وحدة الإحياءدراسات محكمة

تطور الفكر الأصولي.. قراءة في التراث الإسلامي

ما إن اكتملت نصوص الوحي بوفاة رسول الله، عليه الصلاة والسلام، حتى بدأت حركة الاجتهاد، وبدأ تنامي المدرسة الفقهية مع الخلفاء الراشدين، رضوان الله عليهم، سيما منهم “رجل الدولة الكبير”؛ عمر بن الخطاب. فقد أسهمت اجتهاداته العملية على وجه الخصوص، في إرساء بنيان صرح الفقه الإسلامي. وقد نقل العلامة محب الدين الخطيب[1] عن علامة الهند الكبير: ولي الله الدهلوي، أنه كان يرى أن الفقه في عصر الصحابة كان منبعه أساسا: مجموعة معينة من الصحابة، وكان إمامهم ومركز حركتهم: عمر بن الخطاب، رضي الله عنهم أجمعين.

ثم ما لبثت الحركة العلمية أن تنامت تناميا سليما، لسلامة جسم الأمة وعقلها. واستنْفِر العقل الإسلامي مع القرن الثاني الهجري إلى جهاد جديد، خصوصا وأنه كان “عصر توقف الفتوح، وعصر الاستقرار، والإنشاء الحضاري، فانصرفت القوة المبدعة المنظمة إلى الجهاد في ميدان جديد، هو ميدان الفكر، وأخذت تستفرغ مجهودها كي تجمع الآثار المتفرقة، وتبحث عن التراث الضائع، وتنظم وتبوب، وتدون في كل فن وعلم، فلم يبلغ القرن الثاني غايته حتى كان التدوين قد بلغ أشده[2].

وهكذا انطلقت الأمة في نفير حضاري إلى تدوين شامل لذاكرتها في كل العلوم بشكل انسيابي متتالي يرتبط بعضه ببعض. ولأن “كل تطور في العلم إنما هو ترجمة لتطور في المجتمع، وأن كل تطور في الأول إنما هو صدى لتحول في الثاني، ومواكبة له وكأن الأول سؤال والثاني جواب عنه”[3]، فقد كان علماء الأمة الإسلامية على موعد مع التاريخ؛ حيث انبرى فيهم من يؤسس للأمر التشريعي، بما يواكب تطور المجتمع، وتغيره الفكري والاجتماعي. وكان من هؤلاء الإمام الشافعي الذي يعزى إليه نشأة علم أصول الفقه في كتابه “الرسالة”.

قال الإسنوي في التمهيد: “إنه أول من ألف فيه وحكي الإجماع على ذلك”[4]. وكيف نستبعد ذلك عن الشافعي ونحن نقرأ في تاريخه، رضي الله عنه، أنه في محنته التي اتهم فيها بأنه رئيس حزب العلويين باليمن، وسيق بسبب هذه التهمة إلى الرشيد مكبلا بالحديد في بغداد سأله الرشيد حين لمح علمه وفضله، فقال: كيف علمك يا شافعي بكتاب الله عز وجل؟ فإنه أولى الأشياء أن يبتدأ به. فقال الشافعي: عن أي كتاب من كتب الله تسألني يا أمير المؤمنين؟ فإن الله تعالى قد أنزل كتبا كثيرة. قال الرشيد: قد أحسنت لكن سألتك عن كتاب الله المنزل على ابن عمي محمد، صلى الله عليه وسلم، فقال الشافعي: إن علوم القرآن كثيرة فهل تسألني عن محكمه ومتشابهه، أو عن تقديمه وتأخيره، أو عن ناسخه ومنسوخ، أو عن أو عن… وصار يسرد عليه من علوم القرآن ويجيب عن كل سؤال بما أدهش الرشيد والحاضرين[5].

إن هذه المؤهلات العلمية التي حظي بها، مما ذكر في هذه القصة الدالة، هي التي جعلته ذا مكانة مرموقة عند معاصريه. فكتب “الرسالة” استجابة لطلب عبد الرحمن بن مهدي المحدث النقادة المشهور الذي كتب إلى الشافعي يسأله عن كيف البيان؟ وكيف الإجمال وكيف العموم؟ وكيف النسخ؟ إلى غير ذلك من الأمور التي أشكلت على بعض الأذهان في فهمها واستيعابها.

 أضف إلى ذلك أن الفتوحات الإسلامية التي قام بها المسلمون منذ عصر عمر بن الخطاب وولايته كان لها أثرا على الثقافة الإسلامية، وذلك بدخول ثقافات ولغات وعادات أخرى، وكان أصحاب هذه الثقافات، ممن دخلوا إلى الإسلام، ليسوا بعرب. فتراجعت الفصاحة وكثر اللحن بسبب اختلاط الأجناس واللغات في المجتمع الإسلامي وهو ما ذكره الحجوي. قال: “وكان جميع العلماء مجتهدين لم يكن بينهم مقلد، ولا يقلد إلا العوام فلم يكن الخلاف ضارا لهم ولا مشينا، بل كان واسعا وراء إظهار الحقيقة فلذلك عددنا الفقه فيه شابا قويا.

 نعم في هذا العصر أعني عصر أتباع التابعين، كثر الموالي، وفسدت اللغة واحتاجوا لعلومها… واعتبر بتراجم العلماء السابقين تجد الجل منهم موالي أو موالي الموالي؛ كنافع مولى ابن عمرو، وعكرمة، وكريب مولى بن عباس، وعطاء بن أبي رباح الحبشي، والحسن البصري، وابن سرين، ومكحول، وطاوس، وغيرهم…”[6].

فكان، إذن، انهماك العرب في السياسة وبهرجتها إلى جانب دخول الموالي في الإسلام، هما السببان الرئيسان في إضعاف الملكة اللسانية والفصاحة العربية، وبالتالي الحيلولة دون فهم معاني الألفاظ الشرعية لتوقف استفادة الأحكام عليها، فكان أن احتاج علماء الملة إلى قواعد وقوانين يتوصل بها إلى استفادة الأحكام من الأدلة، قواعد أصول الفقه..

 قال ابن خلدون: “واعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غنية عنه بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية، وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصا فمنهم أخذ معظمها… فلما انقرض السلف وذهب الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها صناعة… احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة فكتبوا فنا قائما برأسه سموه أصول الفقه”[7].

فكان إذن، كما قلت، أن كتب الشافعي كتاب “الرسالة” لما ذكرت من الأسباب وسأعرض أهم قضايا الكتاب بشكل مركز: كان الباب الأول كيف البيان وكذا الثاني ثم الثالث فالرابع فالأخير[8]، كلها يعرض فيها مسائل يتحدث فيها عن كيف البيان! وكأنه يضع مقدمات منهجية وضوابط خاصة في الفهم.

ثم تحدت عن ابتداء الناسخ والمنسوخ على سبيل البيان وإزالة التعارض والتوفيق بين أحكام[9] الآيات والأحاديث. وبين فيه عدة إشكالات تتعلق بناسخ القرآن ومنسوخه وناسخ السنة ومنسوخها[10]، وتحدت عن القياس[11] وعن أوجهه، وعن الأمر والنهي[12] وتفاوت مراتبهما ثم انتقل إلى باب الإجماع ثم الاجتهاد وأنواعه، فالاستحسان ثم منزلة الإجماع والقياس[13]. وتحدث عن أمية الشريعة في كثير من أساليب القرآن التي خوطبوا بها مما يلمس فيها زيادة بيان أو تأكيد، منها قوله تعالى في التمتع: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ (البقرة: 195). فكان بينا عند من خوطب بهذه الآية أن صوم الثلاثة في الحج والسبع في المرجع عشرة أيام كاملة قال تعالى: ﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ فاحتملت أن تكون زيادة في التبيين، واحتملت أن يكون أعلمهم أن ثلاثة إذا اجتمعت إلى سبع كانت عشرة كاملة.

وقال الله سبحانه: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ (الأعراف: 142). وقوله: ﴿أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ يحتمل ما احتملت الآية قبلها: من أن تكون إذا اجتمعت ثلاثون إلى عشر كانت أربعين وأن تكون زيادة في التبيين.

 وقال الله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ (البقرة: 182-183).

وقال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ (البقرة: 184).

فافترض عليهم الصوم ثم بين أنه شهر والشهر عندهم ما بين الهلالين وقد يكون ثلاثين وتسعا وعشرين”[14].

ومن كل ما عرضناه من القضايا الأصولية المبنية على القضايا اللغوية المتعلقة بهذا العلم، يتبين أنه إنما كان “يعالج في ذلك مشكلة الفهم عن الله ورسوله، سواء من حيث الدلالة اللغوية الطبيعية، أو الدلالة الأصولية التقعيدية، بل إن هذه إنما هي تطور عن تلك، فيما يتعلق بفهم النص الشرعي خاصة”[15] كما يتبين من نص الشافعي: “فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها، وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به العام الظاهر، ويستغني بأول هذا منه عن آخره وعاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه، وعاما ظاهرا يراد به الخاص وظاهرا في سياقه يراد به غير ظاهره.

فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول لفظها فيه عن آخره، وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظها منه عن أوله. وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ، كما تعرف الإشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها لانفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، وتسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة “[16].

 إن عبارة الإمام الشافعي الحصرية “إنما خاطب الله بكتابه العرب..” وهو يعرض أوجه وصور التعبير القرآني المطابق لكلام العرب، إنما يبين فعلا أن لغة التخاطب القائمة على وظيفة الإفهام في أي علم كان يجب أن تحمل وتتشرب معاني البيئة وسياقاتها الاجتماعية، ومساربها الاعتيادية وخصوصياتها النفسية. هذه حمولات كلام الإمام الشافعي وإن كان يتبين في الظاهر أنه يقف عند الأساليب فقط لكن الأمر غير ذلك.

 فالارتباط الوثيق بين القصد الإفهامي والقصد التكليفي هو ما يبين استقراء الشافعي لعادات العرب انطلاقا من واقعها.

ولذلك شرع في التمثيل لما ذكر بعد أن قال مفصلا:

أ. بيان ما نزل من الكتاب عاما يراد به العام ويدخله الخصوص:

قال الله سبحانه: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ (الزمر: 59). وقال: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ (هود: 6). فهذا عام لا خاص فيه فكل شيء من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك: فالله خالقه وكل دابة فعلى الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها.

وقال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا﴾ (الكهف: 76).

وفي هذه الآية دلالة على أن لم يستطعما كل أهل قرية فهي في معناها.

وفيها ﴿مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا﴾ خصوص؛ لأن كل أهل القرية لم يكن ظالما، قد كان فيهم المسلم ولكنهم كانوا فيها مكثورين وكانوا فيها أقل”[17].

ب. في بيان ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص:

قال الله تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (آل عمران: 173)… والعلم يحيط أن لم يجمع لهم الناس كلهم ولم يخبرهم الناس كلهم ولم يكونوا هم الناس كلهم، ولكنه لما كان اسم “الناس” يقع على ثلاثة نفر، وعلى جميع الناس وعلى ما بين جميعهم وثلاثة منهم: كان صحيحا في لسان العرب أن يقال: الذين قال لهم الناس “وإنما الذين قالوا لهم ذلك أربعة نفر” ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾؛ يعني المنصرفين عن أحد وإنما هم جماعة غير كثير من الناس، الجامعون منهم غير المجموع لهم والمخيرون للمجموع لهم غير الطائفتين والأكثر من الناس في بلدانهم غير الجامعين ولا المجموع لهم ولا المخبرين”.

وقال الله تبارك وتعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ (البقرة: 198). فالعلم يحيط، إن شاء الله، أن الناس كلهم لم يحضروا عرفة في زمان رسول الله، ورسول الله المخاطب بهذا ومن معه ولكن الصحيح من كلام العرب أن يقال: “أفيضوا من حيث أفاض الناس”؛ يعني بعض الناس[18].

فقوله من قبل “من كلام العرب” إنما كان يحمل لغتهم مضمونها الاجتماعي والعرفي الذي  يتحقق به الفهم، ولا يقف في هذا الوصف عند الجانب اللغوي المحايد عن سياقه الثقافي. وتبدو هذه الحقيقة واضحة في اعتراض الناس على ابن الزبعرى عندما فهم من قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ (الأنبياء: 97). أنه يدخل فيها الملائكة والمسيح. وأثبتوا لجهله بموقعها وما روي في الموضع أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: “ما أجهلك بلغة قومك يا غلام”[19]؛ لأنه جاء في الآية ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ﴾ (الأنبياء: 97). و”ما” لما لا يعقل فكيف تشمل الملائكة والمسيح؟ والذي يجري على أصل مسألتنا أن الخطاب ظاهره أنه لكفار قريش ولم يكونوا يعبدون الملائكة ولا المسيح وإنما كانوا يعبدون الأصنام فقوله: “وما تعبدون”.. عام في الأصنام التي كانوا يعبدون فلم يدخل في العموم الاستعمالي غير ذلك، فكان اعتراض المعترض جهلا منه بالمساق، وغفلة عما قصد في الآيات وما روي من قوله: “ما أجهلك بلغة قومك يا غلام” دليل على عدم تمكنه من فهم المقاصد العربية وإن كان من العرب لحداثته وغلبة الهوى عليه في الاعتراض أن يتأمل مساق الكلام حتى يتهدى للمعنى المراد، ونزل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى﴾ (الأنبياء: 100) بيانا لجهله”[20].

 وقد قرر الإمام الشافعي هذه القاعدة؛ وهي أنه “لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها. ومن علمه انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها”[21].

وقد بين الشافعي، إذن، من خلال هذه النصوص أن خطاب الله إنما هو بلسان عربي على ما تعرف من معانيها. ومن ثم كانت أغلب القضايا المدروسة في أصول الفقه، في هذه المرحلة على الخصوص، هي قضايا لغوية، بل هي الغالبة عليه كما قرر ذلك الإمام أبو إسحاق الشاطبي قال: وغالب ما صنف في أصول الفقه من الفنون إنما هو من المطالب العربية التي تكفل المجتهد فيها بالجواب عنها. وما سواها من المقدمات، فقد يكفي فيه التقليد كالكلام في الأحكام تصورا وتصديقا كأحكام النسخ وأحكام الحديث وما أشبه ذلك، فالحاصل أنه لا غنى للمجتهد الشريعة في كلام العرب، بحيث يصير فهم خطابها له وصفا غير متكلف ولا متوقف فيه في الغالب إلا بمقدار توقف الفطن لكلام اللبيب”[22].

إذ لا يمكن أن نتحدث عن النسخ أو الترجيح لرفع التعارض إلا بعد بيان محل التعارض دلاليا وتناوله بالبحث اللغوي.

ولم يكن علم أصول الفقه من حيث النشأة والتأسيس والتدوين ظاهرة متفردة في تلك المرحلة، بل إن الفترة الممتدة ما بين أواسط القرن الأول الهجري وأواخر القرن الثالث الهجري، كانت مرحلة تدوين شامل لشتى أنواع العلوم. سواء منها اللغوية، والأدبية، والشرعية بمختلف أصنافها، وقد جعل العلامة الحجوي سبب جمع اللغة هو سبب تدوين علم أصول الفقه نفسه قال: “واعلم أن اختلاط العربية بلغات الأعاجم الداخلين في حظيرة الدين الإسلامي، كان في هذه الأعصر من أقوى الأسباب الداعية إلى تغير حال الفقه وصعوبته ثم انحطاطه، ففي زمن خلافة علي، كرم الله وجهه، في الكوفة كثر اللحن في ذلك وشاع في اللغة وجاء قاضي البصرة أبو الأسود الدؤلي التابعي الكوفي وقال له: إن لغتنا فسدت، فإني دخلت على ابنتي فقالت: ما أشد الحرُّ، فضع لنا ما نحفظ به لغتنا ففكر مليا ثم قال له: الكلام اسم وفعل وحرف.. انح على هذا المنحى، فصار أبو الأسود يضع القواعد لتلاميذه”[23].

فحركة التأليف هذه التي طبعت هذه الفترة وشملت شتى العلوم والتي ترجع بعض أسبابها إلى ضياع الملكة اللسانية كما هو مبين في نص الحجوي، وبعضها إلى الرغبة في حفظ الدين لحفظ نصوصه كما هو الشأن في الحديث والفقه، قلت هذه الحركة هي نفسها، أدت إلى الشعور بالحاجة إلى تدوين الأصول لأن جمع النصوص الحديثية والأقوال الفقهية، أدى إلى وفرة في مادتها لدى طلاب العلم، مما نتج عنه تعارض النصوص الحديثية والأقوال والفهوم. فكان سؤال المحدثين، كما ذكرنا لعبد الرحمن بن مهدي، عن حل مشكلة البيان فسارع الشافعي إلى بيان كيفية البيان عن طريق الجمع والتوفيق بين النصوص وإزالة التعارض الظاهري بينها، ووضع قوانين الاستنباط لذلك.

وقد توفي الشافعي، رحمه الله، بداية القرن الثالث الهجري (204ﻫ) ولم يؤلف في هذا العلم، علم أصول الفقه، ما يمكن أن نعتبره علما متكاملا إلا موضوعات هنا وهناك كما ذكر عبد الوهاب أبو سلمان في بحثه الفكر الأصولي[24]. وإلى حدود القرن الرابع الهجري لم يظهر في هذا المجال إلا كتب هي شرح لرسالة الشافعي كما ذكر أحمد شاكر في مقدمتها: “إلا أن حدثا علميا في القرن الثالث الهجري سيكون له نوع من التأثير غير كبير على تحول طبيعة الفكر الأصولي، خلال القرن الرابع الهجري ذلك هو دخول علم المنطق إلى مجال التداول الإسلامي على مستوى علم الكلام بيد أن تأثيره لن يعرف أوجه إلا في القرن الخامس وبداية السادس”[25].

قال صاحب الفكر السامي: “أن في أول المائة الثالثة كانت دولة بني العباس في عنفوانها وعلى رأسها الخليفة المأمون ابن الرشيد فتى العلم… وهو الذي نشط العلماء للإكثار من ترجمة كتب الفلاسفة اليونان والروم والهند… وظهرت في زمنه الفلسفة العقلية في الإلهيات والنبوءات التي أدت إلى حدوث انشقاق في علماء الأمة، زيادة على ما كان من انشقاق الخوارج والشيعة. فأدخلوا في العقائد التي يجب اعتقادها في حق الله وحق الرسول الفلسفة العقلية التي اقتبسوها من الكتب المترجمة عن الأفكار اليونانية والرومانية”[26]. مما أدى إلى أن “انسلخ الفقه عن حلة البداوة التي كان متحليا بها إلى غيرها، إلا ما كان من فقه مالك الذي قطن في إفريقية ولم تكن مهدا لتلك العلوم، فإنه بقي متمسكا ببداوته، بخلاف مذهب الحنفية فإنه صار فقها معقول أكثر منه منقولا”[27].

إلا أن تأثير المنطق على أصول الفقه لم يقع إلا بعد أن تشبع العلماء به، وأصبح دما يسري في خلاياهم، وذلك في القرن الرابع الهجري. قال صاحب الفكر الأصولي واصفا الحركة الأصولية في القرن الرابع: “تأثر الأصوليون تأثرا واضحا بطريقة علماء المنطق والفلسفة في إيجاد معان مضبوطة محدودة للمصطلحات العلمية الخاصة بعلم الأصول، بما يسمى بالتعريفات (الحدود) ووضعها في قوالب واختصاصها بمقاييس المنطق، الأمر الذي لم يكن معهودا في مؤلفات الأصوليين قبل القرن الثالث”[28]. كما رأينا عند الشافعي إذ كتابه الرسالة، إنما كان استجابة لما تقتضيه المرحلة وهي ضبط الفهم وبيان كيفية التعبد.

لكن دخول الدخيل على الثقافة الإسلامية في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع سيغير مجرى وطبيعة الفكر الأصولي. إذ من المعلوم أنه مع نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع بدا التدين في شكله الصوفي يعرف انحرافا بعدما كان تصوفا صافيا صحيح المعاني سليم السلوك مع الصحابة والتابعين؛ “إذ ظهر علم التصوف وكان رائده هو الإمام الجنيد المتوفي (297ﻫ) ومن تلاميذه أبو مغيث الحسين بن منصور الحلاج المتوفى (309 ﻫ) وظهر من روي بالقول بالحلول والظهور…”[29].

كما ظهر في هذين القرنين (3-4) كثرة الجدل بين علماء المذاهب لا بقصد إظهار الحق ثم إتباعه، بل للاستطالة والحظوة أمام الحكام، ومن هنا نشأ علم المناظرة والجدل، وصار علما خاصا، وعن الجدل نشأ علم الخلافيات. قال صاحب الفكر السامي: “وفي القرنين (2-3ﻫ) ابتلي الفقه والفقهاء بداهية دهياء وهي التنافس المذهبي الناشئ عن الخلافيات والجدل، وانتصار كل أهل مذهب لمذهبهم كأنه دين مخالف لدين أهل المذهب الآخر”[30].

وهكذا ظهر التعصب وتقليد مذاهب الأشياخ وبدا كل علم يفقد أصالته مع بداية القرن الرابع، أضف إلى ذلك أن انكباب المسلمين على الترجمة للفلسفة والمنطق وظهور فرق كلامية متسلحة به أدى إلى انتشار العدوى داخل العلوم الشرعية خاصة علم الأصول الذي انقدح فيه هذا الأثر قويا مع إمام الحرمين الجويني المتوفى سنة (478ﻫ). وقد ذكر ابن خلدون أن الإمام الباقلاني اقتفى طريقة الإمام أبي الحسن الأشعري في علم الكلام، ووضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار، ثم جاء بعد أبي بكر الباقلاني إمام الحرمين أبو المعالي فأنشأ في الطريقة كتاب الشامل ثم انتشرت بعد ذلك علوم المنطق في الملة[31].

والناظر في كتاب البرهان للجويني يجد هذا المعنى واضحا؛ إذ قد تأثر الرجل بمناهج المناطقة وطرائقهم في الاستدلال. وقال يجب على كل من تعاطى “لفن من فنون العلوم أن يحيط بالمقصود منه، وبالمواد التي منها يستمد ذلك الفن وبحقيقته وفنه وحده إن أمكنت عبارة سديدة على صناعة الحد”[32].

وجاء بعد الجويني تلميذه الإمام الغزالي في كتابه “المستصفى في أصول الفقه” الذي يمثل بالفعل الشق التطبيقي، لما سبق أن ذكرنا، إذ سيظهر لأول مرة في تاريخ علم أصول الفقه النفس المنطقي، منطق أرسطو.

ولم يكن اختيار الغزالي لهذا النمط في التأليف الأصولي اختيارا ذاتيا ولا هوى متبعا، وإنما كان نتيجة، ورد فعل للتغيير العقدي والثقافي والسياسي، والأخلاقي السائد في المجتمع. فكأن الغزالي ضرب حجرا بحجر، إذ اضطر هو الآخر إلى ولوج هذا المعترك، قال مبينا سبب اضطراره إلى الحديث عن أصول الفقه، ومزجه بالمنطق: “وبعد أن عرفناك إسرافهم في هذا الخلط فإنا لا نرى أن نخلي هذا المجموع عن شيء منه لأن الفطام عن المألوف شديد، والنفوس عن الغريب نافرة، لكنا نقتصر من ذلك على ما تظهر فائدته على العموم في جملة العلوم من تعريف مدارك العقول، وكيفية تدرجها من الضروريات إلى النظريات، على وجه يتبين فيه حقيقة العلم، والنظر والدليل وأقسامها وحججها تبيينا بليغا تخلو عنه مصنفات الكلام”[33].

ثم قال في سياق آخر مبينا سبب الخلط، بشكل عام، “وإنما أكثر فيه المتكلمون من الأصوليين لغلبة الكلام على طبائعهم، فحملهم حب صناعتهم على خلطه بهذه الصنعة، كما حمل حب اللغة والنحو بعض الأصوليين على مزج جملة من النحو بالأصول فذكر فيه من معاني الحروف، ومعاني الإعراب جملا هي من علم النحو خاصة”[34].

إلا أن الغزالي وإن صرح في هذا النص بأنه كان مضطرا إلى الكتابة على هذه الشاكلة، فقد صار له هذا المنهج وهذا النمط عقيدة، وهو ما يتبين من خلال تصديره لكتابة “المستصفى” بالمقدمة المنطقية الشهيرة التي جزم بأنها ليست من جملة علم الأصول، ولا من مقدماته الخاصة به، بل هي مقدمة العلوم كلها ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا… وحاجة جميع العلوم النظرية إلى هذه المقدمة لحاجة أصول الفقه”[35]. والمتصفح، فعلا، لكتابه يجد هذا الأمر حقيقة، إذ في أغلب مباحث الكتاب[36] كان يستعمل آليات المنطق وهما الحد والبرهان، كما استعمل ذلك أيضا في مناقشاته للفرق الأخرى كالمعتزلة[37] والرافضة[38].

ولم يكن الغزالي وحده من صار على هذا المنهج، بل ظل التأليف الأصولي دائرا على أربعة كتب شكلت مصادر هذا العلم في هذه الفترة ذكرها ابن خلدون في مقدمته قال: “وكان أحسن ما كتب فيه المتكلمون كتاب “البرهان” لإمام الحرمين، و”المستصفى” للغزالي وهما من الأشعرية، وكتاب “العهد” لعبد الجبار وشرحه المعتمد لأبي الحسن البصري وهما من المعتزلة، وكانت الأربعة قواعد هذا الفن وأركانه”[39].

نعم هذا هو الطابع الذي تميز به الفكر الأصولي في هذه الفترة وأمام ما شهده المجتمع الإسلامي بعد هذه المرحلة، من انهيار حضاري وعسكري طال الدولة الإسلامية ابتداء من القرن السابع الهجري وما صحبه أيضا من انهيار خلقي كما هو واضح في نص الحجوي قال: “أن الداهية الدهياء التي لم ينزل بالإسلام مثلها منذ نشأ إلى الآن، وهو تسلط التتر على دار الخلافة، وقتل الخليفة المعتصم العباسي سنة 656ﻫ واستولى أميرهم هولاكو على بغداد، وما وراءها إلى الهند… وقتل الملايين من المسلمين وفعل أفاعيل المتوحشين… فإذا أضفت إلى ذلك سقوط صقلية ومدنها بيد النورمان، وخراب القيروان بيد البدو… ودخول البربر لقرطبة في آخر القرن الرابع، وفيه ابتداء سقوطها الذي انتهى سنة 623ﻫ بدخول إسبانيا لها، ثم بعدها إشبيلية تعلم مقدار ما رزئ به الإسلام والفقه في هذه القرون: الخامس والسادس والسابع، ثم في آخر القرن الثامن ظهر تيمورلنك من بقايا التتر المسلمين… وملك نصف الدنيا، لكن معالم الإسلام ما بقي، وفعل بدمشق الشام ما فعله سلفه ببغداد”[40].

والذي تسبب في هذا التدهور الحضاري والعسكري هو ما أصاب الأمة من السقوط الأخلاقي، وانتشار الفساد، والتكالب على ملذات الدنيا. وتأمل نص صاحب “نهاية الأندلس” وهو يتحدث عن حالها قال: “وقد كان الشعب الغرناطي يعشق مباهج الحياة، والحفلات العامة، وكانت الحياة لديه كأنها سلسلة من الأعياد المتواصلة، وكان الغناء ذائعا ويكثر في المنتديات والمقاهي العامة حيث يجتمع شباب بكثرة، ولم تنس غرناطة مرحها حتى في أيام محنتها”[41].

ثم يقول صاحب “الإحاطة” في نص آخر: “وحريمهم حريم جميل موصوف بالسحر وتنعم الجسوم، واسترسال الشعور، ونقاء الثغور، وطيب النشر، وخفة الحركات، ونبل الكلام، وحسن المحاورة إلا أن الطول ينذر فيهن، وقد بلغن من التفنن في الزينة لهذا العهد والمظاهرة بين المصبغات، والتنافس في الذهبيات، والتماجن في أشكال الحلي إلى غاية نسأل الله أن يغض عنهن فيها عين الدهر ويكفيك الخطب ولا يجعلها من قبيل الابتلاء والفتنة”[42].

إن هذا الوضع المتردي أخلاقيا يضاف إليه الانحراف الذي أصاب حركة التصوف، وأمام ما صاحب ذلك من سيطرة للخرافات، والاعتقادات الباطلة مع غياب الحس النقدي في قبول الأخبار والروايات أو ردها.

إن هذا الوضع المتردي سياسيا ودينيا وأخلاقيا… هو الذي جعل الشاطبي يولي اهتمامه في مشروعه الإصلاحي نحو تجديد فهم الدين، بإصلاح النيات وتربية القلوب لكن في إطار قوانين العلم ومنطق العقل في آن واحد. ولذلك كان ناقدا لهذا الانفصام إذ هاجم خرافات الصوفية، وبدعهم من جهة، وعقلانية الفقهاء الأرسطية وإفراطهم في استعمال قوالب المنطق الصوري من جهة ثانية، بل لقد رفض علم المنطق كله سواء من حيث هو نظريات في الحد أو من حيث هو نظريات في الاستدلال”[43].

ولذلك أكد موقفه ورفضه لهذا الأخير في المقدمة السادسة وأشار إلى أن الحدود يتعذر الإتيان بها، ولا يعرفها على الحقيقة إلا باريها لأن علماء المنطق كانوا يتحدثون عن الحد باعتباره، الجامع المانع، الذي يمثل ماهية الشيء قال: “فظهر أن الحدود على ما شرطه أرباب الحدود يتعذر الإتيان بها، ومثل هذا لا يجعل من العلوم الشرعية التي يستعان بها فيها، وهذا المعنى تقرر وهو أن ماهيات الأشياء لا يعرفها على الحقيقة إلا باريها، فتسور الإنسان على معرفتها رمي في عماية”[44].

هذا قوله في رفضه للمنطق كنظريات في الحد. وقال أيضا في هذا الرفض من حيث هو نظريات في الاستدلال: “وأما التصديق الذي يليق منه بالجمهور ما كانت مقدمات الدليل فيه ضرورية، أو قريبة من الضرورية، حسب ما يتبين في آخر الكتاب، بحول الله وقوته، فإذا كان كذلك فهو الذي ثبت طلبه في الشريعة وهو الذي نبه القرآن على أمثاله كقوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ (الروم: 39)”[45].

بل إن الشاطبي ذهب إلى أكثر من ذلك حيث ربط العلم بغايته، واعتبر الصحيح منه إنما هو المتعلق بالعمل وبالتكليف والامتثال لا العلم الذي يخوض في الجدل العقيم، قال: “كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب، وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا”[46].

وأشار أيضا في المقدمة الرابعة إلى أن كل ما دخل في هذا العلم، علم أصول الفقه، مما هو غير خادم للفقه، فوضعه في أصوله لا فائدة فيه. وذكر من أصناف هذه العلوم مسألة ابتداء الوضع والإباحة هل هي تكليف أم لا ومسألة أمر المعدوم، وهل كان النبي صلى الله عليه وسلم متعبدا بشرع قبل البعثة أم لا؟”[47].

فهو، رحمه الله، إذ كان يرفض المنطق إنما يؤسس للعلم الصحيح الذي يجب الاهتمام به والذي به يصلح المجتمع سواء من حيث جنس العلم وذاتيته، وطرق تلقيه، أو من حيث مقاصده وأهدافه، ولذلك شنع على الفلسفة قائلا: “والفلسفة على فرض أنها جائزة الطلب صعبة المأخذ وعرة المسلك بعيدة الملتمس لا يليق الخطاب بتعلمها كي تتعرف آيات الله ودلائل توحيده للعرب الناشئين في محض الأمية فكيف وهي مذمومة على ألسنة أهل الشريعة”[48].

 فكان يوجه اهتمام الأمة نحو العلم الناجع الفعال، لإخراجها فيما غرقت فيه من الفتن، والسقوط الأخلاقي الذي دمر بنية التدين في المجتمع، دون الاهتمام بالعلوم الأخرى كعلم الكلام والجدل لأنه لم يكن ضروريا في عصره لإصلاح الأمة ولا لطالب العلم. وقد قال ابن خلدون معاصره: “فينبغي أن يعلم أن هذا العلم الذي هو علم الكلام، غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم؛ إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا، والأئمة من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا ودونوا، والأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حيث دافعوا ونصروا. وأما الآن فلم يبق منها إلا كلام تنزه البارئ عن كثير إيهاماته وإطلاقه. ولقد سئل الجنيد، رحمه الله، عن قوم مر بهم بعض المتكلمين يفيضون فيه فقال: ما هؤلاء فقيل: قوم ينزهون الله بالأدلة عن صفات الحدوث وسمات النقص. فقال نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب، لكن فائدته في آحاد الناس وطلبه العلم فائدة معتبرة؛ إذ لا يحسن لحامل السنة الجهل بالحجج النظرية على عقائدها”[49].

هذا وإن الشاطبي حتى وإن حافظ على اصطلاحات المتقدمين، إلا أنه أفرغها من محتواها، وشحنها بمضامين جديدة. فكان مجددا لكل ما للكلمة من معنى، وكان اجتهاده عبارة عن نقد وتجاوز “لثغرات المراحل السابقة التي أسهمت ولو بشكل غير مباشر في المآل المتردي لعصره. ومن هنا كان إصلاحه جامعا بين التجديد العقلي والتجديد القلبي أو بعبارة أخرى بين التجديد العلمي والتجديد الصوفي أو السلوكي، فكان أنسب قالب لصياغة هذا المضمون الجامع بين الأمرين هو المصطلح الأصولي، ولذلك كانت عنده نظرية المقاصد روحا ساريا في كل المصطلحات الأصولية على اختلاف مجالاتها من أحكام وأدلة واجتهاد وما تفرع عن كل منهما”[50].

وهي نظرية ألقى الإمام أبو حامد الغزالي نواتها في مستصفاه ثم قام الشاطبي باستنبات هذه النواة في موافقاته خير استنبات، حتى أصبحت على يديه حديقة وارفة الظلال[51]؛ إذ أصبحت المقاصد شيئا ظاهرا للعيان لا يسع أحدا إغفاله، ولا نسيانه، ولا التقليل من شأنه، بينما كانت من قبل ضامرة خفية، ولا يكاد يلتفت إليها إلا كبار العلماء الراسخون في الشريعة وعلومها”[52].

إن أبا إسحاق إذ عرض علينا فكرا أصوليا متميزا، إنما عرض علينا نظرية في الإصلاح التربوي والاجتماعي ومنهجا رائعا في الفهم، فهم الدين وتجديده، في قالب ومنهج سليم ومصطلحات أصولية قديمة في شكلها جديدة في مضمونها مشحونة بقواعد ونفحات تربوية تعليمية لا يملك الوجدان والقلب والعقل إلا تقبلها.

وقد عمل بالفعل على جلب مواجيد القلب، ومنطق العقل لإصلاحهما وتأطيرهما في منهج وقالب ومنظومة واحدة.

لقد أبان الفكر الأصولي عبر تطوره هذا عن اقتداره على توجيه الأمة التوجيه السليم، سيما وأنه علم ينظم تفكير الإنسان، ويضبط عملية الاستنباط ويحميها من أن تتسرب إليها الأهواء والشهوات والرغبات والأفكار الهدامة الدخيلة، فجسد اجتهاده بحق فلسفة التشريع الإسلامي، القائمة على روح الدين ومقاصده.

الهوامش

[1]. في كلمة له منشورة بآخر كتاب الموطأ طبعة محمد فؤاد عبد الباقي.

[2] . أمجد الطرابلسي، نظرة تاريخية في حركة التأليف عند العرب في اللغة والأدب، الدار البيضاء: دار قرطبة للطباعة والنشر، ط5، (1406ﻫ/1986م).

[3]. فريد الأنصاري، المصطلح الأصولي عند الشاطبي، تقديم: الشاهد البوشيخي، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، ط1، (1424ﻫ/2004م)، ص124.

[4]. الإسنوي، التمهيد في تخريج الفروع على الأصول، تحقيق: محمد حسن هيتو، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1، 1400ﻫ، ص6.

[5]. انظر: محمد عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، تحقيق: فواز أحمد زمرلي، بيروت: دار الكتاب العربي، ط1، (1415ﻫ/1995م)، 1/25.

[6]. حمد بن الحسن بن العربيّ بن محمد الحجوي الثعالبي الجعفري الفاسي (المتوفى: 1376ﻫ)، الفكر السامي في تاريخ الفكر الإسلامي، بيروت: دار الكتب العلمية/لبنان، ط1، (1416ﻫ/1995م)، 1/525-526.

[7]. عبد الرحمن ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، بيروت: دار الجيل/لبنان، ص503.

[8]. الشافعي، الرسالة، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار الفكر، 1309ﻫ، ص29.

[9]. المرجع نفسه، ص106.

[10]. المرجع نفسه، ص239.

[11]. المرجع نفسه، ص217-477.

[12]. المرجع نفسه، ص350.

[13]. المرجع نفسه، ص500-547.

[14]. المرجع نفسه، ص26-28.

[15]. المصطلح الأصولي، م، س، ص128.

[16]. الرسالة، م، س، ص51-52.

[17]. المرجع نفسه، ص53-55.

[18]. المرجع نفسه، ص59-60.

[19]. قال ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف إنه اشتهر على ألسنة كثير من علماء العجم وفي كتبهم وهو لا أصل له ولم يوجد في شيء من كتب الحديث مسندا ولا غير مسند.

[20]. أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق: عبد الله دراز، بيروت: دار الكتب العلمية/لبنان، (1414ﻫ/1994م)، 3/207-208.

[21]. الرسالة، م، س، ص50.

[22]. الموافقات، م، س، 4/117 – 118.

[23]. الفكر السامي في تاريخ الفكر الإسلامي، م، س، 1/389.

[24]. انظر: عبد الوهاب أبو سلمان، الفكر الأصولي: دراسة تحليلية، جدة: دار الشروق، ط1، 1402ﻫ، ص99-100.

[25]. المصطلح الأصولي..، م، س، ص133.

[26]. الفكر السامي في تاريخ الفكر الإسلامي، م، س، 2/13.

[27]. المرجع نفسه، 1/400.

[28]. الفكر الأصولي، م، س، ص164.

[29]. انظر الفكر السامي في تاريخ الفكر الإسلامي، م، س، 2/60-61.

[30]. المرجع نفسه، 2/182.

[31]. انظر المقدمة، م، س، ص 515-516.

[32]. البرهان 1/77.

[33]. أبو حامد الغزالي، المستصفى، تحقيق: محمد سليمان الأشقر، بيروت: مؤسسة الرسالة/ لبنان، ط1، (1417ﻫ/1997م)، 1/20.

[34]. المرجع نفسه، 1/19-20.

[35]. المرجع نفسه، 1/21.

[36]. المرجع نفسه، 1/222-231-244-253/2/20.

[37]. المرجع نفسه، 1/107-108.

[38]. المرجع نفسه، 1/101.

[39]. المقدمة، م، س، 504.

[40]. الفكر السامي في تاريخ الفكر الإسلامي، م، س، 2/193.

[41]. محمد عبد الله عنان، نهاية الأندلس، مكتبة الخانجي للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1905، ص451.

[42]. لسان الدين بن الخطيب، الإحاطة في أخبار غرناطة، حقق نصه ووضع مقدمته وحواشيه: محمد عبد الله عنان، القاهرة: مطابع الشركة المصرية للطباعة و النشر”، ط2، (1393ﻫ/1973م)، 1/139.

[43]. المصطلح الأصولي، م، س، ص152.

[44]. الموافقات، م، س، 1/40.

[45]. الموافقات، م، س، 1/40.

[46]. المرجع نفسه، 1/31.

[47]. المرجع نفسه، 1/29.

[48]. المرجع نفسه، 1/38.

[49]. المقدمة، م، س، ص517.

[50]. المصطلح الأصولي، م، س، ص148.

[51]. مقدمة فتاوى الإمام الشاطبي، ص8.

[52]. أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، الدار العالمية للكتاب الإسلامي، ط2، (1412ﻫ/1992م)، ص313.

Science
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق