مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةمفاهيم

باب الكلام في الاستطاعة

[ الإنسان يستطيع باستطاعةٍ هي غيره ]      فإن قال قائل : لم قلتم أن الإنسان يستطيع باستطاعة هي غيره ؟ قيل له : لأنه يكون تارة مستطيعاً وتارة عاجزاً كما يكون تارة عالماً وتارة غير عالم وتارة متحركاً ، وتارة غير متحرك ، فوجب أن يكون مستطيعاً بمعنى هو غيره كما وجب أن يكون عالماً بمعنى هو غيره ، وكما وجب أن يكون متحركاً بمعنى هو غيره لأنه لو كان مستطيعاً بنفسه ، أو بمعنى تستحيل مفارقته له لم يوجد إلا وهو مستطيع فلما وجد مرة مستطيعاً ومرة غير مستطيع صح وثبت أن استطاعته غيره .
      فإن قال قائل : فإذا أثبتم له استطاعة هي غيره فلم زعمتم أنه يستحيل تقدمها للفعل ؟
قيل له : زعمنا ذلك من قبل أن الفعل لا يخلو أن يكون حادثاً مع الاستطاعة في حال حدوثها أو  بعدها .
      فإن كان حادثاً معها في حال حدوثها فقد صح أنها مع الفعل للفعل ، وإن كان حادثاً بعدها ، وقد دلت الدلالة على أنها لا تبقى وجب حدوث الفعل بقدرة معدومة .
ولو جاز ذلك لجاز أن يحدث العجز بعدها فيكون الفعل واقعاً بقدرة معدومة، ولو جاز أن يفعل في حال هو فيها عاجزاً بقدرة معدومة لجاز أن يفعل بعد مائة سنة من حال حدوث القدرة، وإن كان عاجزاً في المائة سنة كلها بقدرة عدمت من مائة سنة وهذا فاسد .
وأيضاً فلو جاز حدوث الفعل مع عدم القدرة ووقع الفعل بقدرة معدومة لجاز وقوع الإحراق بحرارة نار معدومة وقد قلب الله النار برداً، والقطع بحد سيف معدوم وقد قلب الله تعالى السيف قصباً، والقطع بجارحة معدومة وذلك محال. فإذا استحال ذلك وجب أن الفعل يحدث مع الاستطاعة في حال حدوثها.
      فإن قال: ولم زعمتم أن القدرة لا تبقى؟ قيل له: لأنها لو بقيت لكانت لا تخلو أن تبقي لنفسها أو لبقاء يقوم بها.
      فإن كانت تبقي لنفسها وجب أن تكون نفسها بقاءً لها، وأن لا توجد إلا باقية، وفي هذا ما يوجب أن تكون باقية في حال حدوثها.
      وإن كانت تبقى ببقاء يقوم بها والبقاء صفة فقد قامت الصفة بالصفة والعرض بالعرض وذلك فاسد.
      فإن قال: فما أنكرتم أن تكون القدرة على الشيء قدرة عليه وعلى ضده. قيل له : لأن من شرط القدرة المحدثة أن يكون في وجودها وجود مقدورها.
      لأن ذلك لو لم يكن من شرطها وجاز وجودها وقتاً ولا مقدور لجاز وجودها وقتين وأكثر من ذلك؛ إذ لا فرق بين وقت ووقتين وأكثر .
      ولو كان هذا هكذا لجاز وجودها الأبد، وهو فاعل غير فاعل على وجه من الوجوه .
ألا ترى أنه لما لم يكن من شرط قدرة القديم أن في وجودها وجود مقدورها، وجاز وجودها ولا فعل لم يستحل أن لا تزال موجودة ولا فعل على وجه من الوجوه، فلما استحال أن تكون قدرة الإنسان الأبد موجودة ولا موجودة منه فعلا  ولا ترك ولاطاعة ولا عصيان، والأمر والنهي قائمان استحال ذلك وقتاً واحداً.
      وإذا استحال وقتاً واحداً أن توجد القدرة ولا مقدور فقد وجب أن يكون من شرط قدرة الإنسان أن في وجودها وجود مقدورها، فإذا كان ذلك كذلك، استحال أن يقدر الإنسان على الشيء وضده؛ لأنه لو قدر عليهما لوجب وجودهما وذلك محال.
      فإن قال قائل: ما أنكرتم أن تكون قدرة واحدة على إرادتين وعلى حركتين أو على مثلين.
قيل له : إنا أنكرنا ذلك من قبل أن القدرة لا تكون قدرة إلا على ما يوجد معها في محلها، فلو كانت قدرة واحدة على حركتين لم تخل أن تكون قدرة على حركتين أن توجدا معها في حال حدوثها أو على حركتين أن تكون واحدة بعد أخرى.
       فإن كانت قدرة على حركتين أن تكونا معاً فقد وجدت حركتان في موضع واحد في وقت واحد.
ولو جاز هذا لجاز ارتفاع إحدى الحركتين إلى ضدها من السكون، فيكون الجوهر متحركاً عن المكان ساكناً فيه وقت واحد وهذا محال.
      وإن كانت قدرة على حركتين أن توجد إحداهما بعد الأخرى، فقد قام الدليل والبرهان على أن القدرة لا تبقى وهذا يوجب جواز وجود الفعل بقدرة معدومة، وهذا مما قد بينا فساده.
      ومما يدل على أن الاستطاعة مع الفعل للفعل إن لم يخلق الله تعالى له استطاعة محال أن يكتسب   شيئاً .
فلما استحال أن يكتسب الفعل إذا لم تكن استطاعة صح أن الكسب إنما يوجد لوجودها وفي ذلك إثبات وجودها مع الفعل للفعل .
      فإن قالوا : أليس في عدم الجارحة عدم الفعل . قيل لهم : في عدم الجارحة عدم القدرة وفي عدم القدرة عدم الاكتساب لأنها إذا عدمت عدمت القدرة فلعدم القدرة ما استحال الكسب إذا عدمت الجارحة لا لعدم الجارحة .
ولو عدمت الجارحة ووجدت الفكرة لكان الاكتساب واقعاً ولو كان إنما استحال الاكتساب لعدم الجارحة لكان إذا وجدت وجد الكسب .
فلما كانت توجد ويقارنها العجز وتعدم القدرة فلا يكون كسب علم أن الاكتساب إنما لم يقع لعدم الاستطاعة لا لعدم الجارحة .
      فإن قالوا : أفليس في عدم الحياة عدم الكسب ؟ قيل لهم : نعم ، لأن الحياة إذا عدمت عدمت القدرة ، فلعدم القدرة ما استحال الكسب لا لعدم الحياة .
ألا ترون أن الحياة تكون موجودة وثم عجز فلا يكون الإنسان مكتسباً فعلم أن الكسب لم يعدم لعدمها ، ولا يوجد لوجودها . والجواب في الحياة كالجواب في الجارحة .
      فإن قالوا : إذا كان في عدم الإحسان للحياكة عدم الحياكة فلم لا يكون في وجود الإحسان لها وجودها ؟
قيل : إن الحياكة تعدم لعدم قدرتها لا لعدم إحسانها ولو عدمت الحياة لعدم الإحسان لها لوجدت بوجود الإحسان لها .
فلما لم يكن ذلك كذلك وكان الإحسان لها يجامعه العجز علم أنها إنما تعدم لعدم القدرة عليها.
ولو أجرى الله تعالى العادة أن يخلق القدرة عليها مع عدم الإحسان لها لوقعت الحياكة لا محالة.
      فإن قالوا: فإذا كان في عدم التخلية والإطلاق عدم الفعل ففي وجودهما وجود الفعل.
قيل لهم: كذلك نقول، فإن قالوا: فإذا كان في عدم احتمال البنية للفعل عدم الفعل، فلم لا يكون في وجود احتمال البنية للشيء وجوده؟
قيل لهم: كذلك نقول لأن البنية لا تحتمل إلا ما يقوم بها، وكلما تعارضونا به في هذه العلة، فالجواب فيه كالجواب في الجارحة والحياة؛ لأنه ليس عدم الكسب لعدمه.
ومما يدل على أن الاستطاعة مع الفعل قول الخضر لموسى عليهما السلام: (( إنك لن تستطيع معي صبراً )) [الكهف : 67].
فعلمنا أنه لما لم يصبر، لم يكن للصبر مستطيعاً؛ وفي هذا بيان أن ما لم تكن استطاعة لم يكن الفعل، وأنها إذا كانت كان لا محالة.
ومما يبين ذلك أن الله تعالى قال: ((ما كانوا يستطيعون السمع)) [هود : 20]، وقال: (( وكانوا  لا يستطيعون سمعاً (100) )) [الكهف : 101] ، وقد أمروا أن يسمعوا الحق وكلفوه .
فدل ذلك على جواز تكليف ما لا يطاق، وإن من لم يقبل الحق ولم يسمعه على طريق القبول لم يكن مستطيعاً.
      فإن قالوا: ألا يستطيعون الاستقبال. قيل لهم: ما الفرق بينكم وبين من قال: إنهم لا يستطيعون قبول الحق للاشتغال بتركه.

مصدر النص: كتاب اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع:

  للشيخ الإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري.

الباب التاسع . ص:41.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق