مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينقراءة في كتاب

تاريخ دَارَيَّا ومن نزل بها من الصحابة وتابعي التابعين للقاضي عبدالجبار بن عبدالله الخَوْلَانِي الدَّارَانِيّ (كان حيا 365هـ)

تشرفت كثير من الحواضر في صدر الإسلام بنزول جماعة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين قدموا إليها مع طلائع جيش الفاتحين تحدوهم رغبة نشر دين الله في الآفاق.

 وقد استقر جماعة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في حواضر وقرى الشام، باذلين وقتهم لتعليم الناس دينهم القويم، ولتجلية معالم رسالتهم الخالدة، متفانين في نشر ألوية الهدى حيثما حلوا وارتحلوا، حرصين كل الحرص أن تظل مشاعل النور متوقدة بين أيديهم، ومجتهدين في تسليمها للخلف ومن سار في درب الهداية والنور.

وقد اعتنى قديما العلماء عامة والمحدثون خاصة باقتفاء أثر الصحابة رضي الله عنهم، وسجلوا رحلاتهم وتنقلاتهم في أطراف البلاد شرقا وغربا، منوهين بجليل مناقبهم مستعرضين جملة وفيرة من المرويات التي تلقوها غضة طرية من فم النبي عليه الصلاة والسلام. ومن أهم من طرق هذا الباب من التأليف، وسار على سنن المحدثين القاضي عبدالجبار بن عبدالله الخولاني الداراني (كان حيا 365هـ) الذي وضع جزءا حافلا بالمرويات عن الصحابة والتابعين وتابعهم، وهو المشهور بـ (تاريخ دارَيَّا ومن نزل بها من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين).

نال هذا الكتاب اهتمامًا كبيرًا من قبل العلماء الذين حظي بعضهم بسماعه من مؤلفه بداريا سنة 365هـ، وتتابع آخرون في إسماعه وروايته. وكتاب (تاريخ دَارَيَّا) المتداول اليوم وصلنا برواية جماعة من كبار الأعلام، وهم:

  • علي بن محمد بن طوق الخَوْلاني (ت 415هـ).
  • عبدالعزيز بن أحمد الكتاني (ت 466هـ).
  • هبة الله بن أحمد ابن الأكفاني (ت 524هـ).
  • علي بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر الدمشقي (ت 571هـ).

ولم يقصد المؤلف عبدالجبار الخولاني الداراني إلى وضع تاريخ حضاري مفصل لبلدته دَارَيَّا، بل حرص كل الحرص على إسناد المرويات الحديثية إلى جماعة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ممن شرفوا بالنزول والإقامة في تلك البلدة الطيبة، وما داريا هذه إلا تلك القرية المشهورة من غُوطَة دمشق، سبق أن سكنها على توالي السنين فضلاء السلف وجلة العلماء الخلف، وقد اشتهر العلم بين أهلها حتى قيل: (من أراد العلم فلينزل بين عَنْس وخَوْلَان بدَارَيَّا)[1].

لا نجد بين يدي هذا الكتاب مقدمة مفصلة لمضمون الكتاب على عادة كثير من المؤلفين، أو سردا يُبَيَّنُ من خلاله منهج المؤلف، لكن القاضي عبدالجبار الداراني أجمل ذلك كله إجمالا في العبارات التالية:

(ذكر من نزل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين وتابعي التابعين، وأهل العلم على طبقاتهم وأزمانهم، وذكر وفاتهم، ومن أعقب منهم، ومن لم يعقب، إلى وقتنا هذا)[2].

ومن خلال تأمل مجموع تراجم الكتاب، وإمعان النظر في بنائها، نجد المؤلف في الغالب رسم لنفسه خطة اعتمدها في تراجم كتابه، فكان يبدأ بذكر اسم المترجم، ويدرج تحته ترجمته، تتضمن مولده ووفاته، ومن روى عنه، ثم يسرد نخبة من أحاديثه ومروياته.

 وعلى شرط المؤلف فإن هذه الأحاديث يرويها بسنده إلى المترجم. وإذا كانت لصاحب الترجمة روايات كثيرة فإن المؤلف يعمد في الغالب إلى انتخاب بعضها، وأحيانا لا يذكر منها شيئا كما في ترجمة الصحابي بلال بن رباح رضي الله عنه.

وكان المؤلف عبدالجبار الخولاني يميل في الغالب الأعم إلى الإيجاز واختيار أخبار من يترجم لهم، وكأنه عَنِيَ بالنادر العزيز من روايات المترجم لهم، أما المشهور المستفيض فقلما يعرج عليه ويذكره، وهذا ما نلمسه في العبارات التي كان يختم بها بعض التراجم، مثل قوله في خاتمة ترجمة بلال بن رباح رضي الله عنه:

(لو ذهبنا إلى ذكر أحاديثهم (التابعين)، وما رووا عنه لاتَّسَع الكتاب وطال به الشرح، ولكنَّا اختصرنا هذا الكلام لشهرة ذلك، وصحة الرواية عنه عند أهل الرواية تغني عن ذكره)[3].

الكتاب يعكس بصدق سعة ثقافة المؤلف، والعلم الذي كان يتقن سلوك دروبه، والفن الذي أبدى الإجادة التامة في الحديث عنه، هو علم الرواة، والرجال، والأسانيد، والتاريخ…

ولم يكن عبدالجبار الخولاني يشحن كتابه بالمرويات شحنا، ويستعرض متونها استعراضا، (وقد بلغ عدد النصوص المسندة في كتابه 147 نصا مسندا)، بل كان يُمَحِّصُ تلك الروايات ويعمل نظره النقدي فيها، وهو العالم البصير بعِلْمَي الرواية والدراية، فكان ينقد حيث يجد للنقد لزوما مهما بلغت مكانة المنقود. روى عن شيوخه حديثا عن سليمان بن داود الخولاني في الصدقات ثم عقب عليه بقوله:

(أقول: إن هذا غلط من الحكم بن موسى، وقد قال أحمد بن حنبل: (إن الذي حدَّثَ بحديث الصدقات هو سليمان بن داود الجزري) وهذا غلط أيضا، والذي صح عندنا أن الذي روى حديث الصدقات عن الزهري هو سليمان بن أرقم. هكذا هو مكتوب في أصل يحيى بن حمزة (سليمان بن أرقم) هو الصواب)[4].

ومجموع من ترجم لهم عبدالجبار الخولاني في كتابه، يبلغ سبعة وأربعين اسمًا من أهل دَارَيّا، وتتوزع طبقاتهم ما بين: الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين، بعض العلماء..

 وممن شَرُفَت دَارَيَّا بالإقامة في أرضها واتخاذها دارًا وقرارًا، جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم من أهل العلم، ويَحْسُنُ في هذا السياق التذكير بصفوة الصحابة والتابعين الذين عاشوا في أكناف هذه القرية المباركة ونُسِبُوا إليها وهم:

الصحابة:

  1. بلال بن رَبَاح
  2. أبو راشد الخَوْلَاني
  3. أسود بن أَصْرَم.
  4. قيس بن عَبَايَة بن عُبَيْد.
  5. أبو ثعلبة الخُشَنِي.
  6. هند الخولانية امرأة بلال.
  7. أم مسلم الخولانية

التابعون:

  1. أبو مسلم الخولاني.
  2. عمرو بن جَزْء الخولاني.
  3. أبو إدريس الخولاني.
  4. عمرو بن الأسود العَنْسِي
  5. عمرو بن عبد الخولاني
  6. أبو قِلَابة الجَرْمِي
  7. عُمَيْر بن هانئ العَنْسِي
  8. سُليمان بن حَبيب المُحَاربي
  9. أبو كبير المحاربي
  10. عثمان بن عبد الأعلى بن سُرَاقة الأَزْدِي.
  11. عبدالرحمن بن أبي بكر العنسي.
  12. مُعاوية بن طُوَيْع.

إن كتاب (تاريخ دَارَيَّا ومن نزل بها من الصحابة وتابعي التابعين) استرعى اهتمام العلماء والدارسين قديما وحديثا، وله مزيتان أساسيتان يَحْسُنُ الإشارة إليهما وهما:

  • تفرد الكتاب على صغر حجمه وإيجاز تراجمه بروايات ومعلومات وأخبار لا نجدها في التواريخ البلدانية الكبرى؛ مثل: تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر، فبعض أخبار التابعي أبي قِلابة الجَرْمِي الواردة في (تاريخ داريا) ليست مذكورة في (تاريخ دمشق)، وكذا الأمر بالنسبة إلى أخبار التابعي النعمان بن المنذر الغَسَّاني.
  • إلمام مؤلف الكتاب الشامل بداريا وأحوال أهلها وأصولهم وأنسابهم وجماعتهم إلمامًا محيطًا، فهو يشير مرات كثيرة إلى عقب بعض المترجم لهم، ممن يحيون في عصره، أو انقطع ذكر نسله في تلك البلدة. فنجد المؤلف في خاتمة بعض التراجم؛ مثل: ترجمة سُلَيْمان بن داود الخولاني يقول: (ومن ولده جماعة بداريا إلى اليوم)، أو (وما علمت أن النعمان بن المنذر عقب بدَارَيَّا عَقِبًا).

وقد أفاد من هذا الكتاب الصغير الجِرْم الغزير بالنصوص المسندة، جماعة من العلماء، نصوا في مؤلفاتهم على اقتباساتهم منه سواء كانت قليلة أو كثيرة، ومن أشهر تلك الكتب:

  • تاريخ دمشق. لعلي بن الحسن ابن عساكر (ت 571هـ).
  • تهذيب الكمال في أسماء الرجال. ليوسف بن عبدالرحمن المزي (ت742هـ).
  • تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام.
  • سير أعلام النبلاء.
  • ميزان الاعتدال في نقد الرجال. لمحمد بن أحمد الذهبي (ت748هـ).
  • توضيح المشتبه في ضبط أسماء الرواة وأنسابهم وألقابهم وكناهم. لمحمد بن عبدالله الشهير بابن ناصر الدين (ت 842هـ).
  • تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة.
  • تهذيب التهذيب. أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ).

ولعل الحافظ ابن عساكر الدمشقى هو من أكثر العلماء ـ المذكورين أعلاه ـ إفادة من كتاب (تاريخ داريا)، وقد اقتبس من الكتاب المذكور 119 نصا، صرح باسمه في ثلاثة مواضع، منها موضعان نقلهما من الكتاب مباشرة بلفظ: ( ذكره… في تاريخ داريا)، و(رواه…في تاريخ داريا).

وكانت للحافظ ابن عساكر؛ وهو المحدث الناقد، وقفات دقيقة في تمحيص الأسانيد وضبط أسماء الرواة، أو بيان أخطاء وأوهام وقعت في كتاب (تاريخ داريا) من ذلك:

  أ ـ حديث: (لاتزال نزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق…) الذي علق ابن عساكر على سنده قائلا: (رواه أبو علي عبد الجبار محمد بن مهنا الداراني في (تاريخ داريا)، عن أحمد بن سليمان، إلا أنه صحف في إسناده في موضعين:

 قال عاصم الأحول. وإنما هو عامر بن عبد الواحد الأحول البصري، وليس بعاصم بن سليمان الأحول، وهو بصري نزل المدائن.

 وقال عن أبي مسلم الخولاني: وإنما هو أبو صالح)[5] .

ب ـ (عن قيس بن عباية بن عبيد عن ابْنٍ لعبدالله بن مغفل  قال: سمعني أبي وأنا أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم…….) وهي الرواية التي أوردها صاحب (تاريخ داريا) في ترجمة قيس بن عباية.

 علق ابن عساكر على تلك الرواية قائلا: ( وأخطأ في ذلك خطأ فاحشا بأن قيسا راوي هذا الحديث غير أبي محمد البدري هو رجل من تابعي أهل البصرة)[6]

ج ـ (ذكر سعيد بن يزيد بن ذي عصوان): هكذا ترجمه صاحب تاريخ داريا، لكن ابن عساكر نبه على وهم وقع فيه المؤلف قائلا:

(ذكره أبو علي عبدالجبار بن مهنى في (تاريخ داريا) وذكر فيه أن ولده كانوا بدَارَيَّا إلى وقت ذكره، إلا أنه قلبه فجعله سعيد بن يزيد بن ذي عصوان، وساق له حديثا عن يحيى بن صالح عنه وسماه في الحديث أيضا سعيد بن يزيد. ووهم في ذلك والصواب ما ذكرنا)[7].

ومع ما لحق كتاب (تاريخ داريا) من أوهام أو أخطاء قلت أو كثرت، فإن كافة العلماء تلقوه بالقبول والاستحسان، واحتفوا بروايته على امتداد الأزمنة والدهور بسند متصل إلى المؤلف، جماعات بعد أخرى، ومن أشهر أولئك الأعلام نذكر:

ـ علي بن الحسن ابن عساكر الدمشقي (ت571هـ) يرويه شيخه أبي محمد بن الأكفاني.

ـ محمد بن أحمد بن زهير الداراني (ت 643هـ)، سمعه من الحافظ ابن عساكر.

ـ أيوب بن عمر ابن الفقاعي (ت 666هـ)، يرويه عن بركات بن إبراهيم الخُشُوعي.

ـ محمد بن أحمد الذهبي (ت 748هـ)، يرويه عن تقي الدين أبي بكر بن محمد الموصلي.

ـ علي بن أبي بكر ابن الخصيب الداراني (ت 801هـ)، سمعه من داود بن محمد بن عربشاه.

ـ أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ)، يرويه عن علي بن أبي بكر ابن الخصيب الداراني.

وخلاصة القول إن هذا الكتاب يزخر على صغر حجمه بتراجم الصحابة والتابعين، وتابعيهم الذين نزلوا تلك القرية الطيبة، وذكّر المؤلف خلالها بأسمائهم، وكناهم، وأولادهم، ومواضع خططهم، ومناصبهم، ودُورِهِمْ، وتواريخ موالدهم، ومدفنهم، ومواضع قبورهم. وأفادنا الكتاب كذلك بمجموعة من النصوص المسندة من الأحاديث النبوية، والأخبار، وحكايات الزهد والرقائق، ونتف من الأشعار[8].

ومما يجمل التنويه به في هذه الورقة أن (داريا) وهي البلدة الصغيرة من غوطة دمشق نالت حظا كبيرا من اهتمام العلماء قديما وحديثا، الذين تناولوا جوانب كثيرة متعلقة بمعالمها وأعلامها،  ومن أشهر تلك المؤلفات:

  1. تتمة من روى العلم من أهل داريا. هبةالله بن أحمد ابن الأكفاني (ت 524هـ).
  2. روايات ساكني داريا. لابن عساكر الدمشقي (ت571هـ) .
  3. مسند أهل داريا. لابن عساكر الدمشقي(ت571هـ).
  4. تبليغ البشرى بأحاديث داريا الكبرى. لمحمد بن علي ابن طولون الدمشقي (ت953هـ).
  5. الروضة الريا فيمن دفن بداريا. لعبدالرحمن بن محمد العمادي(ت1051هـ).
  6. تاريخ داريا الكبرى (داريا دمشق). لمحمد حسام الدين الخطيب الداراني (مؤلف معاصر).

ويعود الفضل في إحياء كتاب (تاريخ دَارَيَّا ومن نزل بها من الصحابة وتابعي التابعين) لعبدالجبار بن عبدالله الخولاني إلى البحاثة المقتدر سعيد الأفغاني الذي اعتنى بهذا الأثر القيم اعتناء كبيرًا، واجتهد في ضبط النصوص وتوثيقها، ومهد لهذا الكتاب بمقدمة مهمة بيّن فيها قيمة الكتاب العلمية، مبرزا السمات المميزة لعمل المؤلف في هذا التاريخ. وبعد استقصائه في البحث لم يجد المحقق سوى مخطوطتين اثنتين، وهما اللتان اعتمدهما في تحقيقه:

ـ نسخة  المتحف البريطاني. لندن. رقم 3616.

ـ نسخة المكتبة الأحمدية بجامع الزيتونة. تونس. رقم 5032.

وقد ظهر هذا الكتاب في ثلاث نشرات جميعها من تحقيق الأستاذ سعيد الأفغاني وهي:

  • الأولى: ضمن مطبوعات المجمع العلمي بدمشق. 1369هـ/ 1950م. 152 صفحة. (نشر على نسخة واحدة، وهي المحفوظة في المتحف البريطاني).
  • الثانية: ضمن منشورات جامعة بنغازي. ليبيا. 1395هـ/ 1975م. 147 صفحة. (أعاد المحقق النظر في النشرة الأولى، معتمدا في إخراجه على النسختين الخطيتين المشار إليهما أعلاه).
  • الثالثة: أعادت نشره دار الفكر في دمشق سنة 1984م.

——————————————————————————-

[1]  تاريخ داريا. 52.

[2]  نفسه

[3]  تاريخ داريا. 55.

[4] . تاريخ داريا. 86.

[5]  تاريخ دمشق. ابن عساكر. 1/254.

[6]  تاريخ دمشق. 49/444.

[7]  تاريخ دمشق. 65/199.

[8] . موارد ابن عساكر في تاريخ دمشق. طلال بن سعود الدعجاني. 194.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق