وحدة الإحياءدراسات وأبحاث

بين مقاصد التفسير والنقد التفسيري

 إذا كان الطوفي (توفي 716) قد صرح منذ القرن الثامن الهجري في مقدمة كتابه: “الإكسير في قواعد علم التفسير” بإشكال غياب قانون يعول عليه لضبط عملية التفسير؛ حين قال: “إنه لم يزل يتلجلج في صدري إشكال علم التفسير وما أطبق عليه أصحاب التفاسير، ولم أجد أحدا منهم كشفه في ما ألفه ولا نحاه في ما نحاه، فتقاضتني النفس الطالبة للتحقيق الناكبة عن جمر الطريق لوضع قانون يعول عليه ويصار في هذا الفن إليه[1]“؛ فإن في النفس اليوم شيء من خلو هذا القانون، الذي صار يسمى: علم أصول التفسير، من كلام في مقاصد التفسير، علما بأن علم أصول التفسير بما هو علم يضبط عملية الفهم والبيان لكتاب الله، عز وجل، يتعين أن يحدد طبيعة علم التفسير من حيث موضوعه ومناهجه وقواعده وأغراضه ومقاصده

لكن هذا الغياب لا يعني غياب أي تصور للقدماء عن مقاصد التفسير؛ إذ يقتضي القول في التفسير انبناءه على تصور معين لمقاصده وغاياته، ونظرا لخلو القرون الأولى من المحاولات التنظيرية والتقعيدية البحثة في هذا المجال عموما، فإن هذا الغياب له ما يبرره.

لذلك فإن إثارة هذا الموضوع اليوم ترمي إلى استجماع نظر العلماء متقدمين ومتأخرين في هذا المبحث المهم من مباحث علم أصول التفسير… وقبل بسط بعض هذه النظرات في الموضوع يجدر بنا بيان المقصود بالمقاصد في هذا المجال، والتمييز بين أنواع من المقاصد ارتبطت بالتفسير ووجب فصل المقال في ما بينها من اتصال أو انفصال.

1. مفهوم المقاصد 

يستعمل لفظ “القصد” في اللغة في عدة معاني: منها: الاستقامة والاعتدال والتوجه والانكسار[2]، ويكثر استعمال لفظ “المقصد” عند العلماء بمعنى الغاية والهدف، مما يجعل الأصل الدلالي الأكثر استعمالا من هذه الأصول هو أصل: التوجه والأَمّ لما له من تعلق بمعنى الغاية.

وللأصوليين إطلاقات يعبرون بها عن المقاصد كالأغراض والغايات والأسرار، وقد جمع علال الفاسي بين بعض هذه الألفاظ حين عرف مقاصد الشريعة بقوله: “المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها [3].”

بين مقاصد القرآن ومقاصد التشريع

لا يخفى ما بين مقاصد القرآن ومقاصد التشريع من تعلق، فمقاصد التشريع بمعنى: “المعاني التي لاحظها الشارع في أحكامه والغايات التي لأجلها وضع هذه الأحكام”، والتي لا تخرج عن جلب المصالح ودرء المفاسد؛ إنما هي مستمدة من أصل التشريع الأول: القرآن الكريم، وهي لذلك متضمنة في مقاصده العامة.

وقد بين هذه العلاقة إمام المقاصد أبو إسحاق الشاطبي، حين ذكر ما انطوت عليه سور القرآن الكريم من المقاصد الكبرى، ومنها سورة البقرة التي (قررت قواعد التقوى المبنية على سورة الأنعام) وفيها نجد “حفظ الدين… وحفظ النفس والعقل والنسل والمال [4].”

2. أنواع المقاصد المتعلقة بالتفسير

أكثر ما كتب فيه من المقاصد المرتبطة بمجال التفسير: مقاصد السور ومقاصد القرآن، وهما نوعان متقاربان ومتداخلان، أما مقاصد السور فقد كانت محط عناية المفسرين، وممن كان له اهتمام خاص بمقاصد السور من المتقدمين الإمام البقاعي في كتابه: “مصاعد النظر في مقاصد السور”، وأيضا في تفسيره: “نظم الدرر في تناسب الآيات والسور”؛ حيث اهتم بإبراز مقاصد السور في بداية تفسيره لها واطرد عنده هذا الأمر كثيرا، ولم يغب هذا النظر عند بعض من تقدمه من المفسرين كأبي حيان والرازي والقرطبي وابن عطية، وإن لم يطرد.

أما مقاصد القرآن، فإن النظر فيها أعم، وأقرب ما يكون إلى مقاصد التشريع، لذلك وجدناه واضحا عند المتأخرين ممن اهتموا بتجديد أمر التفسير وبمقاصد التشريع؛ كالشيخ رشيد رضا والشيخ الطاهر بن عاشور، إلا أن هذا الأمر لم يغب تماما عند بعض المتقدمين، الذين ألمحوا بإشارات عابرة مختصرة إلى مقاصد القرآن وأهمية مراعاتها في التفسير، وسأذكر نماذج من أقوال هؤلاء أتبعها بما ورد عند المتأخرين الذين فصلوا القول في هذه المقاصد في محاولة لحصرها، ثم بيان أهميتها في الحكم على التفسير كما نجد ذلك تحديدا عند الطاهر بن عاشور.

مقاصد القرآن عند المتقدمين

لم تخل العديد من مقدمات التفسير من إشارة إلى مقاصد القرآن، وإن تبعا لا قصدا، وذلك في معرض الحديث عن غرض المفسر من التأليف في التفسير، وهو الأمر الذي درجت المقدمات عموما على التعريج عليه، من ذلك مثلا قول البغوي في مقدمة تفسيره (معالم التنزيل): واصفا ما جاء في القرآن الكريم من الهدى والفلاح: “أمرَ فيه وزجرَ، وبشر وأنذر وذكر المواعظ ليُتذكر، وقص عن أحوال الماضين ليُعتبر، وضرب فيه الأمثال ليُتدبر، ودل على آيات التوحيد ليُتفكر، ولا حصول لهذه المقاصد فيه إلا بدراية تفسيره..[5]“؛ فجعل مقاصد القرآن من ذكر المواعظ وأخبار الماضين وأحكام العقيدة: التذكر والتدبر والتفكر والاعتبار.

وجاء ذكر مقاصد القرآن بشكل أوضح عند ابن جزي الكلبي في مقدمة تفسيره تحت باب سماه: “في المعاني والعلوم التي تضمنها القرآن” حيث ميز في مقاصد القرآن بين عام وتفصيلي، فقال: “أما الجملة فاعلم أن المقصود بالقرآن دعوة الخلق إلى عبادة الله وإلى الدخول في دينه، ثم إن هذا المقصد يقتضى أمرين لابد منهما وإليهما ترجع معاني القرآن كله: أحدهما؛ بيان العبادة التي دعي الخلق إليها، والأخرى ذكر بواعث تبعثهم على الدخول فيها وترددهم إليها[6].” ثم قسم معنى العبادة إلى معنيين: أصول العقائد وأحكام الأعمال، وقسم البواعث إلى معنيين هما: الترغيب والترهيب؛ وفي تفصيله لمقاصد القرآن ذكر سبعة معاني هي: (الربوبية والنبوة والمعاد والأحكام والوعد والوعيد والقصص) ثم ذكر ما يندرج تحت كل معنى من هذه المعاني من أحكام ودلالات…

والناظر في كلام ابن جزي يلحظ تداخلا في كلامه بين مقاصد القرآن ومعاني القرآن وموضوعاته، وهما أمران وجب التمييز بينهما، لكن جمعه بينهما في هذا السياق يرجع إلى كون الموضوعات والمعاني القرآنية العامة التي سردها إنما جاءت خادمة لذلك المقصد العام الذي حدده في “الدعوة إلى دين الله”.

مقاصد القرآن عند المتأخرين

جاء ذكر مقاصد القرآن عند بعض المفسرين المتأخرين بنفَس مختلف عما ورد عند المتقدمين، وأول ملامح هذا الاختلاف تبدو في سياق الحديث عن هذه المقاصد والغرض من إيرادها أي وظيفتها العلمية والمنهجية في التفسير، وممن يجدر بنا الوقوف عنده من هؤلاء رشيد رضا والطاهر بن عاشور.

أ. مقاصد القرآن عند الشيخ رشيد رضا

أما رشيد رضا فقد ذكر هذه المقاصد في معرض تفسيره لمطلع سورة يونس وقوله تعالى: ﴿الر، تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ. أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا اَنْ اَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمُ أَنْ اَنْذِرِ النَّاسَ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءامَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ، قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾ (يونس: 1-2) وإثباته صدق نبوة محمد، صلى الله عليه وسلم، وتفنيد مزاعم من عارضها وطعن فيها، وفي سياق بيان هذا الأمر أورد فصولا طويلة في بيان حقيقة القرآن الكريم الموحى به إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فذكر مقاصده تحت باب كبير سماه: (آية الله الكبرى: القرآن العظيم)[7]، وفصل يتفرع عنه سماه: (مقاصد القرآن في ترقية نوع الإنسان)[8] ثم فصل القول في هذه المقاصد محددا إياها في عشرة، في ما يزيد عن ست وثمانين (86) صفحة، سأكتفي بذكر عناوينها الكبرى:

المقصد الأول: الإصلاح الديني لأركان الدين الثلاثة: الإيمان بالله وعقيدة البعث والجزاء والعمل الصالح.

المقصد الثاني: بيان ما جهل البشر من أمر النبوة والرسالة ووظائف الرسل.

المقصد الثالث: بيان أن الإسلام دين الفطرة السليمة والعقل والفكر والعلم والحكمة والبرهان والحجة والضمير والوجدان والحرية والاستقلال.

المقصد الرابع: الإصلاح الاجتماعي الإنساني والسياسي الذي يتحقق بالوحدات الثمان: وحدة الأمة، ووحدة الجنس البشري، ووحدة الدين، ووحدة التشريع بالمساواة في العدل، ووحدة الأخوة الروحية، ووحدة المساواة في العبد، ووحدة الجنسية السياسية الدولية، ووحدة القضاء، ووحدة اللغة.

المقصد الخامس: تقرير مزايا الإسلام العامة في التكاليف الشخصية من العبادات والمحظورات، أهم هذه المزايا: الوسطية، والوصول إلى سعادة الدارين، والتعارف والتأليف بين البشر، والتيسير، وعدم الغلو، وقلة التكاليف وسهولتها، وعزائم ورخص، ومراعاة درجات البشر من العقل والفهم، والمعاملة بالظاهر، ومدار العبادات على اتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.

المقصد السادس: بيان حكم الإسلام السياسي الدولي: نوعه وأساسه وأصوله العامة.

المقصد السابع: الإرشاد إلى الإصلاح المالي.

المقصد الثامن: إصلاح نظام الحرب ودفع مفاسدها، وقصرها على ما فيه الخير للبشر

المقصد التاسع: إعطاء النساء جميع الحقوق الإنسانية والدينية والمدنية.

المقصد العاشر: هداية الإسلام في تحرير الرقيق.

إن سياق الحديث عن مقاصد القرآن عند الشيخ رشيد رضا يبدو بعيدا عن موضوع التفسير وأغراضه، كما ينأى به عن موضوع: معاني القرآن وموضوعاته كما جاء عند من سبقه، مما يعني أن وظيفة مقاصد القرآن عند رشيد رضا ترتبط بالانتصار لصدقية الرسالة وأحقية الوحي، وهو الأمر الذي أقلق الشيخ في زمنه، كما يبدو من نفَس حديثه عن هذه المقاصد ومن كلامه في خاتمة هذا المبحث، ومهما كان من أمر هذه الوظيفة وذلك السياق، فإن كلام رشيد رضا يعتبر أول تفصيل للقول في مقاصد القرآن، سيستفيد منه، دون شك، من سيأتي بعده، وإن اختلف السياق واختلفت الوظيفة.

وتبقى الملاحظة الأبرز بخصوص ما سطره رشيد رضا من مقاصد هي أنها مستمدة من طبيعة أحكام القرآن التفصيلية في المجالات المختلفة ومقاصدها…

ب. مقاصد القرآن عند الشيخ الطاهر بن عاشور

تحدث الطاهر بن عاشور عن مقاصد القرآن ضمن المقدمة الرابعة من مقدمات تفسيره، بشكل عام، قائلا: “إن القرآن أنزله الله تعالى كتابا لصلاح أمر الناس كافة رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم،  قال الله تعالى: ﴿ونزّلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين﴾ (النحل: 89)؛ فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية، والجماعية، والعمرانية)[9]، ثم فصلها فحصرها في ثمانية مقاصد[10]:

1. إصلاح الاعتقاد وتعليم العقد الصحيح.

 2. تهذيب الأخلاق.

3. التشريع وهو الأحكام خاصة وعامة.

 4. سياسة الأمة وحفظ نظامها.

 5. القصص وأخبار الأمم السالفة للتأسي بصالح أحوالهم.

6. التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين، وما يؤهلهم إلى تلقي الشريعة ونشرها وذلك علم الشرائع وعلم الأخبار، وكان ذلك علم مخالطي العرب من أهل الكتاب. وقد زاد القرآن على ذلك تعليم حكمة ميزان العقول وصحة الاستدلال في أفانين مجادلاته للضالين وفي دعوته إلى النظر.

 7. المواعظ والإنذار والتحذير والتبشير، من وعد ووعيد،وترغيب وترهيب.

8. الإعجاز بالقرآن ليكون آية على صدق الرسول.

والمتأمل في هذه المقاصد يجدها غير بعيدة عن مقاصد التشريع العامة، ويكفي الإشارة إلى توارد لفظ الإصلاح في هذه المقاصد في إشارة إلى المقصد العام من التشريع المتمثل في مراعاة مصالح العباد.

إن هذا الاهتمام بمقاصد القرآن الكريم يترجم عناية العلماء بضبط عملية الفهم والبيان للقرآن الكريم استرشادا بمقاصده العامة والخاصة، وتلك أهم فوائد حصر مقاصد القرآن الكريم وسوره، لكننا نطمح إلى الكشف عن نظر مقاصدي أكثر أهمية بالنسبة لضبط عملية الفهم والتفسير والتأويل، وهو المتعلق بمقاصد التفسير، أي مقاصد الإنسان المفسِّر لا مقاصد النص المفسَّر.

3. مقاصد التفسير وحدود التفسير عند المتقدمين

يجب التنويه أولا إلى ضرورة التمييز بين مقاصد التفسير وأغراض التأليف في التفسير، فمقاصد التفسير هي مقاصد العلم وغاياته وهي مما يمكن استنباطه إجمالا من تعريف العلماء علمَ التفسير، كما نجد عند الزركشي (توفي 782ﻫ) مثلا: (علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه….)[11]، فيكون المقصد من التفسير بيان معاني كتاب الله واستخراج أحكامه وحكمه…

أما مقاصد التأليف في التفسير فهي أمر خاص بالمفسر، بالغرض الذي من أجله ألف تفسيره، ثم إن هذا الغرض قد يوافق أغراض العلم وقد يخالفها، وقد درج المفسرون في هذا الباب على ذكر الحاجة إلى تأليف متميز ومختلف عما ألف من قبل، مما يجعل الغرض من التأليف في التفسير لا يخرج عن الاستجابة لحاجات الناس وحاجات أهل الاختصاص.

إن مقاصد التفسير نظر دقيق لم نجد من توسع فيه من المتقدمين، ولكنه لم يغب بشكل كلي وخصوصا عند حديثهم عن أغراض التأليف التي توافق أغراض العلم… أو عند تمييزهم بين ما يدخل في حد التفسير وما يخرج منه، مع ما في ذلك من التنبيه على خطورة انفلات التفسير عن مقاصده.

من ذلك مثلا ما ذكره ابن عطية (542) في معرض تفسيره للآية الأولى من سورة الطلاق: “وطلاق النساء: حل عصمتهن، وصورة ذلك وتنويعه مما لا يختص بالتفسير [12]“، وقد ألمح أبو حيان (745) إلى شيء من هذا خلال تفسيره للآية 106 من سورة البقرة: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ ـايَةٍ اَوْ نُنْسِهَا نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا، أَوْ مِثْلِهَا، أَلَمْ تَعْلَمْ اَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ حيث تحدث عن خروج المفسرين أحيانا عن “طريقة التفسير” بإيرادهم لدقيق المسائل العلمية التي لا تخدم أغراضه الأساس: “وقد تكلم المفسرون هنا في حقيقة النسخ الشرعي وأقسامه، وما اتفق عليه منه، وما اختلف فيه، وفي جوازه عقلاً، ووقوعه شرعاً، وبماذا ينسخ، وغير ذلك من أحكام النسخ ودلائل تلك الأحكام، وطوّلوا في ذلك. وهذا كله موضوعه علم أصول الفقه، فيبحث في ذلك كله فيه. وهكذا جرت عادتنا: أن كل قاعدة في علم من العلوم يرجع في تقريرها إلى ذلك العلم، ونأخذها في علم التفسير مسلمة من ذلك العلم، ولا نطول بذكر ذلك في علم التفسير، فنخرج عن طريقة التفسير، كما فعله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، المعروف بابن خطيب الري، فإنه جمع في كتابه في التفسير أشياء كثيرة طويلة  لا حاجة بها في علم التفسير[13].”

4. مقاصد التفسير والنقد التفسيري عند المتأخرين..

في معرض الحديث عن أزمة التفسير في العصور المتأخرة ربط أصحاب مدرسة المنار بين مقاصد التفسير وتحقيق التجديد المنشود في التفسير وإخراجه من أزمته، فجاء الكلام، في هذا السياق، مجملا عن هذه المقاصد: “التفسير الذي نطلبه هو فهم الكتاب من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة، فإن هذا هو المقصد الأعلى منه وما وراء هذا من المباحث تابع له وداء أو وسيلة لتحصيله [14].”

ومن أبرز من سيفصل القول في مقاصد التفسير من المتأخرين: الشيخ الطاهر بن عاشور في فقرات من مقدمات تفسيره. ولا غرابة في ذلك وهو من أعلام المقاصد في العصر الحديث، ومن أهم ما يميز تناول الشيخ الطاهر لموضوع المقاصد، سواء منها مقاصد القرآن أو مقاصد التفسير، هو اعتبارها معيارا لنقد التفسير والحكم عليه، وتمييز المقبول منه من المردود، بل إن العديد من القضايا العلمية التي أثارها في مقدماته، وخصوصا منها المقدمات: الثانية والثالثة والرابعة والتاسعة؛ ترتبط ارتباطا وثيقا بهذه المقاصد وتنحل إشكالاتها من خلالها.

فقد بدأ في المقدمة الرابعة التي خصصها لبيان أغراض التفسيرغراض التفسير بتسطير مقاصد القرآن، واعتبرها موجهة لمقاصد المفسر، فقال:

 “كأني بكم… تتطلعون… إلى الإفصاح عن غاية المفسر من التفسير، وعن معرفة المقاصد التي نزل القرآن لبيانها حتى تستبين لكم غاية المفسرين من التفسير على اختلاف طرائقهم، وحتى تعلموا عند مطالعة التفاسير مقادير اتصال ما تشتمل عليه، بالغاية التي يرمي إليها المفسر فتزنوا بذلك مقدار ما أوفى به من المقصد، ومقدار ما تجاوزه، ثم ينعطف القول إلى التفرقة بين من يفسر القرآن بما يخرج عن الأغراض المرادة منه، وبين من يفصل معانيه تفصيلا… [15].”  

وهذا القول جعله مقدمة عامة للموضوع فصلها بعد ذلك بتحديد مقاصد التفسير، والمسالك المؤدية إليها، والشروط الضابطة للعملية التفسيرية من خلالها[16]:

ففي تحديده لهذه المقاصد نجده يقول: “فغرض المفسر بيان ما يصل إليه أو ما يقصده من مراد الله تعالى في كتابه بأتم بيان يحتمله المعنى ولا يأباه اللفظ من كل ما يوضح المراد من مقاصد القرآن أو ما يتوقف عليه فهمه أكمل فهم، أو يخدم المقصد تفصيلا وتفريعا.”

إن هذا الكلام يعني أن تحقيق مقاصد التفسير يتوقف على معرفة المفسر بمقاصد القرآن، وفي موضع آخر يضيف ابن عاشور شرطا لا يقل أهمية وهو: معرفة اصطلاحات القرآن وعاداته في التعبير: “فلا جرم كان رائد المفسر في ذلك أن يعرف على الإجمال مقاصد القرآن مما جاء لأجله، ويعرف اصطلاحه في إطلاق الألفاظ، وللتنزيل اصطلاح و عادات…”.

فتحقيق مقاصد التفسير، إذن، يقتضي:

ـ أن يعرف المفسر مقاصد القرآن على الإجمال (وقد أجملها الشيخ في ثمانية مقاصد كبرى كما بُين سابقا)

ـ أن يعرف اصطلاح القرآن في إطلاق الألفاظ. وهذا أمر في غاية الأهمية، إذ به تنحل الكثير من إشكالات التأويل المبنية على الإسقاط المصطلحي.

والسر في ارتباط الشرط الأول بالثاني هو أن هذه المقاصد أودعها الله عز وجل في “ألفاظ القرآن التي خاطبنا بها خطابا بينا وتعبدنا بمعرفة مراده والاطلاع عليه”.

بناء على هذه المقاصد التفسيرية أمكنه رصد ثلاثة مسالك للمفسرين تتدرج في التعامل مع النص:

الأول؛ الوقوف عند ظاهر النص، أو كما قال: “الاقتصار على الظاهر من المعنى الأصلي للتركيب مع بيانه وإيضاحه وهذا هو الأصل”.

الثاني؛ الغوص في استنباط ما في باطنه من المعاني.

الثالث؛ التوسع في إيراد المسائل العلمية ذات العلاقة بالمعنى أو بمقصد من مقاصده.

أما الشروط الضابطة للتفسير في هذه المسالك، والمتعلقة أساسا بالمسلكين الأخيرين، فيجملها الشيخ في:

ـ عدم منافاة دلالة اللفظ والسياق.

ـ عدم مجافاة الاستعمال.

ـ عدم إغفال مقاصد القرآن.

والمتأمل في هذه الشروط والضوابط يجدها تؤول إلى أمرين رئيسين هما:

1. مقاصد التفسير.

2. طبيعة الخطاب القرآني (الاستعمال القرآني للفظ والسياق).

ولاستثمار المقاصد، عموما، في نقد التفسير عند الشيخ الطاهر نورد، على سبيل التمثيل، مسألتين ناقشهما الشيخ في ضوء فكرة المقاصد:

مسألة التفسير بالرأي وحدوده؛ حيث اعتبر معيار الحكم على التفسير بأنه تفسير بالرأي المرفوض مدى مراعاة المفسر لمقاصد الشريعة فالتفسير بالرأي المرفوض هو “القول عن مجرد خاطر دون استناد إلى نظر في أدلة العربية ومقاصد الشريعة وتصاريفها، وما لابد منه من معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول [17].”

مسألة تفسير القرآن بالعلوم؛ حيث حدد ابن عاشور موقفه من إيراد تفاصيل العلوم ومسائلها في تفسير القرآن الكريم، بناء على مراعاة المقاصد القرآنية، “فلا يلام المفسر إذا أتى بشيء من تفاريع العلوم مما له خدمة للمقاصد القرآنية [18]“، ومثال ذلك: “أن يفسر ما حكاه الله تعالى في قصة موسى مع الخضر بكثير من آداب المعلم والمتعلم كما فعل الغزالي، وقد قال ابن العربي إنه أملى عليها ثمانمائة مسألة، وكذلك تقرير مسائل من علم التشريع لزيادة بيان قوله تعالى في خلق الإنسان “من نطفة ثم من علقة” الآيات، فإنه راجع إلى المقصد وهو مزيد تقرير عظمة القدرة الإلهية [19]“…

تلك إشارات نفهم منها أن النظر المقاصدي، لدى الطاهر بن عاشور، كان له أكبر الأثر في بلورة نقد تفسيري مبني على مراعاة مقاصد القرآن ومقاصد التفسير في العملية التفسيرية، وهو ما يجعلنا نثير سؤالا لا يزال يتلجلج في الصدر؛ رغم مرور قرون طويلة عما سطره الطوفي في إكسيره؛ وهو: متى نتوصل إلى هذا القانون الذي يُرجع إليه في أمر التفسير، فنعرف متى يكون المفسر خادما لمقاصد القرآن، ومتى يكون خادما لمقاصده، ونستطيع تبين الخط الفاصل بين مقصد المفسر ومقصد النص المفسر، والخيط الرفيع الناظم لهما؟.. والأكثر من ذلك أن نعرف كيف نميز بين الخط الفاصل والخيط الناظم؟

الهوامش


[1]. الطوفي، الإكسير في علم التفسير، تحقيق عبد القادر حسين، القاهرة: مكتبة الآداب، ص27.

[2]. ينظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، بيروت: دار الجيل، ط1، 1991. وابن منظور، لسان العرب، مادة ( ق ص د)، القاهرة: دار الحديث، 2003.

[3]. علال الفاسي، مقاصد الشريعة ومكارمها، دار الغرب الإسلامي، ط 5، 1993م، ص7.

[4]. أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، شرح وتخريج الشيخ عبد الله دراز، ج 3، ص305،.

[5]. البغوي، معالم التنزيل، تحقيق محمد عبد الله النمر وعثمان جمعة وسليمان مسلم، دار طيبة للنشر، 1409ﻫ، 1/33.

[6]. ابن جزي الكلبي، التسهيل لعلوم التنزيل، تحقيق محمد سالم هاشم، دار الكتب العلمية، 1995م، 1/33.

[7]. الشيخ رشيد رضا، تفسير القرآن الكريم الشهير بتفسير المنار، مطبعة المنار، 1338ﻫ، 11/195.

[8]. المصدر نفسه، 11/206.

[9]. الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، 1/38.

[10]. المصدر نفسه، 1/40-42.

[11]. الزركشي، البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، بيروت: المكتبة العصرية، 1998م، 2/148.

[12]. ابن عطية، المحرر الوجيز، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، بيروت: دار الكتب العلمية، ط2001، 5/322.

[13]. أبو حيان، البحر المحيط، دراسة وتحقيق وتعليق: عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض وزكريا عبد المجيد وأحمد النجولي، دار الكتب العلمية، ط1: 1993م، 1/511.

[14] . تفسير المنار، م، س، 1/17.

[15]. التحرير والتنوير، م، س، 1/38

[16]. المصدر نفسه، 1/42-43.

[17]. المصدر نفسه، 1/30.

[18]. المصدر نفسه، 1/42.

[19]. المصدر نفسه.

Science

دة. فريدة زمرد

  •  عضو المكتب التنفيذي للرابطة المحمدية للعلماء، ورئيسة لجنة الدراسات والأبحاث بها.
  • رئيسة مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق