وحدة الإحياءدراسات عامة

تحريرُ السؤال فيما بين الأصول والمقاصدِ من اتصال أو انفصال

إن القراءة الابستمولوجية لظهور العلوم في المجال الإسلامي تكشف عن قاعدة سُننية في التاريخ العلمي مفادها استحالة إنشاء علم من العلوم وتأسيسه عبثاً من دون قصد، بل إن وجودها مقدّر على سبيل الاحتياج وأصل الاستناد.

وقد نتج عن البحث المتزايد بمبحث المقاصد في العقدين الأخيرين اختلاف الدارسين والعلماء في استقلال مقاصد الشريعة علماً منفرداً عن علم أصول الفقه، وعدّه علماً مستقلاً بمطالبه المختصة وقواعده المتفردة وغاياته المتميزة، فتنوعت الآراء بين مؤيد موافق ومعارض متحفظ. كما تثير مسألة انفصال مقاصد الشريعة عن علم أصول الفقه إشكالا معرفيا يرتبط بطبيعة هذا الانفصال أو الاستقلال المفترض، دفع البعض الى اعتقاد التصنيف العلمي عند بعض الأصوليين في مقاصد الشريعة على سبيل الانفراد بأنه إيذان بميلاد علم جديد منفصل ومستقل..

تروم هذه الورقة قراءة العلل المعتبرة في تأسيس العلوم، مستصحبة الأنموذج المقاصدي مع رصد إمكانيات استقلال المقاصد وفق البنية الابستمولوجية للعلم الإسلامي، وبما يسمح به الإمكان الفقهي والاجتهادي.

أولا: ملاحظ تأسيسية

1. ملحظ أول

يكتسي تحرير السؤال فيما بين علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة من اتصال أو انفصال أهمية عظمى لعلل ثلاث:

الأولى: أن تاريخية الوثاقة بين علم أصول الفقه والمقاصد، وتلازميتها المطلقة من حيث السياق التاريخي والمنهج التأسيسي والمعرفة العلمية يحول البحث في تفكيكها، بالنظر إلى تداخل البعدين الوظيفي والغائي لكل منهما.

الثانية: ومفادها لبس حاصل في النظر إلى سؤال الفصل أو الوصل بينهما، ذلك أن الفصل بين علم أصول الفقه والمقاصد فصل بين أبعاد روح تسري في أعضاء وأصول جسد، لا يسعف إنجاز المطلوب منهما على سبيل الانفصال، الأمر الذي تحاول الورقة التنبيه إليه.

الثالثة: وتخص قصدية تذليل سبل الاجتهاد؛ بمعنى أن مقاصد النظر الأصولي ابتداء تروم تحقيق اجتهاد فقهي يجيب عن أسئلة المكلف في مواقع الوجود، فهل مهمة الفصل تحقق ذلك المبتغى أم تعسره؟

2. ملحظ ثاني

إن القراءة الابستمولوجية لظهور العلوم في المجال الإسلامي تكشف عن قاعدة سُننية في التاريخ البشري؛ مفادها استحالة إنشاء علم من العلوم وتأسيسه عبثاً من دون قصد، بل إن وجودها مقدّر على سبيل الاحتياج وأصل الاستناد، وضرورة حصول دوافع معرفية أو علمية لإيجاده وابتكاره. لذلك، فمن غير الأجدى فصل النبش التاريخي لبعض العلوم الأصولية عن العلوم المنتجة، بالنظر إلى الترابط التاريخي الوثيق، بل الموضوعي الحاكم في هذا التعلُّق، فلا يمكن، مثلاً، الحديث عن الشروط التاريخية لنشوء علم أصول الفقه، دون إرجاع النظر في ذلك إلى بدايات التشكل الموضوعي لعلم الفقه، وهكذا مع علم اللغة وأصول اللغة، وعلم الحديث وأصول الحديث. ونفس السياق ينطبق على مدى إمكان تأسيس علم المقاصد. فكيف تبدو إشكالية تأسيس علم يختص بالمقاصد الشرعية وفق هذا التقدير؟

3. ملحظ ثالث

ثمة لبس آخر في فقه حقيقة الإشكال، ويتمثل في طبيعة دعوى الاستقلال وسؤال الانفصال، فهناك استقلال بالمعنى الفني المنهجي الذي يتخذ أسلوب الفصل الكلي في تحرير النظر، بينما الثاني يعتبر الاستقلال والانفصال معرفيا بحثيا ليس إلا. وبين الاثنين فرق واسع يعود على مقاصد النظر الأصولي إما بالاستحالة أو بالجواز.

لذلك نعتبر أن صلب هذا الإشكال سؤال إبستمولوجي ينبغي أن يبحث في حقيقة العلوم وقصديتها، وبدايات نشوئها في المجال الإسلامي حتى تتميز حقيقة النظر؛ لأن بحث الموضوع من جوانب انطباعية، وحيث رست العلوم في خواتيمها المعرفية الحالية تنتهي بالعقل الباحث إلى وجهة تنأى به عن النظر السليم.

ثانيا: مبدأ العلوم في المجال الإسلامي: من التأسيس إلى الاستقلال

إن معاد العلوم الإسلامية في أساسها إلى سد الحاجات التكليفية والوفاء بالضرورات الاجتماعية؛ المرتبطة بخدمة المصالح الإنسانية؛ وفق الحدود القانونية والرسوم الشرعية التي هيأت لها الشريعة خطوطها ومسالكها، لذلك فلا يجد الدارس لتاريخ العلوم الإسلامية قسما أو نوعا منها خارجا عن السياق المعرفي والتاريخي، الذي يجعله ناهضا على ثغر من ثغور تصريف الأحكام التكليفية، والدواعي الشرعية عند المسلم على سبيل الانفراد، أو عند الأمة على سبيل الاجتماع.

وحتى تتوضح صحة هذا الافتراض نرجِع النظر في بداية تشكل العلوم الأولية الكبرى في المجال الإسلامي وكيفية تطورها، ثم نعرج على ربطها بإشكال تأسيس “علم” المقاصد.

فالعلوم الخمسة الكبرى؛ علم التفسير، وعلم الحديث، وعلم اللغة، وعلم العقيدة، وعلم الفقه تعتبر في نظرنا أمهات العلوم وقواعدها التي تناسلت عنها باقي العلوم الأخرى.

فعلما التفسير والحديث فرضا وجودهما على وجه الضرورة باعتبارهما الأساس الموضوعي لإعمال العقل الإنساني، ومعرفة النصوص الشرعية، وإدراك مقاصد الخطاب الإلهي والنبوي؛ فهما ومعرفة وبيانا، فكان لزاما استحداث هذين العلمين، ومن دون مقدمات.

وعلم العقيدة، أيضا، لا يمكن إدراك الغاية من وجود الإنسان المسلم دون استثماره في بيان حقيقة التوحيد وفقه ضوابط التعبد.

وعلم اللغة هو الآخر باعتباره الآلية الوظيفية في فقه الخطاب الشرعي المستثمر للسان العربي، والموجه لأمة لا محيد لها عن الإحاطة بتلك الآلية وقواعدها وضوابطها، حتى يكون الخطاب الشرعي مفهوما مدرك الأبعاد والمقاصد.

ونفس الأمر بالنسبة لعلم الفقه، فهو الآخر علم مقصود بالوساطة؛ لأنه عبور التعبد والتمثل الواقعي للأحكام الشرعية الواردة في النصوص.

فهاته العلوم الخمسة المذكورة إنما دعت الضرورات التعبدية في مواقع الوجود البشري حضورها واستدعاء تأسيسها، وقد تم إنشاؤها على محامل الضرورات الشديدة في طلب غايات الإنسان الوجودية، وخدمة قضاياه الحياتية؛ أي إنَّ لها تمثُّلات يعيشها الاجتماع البشري، وتكونت عبر تاريخها المعرفي وهي تحمل في داخلها عوامل استمرارها وقوة بقائها، ويبدو ذلك في تفتق علوم أخرى خادمة لبقائها واستمرارها، وتلك مسألة لها أهميتها الخاصة في التكامل العلمي والمعرفي “الإبستمولوجي” للعلوم الإسلامية.

بناء على هذا المدخل التاريخي السياقي لنشأة العلوم الإسلامية، وحتى نجعل إشكال الحديث عن مدى استقلال مقاصد الشريعة في سياقه المعرفي، أرى من الضروري الوقوف عند بعض القضايا التاريخية التعليلية المسهمة في فقه هذا التطور. فالدارس لتاريخ العلوم الإسلامية منذ نشأتها ومسالك تطورها تستوقفه ثلاث ميزات خاصة:

الأولى؛ وهي أن غالب هذه العلوم تفتقت بدايتها في نسق عملي وظيفي في مواقع الوجود، بعيداً عن التجريد والنظر، كعلوم الفقه واللغة والعقيدة والتفسير والحديث؛ أي إنها علوم استصحبت بنيتها مع تفاعلات الإنسان والكون.

الثانية؛ أن هذه العلوم كلها ما إن تطور بها الزمن، واشتدت بها أحوال الإنسان، حتى أنجبت من رحمها علوماً تبعية لها، وملازمة لقضاياها المعرفية ولصيرورتها التاريخية، كأصول الفقه وأصول اللغة، وأصول الحديث، إلخ؛ لأجل تصويب أخطاء علوم الفقه واللغة والحديث… وتسوية مسارها.

الثالثة؛ ومفادها أن هذه العلوم عرفت تراجعاً بين الفينة والأخرى، وأبعدتها العوامل الناشئة عن غلبة الزمن وقهر التطور عن هذه المقاصد والغايات، التي لأجلها أنشئت، وقام عمرانها.

إنّ هذه الملاحظ تثير فضولنا للبحث في أسئلة متعددة، منها سؤال الدواعي الحقيقة لولادة تلك العلوم الجديدة، والعلل المؤثرة في ذلك، ومنتهى بعدها الإشكالي من حيث التأسيس والتقصيد، وما إذا كان لعلل حضورها تفسيرات تنسجم مع حقائقها الأولى ومبادئها الإنشائية؟ وسنجعل علاقة علم أصول الفقه بمقاصد الشريعة أنمودجا معرفيا لهذا الإشكال في هذه الورقة.

ثالثا: في مفهوم المقاصد

الغرض من بحث مفهوم المقاصد هو رصد ذلك التطور في المفهوم لمعرفة التغييرات الخاصة والاختلافات الواردة في المفهوم، وأثر ذلك في علل الدعوة إلى استقلال مطلب المقاصد بعلميتها.

اصطلاحاً: لم يتعرض العلماء السابقون لتعريف المقاصد، وإن بحثوها وتناولوها بالدراسة والتحليل[1]، وربما يرجع ذلك إلى تعارفهم على معناها تداولاً بينهم. وقد نصادف في كتاباتهم بعض الإشارات الموحية إلى معنى المقاصد في ارتباطها بالمصالح، مثل قول الغزالي: “مقصود الشارع من الخلق خمسة: هو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما تضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة[2].” وذكر الآمدي أن المقصود من تشريع الحكم: إما جلب مصلحة، أو دفع مفسدة، أو مجموع الأمرين[3].

والإمام الشاطبي “شيخ المقاصد” نفسه، الذي أفرد لها كتاباً خاصاً ضمن موافقاته، لم يضع لها تعريفاً محدداً، موجزاً إلا ما كان من تعريفه للمصالح؛ لارتباطها بها[4].

وفي الآونة الأخيرة، لما بدأت أهمية الموضوع تبرز في الدراسات العلمية الفقهية والأصولية، ظهرت معها تعريفات للمقاصد.

فحددها الإمام الطاهر بن عاشور بقوله: “مقاصد التشريع العامة هي: المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة، وغاياتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا، أيضاً، معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الحكم، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة[5]“. أما علال الفاسي فقال: مقاصد الشريعة هي “الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها[6].”

ويقسم يوسف العالم المقاصد إلى قسمين: “مقاصد الخالق من الخلق، ومقاصده من التشريع، أما مقاصده من الخلق فتنحصر في أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، كما دل على ذلك قوله تعالى﴿وما خلقت الجن والاِنس إِلاَّ ليعبدون﴾ (الذاريات: 56). والثاني: مقاصد الشارع من التشريع، ويعني به الغاية التي يرمي إليها التشريع، والأسرار التي وضعها الشارع الحكيم عند كل حكم من الأحكام[7].”

ومن المعاصرين المهتمين بعلم المقاصد، عرفها أحمد الريسوني بأنها “الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد[8]“. وقد اختار عبد الرحمن إبراهيم الكيلاني أن يعرفها بـ”المعاني التي اتجهت إرادة الشارع إلى تحقيقها عن طريق أحكامه[9]“. وعلى الجملة فالمقاصد الشرعية هي الغايات والمعاني التي يهدف الشارع إلى تحقيقها من تشريع الأحكام لمصلحة الإنسان.

 وانطلاقاً من هذه التعريفات والتحديدات المختلفة، يمكن أن نستخلص الملاحظات[10] الآتية:

 أ. أن المقاصد تطلق على المعاني والحكم والأسرار التي أودعها الشارع في أحكام شريعته.

 ب. أن المقاصد قد تعني الالتفات إلى الغايات الكبرى التي جاءت من أجلها الشريعة.

 ج. أن المقاصد يقصد بها، أيضاً، المصالح الكبرى التي يهدف الشارع لحفظها، ودرج علماء الأصول على وصفها بالكليات؛ أي الضروريات الخمس.

 د. أن المقاصد الشرعية أنواع:

ـ مقاصد غائية كبرى: وهي التوحيد والعبودية لله تعالى..

ـ مقاصد عامة كلية: وهي المعروفة بالكليات الخمس..

ـ مقاصد خاصة: وهي المقاصد الخاصة بكل باب من أبواب الفقه..

ـ مقاصد فرعية جزئية: وهي الأسرار والحكم الموضوعة في كل حكم من أحكام الشريعة، أو ما يسمى بالعلل.

ارتباطا بهذا البيان المفهومي للمقاصد يتأكد أن النضج العلمي للمقاصد إنما جاء متأخرا، وذلك لا ينم عن استقلال حقيقي على مستوى البحث والدراسة بله مستوى المنهج والوظيفة. فهل هذا التأخر في البروز لمطلب المقاصد يؤثر في علل دعوى استقلالها عن أصول الفقه؟

رابعا: في علاقة المقاصد بالأصول: قراءة تاريخية

تربط المقاصد بعلم أصول الفقه عرى علمية وثيقة مبدؤها تاريخي، ووسيطها علمي، ومنتهاها منهجي، ولا يستقيم في رأيي الجدل في مسألة تخلق أصول الفقه في رحم الاجتهادات الفقهية الأولى على زمن الفقه النبوي[11]، غير أن تعميره علما مشتد العود قائم الأركان لم يكتب له إلا في أزمنة متأخرة عن ذلك، الأمر الذي يدعو ضرورة إلى الاستفهام حول دواعي البحث في هذا العلم، ومسوغاتها وإمكانات استمرارها عبر تاريخ العلمين.

وإن تعددت دواعي ظهور علم أصول الفقه من علمية ومنهجية وسياقية، فإن أهم داع ضروري هو ضبط النظر الفقهي وفق  البوصلة العلمية الموكولة له ابتداء، إما ضبط في الاتجاه الموضوعي المتعلق بالتمثل العلمي السليم لنصوص الوحي تعبدا واستخلافا، أو ضبط في الاتجاه المسلكي المرسوم سليقة وتمثلا في الاجتهاد والنظر، فتم البحث في التأسيس لقواعد علمية وضوابط أصولية يتوسل بها في إصلاح وضبط الاجتهاد الفقهي، حتى يعود إلى قوته، وهو ما بدأ ظهوره مع علم أصول الفقه على اجتهاد الشافعي..

 وفي هذا السياق يقول ابن خلدون: “واعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة، وكان السلف في غنية عنه بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من الملكة اللسانية، […] فلما انقرض السلف وذهب الصدر الأول وانقلبت العلوم كلها صناعة، […] احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلة، فكتبوها فنا قائما برأسه سموه أصول الفقه[12]“، وبذلك يمكن القول: إن ظهور علم أصول الفقه كان ظهورا استثنائيا وظرفيا عكس أصله الفقه الذي بدأ وجوده ضروريا سياقيا. وذلك ما أشار إليه الشاطبي لما تنبه إلى بداية خروج علم أصول الفقه عن مهمته بقوله: “كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية، أو لا تكون عونا في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية، والذي يوضح ذلك أن هذا العلم لم يختص بإضافته إلى الفقه إلا لكونه مفيدا له، ومحققا للاجتهاد فيه فإذا لم يفد ذلك فليس بأصل له[13].”

يؤكد الظهور المتأخر للعلوم “الأصولية” أو التبعية الضابطة لمجالاتها الأصلية، أن العلوم الأولية عرفت قصوراً موضوعياً، وصرفاً واضحاً عن الأبعاد العلمية المرسومة سلفاً لها، وإلا ما الغاية من وجودها في صورة قواعد مبادئ، تظهر في غالبيتها وضعاً لحكم أو تقريراً لمسألة، أو تصحيحاً لقضية. “فكلما كانت العلوم أكثر تشعباً، والناظرون فيها مضطرون في الوقوف عليها إلى أمور لم يضطر إليها من تقدمهم، كانت الحاجة فيها إلى قوانين تحوط أذهانهم عند النظر فيها أكثر[14].” ومثال ذلك؛ علم أصول الفقه الذي أنشئ على صيغ دالة على هذا القانون؛ إذ ظهر في تشكيلات قواعده المؤكدة وعباراته الجازمة في البيان والتقرير.

خامسا: الفقه والأصول والمقاصد: في علاقة تداخل

يشكل الثلاثي المعرفي؛ الفقه والأصول والمقاصد نسقا علميا منسجما يصعب التفريق بينهما من حيث الاشتغال العملي والتطبيق التنزيلي؛ إذ يستحيل على العالم الفقيه المجتهد تخريج الأحكام الشرعية دون استيفائه الشرطي للمعارف الثلاث، أو افتقاره إلى إحداها، لذلك فإن الفصل التاريخي الذي حدث بين تلك المطالب العلمية إنما حصل على محامل الاتجاه الخطأ في اعتقادنا، وإن صح ذلك وكانت له مسوغاته، فإنها لا تعدو أن تكون مسوغات منهجية بحثية لا غير، وإن توفرت العناصر العلمية والموضوعية في تلك المسوغات فإن السياق التاريخي والتسويغ العلمي للنظر في مبحثي الأصول والمقاصد كانا على افتراض آلي منهجي تبعي وليس قصدي غائي أصلي، عكس الفقه الذي اعتبر علما مقصودا بالقصد الأصلي الشيء الذي زاد من تطوره وتشعبه.

من هنا نفترض في هذا المطلب عرض إشكال علمي لا يلتفت إليه، وهو ما الأولى وفق التقدير السابق هل البحث في مسألة اتصال أو انفصال المقاصد عن الأصول أم البحث في المسألة من جهة علاقتها بالفقه؟ على فرض سماح البنية المعرفية لعلم الفقه بذلك.

فكل الدراسات نحت منحى الاعتبار الأول وأهملت الاعتبار الثاني، في حين يبدو أن حقيقة السؤال ينبغي أن تولىّ شطر مدى إمكانية فصل المقاصد عن الفقه. لعلة جزئية المقاصد من الأصول، أو بالأحرى بسبب الاندماج الكلي بينهما. والأصول في أصلها مجرد خادمة للفقه فحسب، كما سلف وسيتوضح أكثر.

فإذا كانت عناصر العلم التقليدية الكبرى تتشخص في أربعة: الموضوع، والمنهج، والغاية، ثم الإنسان؛ فالمكلف وفق التقدير الفقهي يتشخص في الإنسان، وهو قطب الرحى في ذلك باعتباره المستفيد من تحصيل فوائد، والنص الشرعي هو الموضوع الأساسي حسب عناصر المسألة، والفقه هو المقصد والغاية منها، والأصول يمثل المنهج، كما أن المقاصد يمكن اعتبارها محددا فحسب في بلوغ تلك الغاية التي اعتبرت في الفقه، وتلك العناصر يجمعها علم كلي واحد يمكن تسميته بعلم تحكيم الشريعة.

فأصل النظر في هذه المباحث يعود إلى تحكيم شريعة الله في الأرض، وفي مواقع الوجود البشري، واضطر معه العلماء إلى معارف متعددة في بلوغ ذلك الأرب، حيث كان لزاما أن فقه نصوص الشريعة ونصوصها تحتاج إلى منهجية، والمنهجية تتطلب وضوحا في المقاصد والغايات. فكان الفقه ثم أصول الفقه ثم المقاصد.

سادسا: في الاتجاهات النظرية لاستقلال مقاصد الشريعة

لا شك أنه بعد ظهور كتاب الموافقات وما تلاه من مصنفات لها صلة بمقاصد الشريعة، زاد الاهتمام بعلم أصول الفقه وخصوصا مقاصد الشريعة بصورة ملفتة، وقد نتج عن هذا البحث المتزايد، اختلاف الدارسين والعلماء في استقلال مقاصد الشريعة علماً منفرداً عن علم أصول الفقه، وعدّه علماً مستقلاً بمباحثه الخاصة وقواعده المتفردة وغاياته المتميزة، فتنوعت الآراء بين مؤيد موافق ومعارض متحفظ. وسوف أعرض تلك الآراء مقتصراً على أهمها، من حيث قوتها وأهل الاختصاص فيها.

1. اتجاه الانفصال

يرى اتجاه الانفصال ضرورة الفصل بين علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة، وضرورة استقلال مبحث المقاصد الشرعية بعلم منفرد يبحث في عزلة عن علم أصول الفقه، وتعود انطلاقة هذا الاتجاه إلى الشيخ الطاهر بن عاشور في كتابه “مقاصد الشريعة”، الذي دعا فيه إلى إعادة صوغ مسائل أصول الفقه المتعارفة، ووضع أشرف معادن الفقه فيها، باستخلاص علم جديد هو علم مقاصد الشريعة، فهو يقول: “فنحن إذا أردنا أن ندوّن أصولاً قطعية للتفقه في الدين حق علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة، وأن نعيد ذوبها في بوتقة التدوين، ونعيّرها بمعيار النظر والنقد، فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غلثت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر، ثم نعيد صوغ ذلك العلم، ونسميه علم مقاصد  الشريعة، ونترك علم أصول الفقه على حاله[15].”

والذي يظهر أن داعي الشيخ ابن عاشور إلى هذا القول مردُّه إلى إرادة تدوين أصول قطعية للتفقه في الدين، لكون علم أصول الفقه بالصورة التي أضحى عليها لا يستجيب للمعاني القطعية في ذلك التفقه، من حيث ورود الخلاف على أغلب مسائله وإلحاق أجزاء مهمة منها بمراتب الظنيات.

2. اتجاه الاتصال

 أما اتجاه الاتصال فيتحفظ من تلك الدعوى الداعية إلى استقلال المقاصد الشرعية عن علم أصول الفقه. وتؤوب بوادر هذا الاتجاه إلى ما قاله المرحوم علال الفاسي وهو يتحدث عن المقاصد إذ قال: “المقاصد جزء من المصادر الأساسية للتشريع الإسلامي، والحكم الذي نأخذه بطريق المصلحة أو الاستحسان، أو غير ذلك من ضروب المآخذ الاجتهادية يعتبر حكماً شرعياً؛ أي خطاباً من الله متعلقاً بأفعال المكلفين؛ لأنه نتيجة الخطاب الشرعي الذي يتبين من تلك المقاصد[16].”

فنجد الفاسي في هذا النص يعتبر المقاصد جزء لا يتجزأ من الأصول المعتمدة في تخريج الأحكام الشرعية، وما استخلص منها بناء على المقاصد لا فرق بينه وبين غيرها من الأصول الأخرى.

كما أن من أبرز رواد هذا الاتجاه من المعاصرين جمال الدين عطية، الذي يدعو إلى عدم التسرع في فصل المقاصد الشرعية عن علم أصول الفقه، بل الأجدى في نظره هو إجراء محاولات علمية لتفعيل ذلك الترابط بين مقاصد الشريعة وعلم الأصول فهو يقول: “وأنا لست متأكداً من غلبة فائدة استقلال علم المقاصد؛ إذ يرتكز اهتمامي حالياً على ربطه بعلم الأصول، وإدخاله ضمن آليات الاستنباط؛ لأن هذا مكسب أساسي أخشى أن يتعطل إذا عجلنا باستقلاله عن علم أصول الفقه[17].”

بل عارض عطية رأي ابن عاشور بشكل صريح، معتبراً أن استقلال المقاصد بعلميتها سيكون له الأثر السلبي على كلا العلمين، فقال: “أما رأي ابن عاشور في تأسيس علم مستقل لمقاصد الشريعة وترك علم أصول الفقه على حاله، فأرى أنه ضار بكلا “العلمين”؛ إذ يجمّد الأصول على حالها ويحرمها من روح المقاصد، كما أنه يبعد المقاصد عن الدور الوظيفي الذي تقوم به حالياً، والذي ينبغي أن نحرص على تطويره[18].”

ويستوقفنا إلى جانب هذا الموقف رأي الشيخ ابن بيّة في كتابه “علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه”، الذي يرى فيه أن مقاصد الشريعة هي ذات أصول الفقه وعينه، فهو يقول في سياق حديثه عن تداخل مجموعة من المباحث بين المقاصد والأصول: “… مقصودنا من هذا هو الإشارة إلى أن المقاصد هي أصول الفقه بعينها، وهذه المناحي والمدارك أمثلة للوشائج الحميمة والتداخل والتواصل. ولو أمعنا النظر وأعملنا الفكر لأضفنا إليها غيرها[19].” وإنما تم استدعاء النظر والبحث في مقاصد الشريعة بوصفها جزءاً من أصول الفقه، لأجل الاستنجاد بها في مسائل الأصول، وهو ما عبّر عنه بقوله: “… إنه يستنجد بالمقاصد في أكثر من عشرين منحىً من مسائل الأصول[20].”

وبناء على التلازم العلمي والتكامل المنهجي بين علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة، رأى ابن بيّه أن علم أصول الفقه في حاجة ماسة إلى التفعيل، أكثر من إحلال علم مقاصد الشريعة محلّه، أو استحداثه علماً مستقلاً، منبهاً إلى ضرورة استثمار المقاصد والاستنجاد بها في ذلك التفعيل والاستثمار، فقال: “فإن المجالاتِ التي يجب الاستنجاد بالمقاصد فيها واستثمارها تتمثلُ أولاً: فِي تفعيل أصول الفقه على ضوء إعمال المقاصد في بنيتها؛ لتوسيعِ دائرة الاستحسان والاستصلاح، واستنباط الأقيسة ومراعاة المآلات والذرائع، إلى آخر ما أشرنا إليه…[21].”

وهذا الاتجاه يحتفظ لنفسه برأي عدم إقالة مقاصد الشريعة من حمى علم الأصول، ومن وظيفتها الأساسية المتمثلة في تفعيل أصول الفقه وتطوير آليات استثماره؛ لأنّ ذلك سيؤثر، لا محالة، على روحه التشريعية.

3. اتجاه الاستكمال

بين هذا الاتجاه والذي يسبقه ميثاق دقيق، حيث يقوم هذا الاتجاه في أساسه على اعتبار ضرورة التكامل المعرفي بين علم أصول الفقه ومبحث مقاصد الشريعة، وذلك بناء على جانبين في ذلك التكامل:

تكامل سياقي: ومفاده أن نشوء البحث في المقاصد الشرعية جاء وفق السياق التاريخي الذي ظهر فيه علم أصول الفقه؛ أي أنه لولا علم أصول الفقه لما عرفت مقاصد الشريعة وهو الذي فتح آفاق النظر فيها.

تكامل منهجي: ومعناه أن النظر الفقهي يتطلب إعمال قواعد علم أصول الفقه وأدلته، بما في ذلك قواعد وأدلة فقه المعاني والمقاصد.

تكامل علمي: ويقصد به أن البنية المعرفية لعلم أصول الفقه مرتبطة في أصل الابتداء على فقه المعاني والمقاصد، ويمكن القول إن علم أصول الفقه هو أساسا قواعد فقه المعاني والمقاصد الشرعية، ثم لأن المقاصد الشرعية تتحدد وتستثمر ويبنى عليها وفق مواقع الوجود التكليفي؛ أي أنه لا اعتبار لتلك المقاصد والمعاني إلا موجهة ومسترشد بها في تنزيل الأحكام؛ أي إن إمكانية تغييرها وتحقيقها مرتبط بتغير مقاصد المكلفين ونياتهم وحالاتهم ومآلاتهم في الواقع الإنساني.

لذلك، فإن هذه التمثلات التكاملية بين علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة يتعذر معها الفصل العلمي على سبيل الاستقلال، لما سينشأ عن ذلك من خلل في البنية الأصولية والمعرفية للاجتهاد الفقهي الذي يمثل القصد الأساس منهما على السواء.

ويمكن اعتبار رأي الشيخ أحمد الريسوني، أنموذج هذا الاتجاه الذي يتردد في منح الاستقلالية التامة لعلمية مقاصد الشريعة، حيث يقول: “هل سيفضي بنا التوسع في مباحث المقاصد إلى تحقيق ما دعا إليه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور من استخلاص مقاصد الدين وقطعياته، وتسمياتها باسم علم مقاصد الشريعة، أم أن المقاصد جزء لا ينبغي أن يتجزأ عن أصول الفقه، كما يرى عدد من الأصوليين المعاصرين؟[22]“، إلا أن الشيخ الريسوني بعدما احتار في إطلاق موقفه من خلال التساؤل حول علمية المقاصد واستقلالها، قيده بوصفه ركناً من علم أصول الفقه فقال: “فالمقاصد علم وركن من علم… والعبرة بالمسميات لا بالأسماء، وبالمقاصد لا بالوسائل[23].”

سابعا: استقلال المقاصد، بأي معنى؟

تثير مسألة انفصال مقاصد الشريعة عن علم أصول الفقه إشكالا علميا يرتبط بطبيعة هذا الانفصال أو الاستقلال المفترض؛ فقد يخيل إلى البعض أن التصنيف العلمي عند بعض الأصوليين في مقاصد الشريعة على سبيل الانفراد بأنه إيذان بميلاد علم جديد منفصل ومستقل، إلا أن الأمر في اعتقادنا غير ذلك؛ لأن البحث في جزء ما من علم ما لا يعني بالضرورة استقلال ما بعلم ما عن علم ما، فتصنيف كتب خاصة بالاجتهاد، مثلا، ككتاب الاجتهاد لأبي المعالي الجويني، ثم كتاب “الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض” للسيوطي، لا يعني أن الاجتهاد قد استقل علما وانفصل عن علم أصول الفقه، وكذا كتاب في التعليل للغزالي وابن قيم الجوزية لا يعني اعتبار مبحث التعليل أضحى علما خاصا منفصلا عن أصول الفقه.

فالعلوم قد تتجزأ فروعا ومباحث ويهتم العلماء بالجزئيات والأقسام على سبيل التحقيق وزيادة التدقيق في المسائل، في وثاقة دقيقة مع علومها الأصلية، وليس انفصالا عنها، وتلك مسارات العلوم عبر تاريخها.

لذلك، فإن مقاصد الشريعة التي أفردها العز بن عبد السلام والشاطبي وغيرهما بالتأليف لا يمثل ذلك دلالة على إمكانية استقلال المقاصد عن أصول الفقه من الناحية المنهجية والعلمية. وإن تم ذلك حقيقة وورودا من الناحية البحثية والتصنيفية.

أما منهجيا: فإن علم أصول الفقه في حقيقة جوهره قواعد فقه مقاصد الخطاب الإلهي المنصوصة وغير المنصوصة، وإدراك معانيه حتى تكون سهلة الاستثمار في واقع التكليف البشري، وكل ما أورده هؤلاء العلماء إنما فقه مقاصدي حصيلة إعمال قواعد وأدلة علم أصول الفقه.

وعلميا: وأنت تقرأ هذه الكتب المؤلفة في المقاصد الشرعية تلمس حضور علم أصول الفقه بالفعل والقوة، فمن أصول الأدلة كالكتاب والسنة والإجماع والقياس وغير ذلك، إلى أصول الأدلة الاجتهادية كالقياس والمصالح وغيرهما من قواعد ومبادئ دلالات وألفاظ، مما يؤكد أن تلك التصانيف إنما هي الترجمة الحقيقية لإعمال الأدلة وتصريفها وفق التمثل التكليفي.

وعليه، فإن الانفصال التاريخي الذي حصل بين خطاب المعرفة الأصولية والخطاب المقاصدي كان لاعتبارات معرفية فحسب، ولم يكن لها بعد منهجي أو علمي دعت ضرورتهما إلى ذلك الانفصال.

ثامنا: في موانع استقلال المقاصد

وإن بلغ البحث في مقاصد الشريعة مبلغ التصنيف المستقل والبحث المنفرد؛ فإن الدعوة إلى اعتبارها وتأسيسها علما جديدا مستقلا عن علم أصول الفقه تأتي في اعتقادي من عدم استصحاب الأسس المقصدية لنشوء علم أصول الفقه، والشروط التاريخية والعلمية للاستعانة به. ويتأكد هذا الأمر حينما يتم ربط هذه الدعوة بمقاصد التجديد الاجتماعي والحضاري في كيان الأمة، لذلك فإن النظر في هذا الاختيار العلمي ينبغي أن يحمل على السياق التاريخي الذي نشأت فيه تلك الدعوة.

ولابد من الإشارة هنا إلى أن ما حصل للمعرفة الأصولية من حيث العناية بها وإفرادها بالدراسة والبحث، هو ما يحصل في الآونة الأخيرة مع المعرفة المقاصدية؛ فأصول الفقه لم يدرس علماً مستقلاً تم تقعيده وإنشاؤه من فراغ، وإنما تخلق ونشأ في رحم الفقه، وكذا مقاصد الشريعة؛ إذ عاشت بدايتها الأولى في علم الفقه، إلا أن إيلاء علم أصول الفقه بالاهتمام، وعدّ مقاصد الشريعة فرعاً عنه، حال دون منح العناية الكافية نفسها لمبحث المقاصد؛ لأنّها كانت تشكل روحاً تسري في الآليات المنهجية المستثمرة، ومعنى مضمراً في الخطاب الفقهي.

لذلك، فإن تجربة الانبثاق العلمي لأصول الفقه، واستقلاله المعرفي من جوانب الدراسة العلمية والنظر العقلي، لا ينبغي أن يتكرر في نظري مع ما يراد الاصطلاح عليه “بعلم مقاصد الشريعة”، وذلك لأسباب[24] أذكرها على سبيل الإيجاز، وأهمها:

1. غياب الشرط الموضوعي

 ومفاده أنه لا يتوافر ذلك الشرط الداعي إلى ضرورة إنشاء علم جديد؛ لأنه بقراءتنا العلمية للبناء السياقي لنشأة العلوم، نلمس انتفاءً بيّناً لإشكال مظنة الدعوة الضرورية لتأسيس العلوم، أو لخلق علم جديد اسمه “علم المقاصد”، على سبيل الاستقلال عن علم أصول الفقه؛ لأنّ علم أصول الفقه، المؤسس سلفاً مصححاً ومنقذاً للمعرفة الفقهية، ارتبط بناؤه على إشكال ضبط الاجتهاد الفقهي وفق مساره المرسوم، فكان لشرط الضبط ورود في حالته العلمية، لكن يفتقر علم المقاصد إلى هذا الشرط؛ لأن علم أصول الفقه لا يستصحب في ذاته إشكالاً معرفياً؛ لأنّه متمدد الأبعاد في النظر، وإنما الإشكال حسب اعتقادنا في تفعيل قواعده، وهو رأي الأستاذ ابن بيّه، ثم كذلك في الغياب النظري لإعمالها واستثمارها، ومبادئ المقاصد جزء من ذلك.

2. غياب الشرط القصدي

ويعني ذلك أن القصد المتعين من تأسيس علم المقاصد لا ورود له، بل إن الوضع العلمي المتداخل بين علم الفقه والأصول والمقاصد سيعود على قصد الاجتهاد والتنزيل الفقهيين بالضرر، لذلك لا ينبغي إغفال الانتساب التاريخي والانصهار العلمي بين علمي أصول الفقه و”علم مقاصد الشريعة” مع علم الفقه، ولعل الولادة “القسرية” لعلم أصول الفقه، وما آلت إليه من انزياحات علمية على مستوى النظر، من تجريدية علم الأصول وتخلفه عن الخدمة القويمة للفقه، يعسّر من مسألة إنجاب علم جديد على مستوى الفعل في ثوب المقاصد، بل ستكون ولادته “قيصرية” تضر مبدئياً بصحة علم الفقه أولاً، وبعلم أصوله ثانياً، الأمر الذي يقلل في اعتقادنا من جدوى ذلك الاستقلال بناء على هذا النزيف العلمي المتسلسل.

3. غياب الشرط المنهجي

والمقصود بذلك الغياب أنه من باب الاستحالة الاستناد الى علم المقاصد بمفرده في الاجتهاد الفقهي، ما يعني أن صلب الإشكال الذي تفتقت عنه دعاوى تأسيس علم جديد هو علم المقاصد تتركز في تطوير الاجتهاد الفقهي، حتى يساير واقع العالم وضرورات العصر. ويبدو أن هذا الشرط يختفي في هذا الشأن؛ لأنّه يستحيل النظر الفقهي بالاعتماد المنفرد على المقاصد، بل لابدّ من المرور بإعمال (قواعد) و(أصول) الفقه، والمقاصد جزء لا يتجزأ منه كما سلف. فالعلة، إذن، من إنشاء علم جديد مستقل كعلم المقاصد هو أن علم أصول الفقه لم يعد يفي بالحاجات العلمية[25]، التي أسس من أجلها سلفاً.

 وعليه ينبغي استبداله وإحلال علم جديد محلّه هو علم المقاصد، في حين أن العلوم تعلن عن ظهورها حالة وجود فراغ حقيقي، إما لأجل حاجة ضرورية لا بديل لها من قبل، وإما بعد استفراغ الوسع في استثمار العلم القائم، مع عدم القدرة على سداد الحاجة، ولا يمكن استدراكها إلا باستحداث علم جديد. إلا أنه لا يوجد مثل هذا الأمر في قانون التاريخ السياقي للعلوم حتى يحدث علم المقاصد علماً جديداً إما بديلاً أو مستقلاً؛ لأنّ حقيقة المسألة لا تنحصر في علم أصول الفقه بقدر ما تتمثل في طرق تفعيله، واستثمار جميع قواعده، بما في ذلك قواعد النظر المقصدي.

4. غياب الشرط المنعي

 والمراد بذلك أنه لا يمنع من تفريع علوم أخرى بنفس الدواعي وإن لم تستند إلى القصود العلمية الأساسية في تطوير العلوم ومنفعتها؛ بمعنى أن الدعوة إلى إنشاء علم جديد، إما بديل أو مستحدث، دون استفراغ الوسع الاجتهادي، وإمعان النظر العلمي في العلم القائم على سبيل الاستثمار والتوظيف والتفعيل، سيدفع بالتأكيد إلى التفكير في إنشاء علوم أخرى بالمسوغات نفسها والحيثيات المذكورة سلفاً، وإن لم تدع الضرورات العلمية إليها، سواء كانت علمية أو تاريخية أو سياقية، الأمر الذي سيؤثر في فاعلية العلوم وقدرتها على أداء مهمتها التي لأجلها أنشئت، لذلك فإن خصوصية التحفظ من منطق التفكير التأسيسي للعلوم تضمر في الغياب من جانب الوجود.

كانت هذه أهم الشروط العلمية في نظرنا التي تفتقر إليها دعاوى إنشاء علم جديد هو علم المقاصد، أو جعله بديلاً عن علم أصول الفقه.

وشخصيا أميل إلى رأي العلامة علال الفاسي الموحي بتعذر ذلك؛ لأن التفريق بينهما سيزيد من أزمة الفكر الأصولي، ثم لأن “المقاصد جزء من المصادر الأساسية للتشريع الإسلامي، والحكم الذي نأخذه بطريق المصلحة أو الاستحسان، أو غير ذلك من ضروب المآخذ الاجتهادية يعتبر حكماً شرعياً؛ أي خطاباً من الله متعلقاً بأفعال المكلفين؛ لأنه نتيجة الخطاب الشرعي الذي يتبين من تلك المقاصد[26]“، كما أن “تجديد علم الأصول يقتضي منا ألا ننظر إلى المقاصد تلك النظرة التي تفصلها عن هذا العلم، وإن اتخذ وسيلة إليها، فكل الأدلة النصية والعقلية تتوخى المقاصد وتهدف إليها، وما تغير الأحكام بتغير الأعراف والزمان والمكان إلا مظهر من مظاهر دوران هذه الأدلة في نطاق المقاصد الشرعية[27].”

لذلك فلا حاجة إلى استقلال أحدهما عن الآخر؛ ما دام الفكر المقصدي قد تخلق في رحم علم الأصول، ولا يمكن له أن يستقيم إلا داخله وبالموازاةِ معه.

وبناء على ما تم بيانه في الصفحات السابقة، فإنه لا ينبغي أن يفهم من كلامنا على، سبيل القطع، ميلنا إلى تجنب تحقيق النظر في المباحث المقاصدية في استقلال عن علم أصول الفقه، فذلك أمر قد حصل بإفراده بالبحث مع بعض الأصوليين كالعز بن عبد السلام والشاطبي، وإنما محل خلافنا مع الداعين إلى استقلال المقاصد هو البحث في المقاصد بوصفها علماً خاصاً مستقلاً، سواء من جانب النظر أو من جانب الاجتهاد في التحقيق الفقهي والواقعي، وهو ما أشير إليه في كلام الشيخ الريسوني بقوله: “فالمقاصد علم وركن من علم[28]” فهو علم من حيث البحث والدراسة في النظر على سبيل المجاز، لكنه ركن من علم من حيث الاجتهاد والتنزيل في الواقع على سبيل الاختصاص والخدمة.

على سبيل الختم

إن السؤال المعرفي الذي ينبغي التفكير فيه خلال هذه المرحلة من مراحل تاريخ علوم الشريعة وفي هذا الزمن الذي يشهد فيه الاجتهاد الفقهي انحسارا نسبيا على صعيد تصريف الأحكام و تنزيلها، هو كيف نعيد الوصل بين مقاصد الشريعة بأصول الفقه من جهة، وبينها وبين الفقه من جهة ثانية؟ لأن البحث العلمي المعاصر الذي بدأت تتجه مساراته نحو القضايا المقاصدية تثير سؤال الجدوى والغاية، وإعادة سؤال القصد الابستمولوجي؛ لأن تحديد المقاصد وتوجيهها وبيانها وكشفها؛ سواء كانت كلية؛ أو جزئية، أو خاصة، أو عامة لا يغني ذلك كله عن إعمال قواعد الأصول ومبادئه القطعية في تخريج الأحكام الشرعية من جهة، وتكييفها شرعيا مع مواقع الوجود لدى المكلف من جهة ثانية.

الهوامش

[1]. انظر: الخادمي نور الدين بن مختار، الاجتهاد المقاصدي، حجيته، ضوابطه، مجالاته، الدوحة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، كتاب الأمة، ع65، س 18، 1419ﻫ، ص47.

[2]. الغزالي أبو حامد محمد بن أحمد، المستصفى في علم الأصول، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، (1413ﻫ/1993م)، ص417.

[3]. الآمدي علي بن محمد، الإحكام في أصول الأحكام، تعليق: عبد الرزاق عفيفي، بيروت: المكتب الإسلامي، ط2، 1406ﻫ، ج3، ص271.

[4]. ينظر تعريف المصالح عند الشاطبي في الموافقات، بيروت: دار الكتب العلمية/لبنان، المجلد الأول، ج2، ص20.

[5]. ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية،  تونس: الشركة التونسية للتوزيع، 1988، ص154.

[6]. علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، الدار البيضاء: نشر مكتبة الوحدة العربية، 1963م، ص3.

[7]. العالم يوسف حامد، المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، هيرندن: المعهد العلمي للفكر الإسلامي، ط2، (1414ﻫ/1993م)، ص85.

[8]. أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، هيرندن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي والدار البيضاء: دار الأمان، ط1، (1411ﻫ/1991م)، ص7.

[9]. عبد الرحمن إبراهيم الكيلاني، قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، عرضًا ودراسة وتحليلاً، دمشق: دار الفكر، ط1، (1421ﻫ/2000م)، ص47.

[10]. انظر: الحسان شهيد، الخطاب النقدي الأصولي، من تطبيقات الشاكبي إلى التجديد المعاصر، المهد العالمي للفكر الإسلامي، هرندن، فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ط1، (1433ﻫ/2012م)، ص56.

 [11]. انظر كلام الزركشي في هذا الشأن، البحر المحيط في أصول الفقه، تحقيق محمد محمد تامر، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، (1421ﻫ/2000م)، ص3.

[12] المقدمة، م، س، ص503-504.

[13] الشاطبي أبو إسحاق، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق عبد الله دراز، بيروت، لبنان: دار الكتب العلمية، (1414ﻫ/1994م) ص29

[14]. ابن رشد محمد أبو الوليد، الضروري في أصول الفقه، تحقيق: جمال الدين العلوي، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، 1994، ص35.

[15]. الطاهر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، م، س، ص111.

[16]. الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، م، س، ص41.

[17]. عبد الجبار الرفاعي، )منسق الحوارات(، مقاصد الشريعة، آفاق التجديد، دمشق: دار الفكر، وبيروت: دار الفكر المعاصر، ط1، (1422ﻫ/2002م)، ص229.

[18]. جمال الدين عطية، نحو تفعيل مقاصد الشريعة، هيرندن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط2، 1429ﻫ/2008م، ص267.

[19]. عبد الله ابن بيه، علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه، لندن: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة، ط1، 2006م، ص131.

[20]. المرجع نفسه، ص99.

[21]. المرجع نفسه، ص137.

[22]. أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، المنصورة: دار الكلمة، ط1، (1418ﻫ/1997م)، ص307-308.

[23]. المرجع نفسه، ص308.

[24]. انظر: الحسان شهيد، نشأة العوم الإسلامية وتطورها، إشكال تأسيس علم مقاصد الشريعة أنموذجا، مجلة إسلامية المعرفة، عدد 65.

[25]. ابن عاشور. مقاصد الشريعة الإسلامية، م، س، ص111.

[26]. علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، م، س، ص41.

[27]. الدسوقي، نحو منهج جديد لدراسة علم أصول الفقه، مجلة إسلامية المعرفة، م، س، ص132-133.

[28]. الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، م، س، ص307.

Science

د. الحسان شهيد

أستاذ التعليم العالي، كلية أصول الدين وحوار الحضارات، تطوان-المغرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق