أهله ممن طلب القيام عليهم ندبا أو وجوبا وأنه قائم في خلق الله بالإصلاح و التسديد، ومثال ذلك ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد فهم مني وأنا منهم)، وعلى هذا فإن العامل لا يلحقه ضرر إلا بقدر ما يلحق الجميع أو أقل ولا يكون موقعا في نفسه ضررا ناجزا وإنما هو متوقع أو قليل يحتمله في دفع بعض الضرر عن غيره، وهذا نظر من يعتبر المسلمين كلهم شيئا واحدا لقوله صلى الله عليه وسلم:(المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه يعضا).

          ويدخل في ذلك الإيثار على النفس، بأن يترك حظه لغيره وهذا دأب الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام يقول الله عز وجل:(ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا).

          3- قطعية الضرر: أن يكون الضرر مؤديا إلى مفسدة قطعية عادة وهذا ينظر إليه  من وجهين:

          أ- أن يكون قاصدا لما يجوز أن يقصده الشرع من غير قصد إضرار بأحد فهذا جائز لا حظر فيه.

        ب- أن يكون عالما بلزوم مضرة غيره لهذا العمل المقصود مع عدم استضراره بتركه فهذا فيه قصد الإضرار، مما لم يقصد الشارع وقوعه على الوجه الذي يلحق به الضرر دون الآخر.

         فالعمل الذي يقوم به العامل مع علمه بالمضرة إما أن يقصد أن يكون هناك تقصير في النظر المأمور به وهذا ممنوع، وإما أن يقصد نفس الإضرار وهو ممنوع أيضا.

        4- ظنية الضرر: هو ما يكون أداؤه إلى المفسدة ظنيا، فيحتمل الخلاف. هل يمكن أن يكون هذا الظن جاريا مجرى العلم فيمنع كما في الضرر القطعي أم لا يمنع، والراجح اعتبار الظن، وذلك من وجوه:

         أحدها: أن الظن جار مجرى العلم، والظاهر جريانه هنا.

         الثاني: أن هذا الظن قد يكون ذريعة إلى المفسدة، لذلك كان ما هو منصوص عليه لسد الذرائع داخل في هذا القسم، ومثال ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكف عن قتل المنافقين لئلا يتخذ ذريعة إلى قول الكفار إن محمدا عليه الصلاة والسلام يقتل أصحابه.

         الثالث: أن هذا الضرر داخل في التعاون على الإثم والعدوان المنهي عنه شرعا، إلا أن الظن بالمفسدة والضرر لا يقوم مقام القصد إليه فالأصل الجواز من الجلب أو الدفع، بشرط ألا تتسبب المصلحة في مفسدة من جهة الحيل أو من باب التعاون لأن المتسبب لم يقصد إلا مصلحة نفسه، لذلك منع الجلب أو الدفع من هذه الجهة.

العلاقة بين قصد المكلف وفعله وما يترتب عليه من أحكام وربطه بمآلات الأفعال

          بيّن الإمام الشاطبي العلاقة بين قصد المكلف و فعله، وبين ما يترتب عنه من أحكام شرعية، وربطه بموضوع المآلات حيث خصص المسألة العاشرة من كتاب الاجتهاد للحديث عنها في خمس قواعد، إلا أنه اكتفى في كتاب المقاصد بقاعدة الحيل كنموذج لبيان طبيعة هذه العلاقة، فبدأ بتعريف الحيل إذ هي ما يلتجأ إليه المكلف بقصد إسقاط واجب عن نفسه، أو إباحة محرم عليه، والتحايل هو قلب الأحكام الثابتة شرعا إلى أحكام أخر، ثم قرر في المسألة الحادية عشرة أن هذه الحيل غير مشروعة بموجب كثير من الأدلة من الكتاب والسنة التي تؤكد بطلان الحيل والنهي عنها.

       أما المسألة الثانية عشر فقد تضمنت ربط الحيل بمقاصد الشارع، فقد ثبت أن الأحكام شرعت لمصالح العباد فإذا كان الأمر في ظاهره موافقا والمصلحة مخالفة فالفعل غير صحيح وغير مشروع؛ لأن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لنفسها، وإنما للمصالح العائدة على المكلف، فالذي عمل من ذلك على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات. فالزكاة مثلا إنما شرعت لأجل رفع الشح والرفق بالمساكين، فمن تهرب من أدائها بالتحايل حيث كلما قرب وقت تمام الحول لإخراج الزكاة، وهب أمواله فإذا فات وقت الزكاة استرد ما وهبه، فهذه الهبة ليست هي الهبة التي ندب إليها الشرع، إذ القصد الشرعي من الهبة لا ينافي قصد الشارع من الزكاة، أما الصورة التي فرضها ذلك المتحايل فتتنافى وقصد الشارع في رفع الشح والإحسان إلى العباد. فالقصد المشروع في العمل لا يهدم قصدا شرعيا، والقصد غير الشرعي هادم للتكليف الشرعي.

         وقد بين الشاطبي أحوال تعلق الثواب وعدمه بمقاصد المكلف وصور له بأربع حالات:

    أحدها: أن يعرى الفعل أو الترك عن القصد كلية، بحيث لا نية ولا ثواب ولا عقاب كما هو في الغفلة والنوم.

        الثانية: أن يتعلق القصد بجهة الموافقة على سبيل الحاجة والاضطرار كالعاقد على من لم يتحقق قصد الزنا بها، فهذا باطل بالإطلاق الثاني لأنه لم يرجع إلى حكم الموافقة إلا مضطرا.

        والثالثة: أن يتعلق القصد بجهة الموافقة اختيارا كالقائم بالتكاليف على جهة الانقياد أو “كالفاعل للمباح بعد علمه أنه مباح”.

         الرابعة: أن يتعلق القصد بجهة تحصيل الحظوظ الشخصية مجردة، وهذا لا ثواب له في ذلك كالأول.

         وبإمعان النظر في ما ورد عند الشاطبي بشأن المقاصد يمكن ملاحظة الآتي:

        – بحثه لها من الجانب الشرعي والجانب البشري.

        – جعله المقاصد الشرعية حاكمة على البشرية؛ إذ لا اعتبار لما هو بشري إلا إذا كان موافقا لما هو شرعي.

        – يسر سبل التعرف على المقاصد الشرعية، أما البشرية  فتحف بها صعوبات أخرى منها:

       أ- اتحاد القصد وتعدده:

      * فمن المتحد: ما هو موافق كالدخول في العبادة قصد الامتثال، ومنه ما هو مخالف كشراء الخمر لشربها.

      * ومن المتعدد:

      – اجتماع قصدين موافقين كالدخول في العبادة بقصد الامتثال وقصد إعطاء القدوة للأهل والولد.

      – اجتماع قصدين مخالفين كشراء الخمر للشرب والاتجار.

      – اجتماع قصدين أحدهما موافق في الحال والآخر مخالف في المآل كبعض بيوع الآجال.

      – ومنها تغير القصد كالدخول في العمل بقصد مخالف ثم العدول عنه لندم أو غيره واستبداله بقصد آخر وههنا صورتان:

       أولاهما: أن يكون قصده الظاهر من الفعل أو الترك موافقا لقصده إليه بالاختيار كالفاعل أو المحجم بقصد الامتثال.

      ثانيهما: أن يكون قصده الظاهر من الفعل أو الترك موافقا لقصده إليه بالاضطرار كما في  مثال اللجوء إلى النكاح بقصد اضطراري كما تقدم.

تعذر معرفة قصد المكلف

        من المعلوم أن مقاصد الشارع معروفة وواضحة بينما مقاصد المكلف غامضة لا يمكن الكشف عنها إلا في حالات نادرة قليلة، وذلك عندما يوجد ما يدل على القصد المخالف وذلك بمعاينة مجموعة من القرائن ويمكن إجمالها في ما يلي:

         – الإقرار: وهو أعلى مراتب الكشف عن مقاصد المكلفين، يقول بن قيم الجوزية رحمه الله: “إن الله تعالى وضع الألفاظ بين عباده تعريفا ودلالة على ما في نفوسهم، فإذا أراد أحدهم من الآخر شيئا عرفه بمراده وما في نفسه بلفظه”[35]

         التهمة: وهو أن يشيع بين الناس أن شخصا يصدر عنه فعل مخالف للشرع، كمن يشتري عنبا ليعصره خمرا أو غير ذلك.

        – كثرة الوقوع: أن يتكرر وقوعها من ذلك الشخص لمرات متعددة فيظهر بذلك قصده المخالف لقصد الشارع.

        وتجدر الإشارة إلى أن هناك من العلماء من اكتفى بالتوقف على الظاهر من أفعال المكلفين ولم يبحث في ما خفي عن الأنظار كابن القيم الجوزية الذي ساق مجموعة من الأدلة على ذلك: “قال الله تعالى حكاية عن نبيه نوح (ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا، الله أعلم بما في أنفسهم، إني إذا لمن الظالمين)[36]، فرتب الحكم على ظاهر إيمانهم ورد ما في أنفسهم إلى العالم بالسرائر تعالى المنفرد بعلم ذات الصدور، وعلم ما في النفوس من علم الغيب… وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “إني لم أومر أن أنقب على قلوب الناس ولا أشق على بطونهم”، وقد قال:”أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله”، فاكتفى بالظاهر ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل، قال تعالى:(ولا تقف ما ليس لك به علم)[37] ولم يجعل لنا علما بالنيات، والمقاصد تتعلق بالأحكام الدنيوية بها …[38].

        هكذا عمل الشاطبي رحمه الله على إظهار العلاقة بين نوايا المكلف وبين الأعمال التي يقوم بها وما ترتب عن ذلك من أحكام، والذي يجب الإشارة إليه أن هذا القسم لم يسبق لأحد أن تطرق إليه بهذه الدقة والتفصيل ذلك أنه رأى أنه من الضروري أن يكون هناك اهتمام بالمقاصد الخاصة بالمكلف، والمقابلة بينها وبين مقاصد الشارع لأن الشريعة لم تنزل لتعمل في فراغ بل نزلت ليمتثلها الإنسان ويعمل بها، ويجعل منها نهجا ومنهاجا يسير عليه في حياته، ومن ثم جعل المقاصد الشرعية حاكمة على مقاصد المكلف، وذلك بعرض هذه الأخيرة على ميزان الموافقة والمخالفة حتى يدخل تحت قانون الامتثال، ويكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا.

الهوامش:


[1]  –  لسان العرب : مادة (نوى).

[2]  – جامع العلوم والحكم لابن رجب، 10.

[3] – الاجتهاد المقاصدي حجيته … ضوابطه …. مجالاته …. (كتاب الأمة)1/10.

[4] – إحياء علوم الدين 4/365.

[5] – إحياء علوم الدين 4/365.

[6] – المستصفى 2/357.

[7] – جامع العلوم والحكم 9.

[8] – النحل 99.

[9] – تاج العروس مادة (قصد).

[10] – لسان العرب مادة (قصد).

[11] – الشاطبي وفكره الأصولي بين الإبداع والاتباع 112.

[12] – الأمنية في إدراك النية 7.

[13] – الأمنية في إدراك النية 9.

[14] – الأمنية في إدراك النية 10.

[15] – الأمنية في إدراك النية 12.

[16] – الأمنية في إدراك النية 13.

[17] – الأمنية في إدراك النية 21.

[18] – جامع العلوم والحكم 100.

[19] – الموافقات في أصول الشريعة 2/246.

[20] – الموافقات 2/246.

[21] – الموافقات2/246 .

[22] – الموافقات 2/251.

[23] – الموافقات2/252.

[24] – الموافقات 2/256.

[25] – أصول التشريع الإسلامي لعلي حسب الله 264.

[26]– أصول التشريع الإسلامي لعلي حسب الله 264.

[27]– النساء 145.

[28]– الموافقات 2/257 .

[29]– نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي لفضيلة الدكتور أحمد الريسوني 146.

[30] – نظرية المقاصد 146.

[31] – نظرية المقاصد 146.

[32] – الموافقات 2/265

[33] – الموافقات 2/265.

[34] – الموافقات 1/264.

[35]  – إعلام الموقعين 1/105.

[36] – هود11

[37]  – الإسراء 170.

[38] – إعلام الموقعين 1/100.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق