مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

تحقيقُ عبارةٍ للمُبَرِّدِ، مع بيان ما وقع فيها من اختلاف الضبط

قال أبو العباس المُبَرَِّدُ [285هـ] في كتاب الكامل 1/43: «وَليس لقِدَمِ العَهْدِ يُفَضَّلُ القائلُ، ولا لِحِدْثانِ عَهْدٍ يُهْتَضَمُ المُصِيبُ، ولكنْ يُعْطَى كُلٌّ مَا يستحقّ».

نبدأ ببيان ما وقع في كلام المبرد من اختلاف الضبط مع شرحه، لئلاّ يقع الشرحُ على ما اختُلف فيه وتداولته الناسُ على ذلك، وإنما وقع اختلاف الضبط في عبارة المبرد جميعها في قوله: «يُفَضَّلُ القائلُ»، كذا وقع قوله في أكثر تحقيقات الكتاب على كثرتها، ولم أجد من نبّه من مُحققيه على هذه المسألة، ومنهم زكي مبارك وأحمد شاكر في تحقيقهما المشترك، وإبراهيم الأبياري وأبو الفضل إبراهيم وأحمد الدالي وغيرهم. مع أن هذه العبارة للمبرد اشتهرت وطارت بها ألسنة الناس حتى لقد صارت قاعدة في هذا الباب.

وكذلك وردت في طبعة النهضة لشرح المرصفي على الكامل، وفي طبعة الفاروق الحديثة له أيضا، وهما طبعتان قديمتان أحسبهما المتداولتين في أيدي الناس.

وقد أشار الزبيدي في تاج العروس 1/93 طبعة الكويت، إلى أن أصل العبارة كذا: «يَفْضُلُ الفَائِلُ»، وذلك عندما شرح عبارة المبرد التي أوردها الفيروزآبادي في مقدمة القاموس المحيط، وقد وردت في طبعات القاموس كذا: «يُفَضَّلُ الفَائِلُ»، يفضّل، على ما شاع بين الناس، والفائل (بالفاء) على ما نبّه عليه الزبيدي كما تقدم. على أنه وردت في بعض طبعات القاموس القائل (بالقاف)، وفي ذلك وقع الخلاف بين الناس في ضبط هذه العبارة.

وقد اطلعتُ على بعض طبعات القاموس المتداولة مثل طبعة الهيئة المصرية وطبعة دار الحديث، وفيهما: «يُفَضَّلُ الفَائِلُ». أما طبعة مؤسسة الرسالة بتحقيق مكتبة التحقيق بها بإشراف محمد نعيم العرقسوسي، فقد وردت العبارة فيها كذا: «يُفَضِّلُ الفَائِلُ»، ببناء الفعل للمعلوم، والفائل بالفاء، ووضعوا في الحاشية: «قال رأيه: إذا أخطأ وضعف»، كذا بالقاف، مِن القول! وهو خطأ ظاهر لم يرد في جميع ما ذكرنا المصادر ونسخ القاموس.

أما أحمد فارس الشدياق في كتاب «الجاسوس  على القاموس» 115-116، فقد عرض لكلام الفيروزآبادي في مقدمة القاموس المحيط، ووقف على عبارة المبرد، فقال: «قال المُحشي: الفائل، فاعل يفضل بالفاء كما ضبطه شُراح الكامل وغيرهم من قولهم: فال رأيه يفيل، إذا أخطأ وضعف، وفيّل رأيه تفييلا، إذا قبحه وخطأه وضعفه، وهو فائل الرأي وفَيّله ككيّس. وضبطُ القرافي وغيره من الشراح وأرباب الحواشي له بالقاف من القول غلط واضح لا يلتفت إليه اهـ. قلت [الشدياق]: مثل هذا لا يسمى غلطا، فإن المعنى يصح عليه، بل هو أصح من الفائل، لأن الفائل صفة للرأي لا للإنسان، فهو على حد قولهم: أفلج الأسنان. ولأن المبرد لو أراد الطباق لقال المخطئ. ثم راجعت النسخة الناصرية والنسخة الهروية فوجدت فيهما القائل بالقاف، وكذلك وجدته في الكامل الذي طبع في الأستانه صفحة 18، وفي شرح المقامات للعلامة الشريشي صفحة 18 من الجزء الأول». انتهى كلام الشدياق، وسيظهر موقعه مما نحن فيه حينما أذكر الترجيح بين الروايات التي ورد بها كلام المبرد في آخر الكلام.

وقال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في تحقيقه لكتاب الإحكام للإمام القرافي الصفحة 9 الحاشية 1: «ووقع [أي الفائل] في طبعة «القاموس» السنة 1406 محرَّفاً إلى (القائل) بالقاف، وهو تحريف فاحش! ولكنه مأنوس!! ». اهـ

وأما عن شرح العبارة، فقد قال الزبيدي فيها في مقدمة تاج العروس لمّا عرض لشرح مقدمة صاحب القاموس لأنه استشهد بكلام المبرد: «(ليس لِقِدَم العَهْد) أي تقدُّمه ، والعَهد : الزمان (يَفْضُلُ) أي يزيد ويكْمُل (الفائل) بالفاء، وضبطه القرافي وغيره بالقاف كالأوّل، وهو غلطٌ، فَالَ رَأْيُه كباع فهو فائِلُه، أي فاسِدُه وضَعيفُه (ولا لِحدْثَانِه) هو كحِرْمان أي القرب، والضمير إلى العهد (يُهتَضَم) مبنيًّا للمجهول، أي يُظلَم ويُنتَقص، مِن هَضَمَه حَقَّه إذا نقصه (المُصِيب) ضد المخطئ (ولكن) الإنصاف والحق أن (يُعطى كلٌّ) من فائِل الرأي ومُصِيبه (ما يستحق) أي ما يستوجبه من القبول والردّ».اهـ

            ثم إني أذكر بعد ذلك في شرح كلام المبرد بعض ما لم يذكره الزبيدي، وإنما أخّرته لبعض التدبير الذي اقْتَضَاهُ إيرادُ الكلام على نحوٍ يَفي بالغرض من عمل هذه المقالة، وهو ذكرُ بعض الشواهد بعد ذكر ما قال الزبيدي فيها.

قوله: «يَفْضُلُ الفَائِلُ» فَضَلَ يَفْضُلُ، أي غلب وزاد، وفي لسان العرب، مادة (فضل): «ويُقال: فَضَلَ فلان على فلان، إذا غلب عليه. وفَضَلْتُ الرجلَ غلبتُه، وأنشد:

شِمَالُكَ تَفْضُلُ الأَيْمَانَ إِلَّا /// يَمِينَ أَبِيكَ، نَائِلُهَا غَزِيرُ».اهـ

وقوله: الفَائِلُ (بالفاء)، هو الأصل، وإن شاع القَائِلُ (بالقاف). والفائلُ، ضعيفُ الرأي وفاسدُه. قال في اللسان، مادة (فيل): «ورجل فِيلُ الرأي، أي ضعيف الرأي، قال الكُميت:

بَنِي رَبِّ الجَوَادِ فَلَا تَفِيلُوا /// فَمَا أَنْتُمْ، فَنَعْذِرَكُمْ، لِفِيلِ»

ويُقال: فَيَالَةُ الرأي، أي ضعفه وفساده. ومنه قول القائل، وقد أورده الجاحظ في البيان والتبيُّن 2/187:

خِلَافًا لِقَوْلِي مِنْ فَيَالَةِ رَأْيِهِ /// كَمَا قِيلَ قَبْلَ اليَوْمِ: خَالِفْ فَتُذْكَرَا

وفي إصلاح المنطق لابن السكيت 89: «ويُقال: رجل فِيلُ الرأي وفال الرأي وفَيِّلُ الرأي. ويُقال: ما كنت أحب أن أرى في رأيك فَيَالَةً».

ومن ذلك أيضا قولُ أُفْنُونٍ التغلبي في نونيّته التي أورَدها في المُفضليات:

فَالُوا عَلَيَّ وَلَمْ أَمْلِكْ فَيَالَتَهُمْ /// حَتَّى انْتَحَيْتُ عَلَى الأَرْسَاغِ وَالثُّنَنِ

أرادَ: أخطؤوا عليّ في رأيهم.

ومعنى كلام المُبرد جميعا، أنه متى أحسنَ المتكلم وأجاد، قُبِلَ كلامُه ولم يُلتفت إلى زمانه، فلا يُنْقِصُ المتأخرَ تأخُّرُ زمانه، ولا يزيدُ المتقدمَ تقدُّمُ زمانه، وإنما المُعَوَّلُ في كل ذلك على الإحسان والإجادة في القول. وهذا الحُكم قد قال به كثير من العلماء غير المبرد، فقد قال ابنُ قتيبة في مقدمة كتابه “الشعر والشعراء” قريبا من هذا، وهو قولُهُ: «ولم أسلُك، فيما ذكرتُه من شعر كل شاعر مُختارا له، سبيلَ مَنْ قلّد أو استحسن باستحسان غيره. ولا نظرت إلى المتقدم منهم بعين الجلالة لتقدمه، وإلى المتأخر منهم بعين الاحتقار لتأخره. بل نظرت بعين العدل على الفريقين، وأعطيت كُلًّا حظَّه، ووفّرت عليه حقَّه». اهـ

فليس لتقدم الزمان فضل، ولا لتأخره نقص، والأمر في هذا إنما هو كما قال ابنُ جني في الخصائص 1/24:  «فإن المعانيَ يَتَنَاهَبُها المُوَلَّدون كما يتناهبها المتقدمون».

ولعل ما قاله العلماء في هذا الشأن يَغْمِزُ ما ذُكر عن أبي عمرو بن العلاء من قولته المشهورة، فقد قال ابن رشيق في العمدة1/90: «كلُّ قديم من الشعراء فهو مُحدَث في زمانه بالإضافة إلى مَن كان قبله. وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: لقد أحسن هذا المولَّد، حتى لقد هممتُ أن آمر صبياننا بروايته، يعني بذلك شعر جرير والفرزدق، فجعله مولَّدًا بالإضافة إلى شِعر الجاهلية والمخضرَمين، وكان لا يعُدُّ الشعر إلا ما كان للمتقدمين، قال الأصمعي: جلستُ إليه ثماني حِجَجٍ فما سمعتُه يحتجُّ ببيت إسلامي».اهـ

وقد امتنعت العلماء من الاحتجاج بشعر المُولدين لفساد عربيتهم باختلاطهم بالأمم المجاورة وقربهم منها، فوضعوا لذلك قواعدَ وشروطًا سَلَكُوها في علم أصول النحو بعدُ، تجدها مقررة ومبسوطة في مظانها، ككتاب الاقتراح للسيوطي ومقدمة خزانة الأدب للبغدادي وغيرها، فلا نستطرد في ذكرها ههنا، لأن القصد من هذه المقالة أن نبين الخلاف في عبارة المبرد ونورد شرحا يسيرا عليها مع إيراد شواهدها ونظائرها من كلام العلماء الآخرين.

وبعدُ، فليس وجهُ الاختلاف في عبارة المبرد يَسْلُكُها في حَيِّزِ الخطإ وانتقاضِ المعنى، بل هي عبارة صحيحة المعنى سَلِيمَتُه، وإنما رجّحت ما ذكره الزبيدي لعلة المقابلة بين الفائل والمُصيب، إذ كان كلٌّ منهما يصلح أن يكون مقابلا للآخر من جهة تعلقه بالرأي. فلو أنه قال: «يُفَضَّلُ المُخْطِئُ»، لقد كان يَنْتَفِي بذلك وجهُ الاختلاف لإمكان مقابلة المخطئ بالمُصيب. فلمّا وردت العبارة كذا: «وَليس لقِدَمِ العَهْدِ يُفَضَّلُ القَائِلُ»، علمنا أَنْ لا وجهَ لها لاتساع مدلولها وإمكان أن يقول في الثانية أيضا: «ولا لِحِدْثانِ عَهْدٍ يُهْتَضَمُ القَائِلُ»، لأن لفظ القائل يصدُق على المخطئ والمصيب معا، ولأن تقييده بِقِدَمِ العهد أو حدثانه مَنَعَ انصرافَ الذهن في الأولى إلى أن يكون أراد المصيبَ، وفي الثانية إلى أن يكون أراد المخطئَ. فلما وصفه ارتفع ما يُوهِمُ مقابِلَه ومَا سِواه.

والله أعلم، والحمد لله أولا وآخرا، والصلاة والسلام على نبيه وآله.

المصادر والمراجع:

– الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، للإمام القرافي، اعتنى به عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب.

– إصلاح المنطق لابن السكيت، تحقيق عبد السلام هارون وأحمد شاكر، دار المعارف.

– البيان والتبيُّن، للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل.

– الجاسوس على القاموس، لأحمد فارس الشدياق، دار النوادر.

– تاج العروس من جواهر القاموس، للزبيدي، طبعة الكويت.

– الخصائص، لابن جني، تحقيق محمد علي النجار، دار الكتب المصرية.

– رغبة الآمل من كتاب الكامل، للمرصفي، مطبعة النهضة.

– الشعر والشعراء، لابن قتيبة، تحقيق أحمد شاكر، دار الحديث.

– العمدة، لابن رشيق القيرواني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل.

– الكامل في اللغة والأدب، للمبرد، تحقيق أحمد الدالي، مؤسسة الرسالة، مع تحقيقات أُخَرَ سبقت الإشارة إليها.

– لسان العرب، لابن منظور، دار صادر.

– المفضليات، للمفضل الضبي، تحقيق عبد السلام هارون وأحمد شاكر، دار المعارف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق