مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

تأملات في تدريس النحو العربي.

 

يعد النحو ركنا أساسا من أركان اللسان العربي، ومرقاة إلى درك ما خص به هذا اللسان من البيان والإعراب، وسببا لتحصيل الأداء العربي وتحصينه، عليه تنبني الدلالة وبه ينماز الخطاب الدال، وبسببه يتأهل متحريه لأن يلتحق بأهل هذا اللسان العربي، ولا يزال هذا العلم سوارا للعربية، وقلادة محيطة بها، يزين صاحبها، ويحوط أصولها ومادتها. 
وقد حضر النحو في الثقافة العربية، حضورا متميزا، أنبأ عنه ما ذاع من تآليفه، وشاع من مذاهبه، وانتشر من رجاله، وقد راكم النحو من ذلك تراثا ضخما، كان كفيلا أن ينظر إليه بعين الإعجاب والإكبار. 
ومع ما للنحو من المنزلة والمكانة، إلا أنه وسم بسيما الوعورة، ونعت بوصف الصعوبة، لأنه ذو طبيعة يعتريها التشعب، ويقتضيها التفريع، ومن ثم هجره الناس، واستثقلوا دراسته، واستصعبوا مباحثه، وأنزلوه من أنفسهم منزلة المرغوب عنه، بل جعل بعض الناس ذلك مرقاة إلى أن يقولوا في سيبويه والخليل والمبرد وأضرابهم من الأئمة؛ ما قالوا من عبارات التوهين والاتهام، جعلوا أنفسهم حكما في قضية لم يعرفوا منشأها، وقوم لم يدركوهم، وأمر لم يكلفوا النظر فيه، وهذا جور في الحكم، وتهجم على التخطئة، وتنكب عن سواء السبيل. 
وإذا كان النحاة أنفسهم أقروا بأن النحو صعب المسلك، متشعب الأفانين،(1) فإن هذا لا ينبغي أن يجعل مطية للنيل منه ولا من أهله، لأنه ليس بالأمر الذي يختص به النحو دون سائر المعارف الأخرى، حتى ينفرد بوسمه، ويلتصق باسمه، والمعارف التي على بابة النحو، كالمنطق والفلسفة والرياضيات، تشاركه هذا الأمر، لكون موضوعها يقتضي منها نوع معالجة يقوم على التحليل والتعليل، وعلى الاستنتاج والتدليل، وهذه مسالك من النظر تتطلب من الناظر فيها حضور الذهن ودقة الملاحظة وجودة الفكر، والقدرة على تنظيم المعرفة وتنسيقها، وفهمها واستيعابها، وليس مجرد حفظها وتردادها، وقد انفصل العلامة الجرجاني في مقدمة دلائله عن جواب واضح لهذا الإشكال، وهو أن النحو له مستويان، الأول، مستوى الأصل، وهو ما لا بد منه من ظواهر أبوابه التي لا يعذر الجهل بها والثاني مستوى الفضل ويندرج فيه ما في النحو من تعليلات واستدلالات وغيرها وهذا لا يلزم الناظر فيه الاطلاع عليه، ولا يطلب منه تحصيلها، ولا ينبغي أن تجعل مطية لتركه، ولا حجة في استصعابه،(2) ولعل ما علق بالنحو من استصعابه، أكثره راجع إلى المستوى الثاني، لكنَّ الجور في القضية، جعل سمة الاستصعاب منسحبة على المستويين معا على حد السواء. 
وقد استحضر النحاة في تآليفهم هذا الأمر؛ فنوعوا في عرض المادة النحوية بين مختصرات ومطولات، وحواش وتعليقات، ونكت ومنظومات، مراعاة للناشئة، واستحضارا للمتلقي وأهليته، وسعيا لتهذيب النحو وتبسيطه، وتسهيله وتقريبه، والمؤلفات في النحو على اختلافها وتنوعها، يحدوها هذا الغرض، ويؤطرها هذا المقصد، ولكن يبقى التفاوت في مدى التزام المؤلف به، ووفائه بشرائطه.  
على أن صعوبة النحو قد يكون لها وجه آخر من المعنى لا يأباه النظر، وهو تشريف النحو، والرفع من قيمته بين المعارف، وأنه لا يتسنى لكل من طلبه، ولا يلقي زمامه لكل من رماه، وعلى هذا يخرج قول الشاعر: 
النحو صعب وطويل سـلمه … إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمـه … يريــد أن يعربه فيعجمه(3)
ويكون وصف الصعوبة فيه وصف تشريف، وأنه لا ينقاد إلا لمن كان صحيح الذهن، جيد القريحة، مستقيم آلة النظر.  
ــــــــــــــــــــ
1) ينظر مثلا قول أبي حيان في مقدمة كتابه ارتشاف الضرب من لسان العرب ص3 : “أما بعد فإن علم النحو صعب المرام، مستعص على الأفهام، ولا ينفذ في معرفته إلا الذهن السليم، والفكر المرتاض المستقيم”. ويراجع ما كتبه ابن مضاء في مقدمة كتابه الرد على النحاة ص64 فما بعدها. وما كتبه الأستاذ عباس حسن في مقدمة كتابه: النحو الوافي، وما كتبه الأستاذ محمد عيد في مقدمة كتابه: النحو المصفى. وغيرهم.
2) تنظر مقدمة كتابه الرائع: دلائل الإعجاز ص42 فما بعدها
3) البيتان في العقد الفريد لابن عبد ربه 1/248، بدون عزو.

يعد النحو ركنا أساسا من أركان اللسان العربي، ومرقاة إلى درك ما خص به هذا اللسان من البيان والإعراب، وسببا لتحصيل الأداء العربي وتحصينه، عليه تنبني الدلالة وبه ينماز الخطاب الدال، وبسببه يتأهل متحريه لأن يلتحق بأهل هذا اللسان العربي، ولا يزال هذا العلم سوارا للعربية، وقلادة محيطة بها، يزين صاحبها، ويحوط أصولها ومادتها. وقد حضر النحو في الثقافة العربية، حضورا متميزا، أنبأ عنه ما ذاع من تآليفه، وشاع من مذاهبه، وانتشر من رجاله، وقد راكم النحو من ذلك تراثا ضخما، كان كفيلا أن ينظر إليه بعين الإعجاب والإكبار. 

ومع ما للنحو من المنزلة والمكانة، إلا أنه وسم بسيما الوعورة، ونعت بوصف الصعوبة، لأنه ذو طبيعة يعتريها التشعب، ويقتضيها التفريع، ومن ثم هجره الناس، واستثقلوا دراسته، واستصعبوا مباحثه، وأنزلوه من أنفسهم منزلة المرغوب عنه، بل جعل بعض الناس ذلك مرقاة إلى أن يقولوا في سيبويه والخليل والمبرد وأضرابهم من الأئمة؛ ما قالوا من عبارات التوهين والاتهام، جعلوا أنفسهم حكما في قضية لم يعرفوا منشأها، وقوم لم يدركوهم، وأمر لم يكلفوا النظر فيه، وهذا جور في الحكم، وتهجم على التخطئة، وتنكب عن سواء السبيل. وإذا كان النحاة أنفسهم أقروا بأن النحو صعب المسلك، متشعب الأفانين،(1)

فإن هذا لا ينبغي أن يجعل مطية للنيل منه ولا من أهله، لأنه ليس بالأمر الذي يختص به النحو دون سائر المعارف الأخرى، حتى ينفرد بوسمه، ويلتصق باسمه، والمعارف التي على بابة النحو، كالمنطق والفلسفة والرياضيات، تشاركه هذا الأمر، لكون موضوعها يقتضي منها نوع معالجة يقوم على التحليل والتعليل، وعلى الاستنتاج والتدليل، وهذه مسالك من النظر تتطلب من الناظر فيها حضور الذهن ودقة الملاحظة وجودة الفكر، والقدرة على تنظيم المعرفة وتنسيقها، وفهمها واستيعابها، وليس مجرد حفظها وتردادها، وقد انفصل العلامة الجرجاني في مقدمة دلائله عن جواب واضح لهذا الإشكال، وهو أن النحو له مستويان، الأول، مستوى الأصل، وهو ما لا بد منه من ظواهر أبوابه التي لا يعذر الجهل بها والثاني مستوى الفضل ويندرج فيه ما في النحو من تعليلات واستدلالات وغيرها وهذا لا يلزم الناظر فيه الاطلاع عليه، ولا يطلب منه تحصيلها، ولا ينبغي أن تجعل مطية لتركه، ولا حجة في استصعابه،(2) ولعل ما علق بالنحو من استصعابه، أكثره راجع إلى المستوى الثاني، لكنَّ الجور في القضية، جعل سمة الاستصعاب منسحبة على المستويين معا على حد السواء.

 وقد استحضر النحاة في تآليفهم هذا الأمر؛ فنوعوا في عرض المادة النحوية بين مختصرات ومطولات، وحواش وتعليقات، ونكت ومنظومات، مراعاة للناشئة، واستحضارا للمتلقي وأهليته، وسعيا لتهذيب النحو وتبسيطه، وتسهيله وتقريبه، والمؤلفات في النحو على اختلافها وتنوعها، يحدوها هذا الغرض، ويؤطرها هذا المقصد، ولكن يبقى التفاوت في مدى التزام المؤلف به، ووفائه بشرائطه.

 على أن صعوبة النحو قد يكون لها وجه آخر من المعنى لا يأباه النظر، وهو تشريف النحو، والرفع من قيمته بين المعارف، وأنه لا يتسنى لكل من طلبه، ولا يلقي زمامه لكل من رماه، وعلى هذا يخرج قول الشاعر: 

النحو صعب وطويل سـلمه … إذا ارتقى فيه الذي لا يعلم

هزلت به إلى الحضيض قدمـه … يريــد أن يعربه فيعجمه(3)

ويكون وصف الصعوبة فيه وصف تشريف، وأنه لا ينقاد إلا لمن كان صحيح الذهن، جيد القريحة، مستقيم آلة النظر.

 ــــــــــــــــــــ

1) ينظر مثلا قول أبي حيان في مقدمة كتابه ارتشاف الضرب من لسان العرب ص3 : “أما بعد فإن علم النحو صعب المرام، مستعص على الأفهام، ولا ينفذ في معرفته إلا الذهن السليم، والفكر المرتاض المستقيم”. ويراجع ما كتبه ابن مضاء في مقدمة كتابه الرد على النحاة ص64 فما بعدها. وما كتبه الأستاذ عباس حسن في مقدمة كتابه: النحو الوافي، وما كتبه الأستاذ محمد عيد في مقدمة كتابه: النحو المصفى. وغيرهم.2) تنظر مقدمة كتابه الرائع: دلائل الإعجاز ص42 فما بعدها3) البيتان في العقد الفريد لابن عبد ربه 1/248، بدون عزو.

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. تصور سديد عن طرق تدريس النحو، هذا العلم المُستعصي على كثير من الناس ولكنه يسيرٌ على مَن يسَّره الله عليْه
    شكرا جزيلاً لك يا دكتور عدنان

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق