مركز الدراسات القرآنيةدراسات عامة

الوحدة البنائية في القرآن المجيد

يدعو الدكتور طه جابر العلواني إلى قراءة القرآن باعتباره واحداً لا يقبل التعضية ولا التفريق ولا التجزأة، ويؤكد أن إدراك الوحدة البنائية يساعد على حسن القراءة والترتيل ودقَّة التلاوة ثم استقامة الفهم. كما أوضح في هذه المساهمة أن الوحدة البنائية ركن منهاجيُّ، وليست مجرد فضيلة تضاف إلى فضائل الأسلوب القرآنيّ التي لا تحصى.

مقدمة

قراءة القرآن المجيد ليست قراءة عادية، فهي لا تشبه قراءة أي نصّ منظوم أو منثور، كما لا يرقى لمشابهة القرآن أيّ نصّ آخر. فقراءة القرآن هي قراءة خاصة تقتضي من القارئ أن يكون قد هيَّأ نفسه وعقله وذهنه وقلبه ووجدانه تهيئة تامة لتلقيه وتلاوته تلاوة تلائم مقام القرآن وتناسبه، بحيث يكون القارئ مدركا تماما أنّه يقرأ كلمات الله ووحيه إلى الإنسان الرسول النبي صلى الله عليه وسلم الذي قام بدوره بتلقي هذا الوحي ونقله إلينا قرآنا عربيّاً غير ذي عوج ولا ريب فيه، وصرنا حين نقرؤه، نقرؤه دون وسائط، خطاباً إلهياً موجّهًا إلينا بشكل مباشر. فكأنك وأنت ترتّله تطوي الوحي الإلهيَّ في ثنايا قلبك وعقلك ووجدانك. فلكي نرقى إلى مستواه، ونعرج إلى عليائه فإن علينا أن نتدبر آياته، ونتلوها تلاوة، ونرتلها ترتيلاً، ونفكر فيها، ونتعقّلها، فإنه لولا تيسير الله له للذِّكر، لما أمكن للبشر المخلوق أن يمسّه، ويدرك شيئاً من آفاقه. إذ أنّ من شأن هذا القرآن أن لا يمسُّه إلا المطهّرون. من هنا أمرنا أن نعطي تلاوته “حق التلاوة”. وحق التلاوة أمر عظيم لا يتيسر إلا بتوفيق الله تبارك وتعالى، والتواضع لجنابه، والإطراح على أعتابه.

وقد حذّر القرآن المجيد من كثير من أنواع القراءات التي تكون حجة على القارئ، لا حجة له. ومن أبرز أنواع القراءات التي شدَّد النكير على أصحابها “القراءة الحماريّة” وهي التي جاء التنبيه إليها والتحذير منها في الآية الخامسة من سورة الجمعة: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِيسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِئايَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾، وليس هناك شيء أبلغ في نفي حقيقة القراءة وعدم الاستفادة بها من هذا المثل. فالحمار لا يقرأ ولا يكتب ولا يفكر ولا يتعظ ولا يتذكر. جوهر العلاقة بين الحمار والكتاب أن يوضع الكتاب على ظهره، ويسيّره صاحبه -بعد ذلك- يمنة أو يسرة كما يشاء، بل الحمار لا يدرك ما الذي يحمل، فضلاً عن أن يدرك أهميَّته، إنّما يدرك منه ثقله أو خفته على ظهره. ولذلك فإنَّ هذا النوع من حمل الأمانة – أمانة الكتاب، لم يؤد بهم إلى فقه في الدين، اللّهم إلا ذلك “الفقه البقريّ” إن صح تسمية ما بدا منهم في تعاملهم مع الأمر بذبح “بقرة” فقهاً.

بل قد حدث منا ما هو أخطر من ذلك حين شابهنا ﴿كما أنزلنا عَلَى المُقْتَسِمِينَ، الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾ [سورة الحجر، الآية: 90-91] فـ”المقتسمون” وإن تعددت أقوال المفسَّرين فيهم[1]، فإنَّنا نرجح أن يكون المراد أولئك الذين جعلوا القرآن مقسّماً، فما وافق ما لديهم قالوا بصحته مع دعوى اقتباسهم منه، وما خالف ما عندهم من تراث قالوا فيه ما يشاؤون: (أساطير الأولين أو سحر أو كهانة أو شعر). فقسّموه وقالوا: نؤمن ببعض ونكفر ببعض ليخدعوا البسطاء “بموضوعيّتهم” أو علميّة مواقفهم المضطربة التي لا دليل عليها. وليسهل عليهم ذلك الاقتسام جعلوه أعضاء: من “التعضية” بمعنى التفريق والتجزأة، يقال: عضّيتُ الجزور والشاة تعضية إذا جعلتها أعضاء وقسمتها. ومثل ما نهينا عن حمل القرآن بطريقة “حماريَّة” نهينا عن مشابهة سائر أولئك الذين عضّوه تعضية، وفرَّقوه، واتخذوا آياته شواهد لما يذهبون إليه بدلاً من أن ينطلقوا منه كلّه في كل ما يأخذون ويدعون، ويقرؤونه باعتباره قرآناً واحداً لا يقبل التعضية ولا التفريق ولا التجزأة.

إن المسلمين حين قرؤوا القرآن بطريقة التجزأة متشبهين بأولئك المقتسمين بوجه من الوجوه قد فقدوا الكثير من أنوار القرآن، وآثار آياته الموحَّدة التي أحكمت فصار كالكلمة الواحدة – كما قال أبو علي الفارسي (ت377هـ).

من هنا يصبح تناول “الوحدة البنائيَّة للقرآن المجيد” أمراً في غاية الأهمية؛ لأن إدراك هذه الوحدة سوف يساعد الباحث المسلم على حسن القراءة والترتيل، ودقَّة التلاوة، ثم استقامة الفهم إن شاء الله. فهي ركن منهاجيُّ، وليست مجرد فضيلة تضاف إلى فضائل الأسلوب القرآنيّ التي لا تحصى.

بيان المراد بالوحدة البنائيَّة

أما “الوحدة” فهي مقابل للكثرة والتعدّد أيّاً كان نوع الكثرة، وأيّاً كان إطار التعدُّد. فكون الشيء واحداً يعنى به: أنَّه ليس متعدداً، ولا قابلاً للكثرة أو التكرار. وفي “الوحدة” معنى الثناء، فإن قيل: “فلان واحد الدنيا”، أو “وحيد عصره”. أريد به ذاك، فكأنَّه رغم انتمائه إلى البشر، وكونه واحداً منهم فإن له من الخصال والمزايا الحسنة ما يجعله كأنّه انفصل عن جنسه الذي لا يتمتع بتلك الخصال منه غيره، فصار واحداً. وقد قال الشاعر مادحاً:

فإن تفق الأنام وأنت منهم  …   فإنّ المسك بعض دم الغزال

والقرآن المجيد منفصل عن سائر الكتب المنزلة وغير المنزلة، متفوق عليها ـ جميعاً ـ بخصائصه ومزاياه، ونظمه وبلاغته وفصاحته، وهو في الوقت ذاته واحد في داخله بهذه المزايا والخصائص، ينتظم حروفه وكلماته وآياته وسوره سلك واحد. والقرآن واحد في كونه متفرَّداً من تلك الحيثيَّة، ومن حيث الأهداف والمقاصد والغايات والآثار حتى ليبدو في ذلك ـ كلَّه ـ كما لو كان كلمة واحدة، أو جملة واحدة. لأن الواحد ـ في الحقيقة ـ ما لا جزء له البتة؛ فلا يقبل “التعضية” أيْ التقسيم إلى أعضاء، ولا يقبل التحويل والتغيير والتبديل فيما يتألف منه.

والواحد لفظ مشترك يستعمل على ستة أوجه:

فيستعمل لما كان واحداً في الجنس أو النوع مثل أن يقال: “الإنسان أفضل من الحيوان”. أو فيما هو أهم بحيث يراد به جنس الإنسان وجنس الحيوان، فإذا قلت: زيد وعمرو واحد، أردت بذلك وحدتهما من حيث الانتماء إلى نوع واحد هو “الإنسان”.

ويطلق على ما كان واحدا من حيث الخلقة، كأن تقول: “شخص واحد” أو من حيث الصناعة، كأن تقول: “حزمة واحدة”.

ويطلق على ما كان واحداً لعدم نظيره، إما في الخلقة، كأن يقال: “الشمس واحدة”. وإما في نسبة الفضائل إليه، كأن يقال: “فلان وحيد دهره، ونسيج وحده”. ويقال لما كان واحداً لامتناع تجزؤه، أو امتناع تعضيته لصغره، أو لصلابته، أو لأنَّه غير قابل للتجزئة بطبيعة تكوينه.

ويقال لبداية العدد (واحد) وهو ما فوق الصفر ودون الاثنين.

وإذ وُصف الله تبارك وتعالى به أريد أنه لا يصح عليه التعدّد والتجزئ والتكثُّر؛ فهو واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله وفي ألوهيَّته وربوبيَّته.

والقرآن واحد في جنسه ونوعه ونظمه وتحديه، وفرادته وإعجازه. لا يقبل التكثُّر ولا التعدّد ولا التعضية ولا التجزؤ. لا يشاركه في خصائصه وصفاته ومنهجه كتاب آخر؛ لا منزل ولا موضوع. وذلك هو مرادنا بـ “وحدته” من هذه الحيثيَّة.

أما “وحدته البنائيَّة” فقد أردنا بها أنه بكل سوره وآياته وأجزائه وأحزابه وكلماته يعتبر كأنه جملة واحدة.

وأما وصفنا لهذه “الوحدة” بـ”البنائيَّة” أو إضافة هذه “الوحدة” إلى “البنائيَّة” فقد أردنا به الإشارة إلى ما يدل عليه قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتَ ـايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [سورة هود، الآية: 1] فالإحكام ـ هنا ـ من إحكام البناء بحيث يمتنع أي اختراق له لمتانته وقوته، ويدل عليه أو يدل له قوله تعالى: ﴿فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءايَاتِهِ﴾ [سورة الحج، الآية: 50] بحيث يمتنع على الشيطان أن يبلغ شيئاً منها، فهي لتطمين البشرية أن هذا القرآن محفوظ ومغلق بإحكام أمام كل محاولات الاختراق. ومنها محاولات الشياطين الذين وَهَمَ الجاهليّون أنهم قادرون على اختراق أي مجال فزعموا أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال تعالى: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ﴾ [سورة الشعراء، الآية: 220] ويعضد ذلك قوله تعالى: ﴿مِنْهُ ءايَاتٌ محْكَمَاتٌ﴾ [سورة ال عمران، الآية: 7] أي: ما لا يمكن أن تعرض فيه شبهة أو يتطرق إليها عارض يتيح لأهل الفتنة والذين في قلوبهم مرض استثمار ذلك على وجه الحقيقة؛ لأن كل ما قيل أو يقال منهم ضد هذا القرآن إنَّما هو من قبيل الشغب واللَّغو، وعلى هذا يكون المراد بهذا المركب “الوحدة البنائية” للقرآن، أي: أن القرآن المجيد واحد لا يقبل بناؤه وإحكام آياته التعدّد فيه أو التجزأة في آياته، أو التعضية بحيث يقبل بعضه، ويرفض بعضه الآخر، كما لا يقبل التناقض أو التعارض وغيرهما من عيوب الكلام. فهو بمثابة الكلمة الواحدة أو الجملة الواحدة أو الآية الواحدة، وإذا كانت قد تعددت آياته وسوره وأجزاؤه وأحزابه؛ فذلك التعدد ضرورة لا غنى عنها في التعليم والتعلّم، والتنزيل لتغيير الواقع وإبداله. فلم يكن في مقدور الإنسان أن يستوعب قرآناً يتصف بكل صفات القرآن جملة واحدة؛ بل عليه أن يأخذه أو يتبنَّاه باعتباره ذا وحدة بنائيَّة لا تختلف عن وحدة الكلمة في حروفها[2]، ووحدة الجملة في كلماتها وأركانها، ووحدة الإنسان في أعضائه، ولو نزل مفرقا. ولذلك فهو حين تعرض في أذهان بعضهم بعض آفات الخطاب ترتد عنه خاسئة حسيرة حتى لكأنَّ آياته تتراص فتصبح كالكلمة الواحدة في بنائه. فإذا مارس دوره في الهداية تفتّح واتسع ليستوعب كل ما لا تتحقق أهدافه بدون استيعابه، ثم يتجاوزها. وهكذا يستوعب فضاؤه كل الحادثات وسائر المستجدات وجميع الثقافات والحضارات وحاجات وتطلعات وأشواق بني الإنسان كافة. وليس هناك أي كتاب أو خطاب عربي أو وارد بغير العربية وعلى أي مستوى كان يتمتع بهذه الصفة عدا القرآن الكريم. إذ يستحيل على كتاب حتى لو بني بشكل موسوعة تبلغ عشرات، بل مئات المجلدات أن يستوعب “نبأ من قبلنا”[3]، وما نبأ من قبلنا إلا تاريخ البشرية -كلها- وكل تفاصيل ذلك التاريخ؛ بشراً وأشياءً وأحداثاً وعبراً ودروسا.

1 2 3 4 5الصفحة التالية
Science

الدكتور طه جابر العلواني

• رئيس المجلس الفقهي بالولايات المتحدة الأمريكية سابقا
• رئيس جامعة قرطبة الإسلامية بوشنطن سابقا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق