مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

تأمُّل في اللغة والذّهن والتّواصُل

هل اللغةُ أداةٌ للتواصُل والتّداوُل، ولَمْ تنشأ إلاّ لهذا الغرض ؟

الظّاهرُ أنّ حصرَ اللغةِ في الغايةِ التّواصليّةِ اختزالٌ لَها وحصرٌ مُجحِفٌ، لأن ادّعاءَ ذلِكَ قَصرٌ للغة مظهر سطحي واحد (تسطيح) وزعم بوحدة البعد، وإلغاء للأبعاد الأخرى وزَوايا النّظرِ الكَثيرَةِ، التي يَجمعُها ويوحِّدُها أنّ اللغةَ قُدرةٌ ومَلَكَةٌ ومَهارةٌ باطنةٌ في المَرْءِ، اللغةُ ملَكَة نفسيّة عَميقةُ الجُذور ومُشتبكةٌ معَ المَلَكات النفسيّة الأخرى، فلا قدرةَ على عَزلِ ما هو نَفْسي ذِهْنِيٌّ عَمّا هُوَ لغويّ منها، وإذا ادّعْينا أنّ اللغةَ أداةُ تَواصُل فليسَ بصيغة الإطلاقِ، بل ينبغي أن نتصوّرَ التواصُلَ والحجاجَ والتبليغَ وَسائلَ خارجيّةً تُحرّكُ الملَكَة الباطنةَ وتُتيحُ لها تشكُّلاتٍ متنوّعةً وظُهوراً بمَظاهرَ شَتّى.

وبما أنّ اللغةَ البشريّةَ تتضمّنُ طاقةً إبداعيّةً مُضْمَرةً هائلةً وقُدراتٍ لا تَنتهي ولا تَنحصرُ بانحصارِ المَقاماتِ الخارجيّة والمُثيراتِ؛ فإنّك تَجد لها قابليّةً هائلةً للتلاؤُم والتناسُب مع الأوضاع الخارجيّةِ والمُطابَقَة بين بنياتها وبنيات المَقامِ، والاشتباك بعناصر تداوليّة واجتماعيّةٍ خارجيّةٍ، فيُساعدُ الدّاخلُ الذي هو بنياتُ اللغة [وهو الأصلُ في الخَلْق البَشَريّ والذّكاءِ البَشَريّ] الخارجيَّ الذي هو الأحداثُ ودَواعي التّعبير، فتنشطُ البنياتُ اللغويّة عندَ اقترانها بالبنياتِ الاجتماعيّة والثقافيّةِ الخارجيّةِ، والمَعْلومُ أنّ البنياتِ اللغويّةَ لا تتحرّكُ ولا تَقْترنُ بالمُثيراتِ المَقاميّةِ إلاّ بعدَ أن تَستندَ قَبْلاً إلى البنياتِ الذّهنيّةِ والأنساق العَقْليّةِ، فنحنُ إذنْ، أمامَ أبْعادٍ ثَلاثَةٍ عندَ حَديثنا عن البنياتِ اللغَويّةِ، وإذا قَصرْنا اللغة على مَفْهومِ الوظيفيّة Functionnality فسنُهملُ -جَهْلا منّا وغفلةً- مُتعلّقاتها الذّهنيّة والنّفسيّة، وهذا خطأ ارتكَبَه الوظيفيّون السّابقونَ وارتَكَبَ بعضَه التّداوليّون عندَما قَصَروا خطابَهُم العلميّ على البُعد الاجتماعيّ الواحدِ، وأغفَلوا هذه المَلَكَة العَظيمَةَ التي تُرسلُ إشاراتٍ بامتلاكِ المرءِ نُبوغاً وعبقريّةً لا حُدودَ لها، وامتلاكِها في ذاتها نشاطاً حراً وقُدرةً هائلةً على التغيُّر [لا التّطوُّر؛ فالذي يتطوّرُ هو القُدرةُ اللغويّةُ لا اللغةُ] والانسيابِ مع الدّواعي والأحداث والتّجاربِ والغَوصِ في أدقّ مواقفِ التّعبير النّفسيّ والفكريّ.

إنّ اللغةَ وُجدَت لإنتاجِ الفكرِ وصياغتِه ولم توجَد لتكونَ أداةً كأدوات الحِرَفيّينَ، لأنّ الإنسانَ يشتَملُ على أنظمة تَواصُلٍ متعدّدةٍ غير أنّ اللغةَ أرقاها لأنها متلبّسةٌ بالوظائفِ الذّهنيّة والمَلكات النّفسيّة التي جَعَلَت من اللغةِ المَهارةَ الأرْقى والطّريقةَ المُثْلى، فلو تأمّلتَ طريقةَ تَصميم اللغةِ المُعقَّدِ في الذّهنِ البشريّ لَوَجَدْتَ أنّ إخْراجَها والتّوسُّلَ بها جانبٌ ضئيلٌ جداً لا يَكادُ يُوازَنُ بِما للغةِ من قُوّةٍ على إنتاج الأفكارِ وتفسيرِ طريقَة الإنتاجِ.

أمّا الطّريقةُ التي تَخرجُ بها من جهازِ النّطقِ على هَيْئةٍ بنياتٍ صوتيّةٍ مختلفةٍ من لغةٍ إلى أخْرى فهي الجُزْءُ الأصغرُ في موضوع اللغة والحَديثِ عن اللغةِ. والغَريبُ في الأمر أننا لا نتحدَّثُ عن اللغةِ -في اللغويّاتِ القَديمَة وبعض الاتجاهات المُعاصرَة- إلاّ بعدَ خُروجها وإخْراجها على هيئة أصواتٍ وبنيات صرفيّة وتَركيبيّةٍ، ولا نتحدّثُ عن أشكال لغويّةٍ أخرى لا تَكادُ تنحصرُ في التّعبير عن الدّاخلِ، لا نتحدّثُ عن أشكالٍ أخْرى حسّيّةٍ غيرِ صوتيّةٍ وعن إشاراتٍ مَرئيّةٍ، فهي أشكالٌ تعبيريّةٌ غيرُ مستقلّةٍ عن اللغةِ بل هي متّصلةٌ اتصالاً شديداً بها، اتّصالاً يمرّ عبر القَنواتِ الذّهنيّة والمَسالك العَقليّة قبلَ الخُروج إلى الدّلالَة على الأشياءِ، اللغة في نهايةِ المَطافِ نظامُ إنتاجٌ وابتكارٍ، وتَفسيرٌ للذّهنِ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق