مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات وأبحاث

بعض صور من حفظ الله تعالى ورعايته لنبيه ﷺ قبل البعثة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيئين والمرسلين محمد بن عبد الله الأمين، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين.

أما بعد:

فإن من نعم الله على عباده أن اصطفى منهم  رسلا مبشرين ومنذرين، كما قال تعالى:  ﴿رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما﴾([1])، وجعل هذا الاصطفاء منوطا بقدرتهم على تحمل أعباء الدعوة إلى الله تعالى وتبليغ رسالته، فكان لابد أن تتوفر فيهم صفات تؤهلهم لحمل هذه المهمة، ومن هنا كانت الرعاية والاصطفاء، وقد بين الله تعالى  ذلك حين قال: ﴿وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته﴾([2])، وجعل محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة هؤلاء ﴿ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما﴾([3])حباه الله تعالى بالرعاية الشاملة منذ اللحظة الأولى لولادته، وهيأ له من الأمور ما يؤهل شخصيته صلى الله عليه وسلم لتحمل أعباء الرسالة، فلم تكن نشأته يتيما مرورا بديار حليمة السعدية، وحادثة شق الصدر، وحفظه من دنس الجاهلية، وغيرها إلا منهجا متكاملا في بناء شخصيته المتكاملة، لتحمل الأعباء والصبر على الأذى دون كلل أو ملل.

ولأهمية الموضوع خصصت له هذا المقال الذي سأتناول فيه بعضا من وجوه الرعاية الإلهية للنبي صلى الله عليه وسلم  قبل بعثته فأقول وبالله التوفيق:

وجوه الرعاية الإلهية للنبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته لتحمل الرسالة

لقد اصطفى الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، فتولَّاه بعنايته سبحانه، وأعدَّه للرسالة العظمى، والنبوة الخاتمة، فقد رباه وزكاه وحمَاه، وأدبه وهذبه، وشرفه ورفع ذِكرَه،

ومن مظاهر حفظ الله عز وجل له ﷺ قبل بعثته أذكر:

النسب الشريف:

فقد اصطفاه الله عز وجل من خير الأنساب وأشرفها، قال ﷺ: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»([4]).

ولادة النبي صلى الله عليه وسلم يتيما:

ولد النبي صلى الله عليه وسلم يتيم الأب؛ إذ توفي والده وأمه حامل به، وتضاعف يتمه بموت أمه وهو ابن ست سنين، لينتقل إلى كنف جده، ثم إلى رعاية عمه أبو طالب؛ فقد آواه الله عز وجل لتتحقق معجزة التربية مع فقدان الوالدين، وفي هذا دلالة على رعاية إلهية له، ثم إن أثر اليتم واضح في شخصيته ﷺ من رقة، ولين، وعطف على اليتيم، وإعانة للفقير والمسكين، حتى قبل بعثته مصداقا لقول السيدة خديجة رضي الله عنها: «إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق»([5])

إخراج حظ الشيطان من قلبه صلى الله عليه وسلم

لقد وقعت حادثة شق صدر النبي ﷺ وهو صغير، وتعد هذه الحادثة جزءا من الرعاية الإلهية له وإعداده لحمل الرسالة، فقد روى مسلم في صحيحه بإسناده  عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه -يعني: ظئره- فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره»([6]).

الخلق الحسن:

لقد حاز النبي صلى الله عليه وسلم مكارم الأخلاق كلها حتى أثنى عليه الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾([7])، وقالت عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلقه «فإن خلق نبي الله ﷺ كان القرآن»([8])، ولم تكن موضع اختلاف عند قريش لا قبل البعثة ولا بعدها؛ إذ عرف صلى الله عليه وسلم قبل بعثته بالصادق الأمين وهذا واضح من سؤال ملك الروم هرقل لأبي سفيان عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: لا»([9])، ومن تحكيم قريش له بوضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة أثناء تجديد بنائها حينما اختلفت قريش في ذلك، حيث أتفقوا على تحكيم أول رجل يدخل من الباب فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسمونه في الجاهلية الأمين فقالوا: «هذا الأمين فقالوا: يا محمد قد رضينا بك»([10]).

حفظ النبي صلى الله عليه وسلم من نقائص الجاهلية

  • أن النبي لم يأت من أمور الجاهلية بشيء كعبادة الأصنام والأكل مما ذبح لغير الله

ومن مظاهر الرعاية الإلهية له صلى الله عليه وسلم أن حفظه من كل ما يقدح في نبوته ، أو ينفِّر الناس عن دعوته، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عن الآثام ، تنزها من كل ما يعيب أو يشين البشر في سلوكهم، بعيدا عن شرك الجاهلية وعبادة الأصنام والأكل مما ذبح لغير الله والحلف بغير الله، روى الإمام أحمد في مسنده عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: حدثني جار لخديجة أنه سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو يقول لخديجة : «أي خديجة والله لا أعبد اللات والعزى. قال: كان صنمهم التي كانوا يعبدون ثم يضطجعون»([11])، وروى زيد بن حارثة قال: « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مردفي إلى نصب من الأنصاب فذبحنا له شاة ووضعناها في التنور حتى إذا نضجت استخرجناها فجعلناها في سفرتنا ثم أقبل النبي صلى الله عليه وسلم يسير…» إلى أن قال: « فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم البعير الذي كان تحته ثم قدمنا إليه السفرة التي كان فيمها الشواء فقال: ما هذه؟ فقلنا: هذه شاة ذبحناها لنصب كذا وكذا فقال: إني لا آكل ما ذبح لغير الله »([12])

ب-صيانته مما كان عليه قومه  في الجاهلية من التعري وما يفعلونه  في الحج.

كان من أمر الجاهلية كشف العورة، بل مما كان من أمر الجاهلية أن يحج الناس وهم عراة حتى جاء الإسلام، وقد حفظ الله نبيه قبل البعثة، ومن ذلك ما وقع في قصة اشتراك النبي صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة  كما في حديث جابر رضي الله عنه قال: «لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان حجارة، فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة، ففعل فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء، ثم قام فقال: «إزاري إزاري» فشد عليه إزاره»([13])، وفي رواية: «فما رؤي بعد ذلك اليوم عرياناً» ([14]).

وثبت في الحديث أنه كان لا يقف بالمزدلفة ليلة عرفة، بل كان يقف مع الناس بعرفات كما قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق بإسناده عن جبير بن مطعم قال: «لقد رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو على دين قومه، وهو يقف على بعير له بعرفات  من بين قومه حتى يدفع معهم، توفيقا من الله عز وجل»([15]).  

 الخاتمة:

   وفي الختام أحمد الله  تعالى الذي أعانني على إتمام هذا المقال الذي أوردت فيه بعض صور من حفظ الله تعالى ورعايته لنبيه ﷺ قبل البعثة وإعداده لحمل الرسالة باختصار، راجية منه سبحانه وتعالى أن ينفع به، ويذخر لي أجره يوم لقائه.  وصلى الله على نبينا المجتبى، وعلى آله وأصحابه أولي النهى والحمد لله رب العالمين.

************

هوامش المقال:

([1]) سورة النساء الآية: (165).

([2]) سورة الأنعام من الآية: (124).

([3]) سورة الأحزاب من الآية: (40).

([4]) أخرجه مسلم في صحيحه (2 /1080) كتاب: الفضائل، باب: فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة برقم: (2276).

([5]) أخرجه البخاري في صحيحه (1 /14) كتاب: الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم: (3).

([6]) أخرجه مسلم في صحيحه (1 /87) كتاب: الإيمان، باب: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم برقم: (162).

([7]) سورة القلم الآية: (4).

([8]) هذا الحديث هو جزء من حديث طويل أخرجه مسلم في صحيحه (1 /336) كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب جامع صلاة الليل برقم:  (746).

([9]) الحديث أخرجه البخاري في صحيحه (1 /16)، كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم: (7).

([10]) أخرجه الحاكم في مستدركه (1 /628) برقم: (1683).

([11]) رواه أحمد في مسنده (29 /467) برقم: (17947).

([12]) رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1 /199-200) برقم: (257)، و الحاكم (3/238) برقم: (4956) وغيرهما.

([13]) أخرجه البخاري في صحيحه (1 /488) كتاب: الحج، باب: فضل مكة وبنيانها برقم: (1582)، ومسلم في صحيحه (1 /165) كتاب: الحيض، باب: الاعتناء بحفظ العورة برقم: (340) واللفظ لمسلم.

([14]) وهي رواية: زكرياء بن أبي إسحاق في صحيح مسلم (1 /165) كتاب: الحيض، باب: الاعتناء بحفظ العورة برقم: (340).

([15]) رواه ابن إسحاق في سيرته بإسناد صحيح متصل رجاله كلهم ثقات وقد صرح ابن إسحاق  بالسماع من شيخه (2/ 76).

**********************

لائحة المصادر والمراجع  المعتمدة:

الآحاد والمثاني. أحمد بن عمرو بن الضحاك أبو بكر الشيباني. تحقيق: باسم فيصل أحمد الجوابرة. دار الراية – الرياض. ط1/ 1411 – 1991.

الجامع الصحيح. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1 / 1400هـ.

سيرة ابن إسحاق المسماة: بكتاب المبتدأ والمبعث والمغازي. محمد بن إسحاق بن يسار. تحقيق: محمد حميد الله. (د.ت)

صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي.دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427-2006.

المستدرك على الصحيحين. محمد بن عبدالله الحاكم النيسابوري. دار الكتب العلمية – بيروت. تحقيق : مصطفى عبد القادر عطا. ط1/ 1411 – 1990.

المسند. أحمد بن حنبل. تحقيق: شعيب الأرنؤوط، وآخرون. مؤسسة الرسالة بيروت. ط 1/1416-1995.

*راجع المقال : الباحث يوسف أزهار

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق