مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةمفاهيم

المَجاز بين الإثبات والإنكار

عبارَة: نقل الكلام من الحقيقة إلى المَجاز، فيها نظر !!!

فلقَد بنى البلاغيون القُدماءُ نظريتَهم البلاغيةَ على أنّ الأصلَ في الكلام الحقيقةُ ثم يأتي النقلُ والتحويل ليصيرَ ما كان حقيقةً، مجازاً وكنايةً واستعارةً وادّعاءً … وتذهبُ النّظريّة الحديثَةُ إلى أنّ الكَلامُ يُبْنى في الأصل على ما أراده المتكلمُ من غير أن يخضع لنقل أو تحويل أو ادّعاء أو انزياح… فالقاعدةُ هي أنّ للكلام مَثاراتٍ ومَعادنَ من أصول المَقام وأغراض المتكلمين، فيُبْنى الكلامُ مُطابقاً للأغراض منذ الأصل أو الميلاد [أي ميلاد الجملة في ذهن المتكلّم] وهنا يُرجَعُ إلى رأي جونسون وليكوف وبول ريكور صاحب الاستعارة الحيّة  La Métaphore vive، وغيرهم.

لكن الحديثَ عن المجاز والاستعارَة لا يَنبغي أن يمرَّ دونَ التوقف عند موقف ابن تيميةَ من الموضوع:

  1. القاعدةُ التي استندَ إليها أحمد بنُ تيميةَ رحمه الله، في رَفضِ تقسيم الكلام إلى حقيقةٍ ومَجازٍ:
    »قَالُوا: “الحَقِيقَةُ”: اللَّفْظُ المُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ. و”المَجَازُ”: هُوَ المُسْتَعْمَلُ في غَيْرِ ما وُضِعَ لَهُ؛ فَاحْتَاجُوا إلَى إثْبَاتِ الْوَضْعِ السَّابِقِ عَلَى الاسْتِعْمَالِ وَهَذَا يَتَعَذَّرُ«
  • 2وقال في تفصيل المسألة مبيناً استحالةَ وجود المَجاز في الكَلام:

من قال: إن هذا مجاز فقد غَلِطَ؛ فإن هذا المجموع لم يستعمل في غير موضعه، وما يقترن باللفظ من القرائن اللفظية الموضوعة هي من تمام الكلام؛ ولهذا لا يحتمل الكلام معها معنيين، ولا يجوز نفي مفهومهما، بخلاف استعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع، مع أن قول القائل: هذا اللفظ حقيقة، وهذا مجاز، نزاع لفظي، وهو مُستَنَدُ من أنكر المجاز في اللغة أو في القرآن، ولم ينطق بهذا أحد من السلف والأئمة، ولم يُعرَفْ لفظُ المجاز في كلام أحدٍ من الأئمة إلا في كلام الإمام أحمدَ؛ فإنه قال فيما كتبه من [الرد على الزنادقة والجهمية] هذا من مجاز القرآن.

  • 3-               وقال في الرّدّ على مَن الدَّعى وجودَ المجاز ومناقَشَة أدلتهم:

وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ: إنَّمَا تُعْرَفُ الْحَقِيقَةُ مِنْ الْمَجَازِ بِطُرُقِ مِنْهَا: نَصُّ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولُوا: هَذَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ ، فَقَدْ تَكَلَّمَ بِلَا عِلْمٍ ، فَإِنَّهُ ظَنَّ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا هَذَا وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَعُلَمَائِهَا وَإِنَّمَا هَذَا اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ وَالْغَالِبُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هَذَا فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ السَّلَفِ. وَهَذَا الشَّافِعِيُّ هُوَ أَوَّلُ مَنْ جَرَّدَ الْكَلَامَ فِي ” أُصُولِ الْفِقْهِ “لَمْ يُقَسِّمْ هَذَا التَّقْسِيمَ” وَلَا تَكَلَّمَ بِلَفْظِ “الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ”. وَكَذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لَهُ فِي الْمَسَائِلِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ فِي “الجَامِعِ الْكَبِيرِ” وَغَيْرِهِ. وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلَفْظِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَئِمَّةِ لَمْ يُوجَدْ لَفْظُ الْمَجَازِ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْهُمْ.

  • 4-               وقال في تفسير مصطلح “المَجاز” الذي أطلقَه أبو عبيدةَ، نافياً أن يَكونَ بمعنى مجاز البلاغيين:
    وأولُ من قال ذلك مطلقًا أبو عبيدةَ معمر بن المثنى في كتابه الذي صنفه في [مجاز القرآن]، ثم إن هذا كان معناه عند الأولين مما يَجُوز في اللغة ويَسُوغ، فهو مشتق عندهم من الجواز كما يقول الفقهاء: عَقدٌ لازم وجائز، وكثير من المتأخرين جعله من الجواز الذي هو العبور من معنى الحقيقة إلى معنى المجاز، ثم إنه لا ريب أن المجاز قد يشيع ويشتهر حتى يصير حقيقة.
  • 5ويُقدمُ أدلَّةً على عدم وُجود مجاز يُقابلُ حقيقةً:

الله أكّدَ تكليمَ موسى بالمصدر فقال: {تَكْلِيمًا}. قال غير واحد من العلماء: التوكيد بالمصدر ينفي المجاز، لئلا يُظَنَّ أنه أرْسَلَ إليه رسولا أو كتب إليه كتابًا، بل كَلَّمَه منه إليه.
أما قول القائل: هل يكون كلام الله مجازًا؟ فيقال: علامةُ المجاز صحةُ نفيه، ونحن نعلم بالاضطرار أن فلانًا لو قال بحضرة الرسول: ليس هذا كلام الله، لكان عنده لم يكن متكلمًا بالحقيقة اللغوية.
وأيضًا، فهذا موجود في كل مَن بَلَّغَ كلامَ غيره، أنه يقال: هذا كلام المُبلَّغ عنه، لا كلامُ المبلِّغ

  • 6ويَفصلُ الحديثَ في مَصدر الوَهم، ومَبعثُه من علم الكلام:

وَهَذَا الْقَوْلُ لَا نَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَهُ قَبْلَ أَبِي هَاشِمِ بْنِ الجبائي ؛ فَإِنَّهُ وَأَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ كِلَاهُمَا قَرَأَ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ الجبائي لَكِنَّ الْأَشْعَرِيَّ رَجَعَ عَنْ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَخَالَفَهُمْ فِي الْقَدَرِ وَالْوَعِيدِ وَفِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَفِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيَّنَ مِنْ تَنَاقُضِهِمْ وَفَسَادِ قَوْلِهِمْ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عَنْهُ . فَتَنَازَعَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو هَاشِمٍ فِي مَبْدَأِ اللُّغَاتِ ؛ فَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ : هِيَ اصْطِلَاحِيَّةٌ وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ : هِيَ تَوْقِيفِيَّةٌ . ثُمَّ خَاضَ النَّاسُ بَعْدَهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؛ فَقَالَ آخَرُونَ : بَعْضُهَا تَوْقِيفِيٌّ وَبَعْضُهَا اصْطِلَاحِيٌّ وَقَالَ فَرِيقٌ رَابِعٌ بِالْوَقْفِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَنْقُلَ عَنْ الْعَرَبِ بَلْ وَلَا عَنْ أُمَّةٍ مِنْ الْأُمَمِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ فَوَضَعُوا جَمِيعَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي اللُّغَةِ ثُمَّ اسْتَعْمَلُوهَا بَعْدَ الْوَضْعِ وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ الْمَنْقُولُ بِالتَّوَاتُرِ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِيمَا عَنَوْهُ بِهَا مِنْ الْمَعَانِي

  • 7-               ويَختمُ بالحُكم بإبطال دَعْوى المَجاز:

فَإِنْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ يَعْلَمُ وَضْعًا يَتَقَدَّمُ ذَلِكَ فَهُوَ مُبْطِلٌ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ.

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق