مركز الدراسات القرآنيةدراسات عامة

المنهج الدلالي: الأسس والمكونات قراءة في تفسير الحرالي المراكشي

           د. عبد الرحيم مرزوق
أستاذ الدراسات القرآنية – كلية الآداب بالجديدة 

  ينبني تفسير الإمام الحرالي المراكشي (638 هـ / 1241 م) على جملة قوانين تختص بالتطرق إلى فهم القرآن، وتتنزل في فهم القرآن منزلة أصول الفقه في تفهم الأحكام. وتشكل هذه القوانين، تنظيرا، نظرية فريدة، وتطبيقا، منهجا متميزا في التفسير الصوفي[1]. ومن أبرز ظواهر هذا المنهج الاهتمام بدلالات ألفاظ القرآن على مستوى المعنى المعجمي والتطور الدلالي والمعنى السياقي، حتى جاز لنا نعته بالمنهج الدلالي. فما هو هذا المنهج الدلالي؟ وما مجالات تطبيقاته؟ وهل الجمع بين الدلالة والتفسير الصوفي من البحث العلمي اللغوي في شيء؟

معلوم أن علم الدلالة La sémantique  هو “العلم الذي يدرس المعنى”[2] حيث ينطلق من الألفاظ، فيدرسها من الناحية المعجمية، ثم يلتفت إلى تطورها الدلالي، والقوانين التي تحكم هذا التطور، ثم يحدد ما تحتمله من معان في سياقها اللغوي والاجتماعي، ليخلص إلى الأفكار والمضامين؛ وفق نظريات علمية توظف حسب المطلوب، منها نظرية السياق ونظرية الحقول الدلالية والنظرية التحليلية وغيرها. وقد يستغرب بعض الدارسين الجمع بين الدلالة، باعتبارها فرعا من فروع علم اللغة الحديث، وبين تفسير صوفي للقرآن الكريم هو عبارة عن بحث في إشارات وتلويحات في سياق لا يخضع، في جملته، في رأيهم، للمرجعية اللغوية المعجمية؛ وإنما يتشكل وفق معجم خاص، مرجعيته الذوق والوجد والإلهام.

والواقع أنَّ عدّنا منهج الإمام الحرالي في تفسير القرآن الكريم منهجا دلاليا يرجع لاعتبارات كثيرة، منها:                                                                                            

أولا: محاولة الإمام الحرالي وضع قوانين فهم معاني القرآن، كما أن علم الدلالة يسعى إلى ذلك، إذ “الإشكالية اللغوية في هذا العلم هي الوقوع على قوانين المعنى التي تكشف أسراره، وتبين السبل إليه وكيفية حركته، لترقى الدلالة؛ فتؤدي وظائف حضارية عالية في الحياة اليومية، وميادين العلوم، وآفاق الفن”[3].

وقد يعترض على هذا الاعتبار كون قوانين الفهم عند الشيخ الحرالي، هي قوانين تكاد تنحصر في تأصيل الدلالة الإيحائية. ولكن هذا الاعتراض لا ينقض اعتبارنا هذا، من حيث إن المعنى الإيحائي هو كذلك، كما ستأتي الإشارة، من موضوعات علم الدلالة؛ ومن حيث إن استخراج المعنى يعتمد في منهج الشيخ على وسيلتين: الأولى: استيحاء الدلالة القرآنية. والثانية: الكشف والإلهام. وحيث إن معظم تفسيره من باب استيحاء الدلالة القرآنية اعتبرنا منهجه منهجا دلاليا. 

ثانيا: مراعاة الإمام الحرالي التطور الدلالي للألفاظ إذ كان غالبا، كما يتبين من النصوص المتبقية من تفسيره، ما يبدأ من الألفاظ، فيدرس المعنى المعجمي، ثم ينظر ما يعتور هذه الألفاظ من تطور يفيد في كشف معاني القرآن. كما سيأتي بيانه.                                                                        

ثالثا: مراعاته السياق اللغوي والاجتماعي. كما تحددهما مدرسة فيرث Firth .

ومن الواضح أن هذه الجوانب اللغوية هي من أسس البحث الدلالي الحديث. ونحن في هذه الدراسة الموجزة نسعى إلى بيان القضايا اللغوية التي يزخر بها تفسير الحرالي، والتي لها تعلق بعلم الدلالة. والتي ربما تكشف عن آراء وأفكار خصبة مبدعة. وليس من قصدنا في بيان هذا التعلق ادعاء السبق، لاعتقادنا أن العلم هو تراكمات وتجارب متلاحقة غير متحيزة ولا تعرف وطنا.

كان الإمام الحرالي، يدرك أن فهم الكلمة القرآنية ومحاولة تبينها وتبيانها أمر عسير، لا يكفي فيه التفسير والتأويل؛ فهم الكلمة القرآنية هو مجاهدة النفس وتزكيتها من الظنون والأهواء. فهم الكلمة القرآنية مطلب سام، وإدراك بعيد غوره. إذ الفهم في اصطلاحه هو “الأخذ من إفادة الخطاب من غير حاجة إلى سابق فسر ولا نظر إلى متقدم علم سابق، فيأخذ الفاهم من القرآن ما أعطاه القرآن لسماعه إياه”[4]، ولذلك كان لابد “في قراءة القرآن من تجديد إقبال، وتهيئ لقبول وتحقيق تقوى؛ لأنه إنما هو هدى للمتقين… فلا يقرأ القرآن من لم يقبل عليه بكلية ظاهره، ويجمع اهتمامه له بكلية باطنه”[5]. ويبقى الأمر بعد ذلك لدنيا “ليس مما في فطر الخلق وجبلاتهم وإقامة حكمتهم، وإنما هو موهبة من الله سبحانه وتعالى بحسب العناية”[6].

كان الإمام الحرالي يسعى في تفسيره إلى تعميق التلقي الذاتي للكلمات القرآنية عن طريق الإصغاء الدقيق، والإنصات العميق لهذه الكلمات. كان إحساسه بهذه الكلمات مرهفا. وكان الفهم يرادف عنده ما نسميه “الإحساس الروحي” للكلمات. ولكن “الإحساس الروحي فيما يزعم بعض المعاصرين أمر لا علاقة له بعلم اللغة، الإحساس الروحي فيما يزعمون مسألة تستبطن فيها النفس أو تخضع للتأمل الذاتي، وهي لذلك متميزة من شئون البحث العلمي في أمور اللغة والكلام والتطور”[7]. وربما كان هذا أحد الاعتراضات التي تقلل، في نظر هؤلاء، من اعتبار منهج الحرالي منهجا دلاليا.

والواقع أن الذين طرحوا جانبا مسألة الإحساس الروحي للكلمات أسرتهم سلطة الدلالة الوضعية، واعتقدوا في إسراف أن المدلول مواضعة. بيد أن الدرس الدلالي عند كثير من الباحثين يتجاوز الدلالة الحرفية إلى الدلالة المجازية والإيحائية. فهذا -مثلا- ديفيد ديتشيس فبعد أن يقرر حقيقة التغير وعمليات التطور الدلالي، يوجه الدارسين ومن يعمل في النقد إلى أن يهتموا بالعلاقات المتداخلة بين المعاني، ويتطرقوا إلى أدق صنوف تلك العلاقات، وأن يعنوا بأصغر العناصر في المبنى وبالإماءات الجانبية وبالظلال التي قد تمر دون أن يلحظها قارئ عارف بالأثر المنقود فهي ظلال لا يلمحها إلا ذو تمرس[8]. هذه الظلال والإماءات الجانبية في لغة الإبداع الأدبي التي يتحدث عنها ديفيد ديتشيس، والتي لا يلمحها إلا ذو تمرس؛ هي في لغة القرآن الكريم اللطائف والإشارات التي لا يلمحها إلا أهل الفهم.

هذا، وإن أبرز تعريف للغة الإبداع الأدبي هو أنها لغة رمزية لا تقوم على المواضعة اللغوية حيث يدل اللفظ على ما وضع من أجله، بل تقوم على القدرة الدائمة والمتجددة على الإيحاء بدلالات غير متواضع عليها[9]. وإذا صدق هذا على لغة الإبداع الأدبي، فكيف بلغة التنزيل، لغة الإعجاز البياني.

علو بيان القرآن على بيان الإنسان:

وقبل بيان مكونات المنهج الدلالي في تفسير الإمام الحرالي أوضح أن منهجه في بيان مدلول الدلالة القرآنية يتأسس على مسلمة، وهي “أن بلاغة البيان تعلو إلى علو قدر المبين، فعلو بيان الله على بيان خلقه، بقدر علو الله على خلقه”[10]، وقد ثبت التقصير في بيان الخلق “وبلغ إلى غاية البلاغة بيان القرآن عن كل ناطقة بأيما لسان”[11]. ومن هنا لا يجوز اعتبار لغة القرآن بلغة الإنسان. بعبارة أخرى لا يمكن الإحاطة بلغة القرآن إحاطتنا بلغة الإنسان؛ إذ قواعد العلوم تمنح إمكان هذه الإحاطة. ولكن ليس لهذه القواعد مزية بيان خبيئات معاني القرآن، وذلك لقصورها عن الإحاطة بخطاب القرآن “فإن للقرآن علوا من الخطاب يعلو على قوانين العلوم علو كلام الله على كلام خلقه”[12].

وتلك مسلمة لم تذعن لها عقول بعض المعاصرين، فراحوا يتعاملون مع نص القرآن كما لو أنهم يتعاملون مع نص بشري، وقصدهم من ذلك، كما هو بين من طروحاتهم، نزع قداسة النص الكريم وتعاليه.

مكونات المنهج الدلالي:

أولا: الدلالة القرآنية بين نبأي الإفصاح والإفهام

إن لغة القرآن أسمى، في منظور الحرالي، من أن تدرك حقائق دلالاتها بواسطة قواعد العلوم فقط كما ظن بعض المفسرين والمأولين، الذين جعلوا منها لغة دالة كدلالة لغة البشر. فَهْمُ المعنى في منهج الحرالي يتجاوز “ظاهر الخطاب إلى ما وراء ذلك من باطنه، فإن لكل آية ظهرا وبطنا”[13]. فَهْمٌ يبدأ من إدراك ظواهر الدلالة القرآنية إلى أقصى ما تحتمله هذه الدلالة من احتمالات مؤيدة، ثم يتجاوزها إلى ما وراء ذلك من إفهام. لذلك كان من أجل قوانين فهم القرآن إدراك أن خطابه يجمع بين نبأي الإفصاح والإفهام. “فهامه إسراره للقلوب الفهمة، وإفصاحه إعلانه للأسماع الواعية، فيسمعه من ربه سرا وعلانية”[14].

إن ثمة معان عميقة لا متناهية كامنة في الدلالة القرآنية تتجاوز الإفصاح ويتضمنها الإفهام “لما قد علم من أن إفهام القرآن أضعاف إفصاحه، بما لا يكاد ينتهي عده، فلذلك يكثر فيه الخطاب عطفا، أي من غير مذكور، ليكون الإفصاح أبدا مشعرا بإفهام يناله من وهب روح العقل في الفهم: كما ينال فقه الإفصاح من وهبه الله نفس العقل الذي هو العلم”[15].

من الواضح أن إفصاح الدلالة القرآنية يومئ أبدا عند الشيخ الحرالي إلى إفهام يدركه “الذين لهم لب العقل، الذي للراسخين في العلم ظاهره”[16]. عقل[17]، وقل ظاهر العقل، وهو النظر عند الأصوليين والفقهاء والمتكلمين، يدرك إفصاح الدلالة القرآنية، وإفهامها يحصله روح العقل. فقه الإفصاح الوسيلة إليه الحس وظاهر العقل أو قل السمع الواعي. وفقه الإفهام الوسيلة إليه لب العقل أو قل القلب الفهم. فالأول علم والثاني فهم. وشتان ما بينهما “لأن العلم من العقل بمنزلة النفس، والفهم من العقل بمنزلة الروح، فللفهم مدرك لا يناله العلم، كما أن للروح معتلى لا تصل إليه النفس، لتوجه النفس إلى ظاهر الشهود ووجهة الروح إلى علي الوجود”[18].

العقل، إذن، عند الشيخ الحرالي مصدر العلم والفهم، لكن منال الفهم لا يدركه العلم، كما أن للروح منالا يعز عن النفس؛ إذ “نزوع النفس لسفل شهواتها، في مقابلة معتلى الروح لمنبعث انبساطه، كأن النفس ثقيل الباطن بمنزلة الماء والتراب، والروح خفيف الباطن بمنزلة الهواء والنار، وكأن العقل متسع الباطن بمنزلة اتساع النور في كلية الكون علوا وسفلا”[19].

العقل، في تصور الحرالي، مدرك مدلول الدلالة القرآنية إفصاحا وإفهاما؛ إذ قد جعل الله “العقل الذي هو نور من نوره هدى لمن أقامه من حد تردد حال الناس إلى الاستضاءة بنوره في قراءة حروف كتابه الحكيم”[20].

ويبقى بعد هذا أن الدلالة القرآنية أعمق وأشمل من أن يحيط بها قطعا علم أو فهم. فمحال أن يحيط النسبي بالمطلق؛ “فلم تكن الإحاطة بالتأويل المحيط إلا لله سبحانه وتعالى”[21].

ونوط إدراك المعنى القرآني بظاهر العقل ولبه يرتد في منهج الحرالي إلى أمرين:

أحدهما: مفهوم المعنى عنده، فالمعنى هو “مسلك العقل بالعلم فيما بين باب مدلول الاسم إلى غاية الحقيقة التي هي أقصى منال العقل”[22]. بين مدلول الاسم (اللفظ) وغاية الحقيقة ينساب المعنى، والعقل ظاهر ولب يقتنص بعضا منه. المعنى، في النص القرآني، طبقات بعضها فوق بعض، يحف به النور والجمال والجلال والكمال من كل جانب. المعنى إشارة، وتصريح متفرع إلى تفصيل أو حكم؛ فسورة البقرة ـ مثلاـ “تنتظم جوامعها خلال تفاصلها انتظاما عجيبا، يليح المعنى لأهل الفهم، ويفصله لأهل العلم، ويحكم به على أهل الحكم”[23].

والثاني: طبيعة العلاقة بين المتلقي والقرآن. العلاقة بين المتلقي والقرآن تتجاوز في حقيقتها علاقة القارئ بما به يتلقى إلى علاقة القارئ، بما به يترقى في مقامات الإيمان الموصلة إلى صفاء الإيقان الذي به ينال فهم القرآن إفصاحا وإفهاما. ولذلك يجعل الإمام الحرالي أول شرائط الفهم التزكية تطهرا وتحققا وتخلقا؛ “لأن الله سبحانه أباح علم الآيات بغير شرط، وجعل من دون تعلم الكتاب والحكمة، التزكية بالزهد والوجهة إلى الله ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [سورة ال عمران / الآية: 164]”[24]؛ فبقدر ما تزكو النفس بقدر ما ينقشع ما تراكم على فطرتها من مفاسد وما انطبع فيها من صور الأكوان، حتى تصفو صفاء يجعلها تقرأ بنور العقل آيات الآفاق والأنفس وآيات الكتاب.

صفوة القول: مدلول الدلالة القرآنية في منهج الحرالي كلي يجمع بين نبأي الإفصاح والإفهام، لا يميز الإفهام من الإفصاح. “فما يقع فيه الإفهام في متقابلات ظاهرة يقع البيان عن أحدها إفصاحا ويلازمه الآخر إفهاما”[25]. ففي الآية الكريمة ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [سورة ال عمران / الآية: 18]، يذكر الحرالي أن القرآن أفرد القيام، فاندرج من ذكر من الملائكة وأولي العلم في هذا القيام إفهاما، كما اندرجوا في الشهادة إفصاحا، فكان في إشعاره أن الملائكة وأولي العلم لا يقاد منهم فيما يجريه الله سبحانه وتعالى على أيديهم؛ لأن أمرهم قائم بالقسط من الله[26].

وفي الآية الكريمة ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ [سورة ال عمران/ الآية: 4] يبين الحرالي أن ختم الآية بقوله جل وعز: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾ فأظهر وصف العزة موصولا بما أدام من انتقامه، بما تعرب عنه كلمة (ذو) المفصحة بمعنى صحبة ودوام. فكأن في إشعاره دواما لهذا الانتقام بدوام أمر الكتاب الجامع المقابل علوه لدنو هذا الكفر، وكان في طي إظهار الانتقام أحد قسمي إقامة القيومية في طرفي النقمة والرحمة، فتقابل هذان الخطابان إفصاحا وإفهاما، من حيث ذكر تفصيل الكتب إفصاحا، فأفهم جزاءها بالرحمة إلاحة من حيث ذكر جزاء الكفر إفصاحا، فأفهم متنزل الفتنة في الابتداء إلاحة، فإنه كما أنزل الكتب هدى، أنزل متشابهها فتنة، فتعادل الإفصاحان والإلاحتان، وتم بذلك أمر الدين في هذه السورة”[27].

وفي قوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ من الآية الكريمة ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [سورة البقرة / الآية: 120] “فلبعده بالتقدم -يقول الإمام الحرالي- كرره تعالى إظهارا لمقصد التئام آخر الخطاب بأوله، ليتخذ هذا الإفصاح والتعليم أصلا لما يمكن أن يرد من نحوه في سائر القرآن، حتى كأن الخطاب إذا انتهى إلى غاية خاتمة، يجب أن يلحظ القلب بداية تلك الغاية فيتلوها، ليكون في تلاوته جامعا لطرفي البناء وفي تفهمه جامعا لمعاني  طرفي المعنى”[28].

واضح أن الإفصاح والإفهام في اصطلاح الحرالي يقابلهما الظاهر (العبارة) والباطن (الإشارة) كما يفهمهما المفسرون الصوفيون المعتدلون من أهل السنة والشيعة، على اعتبار أن “الظاهر هو ظاهر التلاوة، والباطن هو الفهم عن الله لمراده؛ لأن الله تعالى قال: ﴿فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ [سورة النساء / الآية: 77]، والمعنى لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب، ولم يرد أنهم لا يفهمون نفس الكلام، كيف وهو منزل بلسانهم؟ ولكن لم يحظوا بفهم مراد الله من الكلام، وكأن هذا هو معنى ما روي عن علي كرّم الله وجهه أنه سئل هل عندكم كتاب؟ فقال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة”[29].

ولا يبعد أن يكون الفهم الذي قصده سيدنا علي كرم الله وجهه، هو ما كان يروم الإمام الحرالي قربانه والتطلع إليه؛ إذ هو الباب إلى فهم الكتاب. يقول رحمه الله: “وقد علم الأولون والآخرون أن فهم كتاب الله منحصر إلى علم علي رضي الله عنه، ومن جهل ذلك فقد ضل عن الباب الذي من ورائه يرفع الله عن القلوب الحجاب حتى يتحقق اليقين الذي لا يتغير بكشف الغطاء”[30].

ثانيا: دلالات الألفاظ المختصة بغيب عالم الملكوت

في القرآن الكريم كلمات معانيها مبهمة، وهي التي تعرف بالمتشابهات، وهي الكلمات التي “أخبر الحق سبحانه وتعالى فيهن عن نفسه، وتنزلات تجلياته، ووجوه إعانته لخلقه، وتوفيقه، وإجرائه ما أجرى من اقتداره وقدرته في بادي ما أجراه عليهم، فهن لذلك متشابهات، من حيث إن نبأ الحق عن نفسه لا تناله عقول الخلق، ولا تدركه أبصارهم، وتعرف لهم بمثل من أنفسهم”[31]. ولذلك يقرر الإمام الحرالي أن “الأحق بمجرى [هذه] الكلم وقوعها نبأ عن الأول الحق، ثم وقوعها نبأ عما في أمره وملكوته، ثم وقوعها نبأ عما في ملكه وإشهاده، فلذلك حقيقة اللفظ لا تصلح أن تختص بالمحسوسات البادية في الملك دون الحقائق التي من ورائها من عالم الملكوت، وما به ظهر الملك والملكوت من نبأ الله عن نفسه من الاستواء ونحوه”[32].

ومفهوم عبارة الحرالي “فلذلك حقيقة اللفظ لا تصلح أن تختص بالمحسوسات البادية في الملك [أي: عالم الشهادة] دون الحقائق التي من ورائها من عالم الملكوت [أي: عالم الغيب]”. يرجع إلى طبيعة اللغة من حيث هي نسق من الرموز والبنيات التصورية، “فلا يمكن أن يطلب منها الخروج عن وصفها الرمزي والصوري لتنقل إلينا الأشياء ذاتها بسماتها الخارجية ومعالمها الوجودية”[33]. ولئن صدق هذا عن عالم الشهادة، فلأن يصدق عن أسرار عالم الملكوت أحرى، وأولى. ذلك أن معاني الكلمات القرآنية المتعلقة بغيب عالم الملكوت “معان عالية ضاقت عن إيفاء كنهها اللغة الموضوعة لأقصى ما هو متعارف أهلها. فعبر عن تلك المعاني بأقصى ما يقرب معانيها إلى الأفهام”[34].

والتماس تلك المعاني من طريق التأويل يشوبه كثير من الاضطراب، والتكلف، والابتداع، وتحريف الكلم عن مواضعه. “وذلك لأن التأويل، في نظر الإمام الحرالي، يحمل على الإضمار والتقدير، والفهم يمنع منه، ويوجب إيراد القرآن على حده ووجهه”[35]. وهو الفهم الذي لا يصور المعاني ولا يجردها، وإنما يشير إليها ويقربها.. بناء على أنه “ليس تستحق الظواهر حقائق الألفاظ على بواطنها، بل كانت البواطن أحق باستحقاق الألفاظ؛ وبذلك يندفع كثير من لبس الخطاب على المقتصرين بحقائق الألفاظ على محسوساتهم”[36]. أي: على الحس وظاهر العقل، وهم الذين جنحوا إلى إخضاع الدلالة القرآنية إلى الدلالة العقلية.

فالاستواء الذي اختلف في فهمه المفسرون، وحارت في معرفة كنهه عقول المتكلمين يفسره الإمام الحرالي وفق فهمه للألفاظ المختصة بغيب عالم الملكوت، فيبين عند الآية الكريمة ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [سورة البقرة / الآية: 28] أن القرآن “أعلى الخطاب بذكر الاستواء إلى السماء الذي هو موضع التخوف لهم [أي: العرب]، لنزول المخوفات منه عليهم، فقيل لهم: هذا المحل الذي تخافون منه هو استوى إليه، ومجرى لفظ الاستواء في الرتبة والمكانة أحق بمعناه من موقعه في المكان والشهادة”[37].

وإتيان الله جل وعز كما ورد في الآية الكريمة ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ﴾ [سورة البقرة / الآية: 208] يفسره المفسرون بصرف اللفظ عن ظاهره بالدليل العقلي، فيكون التأويل إما في معنى الإتيان أو في إسناده إلى الله أو بتقدير محذوف من مضاف أو مفعول. فقيل: إسناد الإتيان إلى الله إسناد مجازي؛ وإنما يأتيهم عذاب الله يوم القيامة أو في الدنيا. وقيل: يأتيهم كلام الله الدال على الأمر، ويكون ذلك الكلام مسموعا من قبل ظل من الغمام تحفه الملائكة. وقيل: إن هنالك مضافا مقدرا، أي: يأتيهم أمر الله أي: قضاؤه بين الخلق أو يأتيهم بأس الله. إلى غير ذلك من الأقوال. لكن الإمام الحرالي يلمح معنى آخر، فيذكر أن إتيان الله في محل الإيمان أمر مبهم لا يناله علم العالمين، ويقف دونه إيمان المؤمنين، لا يأخذونه بكيف، ولا يتوهمونه بوهم. وإتيان الله، في أوائل فهم الفاهمين، بدو أمره، وخطابه في محل ما من السماء والأرض أو العرش أو الكرسي أو ما شاء من خلقه، فهو، تعالى، يجل أن يحجبه كون، فحيث ما بدأ خطابه كفاحا بواسطة، فهناك هو ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ﴾ [سورة مريم / الآية: 52] إلى ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ﴾ [سورة طه / الآية: 13][38].

إن الفهم الذي كان يلوح للشيخ الحرالي من هذه الكلمات المتشابهات هو، في اعتقادي، فهم يرتاح إليه الوجدان، ويجد نور العقل برد اليقين فيه. ومهما خالف فيه المخالف فهو أفضل بكثير من تلك التأويلات التي فرقت الأمة، وتركت أثارها السيئة على وحدة فكرها وعقيدتها.

ثالثا: الفهم والتطور الدلالي

انتهى الباحثون في علم الدلالة إلى أن أصل الدلالة حسي، ومن هذا الأصل الحسي يتشعب التطور. وقد كان الشيخ الحرالي كثير التنقيب عن معاني القرآن الكريم من خلال هذا التطور الدلالي. كان شديد الإصغاء للكلمات القرآنية، كثير الرغبة في استنباط إفهام الدلالة وإفصاحها من تاريخ اللفظ؛ كثير العزوف عن استبدال لفظ بآخر فيما توارثه المفسرون جيلا عن جيل. كان رحمه الله ينفذ في فهم الدلالة الكريمة من المعنى المشتق من الاستعمالات الحسية للفظ إلى معان إيحائية، ما أروعها !وما أغربها!

لقد فسر “متاع” من الآية الكريمة ﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ [سورة البقرة / الآية: 35] بأنه تمتع بالأرزاق، من أكل ولبس وحياة وغير ذلك. والأصل في “المتاع” كل شيء ينتفع به، ويتبلغ به ويتزود والفناء يأتي عليه في الدنيا. فما عسى أن يشي هذا اللفظ من إيحاءات في تفسير الشيخ الحرالي؟

يرى الإمام الحرالي عند تفسير الآية الآنفة، أن “المتاع هو الانتفاع بالمنتفع به وقتا منقطعا، يعرف نقصه بما هو أفضل منه. ففيه إشعار بانقطاع الإمتاع بما في هذه الدنيا، ونقص ما به الانتفاع عن محل ما كانا [أي: آدم وحواء] به، من حيث إن لفظ المتاع أطلق في لسان العرب على الجيفة التي هي متاع المضطر، وأرزاق سباع الحيوان وكلابها، فكذلك الدنيا هي جيفة متع بها أهل الاضطرار بالهبوط من الجنة، وجعلها حظ من لا خلاق له في الآخرة”[39].

لم أهتد إلى أن “المتاع” يطلق في كلام العرب على الجيفة. ومهما يكن فإن الإمام الحرالي لا يستبدل لفظ “متاع” بلفظ “جيفة” استبدالا ترادفيا… يوحي متاع الدنيا في خساسته بخساسة الجيفة. وهو ما أفصح عنه الإمام الحرالي في موضع آخر عند تفسير ﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [سورة ال عمران / الآية: 14] قال: “فأنبأ سبحانه وتعالى أن ما في الدنيا متاع، والمتاع ما ليس له بقاء، وهو في نفسه خسيس خساسة الجيفة”[40].

إن المؤمنين الذين هم على سنن الشرع لا يفتنهم متاع الدنيا، والكفار يملكهم؛ لأنهم لا يعتقدون غيره. وربما كان من ملكه هذا المتاع فيه شبه بالكفار؛ قال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [سورة البقرة / الآية: 210] “من التزيين بما منه الزينة، وهي بهجة العين التي لا تخلص إلى باطن المزين (للذين كفروا) ففي ضمنه إشعار بأن استحسان بهجة الدنيا كفر ما، من حيث إن نظر العقل والإيمان يبصر طينتها، ويشهد جيفتها، فلا يغتر بزينتها، وهي آفة الخلق في انقطاعهم عن الحق”[41].

واعتقاد أن متاع الدنيا خسيس خساسة الجيفة ليس نظرة صوفية إلى هذه الدنيا فحسب، كما قد يتبادر. إن معنى “متاع” يشي في سياق القرآن بإيحاءات وإشارات شتى يبصرها من رزق عقلا نيرا، وإيمانا راسخا. وإنها لإيحاءات نشهدها نحن اليوم معان مرئية.. نكاد نرى متاع الدنيا جيفة ينهشها الكلاب، وتفترسها الآساد والذئاب في عولمة مغتربة متجبرة. وأكثر الناس لا يحسون خساسة هذا المتاع. لقد غرقوا في بحر زينة الدنيا اللجي، واسترقهم متاعها الغرور.. فتبلدت المشاعر، وطمست البصائر فأنى يحسون؟!

جاء في التنزيل: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ [سورة البقرة / الآية: 87] ومعنى اللعن هاهنا، حسب المفسرين، أبعدهم الله من رحمته، وقيل: من توفيقه وهدايته، وقيل: من كل خير وهذا عام. ولكن الإمام الحرالي يلمح معنى لطيفا؛ فاللعن عنده “إبعاد في المعنى والمكانة والمكان، إلى أن يصير الملعون بمنزلة النعل في أسفل القامة، يلاقى به ضرر الموطي”[42]. ما علاقة “لعن” بـ”نعل”؟ إلا أن يكون من باب تقليب أصول الكلمة (فاؤها وعينها ولامها)، رد بلطف الإحساس، والتأويل إليه. وهو باب عظيم في العربية، أصله ابن جني في خصائصه.

لقد كان الشيخ الحرالي يفيد في استكشافه خبيئات معاني القرآن من التطور الدلالي للألفاظ بالنقل من مجال إلى آخر، مستندا إلى مسوغات الشبه الشكلي أو الوظيفي بين المجالين. من ذلك أنه يجعل معنى ﴿تُدْلُوا﴾ في الآية الكريمة ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [سورة البقرة / الآية: 187] يجعله من الإدلاء الذي هو في الأصل إرسال الدلو في البئر، ولكن خفية، كما يرسل الناس بالرشوة إلى الحكام خفية، ليقضوا لهم بها بالباطل. يقول رحمه الله: “وهو من معنى إنزال الدلو خفية في البئر ليستخرج منه ماء، فكأن الراشي يدلي دلو رشوته للحاكم خفية ليستخرج جوره ليأكل به مالا”[43].

وفي صدر سورة البقرة يتحدث القرآن عن فئة المؤمنين، وفئة الكافرين، وفئة المنافقين. وخص المنافقين باسم الناس وذلك في الآية الكريمة ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة البقرة / الآية: 7] فلِم خصهم بذلك اللفظ ولم يقل “ومن المسلمين” لكونهم يشهدون ظاهرا ويصلون مع المسلمين؟ يلمح الإمام الحرالي من أصل لفظ الناس معنى دقيقا، ذلك أن القرآن “لما ذكر طرفي الإيمان والكفر وأحوال المؤمنين، وأحوال الذين كفروا، ذكر المنافقين المترددين بين الاتصاف بالطرفين بلفظ الناس، لظهور معنى النوس فيهم، لاضطرابهم بين الحالين، لأن النوس هو حركة الشيء اللطيف المعلق في الهواء، كالخيط المعلق الذي ليس في طرفه الأسفل ما يثقله، فلا يزال مضطربا بين جهتين، ولم يظهر هذا المعنى في الفريقين لتحيزهم إلى جهة واحدة”[44].

ويبين الشيخ الحرالي عند تفسير قوله تعالى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ [سورة البقرة / الآية: 35] أن “(الشيطان) هو مما أخذ من أصلين: من الشطن وهو البعد، الذي منه سمي الحبل الطويل، ومن الشيط الذي هو الإسراع في الاحتراق والسمن، فهو من المعنيين مشتق كلفظ الإنسان والملائكة… وذكر الحق تعالى الإزلال منه باسمه الشيطان، لا باسمه إبليس، لما في معنى الشيطنة من البعد والسرعة التي تقبل التلافي، ولما في معنى الإبلاس من قطع الرجاء، فكان في ذلك بشرى استدراك آدم بالتوبة”[45].

كان الشيخ الحرالي مرهف الإحساس بلغة القرآن، كما هو واضح من النماذج السابقة. وكان هذا الإحساس ثمرة انطباق كلية لغة القرآن على التجربة الذاتية الصوفية التي عاشها الشيخ. انطباق انتهى إليه بعد مجاهدة طويلة للنفس، وزهد “كان فيه حقيقيا بالباطن والظاهر”[46].

وهكذا ترى الشيخ الحرالي في هذه النصوص، وفي غيرها وهي كثيرة، مولعا بالبحث في أصول الكلمات، يستجلي من خلالها أسرار معاني التنزيل. كان يدرك أن الطريق إلى مقاربة هذه الأسرار فقه اللسان، وطهارة الجنان. كان الاشتقاق والاستعمال، وملاحظة انتقال الدلالة من المحسوس إلى المجرد، أو من الخاص إلى العام، أو من المحدود إلى الموسع عبر المشابهة أو المجاورة أو من طرق الاستعارة والمجاز، كان كل أولئك وغيره مما لم نذكره هاهنا[47] مسوغات لغوية للقول بمعان غريبة، وفوائد بديعة تدل على إمامة الرجل في العربية، ورسوخ قدمه في علوم القرآن وعلوم الشريعة.

رابعا: السياق اللغوي والاجتماعي

يقوم التحليل الدلالي Sémanalyse على نظرية السياق  Contexte كما حدد أصولها اللساني الإنجليزي فيرث Firth. ويمكن أن نميز بين نوعين من السياق: سياق لغوي؛ وسياق اجتماعي أو ثقافي؛ فالسياق اللغوي يشمل العلاقات الركنية في المحور النظمي Syntagmatique، ويدخل فيه التضام وكل ما يربط بين كلمتين أو أكثر في سياق لغوي. أما السياق الاجتماعي فيضم كل ما يتعلق بالموقف من التنغيم في النطق والزمان والمكان ومكانة المتحدث، ومكانة المخاطب والعلاقة بينهما، وطبيعة الموضوع، وما يحيط بالموقف من عناصر مادية، وأخرى معرفية[48].

ويرى أصحاب نظرية السياق أن “معظم الوحدات الدلالية تقع في مجاورة وحدات أخرى. وإن معاني هذه الوحدات لا يمكن وصفها أو تحديدها إلا بملاحظة الوحدات الأخرى التي تقع مجاورة لها”[49].

وفي تفسير الشيخ الحرالي نجد توظيفا لأغلب آليات نظرية السياق كما بسطها اللسانيون المحدثون، ولكن تأسيسا على الاعتقاد في قداسة القرآن الكريم وعلو بيانه. ويمكن أن نتبين من خلال نصوصه في التفسير أن اللفظ في منهجه علامة لا يستوفى معناها بمعزل عن سياق واسع يشمل اللغوي والثقافي؛ وإذا لم يراع فلا تدرك دلالة اللفظ الظاهرة فضلا عن إشارته وإيحائه.

ومفهوم الوحدة الدلالية في نظرية السياق هو عند الشيخ الحرالي مفهوم “خطاب”، و”آيات”. فالقرآن عبارة عن:

أ. وحدات دلالية كبرى، ويسميها الحرالي خطابات، وجوامع تقع متجاورة، أي: متناسقة، بعضها ببعض.

ب. ووحدات دلالية صغرى، أي: آيات، تنتظم متجاورة فيما بينها آخذ بعضها بحجز بعض.

 ويكاد بحث الحرالي الدلالي ينحصر، كما هو واضح من نصوصه في التفسير، في بيان روابط تضام هذه الوحدات الدلالية.

السياق اللغوي:

والسياق اللغوي هو السياق النصي، أي: الكلمات أو الجمل التي تجاور كلمة أو جملة ما داخل النص. وحين نتبين هذه المجاورة ندرك كثيرا من معاني النص وأسراره. وقد كان من أكبر اهتمام الشيخ الحرالي في تفسيره بيان التناسب في النظم القرآني، وقد “أبدى فيه من مناسبات الآيات والسور، ما يبهر العقول، وتحار فيه الفحول، وهو رأس مال البقاعي، ولولاه ما راح ولا جاء، لكنه لم يتم، ومن حيث وقف، وقف حال البقاعي في مناسباته”[50].

1 2الصفحة التالية
Science

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق