مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

المَلامِحُ الكُبْرَى لِلْهَدْي النَّبَوي فِي قِيَامِ رَمَضَان

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الباحث: د. محمد اليولو

      الحمد لله الذي فضل شهر رمضان على سائر الشهور والأيام، وجعله موسما للطاعات والمسابقة في الخيرات، وجعل صيامه وقيامه غفرانا لما تقدم من الذنوب والسيئات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له  الرحيم الرحمن، الذي خصَّ شهر رمضان بإنزال القرآن، والصلاة والسلام على أحسن من قام الليل وصام.

      أما بعد : فهذا مقال رمت فيه تذكيرا موجزا ببعض الملامح الكبرى  للهدي النبوي في  قيام رمضان الأبرك، وما ورد فيه من أحاديث وأخبار فأقول وبالله التوفيق:

     كان من هديه ﷺ أنه لم يكن يزيد في قيام رمضان في صلاة التروايح على إحدى عشرة ركعة ، أو ثلاث عشرة ركعة ، كما يدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن صلاة رسول الله ﷺ في رمضان؟ فقالت : «ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة»([1])، وحديثها الآخر قالت : «كان رسول الله يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين»([2]).

      وصح عنه ﷺ أنه صلى التراويح في المسجد مفردا كما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها :”أن رسول الله ﷺ خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد، وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا ، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله ﷺ فصلى بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد، ثم قال: «أما بعد فإنه لم يخف عليَّ مكانكم؛ ولكني خشيت أن تُفرض عليكم فتعجزوا عنها»، فتوفي رسول الله ﷺ والأمر على ذلك([3]).

     ومن حِكَم قيامه في المسجد بمفرده أنه ﷺ خشي أن يفرض القيام على أمته فيقصِّر فيه أناس فيأثموا، وهو بذلك يُعَلِّم الدعاة إلى الله تبارك وتعالى على أن يأخذوا الناس على طاقتهم ووسعهم في هداية الأمة ودعوتها.

     ثم حافظ المسلمون من بعده ﷺ على سنة القيام جماعة في المسجد منذ عهد سيدنا عمر رضي الله عنه إلى اليوم، فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن عبدٍ القارىء قال : « خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم  البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ـ يريد آخر الليل ـ وكان الناس يقومون أوله» ([4]).

     وكان من هديه ﷺ أنه لم يكن يقوم  سائر الليل كله حتى يصبح ، ولا ختم القرآن كله في ليلة واحدة، ويدل عليه  حديث عائشة رضي الله عنها قالت : « ولا أعلم نبي الله قرأ القرآن كله في ليلة ، ولا قام ليلة حتى أصبح ، ولا صام شهراً كاملاً غير رمضان »([5]).

       وكان من هديه ﷺ إطالته لصلاة القيام في رمضان فقد سئلت عائشة : كيف كانت صلاة رسول الله في رمضان ؟ فقالت : «ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة : يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل  عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي ثلاثاً، فقلت : يا رسول الله ، أتنام قبل أن توتر ؟ قال : يا عائشة ! إن عينيَّ تنامان ولا ينام قلبي»[6]  .

      وكان من هديه ﷺ بعد انتهاء قيامه وقبل دخول وقت الفجر الحث على تناول وجبة السحور فقال: «تسحروا فإن في السحور بركة»([7])، وكان يحرص عليها ولو كانت من باب الدعوة، فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله وهو يدعونا إلى السحور في شهر رمضان فقال: «هلموا إلى الغداء المبارك»([8]).

      وكان هذا حاله ﷺ في ليالي رمضان؛ بيد أن همته في قيام الليل تزيد في العشر الأواخر منه؛ حيث كان من هديه ﷺ الاجتهاد في العبادة في هذه العشر الأواخر من رمضان، فقد ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: « كان رسول الله إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجد، وشد المئزر» ([9]) ، وفي رواية عند مسلم: «كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره»([10]). و « إنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان، فلمّا كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين»([11]).

        ويرجع حرصه ﷺ على الاجتهاد في هذه العشر الأواخر؛ لأن فيها ليلة القدر  المباركة التي أنزل فيها القرآن، كما أنها ليلة الجائزة الكبرى، فعبادتها تعدل ألف سنة، بل هي بنص القرآن (خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) ([12])  . لذا يخبرنا النّعمان بن بشير رضي الله عنه فيقول: «قمنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل الأول، ثم قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثم قمنا ليلة تسع وعشرين حتى ظننا أن لا ندرك الفلاح، وكانوا يسمونه: السحور»([13]).

                                                              الخاتمة:

         هذه نبذة يسيرة من سيرة النبي ﷺ في رمضان، وهي سيرة تكشف لنا همّته العالية، وتفانيه في عبادة ربه العلي في هذا الشهر الكريم، فكانت همّته في هذا الشهر إنما هي ابتغاء مزيد من القرب من الرفيق الأعلى، فعلى المسلم الراجي ثواب ربه الغفور التأسي به ﷺ في ذلك، وأن يكون قيام المسلم وصيامه وسيلة لتهذيب نفسه، وإصلاح حاله؛ وذلك لأجل نيل الدرجات العلى، والفوز بالجنان مصداقا لقوله ﷺ: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه»([14]).

     وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل مني ومنكم جميعا صيام هذا الشهر وقيامه، وأن يجعل هذا العمل في ميزان حسناتي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

*******************

لائحة المصادر والمراجع:

1- الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان: لأبي حاتم أحمد ابن حبان الدارمي، البُستي، ترتيب: الأمير علاء الدين علي بن بلبان الفارسي، ت: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1 ،1408 هـ/1988م.

2- السنن الكبرى: لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، مؤسسة هجر للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1432هـ/2011م.

3- السنن الكبرى: لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، ت: د.عبد الغفار سليمان البنداري، سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1،  1411هـ/1991م.

4- السنن: لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني: ت: شعَيب الأرنؤوط، ومحَمَّد كامِل قره بللي، دار الرسالة العالمية، ط1، 1430 هـ / 2009 م.

5- السنن: لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، ت:محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض.

6- صحيح البخاري: لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، دار ابن كثير، ط1، 1423هـ/2002م.

7- المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله : لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، ت: أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي، دار طيبة، ط1، 1427هـ/2006م.

8- المسند: لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، ت: شعيب الأرنؤوط، وعادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط1، 1421 هـ /2001م.

******************

 

هوامش المقال:

([1])  أخرجه البخاري في كتاب: صلاة التراويح، باب: فضل من قام رمضان (2013).

([2])  أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الجمعة، باب: باب ما يقرأ في ركعتي الفجر(1170).

([3])  أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: صلاة التراويح، باب: فضل من قام رمضان (2012).

([4])  أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: صلاة التراويح، باب: فضل من قام رمضان (2010).

([5])   أخرجه أحمد في المسند ـ مسند الصديقة عائشة بنت الصدسق رضي الله عنهما ـ (40 /316)(24269).

([6])  تقدم تخريجه.

([7])   أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الصوم ، باب: بركة السحور من غير إيجاب (1923) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

([8])   أخرجه أحمد في المسند (28 /383)(17152)، وأبو داود في السنن، كتاب: الصوم ، باب: من سمى السحور الغداء (4 /30) (2344)، وابن حبان في صحيحه (8 /244)(3465)، والبيهقي في السنن الكبرى (8  /524-525)(8196). كلهم من طرق عن معاوية بن صالح، عن يونس بن سيف، عن الحارث بن زياد، عن أبي رهم، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (ص: 275)(3465).

([9])  أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الاعكتاف، باب: الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان (1 /526)(1174).

([10])  المصدر السابق.

([11])   أخرجه أحمد في المسند (14 /155)(8435)، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب: الاعتكاف، باب: الاعتكاف في العَشْرِ التي في وسط رمضان (2 /259)(3334)، قال الأرنؤوط:”إسناده صحيح على شرط البخاري رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي بكر بن عياش، فمن رجال البخاري. أبو حصين: هو عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي، الكوفي. أبو صالح: هو ذكوان المدني السمان “.

([12])   القدر:3.

([13])   أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب: قيام الليل وتطوع النهار باب: قيام شهر رمضان (1 /410)(1299).

([14])  صحيح مسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح (1 /343)(759).

*راجعت المقال الباحثة: خديجة أبوري

Science

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق