وحدة الإحياءدراسات عامة

المنظور المقاصدي للتدبير الإداري.. نحو حكامة مقاصدية راشدة

لقد استقر لدينا بما لا يداخله الشك أن “المنهج المقاصدي” يتصف بسمات تجعله من أرقى ما وصل إليه العقل الإسلامي. وإنني وإن كنت غير معني في هذا البحث بتاريخ الفكر المقاصدي عند المسلمين فقهاء وأصوليين ومتكلمين، وهو موضوع هام عني به بعض فضلاء الباحثين، إلا أن التأمل في ذلك التاريخ والتراث يجعلني أزعم أن المنهج المقاصدي منهج شامل وشمولي، لا يتعلق بالشريعة والفقه وحدهما، وإنما هو منهج عقلاني متميز يحيط بكل المجالات المعرفية للإنسان، ومن هنا فإن المنهج المقاصدي وإن كانت أهم الاجتهادات المتصلة به نشأت في مجال أصول الفقه والشريعة الإسلامية، إلا أنه منهج أشمل منهما وأعم وأهم، وإن كانت الرؤية القرآنية حاكمة له في كل هذه المجالات، كما هي حاكمة لكل تفكير سديد في هذا الكون.

وبناء على ذلك، يمكننا الحديث عن علم للمقاصد العامة أو الكلية تكون المقاصد الشرعية وغيرها فروعا منه، ونحن اليوم في إطار تطوير الفكر الإسلامي، مدعوون للاجتهاد في بناء أسس هذا العلم (علم المقاصد العام) الذي يحدد الكليات الفكرية العامة التي تجد تطبيقاتها وتلويناتها في علوم المقاصد الخاصة بكل مجال معرفي كالشريعة واللغة والأدب والفلسفة والسياسة والإدارة والاقتصاد والفن وغيرها.

وقد كان صنيع العلامة المجدد محمد الطاهر بن عاشور عندما دعا إلى جعل “مقاصد الشريعة” علما مستقلا عن الأصول بالغ النباهة والحصافة. فقد فتح بذلك بابا واسعا للإبداع، بل إن كتابه “مقاصد الشريعة الإسلامية” يعد تأسيسا للتفكير في بناء فكر مقاصدي حديث يفتح المجال للاجتهاد الواسع، فكتابه كما قال هو نفسه، يريد به أن يكون “نبراسا للمتفقهين في الدين، ومرجعا بينهم عند اختلاف الأنظار وتبدل الأعصار، وتوسلا إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار[1]“، وللفصل  بين هذا العلم وبين علم أصول الفقه..

 يقول: “فنحن إذا أردنا أن ندون أصولا قطعية للفقه في الدين حق علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة، وأن نعيد ذوبها في بوتقة التدوين، ونعيرها بمعيار النظر والنقد، فننفي عنها الأجزاء الغربية التي غلثت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر، ثم نعيد صوغ ذلك العلم ونسميه: علم مقاصد الشريعة، ونترك علم أصول الفقه على حاله نستمد منه طرق تركيب الأدلة الفقهية، ونعمد إلى ما هو من مسائل أصول الفقه غير منزو تحت سرادق مقصدنا هذا من تدوين مقاصد الشريعة، فنجعل منه مبادئ لهذا العلم الجليل علم مقاصد الشريعة[2].”

وقد نبه الإمام ابن عاشور إلى دقة هذا العلم فقال: “إن معرفة مقاصد الشريعة نوع دقيق من أنواع العلوم[3]” يجب على العلماء فهمه على تفاوت بينهم في القرائح والفهوم[4]، وللدخول في هذا العلم يجب على العلماء نبذ التقليد والتعصب، يقول: “ويجب أن يكون الرائد الأعظم للفقيه في هذا المسلك هو الإنصاف ونبذ التعصب لبادئ الرأي أو لسابق الاجتهاد أو لقول إمام أو أستاذ، فلا يكون حال الفقيه في هذا العلم كحال صاحب ابن عرفة الذي قال في حق ابن عرفة: ما خالفته في حياته فلا أخالفه بعد وفاته[5].”

وهذه دعوة صريحة إلى الإبداع وترك التقليد والجمود على الرأي بداعي العصبية للمذهب أو لرأي الإمام أو الأستاذ. فهذا العلم، إذن، علم إبداعي لا مكان فيه لمن كان ضيق العقل في اكتناه الآفاق، أو ضيق الصدر في قبول المسالك الجديدة للنظر.

وإذا أردنا أن نقف عند أهم خصائص المنهج المقاصدي الذي يؤسسه علم المقاصد، يمكن تلخيصها فيما يلي:

ـ أنه منهج استبصاري أو استكشافي يبحث في الحكم والأسرار.

ـ أنه منهج تفسيري يقوم على كشف العلل والأسباب.

ـ أنه منهج استشرافي يبحث في المآلات والغايات.

ـ أنه منهج استيعابي يراعي ما تقتضيه المقامات والسياقات.

ولما كان المقصد الأعظم من التشريع هو صلاح الإنسان، كما قرر ذلك العلماء و منهم الإمام ابن عاشور في قوله: “إذا نحن استقرينا موارد الشريعة الإسلامية الدالة على مقاصدها من التشريع استبان من كليات دلائلها ومن جزئياتها المستقراة أن المقصد العام من التشريع فيها هو حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان، ويشمل صلاحه صلاح عقله، وصلاح عمله، وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه[6]“، فإن صلاح الإنسان مقصد شامل؛ يعم كل مجالات الحياة الخاصة والعامة، ومن هذه المجالات مجال التدبير الإداري الذي سنعنى به في هذا البحث. فكيف يمكننا أن نسترشد بعلم مقاصد الشريعة في بناء هذا المنهج؟ وهل يدخل هذا المنهج ضمن التصور العام للشريعة لتدبير الشأن العام سياسيا كان أو اقتصاديا أو إداريا؟ وإذا كان هناك تصور للشريعة في التدبير الإداري؛ فلماذا لم نره مفصلا ومحددا لدى علمائها في القديم أو الحديث؟

وبخصوص هذا التساؤل الأخير أجد في كلام نفيس لأستاذي الدكتور طه عبد الرحمن وهو يتحدث عن سبب سكوت الشريعة عن تفاصيل النظام السياسي، ما ينطبق على مرادنا في التدبير الإداري خير انطباق. يقول: “وإذا سكتت الشريعة عن تفاصيل هذا النظام، فليس ذلك بسبب الظروف التنظيمية المحدودة التي عرفها مجتمع المدينة، والتي زعم أنها لا تسمح بتحصيل تصور مفصل لنظام التدبير، فالشريعة التي فصلت في تدبير الأسرة وهو من أدق الأمور، أقدر على التفصيل في تدبير المجتمع الذي هو من جلها، ولا هذا السكوت هو لمجرد التوسعة على المكلفين، حتى يحددوا النظام السياسي الذي يطيقه زمانهم، وإنما السبب في ذلك هو أن الشريعة الإسلامية توفر للمكلفين أكثر الاختيارات التدبيرية الرشيدة الممكنة التي يكون فيها صلاح دنياهم، حتى يضعوا بأنفسهم من القوانين ما يفي بحاجاتهم ويخدم مصالحهم مسترشدين في ذلك بالقانون الأسمى الذي وضعه الله لهم[7].”      وهذا الرأي الحصيف الذكي سيكون هو رائدنا في استنباط القوانين الكلية الضابطة لمقاصد التدبير الإداري مسترشدين بالقانون الإلهي الأسمى، ومستندين إلى الدراسات المستجدة في علم الإدارة الحديث.

فإذا كانت الإدارة وفقا لبعض تعريفاتها “هي نشاط لتحقيق الهدف بأحسن الوسائل وأقل التكاليف وبأحسن استخدام للموارد والتسهيلات المتاحة[8]“، وإذا كانت الإدارة، أيضا، كما يقول بيتر دراكر Drucker: “ليست فقط أحد فروع المعرفة، ولكن الإدارة هي البشر أيضا. فكل إنجاز للإدارة هو إنجاز لمدير، وكل فشل لها هو فشل لمدير. إن البشر هم الذين يديرون وليست القوى أو الحقائق. إن بصيرة المديرين وإخلاصهم ونزاهتهم هي التي تحدد ما إذا كانت هنا إدارة أو سوء إدارة[9].”

   فإننا سنركز في هذا البحث أساسا على هذا الجانب؛ أي الجانب المتعلق بالعنصر البشري المتحكم في الإدارة أي المسؤول الإداري أو القيادة الإدارية.

وحتى نعرض نموذجنا للمنظور المقاصدي للتدبير الإداري أرى من الضروري أن نضع نصب أعيننا أثناء قراءة هذا البحث التمييز المنهجي بين منظورين في التدبير؛ منظور شكلاني ومنظور مقاصدي، فهما منظوران يتقابلان ويختلفان بصورة تناظرية تجعل نقاط الالتقاء بينهما تقل إلى حدودها القصوى. وحتى تتبين لنا تفاصيل هذا التمييز، والأهمية المنهجية للفصل بين المنظورين، أشير إلى أن معالم المنظور المقاصدي للتدبير الإداري تقوم على أسس ثلاثة هي التالية:

1. المقصد التعبدي

2. المسلك التخلقي 

3. المنهج التعقلي

فلننصرف الآن إلى بيان هذه الأسس وكشف تفاصيلها، مع مقابلتها بنقيضها حتى تتبين الخصوصية بصورة أكثر جلاء. وبهذا فإن المنظور المقاصدي يتمايز عن المنظور الشكلاني في المقصد والمسلك والمنهج بالصورة التي سنعرض لها فيما يلي.

أولا: المقصد 

نميز هنا بين نوعين من المقاصد التي تحكم الإنسان في عملية التدبير الإداري[10]، مقصد تعبدي يؤسس للمنظور المقاصدي للتدبير الإداري، ومقصد تسيدي يؤسس للمنظور الشكلاني في التدبير الإداري، فلننظر في هذين المقصدين المتعارضين:

1. المقصد التعبدي

لقد جعل الله تعالى لكافة خلقه من إنس وجان غاية عامة واحدة ينبغي أن تحكم تصرفاتهم وأحوالهم فقال عز وجل: ﴿وما خلقت الجن والاِنس إلا ليعبدون﴾ (الذاريات: 56)، وبناء على هذا فإن المطلوب منهم فضلا عن ممارسة العبادة المعلومة، أن يستلهموا هذه الروح التعبدية في كل تصرفاتهم. فقد قال الإمام الشاطبي: “المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا[11]“، وقال أيضا: “إن البناء على المقاصد الأصلية يصير تصرفات المكلف كلها عبادات، كانت من قبيل العبادات أو العادات؛ لأن المكلف إذا فهم مراد الشارع من قيام أحوال الدنيا وأخذ في العمل على مقتضى ما فهم، فهو إنما يعمل من حيث طلب منه العمل ويترك إذا طلب منه الترك[12].”

وقد عبر عن هذا بصورة أكثر وضوحا وألصق بمرادنا أستاذنا الدكتور طه عبد الرحمن في كتابه القيم “روح الدين” فقد قال: “إذا كان التعبد لله وحده هو الغاية من خلق الإنسان، لزم أن تهيمن هذه الغاية العظمى على جملة أفعاله، بحيث لا يحصل منه الفعل إلا وهو يقصد أن يسير به قدما إلى تحقيق هذه الغاية[13].”

واستلهاما من هذا التصور فإن المسؤول الإداري مطالب أن يكون مراعيا لهذا المقصد التعبدي للحق في كل تصرفاته الإدارية، فإذا خالفه وقع في نقيضه وهو التسيد على الخلق. ويتجلى التعبد في الجانب الإداري من خلال مظاهر ثلاثة:

أ. الاستبصار؛ أي إعمال البصيرة في استشراف الغيب، ويتم ذلك من خلال اعتماد المسؤول الإداري لرؤية إستراتيجية بعيدة المدى تستهدف تطوير المؤسسة التي يديرها.

فمن المعلوم أن كل تدبير إداري يحتاج إلى وضع إستراتيجية تتمثل كما يقول مارشيسناي Michel Marchesnay  في “مجموعة من القرارات والأعمال التي تقوم بها المؤسسة من خلال اختيار الوسائل والموارد لتحقيق أهداف على المدى البعيد”، ولذلك كان التفكير الاستراتيجي تفكيرا يستشرف المستقبل في “عملية تجمع بين التحليل والاستشراف، بين الصرامة العلمية والتخييل” كما قال أيضا مارشيسناي..

 وهذا ما نسميه بالاستبصار؛ أي النظر بالبصيرة إلى المستقبل، ولا يتأتى ذلك إلا باعتماد رؤية إستراتيجية خلاقة وبعيدة المدى. وتكون القدرة على الاستبصار؛ أي اختراق المادي المرئي لاستكشاف الغيب لدى المتعبد المستلهم للقوانين الإلهية أقوى مما هي عند غيره. فإذا كان الغرض من الدين كما قال المفكر المغربي د. طه عبد الرحمن “هو بالذات أن ينظم حياة الإنسان في العالم المرئي بما يجعله يشهد فيه العالم الغيبي، متواجدا فيه بروحه، فيتزود بخالص الإيمان وصالح الأعمال[14].” فإن هذا الأمر الذي يمارسه المتدين بصورة تلقائية ييسر له وضع رؤية بعيدة المدى تستند إلى تخطيط استراتيجي دقيق وواضح يجمع،كما سبق، بين حقائق الموضوعية العلمية، ورقائق التخييل الاستبصاري أو قل الروحي.

فقد قال الباحث الألماني من جامعة شتوتجارت السيد زاهن E.O.K.ZAHN: “لا تتعلق الإستراتيجية بالخطط وإنما بالاستبصارات insights” ويقول: “ولعل أحد أسباب عدم تطوير استراتيجيات ناجحة يعود إلى الخلط بين التخطيط الاستراتيجي والتفكير الاستراتيجي، وإنهما لمختلفان، فبينما يعبر التفكير الاستراتيجي عن عملية اكتشاف الآراء البصيرة، يعد التخطيط الاستراتيجي عملية لجعل هذه الآراء البصيرة تتحول إلى أنشطة وأفعال[15].”

والخلاصة، أن بصيرة المسؤول الإداري تقوده إلى وضع أنجع الخطط لبلوغ الأهداف على مدى  زمني بعيد بما يحقق لمؤسسته الإدارية التطور والنماء والقوة والنفوذ.

ب. الإخلاص أو الخلو من حظ النفس. وكلما كان المسؤول الإداري مرتبطا بالمصلحة العامة غير عابئ بمصلحته الذاتية كلما استطاع أن يطور أداء مؤسسته وأن يحقق نتائج جيدة لها.

وقد اعتبر الإمام الشاطبي المصالح العامة مما لا تعتبر فيه حظوظ الإنسان المكلف عند حديثه عن الضرب الكفائي من المقاصد الأصلية حيث قسمها ثلاثة أقسام منها “قسم لا يعتبر فيه حظ المكلف بالقصد الأول على حال، وذلك الولايات العامة والمناصب العامة للمصالح العامة[16].”

واعتبر المقاصد الأصلية تلك التي “لاحظ فيها للمكلف وهي الضروريات المعتبرة في كل ملة، وإنما قلنا إنها لاحظ فيها للعبد من حيث هي ضرورية لأنها قيام بمصالح عامة مطلقة[17]. “

ولذلك تجد المرتبط بالمصلحة العامة يقبل على الأعمال الشاقة ويخلص العمل لتحمل مشاقها لأنه يرى ذلك ضربا من العبادة. يقول الشاطبي في لمحة ذكية: “لذلك قلما تجد صاحب حظ يقوم بتكليف شاق، فإن رأيت من يدعي تلك الحال فاطلبه بمطالب أهل ذلك المقام، فإن أوفى به فهو ذاك، وإلا علمت أنه متقول قلما يثبت عندما ادعى[18].” أما إذا تخلى عن حظ النفس فإنه يلحق بأهل المقاصد الأول، يقول: “إذا سقط حظه ثبت قصده في المقاصد الأول، وثبت له الإخلاص، وصارت أعماله عبادات[19].”

فالإخلاص في العمل أساس العبادة، ولما كان كل عمل من أعمال الإنسان بما فيها الأعمال الإدارية إذا قام به بمقتضى المقصد التعبدي تطلب منه ذلك الإخلاص فيه، كانت رعاية المصلحة العامة والقيام بحقوقها على أكمل الوجوه من أوكد واجبات المتعبد. ولذلك تجد المسؤول الإداري الداخل في مقتضيات المقصد التعبدي أكثر الناس حرصا على الإخلاص في العمل، وفي تحقيق المصالح المرتبطة بعمله على أفضل صورها وأقوى أسبابها. فكما يكون بصيرا مستبصرا للمستقبل وفق رؤية إستراتيجية تخترق حجب الغيب لترسم طريقا لاحبا آتيا لتطوير المؤسسة، فإنه يكون مخلصا جاعلا قلبه خالصا للعمل المنتج، فارغا للعمل العام متحررا من الحظوظ كلها التي تكبله وتجعله لا يرعى مصالح الإدارة وإنما مصالحه الخاصة كما هي آفة الإدارات والمسؤوليات في زماننا.

ج. الترقي والتحول، فإذا كان المتعبد لا يرضى بحال حتى يطلب حالا فوقها وأفضل منها، فلا يزال يترقى في الأحوال والمقامات حتى يبلغ درجة اليقين في العبادة، فكذلك المسؤول الإداري فإنه يؤمن بأن التحول والتطور والترقي أهم أسباب نجاحه في عمله لتطوير المؤسسة. فليس أخطر على مؤسسة من المؤسسات من الجمود والتوقف؛ إذ لا ينبغي أبدا الركون إلى حال من الأحوال وإنما ينبغي أن يطلب المسؤول دائما تحسين الخطط وتغييرها. وهذا الأمر يولد لدى المسؤول الإداري استعدادا دائما لمواجهة التغيرات والتبدلات، ليواجهها بمهارة وذكاء ويقظة، بل إن إيمانه بالتحول والتغير يجعله دائم الجاهزية لتطوير وضعية مؤسسته وتحسين خططه الإستراتيجية. فالإداري الناجح هو عدو الجمود والتجميد.

وجملة القول أن المقصد التعبدي النافذ البصيرة في مجاهل المستقبل، والخالص من حظ النفس بحسن الإخلاص في العمل، والدائم الطلب للأرقى والأفضل، يجعل من الإداري ومن أي إنسان  أقوى من غيره في الإصلاح وفي رسم خطط التقدم والرقي للمجتمع.

2. المقصد التسيدي

هذا المقصد هو نقيض المقصد التعبدي، ومقتضاه أن المسؤول الإداري يجعل نصب عينيه التسيد على الخلق بدلا من التعبد للحق. ولذلك، فإن طلب التسيد أقرب إلى الميل مع هوى النفس مما يجعل هذا الصنف من الناس غارقا في حظ النفس، جاعلا المصلحة العامة خادمة لمصلحته الذاتية.

ويتجلى التسيد في مظاهر ثلاثة:

أ. الإبصار؛ هو مقابل الاستبصار عند المتعبد، فإذا كان هذا الأخير يهتك ببصيرته حجب الغيب ليطلع على غير المرئي البعيد في الزمان فيراه ببصيرته عيانا، فإن المتسيد يرتبط ارتباطا كليا بالمرئي فلا يجاوز ما يبصره أو يقدره قياسا على ما يبصره، فتغيب عنه فضيلة التخيل ليبقى راسفا في أغلال عالم التصور.

ولشدة تمسك هذا النوع من المسؤولين الإداريين بالجانب المادي المحسوس المبصر، فإنه يركز فقط على الأهداف التي يتوخى تحقيقها في المدى القصير وإن اجتهد ففي المدى المتوسط. ويفتقد هذا النوع فضيلة الرؤية الإستراتيجية البعيدة المدى، وهو لذلك محجوب بحجاب كثيف يمنعه من إعمال بصيرته.

ب. الارتباط بالذات وغلبة حظ النفس لدرجة تجعل هذا المسؤول الإداري لا يرى غير نفسه، فيظن نفسه متماهيا مع مؤسسته متوهما أنها بدونه لن تقوم، ومتخيلا أن كل من يعمل فيها إنما هم خدم لديه، وأن كل مواردها رهن إشارته يفعل بها ما يشاء، ولذلك تسمع عن صور الاستبداد والفساد في كثير من الإدارات.

وقد قال الشاطبي عن طالب الحظ ممن يتولى المسؤوليات إنه عامل بنفسه، بخلاف نقيضه، يقول: “أن القائم على المقاصد الأول قائم بعبء ثقيل جدا، وحمل كبير من التكليف لا يثبت تحته طالب الحظ في الغالب، بل يطلب حظه بما هو أخف، و سبب ذلك أن هذا الأمر حالة داخلة على المكلف شاء أو أبى، يهدي الله إليها من اختصه بالتقريب من عباده، ولذلك كانت النبوة أثقل الأحمال وأعظم التكاليف… بخلاف طالب الحظ فإنه عامل بنفسه، وغير مستويين فاعل بربه وفاعل بنفسه[20].”

وأكثر صور الفساد التدبيري التي نراها في مختلف الإدارات آتية من هذا الصنف من المسؤولين الذين غلبت حظوظهم على مهامهم في خدمة المصلحة العامة؛ حيث يفتقدون فضيلة الإخلاص التي تفتح آفاقهم لحسن التخطيط لتطوير الإدارة. فلا جرم أنهم أيضا محجوبون بحجاب كثيف يمنعهم من إعمال قلوبهم لخدمة المؤسسات التي يديرونها، و لذلك يكون نفعهم محدودا إن لم يكن ضررهم شديدا، وقد رأينا صورا مما أحدثه أمثال هؤلاء بمؤسسات جامعية أفسدوها فهبطوا بها هبوطا شنيعا.

 ج. الحرص على الثبات والجمود، ذلك أن المسؤول الإداري المتسيد يحرص أشد الحرص على الحفاظ على ما هو كائن، وهو خائف غاية الخوف من التغيير والتبدل؛ إذ لا يدري ما يمكن أن يجلبه عليه التغيير من فوات حظ أو زوال نعمة أو نقص فائدة أو مزاحمة غيره له في شيء من ذلك. فتراه يبذل قصارى جهده للحفاظ على الأوضاع مزكيا بيروقراطية صارمة يراها أهم ما يخدم مصلحته ويفيد مركزه. فهو لا يرى الترقي إلا بالحفاظ على وضعيته ونفوذه وقوته، لهذا تجده يضعف المؤسسة ليتقوى هو، ويفرض على مرؤوسيه الحديث عنه هو لا عن المؤسسة، فهو لذلك محجوب عن متعة التغير والترقي في المقامات بحجاب الحرص على الثبات والخوف من فوات الحظ الذاتي.

والخلاصة أن صاحب المقصد التعبدي يملك بصيرة يرتاد بها آفاق المستقبل بكل يقين وثقة، ويحصل إخلاصا يبلغه آفاق خدمة المصالح العامة، مترقيا في مقامات التغير والتبدل طالبا للأفضل والأرقى، فهو بهذه الصفات يمتلك روحا نافذة خارقة للزمان مخترقة للمقامات ذائقة لسكينة الإخلاص واليقين.

أما صاحب المقصد التسيدي فهو محجوب عن كل ذلك بارتباطه بما هو محسوس يراه ببصره،  أو يقيس عليه في أحسن الأحوال، وقد غلبه هواه وحظ نفسه، وقيده خوفه من التبدل والتغيير فصار راسفا في أغلال الجمود والثبات شديد الارتباط بحال يراها الأصلح له والأفضل لذاته، فلذته في بقائه على حاله، وشقاؤه في زوال ما هو عليه. وقد صدق الإمام الشاطبي في قوله الآنف الذكر: “وغير مستويين فاعل بربه وفاعل بنفسه”.

 ثانيا: المسلك  

كما ميزنا سابقا بين نوعين من المقاصد نميز هنا أيضا بين صنفين من المسالك، أولهما نسميه؛ المسلك التخلقي، والثاني؛ المسلك التسلقي. فأولهما؛ يقوم في التدبير على مبدإ التآلف، وثانيهما؛ يستند في التدبير إلى مبدإ التخالف. فلنفصل القول في هذين الصنفين:

1. المسلك التخلقي

يعتمد هذا المسلك أساسا على السمو بالعلاقات داخل المؤسسة إلى مستوى الألفة والتآلف الذي يحول المؤسسة كلها إلى خلية متكاملة، يعمل كافة أعضائها بتعاون تام للوصول إلى الأهداف المسطرة وتحقيق الرؤية الاستراتيجية الموضوعة. ويستند هذا المسلك إلى ثلاثة عناصر أساسية كالتالي:

أ. الإشراك؛ أي إشراك الغير في شؤون المؤسسة الإدارية وذلك لتنمية الشعور بالمسؤولية المشتركة، وإزالة كافة مظاهر الأنانية والاستبداد بالرأي والعنجهية الإدارية التي تفسد الإدارات.

  فقد اتضح أن الاتفاق الجماعي في اتخاذ القرارات داخل المنظمات والمؤسسات الإدارية هو الذي يمكن هذه المؤسسات من تجويد إنتاجها وتقوية تنافسيتها، يقول جارت مورجان في كتابه “نظرية المنظمة المبدعة”: “وقد تبنت مؤخرا بعض المنظمات صيغا من اتخاذ القرار تتصف بالمشاركة الصريحة يصل فيها جميع أعضاء إدارة ما إلى اتفاق جماعي حول القرار الذي يجب تبنيه. وقد كان صنع القرار بالاتفاق الجماعي موضوعا لعدد كبير من الدراسات والأبحاث في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية في السنوات العشرين الماضية، وتوحي الأدلة بقوة؛ أن مدخل الاتفاق الجماعي ينتج قرارات أكثر إبداعا، وتنفيذا أكثر فعالية من صنع القرارات الفردية[21].”

  وقد طور الباحث الأمريكي من أصل ياباني William Ochi من خلال دراساته للنمطين الأمريكي والياباني في التدبير الإداري، نظرية سماها نظرية (Z) تستند إلى أهمية عنصر الثقة والتعاون بين المسؤول والعاملين بالإدارة، وتعتمد الطريقة اليابانية في اتخاذ القرارات التي تقوم على التشاور الموسع؛ لأن كل ذلك يؤدي لإيجاد جو تسوده الألفة والود والاحترام بما يدفع العمال للإخلاص والإيثار والتضحية في سبيل عملهم والمؤسسة التي يعملون فيها[22].

وبناء على هذا، فإن المنهج المقاصدي في التدبير الإداري يأخذ بأهمية الإشراك الفعال لكل الأفراد العاملين بالمؤسسة في اتخاذ كافة القرارات بصورة ديمقراطية تعكس روح التعاون بين الجميع. ومن شأن ذلك أن ينمي روح المسؤولية المشتركة، و يخلق أجواء الإبداع والتطوير في ظروف إنسانية راقية و منتجة.

ب. القدوة؛ لا يكتمل المسلك التخلقي لا يؤتي الإشراك التام والديمقراطي لكل العاملين بالمؤسسة في عمليات اتخاذ القرار ثماره إلا إذا رافق ذلك تمام تحقق المسؤول الإداري أو القيادة الإدارية بمقتضيات القدوة، حيث يحرص على موافقة قوله لفعله، دالا على صدقه في قوله وفي تصرفه، جاعلا خدمة الآخرين ديدنه وغايته. هذا النوع من القيادات الإدارية هو الذي يجعل أجواء الألفة والتآلف تترسخ داخل المؤسسة، وتؤتي ثمارها إنتاجا فعالا وقوة متزايدة للمؤسسة في السوق وفي مجالها. فهذا الصنف من القيادات الإدارية يؤمن إيمانا راسخا بضرورة الوصل بين العمل الإداري والأخلاق، وبكون الأخلاق سبيلا لتطوير العمل الإداري وتنميته وتقوية ثقة العاملين في المؤسسة وإذكاء روح المراقبة الذاتية من خلال الضمير الأخلاقي، مما يؤثر إيجابا في الإنتاج والتخطيط والمردودية.

ج. التعاون وتفعيل الذكاء الشعوري؛ يتأتي ذلك بتغليب الجانب الإنساني، وقد اشتهر دوجلاس ماك جريجور بالعناية بهذا الجانب في الإدارة في كتابه The human side of entrepriseالمنشور سنة 1960، كما أنه طور نظريتين مختلفتين سماهما على التوالي نظرية  x (س) ونظرية  y(ص) فنظرية ( xس) تعكس النظرة التقليدية للإدارة، ونظرية y (ص) تمثل إسهاما حقيقيا في العلاقات الإنسانية كرد فعل على النظرية التقليدية[23].

وقد طور هذا المنحى وليام أوتشي  Ochi حيث يشير إلى “أن الإنسان بطبيعته ليس ماديا بحثا كما يراه تايلور وزملاؤه، ولا هو غير مادي يعير اهتماما أكبر للجوانب المعنوية أكثر من الجوانب المادية الأخرى، لكنه وسط بين هذا وذاك فالأجر المجزي والحوافز المادية ضرورية وهامة، كذلك الجانب المعنوي من حوافز واهتمام ورعاية وتأمين ظروف العمل المناسبة، كل ذلك يساعد على تخفيف الضغوط لدى العمال، وامتصاص الشعور السلبي نحو العمل… مما ينعكس على إنتاجهم[24].”

وبناء على هذا، فإن الإداري المقاصدي هو ذاك الذي يحرص على بث روح التآلف وليس التنافس بين العاملين في الإدارة، فلا يعمل على تأليب بعضهم على بعض، بل يبث القيم الجماعية على الطريقة اليابانية في تدبير المؤسسات، كما يحرص على وأد النزاعات الفردانية والتوجهات الأنانية مذكيا في العاملين روح الرقابة القلبية القائمة على مسؤولية الضمير. ولعل الدستور الحاكم لهذا الأمر هو قوله تعالى: ﴿فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الاَمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين﴾ (ءال عمران: 159).

فالرحمة واللين أساس التآلف أما الفظاظة وغلط القلب فهو مؤد إلى التخالف، وحتى إذا أخطأ العاملون واستحقوا العفو والاستغفار لهم فإن القائد مطالب بمشاورتهم لأن الشورى لا تسقط بسبب الاختلاف أو المخالفة، بل إنها تصير واجبة، كما هي واجبة في جميع الأحوال؛ إذ ليست منة من القائد أو المسؤول وإنما هي حق أصيل للرعية والعاملين.

 فهذه الآية العظيمة تحدد الإطار المقاصدي للتدبير وكيفية تعامل القائد مع العاملين معه بالرحمة واللين اللذين يحققان الألفة والتآلف ويحققان نتائج باهرة لا يتصورها الغارقون في التسيد، وتركيز الآية على ضرورة التشاور، رغم كل الظروف، أمر مدهش يدعو للإعجاب.

2. المسلك التسلقي

لم أجد كلمة أليق من التسلق للتعبير عن التعامل القشري مع الأخلاق، فإذا كان المسلك التخلقي يستند إلى لباب الأخلاق آخذا بأقوى أسبابها وهو طلب الألفة والتآلف، فإن المسلك التسلقي يرتبط بقشورها آخذا بأخس أسبابها وهو الخلف والتخالف. فكأن صاحبه متسلق يتعامل مع الأخلاق بالتقية والنفاق، فتراه يبتغي هدفا لا يؤمن به، أو يسعى إلى نيل غاية لا يعتقدها، فهو غير نافذ إلى لب السلوك العملي اللائق برجل الإدارة الناجح، وإنما هو مرتبط بالقشر متسلق عليه لا يعدوه.

وسبب قشرية المتسلق أنانيته المفرطة وذاتيته المستبدة ومصلحتيه  المستحكمة، فتراه يقبل من المسلكيات أردأها وأسوأها. فإذا كان المتخلق يقدم الغير على النفس، ويرى خدمة الآخرين مرقاة لنفسه، فإن المتسلق يقدم النفس على الغير ويرى خدمة نفسه واجبا على الآخرين، ومن هذا الصنف تنشأ القيادات الاستبدادية بصورها ومراتبها وآفاتها. ويتخذ التسلق ثلاثة مظاهر أساسية كما يلي:

أ. الانفراد بالقرار؛ يفيض لدى المتسلق شعور بالأنا بصورة مرضية تجعله يتوهم نفسه صاحب السلطة المطلقة، فهو الذي يتحكم، وهو الذي يقرر، وهو الذي يعاقب، وهو الذي يثيب، وهكذا تتضاعف لديه أوهام التسلط، فيمتنع عن مشاورة الآخرين وحتى عندما يشاورهم إما أن يعرض عليهم رأيا يراه هو ليوهم نفسه أنه اتخذ قرارا تشاركيا، وإما أن يُعرض عن رأيهم عندما يراه لا يوافق “هواه”..

 فهو في كل الأحوال لا يرى لنفسه قيمة إلا بالاستبداد بالرأي وبالانفراد بالقرار. فإذا كان المتخلق يعرض على العاملين معه المشكلة ليتوصلوا إلى قرار جماعي بشأنها. فإن المتسلق يعرض على العاملين القرار الذي اتخذه هو ليبدوا رأيهم فيه، وقلما يأبه لرأيهم إذا كان مخالفا لرأيه، وشتان ما بين المسلكين وما أبعد ما بين العملين! ولذلك ترى المتسلق يتخذ من المقاربة التشاركية صناعة لفظية لا يفتأ لسانه يسبح بها وإن كان قلبه شديد الإنكار لها راسخ الكفر بها. أما المتخلق فإن المشاركة لديه خلق أصيل وسلوك أثيل، يرى الناس آثاره ولا يحتاج هو، بل لا يميل أصلا، إلى الحديث عنه أو التشدق بالعمل به.

ب. مخالفة القول للفعل؛ لا يرى المتسلق أبدا غضاضة في مخالفة أقواله لأفعاله، ولذلك فإنه لا يرى حرمة لحفظ العهد، وقوله وفعله كلاهما لا يرتبطان إلا بذاته، فإن توافقا فبالصدفة بسبب مصلحة خاصة، وإن تخالفا وهو الغالب فذلك أيضا لمصلحة خاصة يجنيها من وراء ذلك. وتتخذ هذه المخالفة الشنيعة، والتي هي بالمناسبة سلوك معتاد في كثير من الإدارات، صورتين:

1. صورة التحايل والاحتيال؛ حيث يسمح المسؤول الإداري لنفسه بإظهار غير ما يبطن وادعاء غير ما يعتقد، فيعد بأمور يبطن عدم الوفاء بها، ويظهر الحرص على مبادئ وحقائق وهو في قلبه  نافر منها غير عابئ بها. و لذلك ترى كثيرا من العاملين يتهمون مسؤوليهم بالكذب وعدم إنفاذ الوعود.

2. صورة الاستغلال؛ حيث يعمد المسؤول إلى إيهام العاملين واستغلالهم، كلهم أو بعضهم، لتحقيق أغراضه الخاصة. فهو يرى العاملين وعملهم ملكا خاصا به وويل لمن يدعي منهم شيئا لنفسه. وقد رأينا من صور هذا الاستغلال في بعض الإدارات ومنها إدارة بعض الجامعات ما يندى له الجبين. ويرجع هذا السلوك إلى إيمان بعض القيادات الإدارية بالفصل بين العمل الإداري والأخلاق، معتبرين أصول العمل الإداري غير ذات طبيعة أخلاقية، وأن الأخذ بالأخلاقيات في الإدارة من شأنه أن يضعفها ويفقدها الهيبة اللازمة، وأن يفسد العلاقات بين الرؤساء والمرؤوسين ويحول دون تنفيذ التعليمات. والسبب في هذا الاعتقاد الخاطئ هو شدة حرص هذه القيادات على ترسيخ التسلط والتسيد وعبادة القواعد التي تؤدي بدورها إلى عبادة الفرد المتسلط و المتسيد.

ج. إذكاء النزعة الفردانية؛ يميل المسؤول المتسلق إلى إذكاء النزعة الفردانية بين العاملين ودفعهم إلى التنافس والتصارع. ولذلك تراه يحارب العمل الجماعي لأن تسيده على الإدارة لا يتم إلا بهذه الفردانية المورثة للصراع والتنافس. فالنزعة الفردانية في التدبير هي التي تمكن المسؤول الإداري من التفرد في اتخاذ القرارات، وهكذا يندفع العاملون في تصارع ذاتي ينشر جوا من التخالف لا يسمح بتطوير المؤسسة ولا بتطوير الإنتاج ولا بتحقيق الأهداف، ولا بوضع الخطط موضعها الصحيح، ولذلك فإن العمل الجماعي في هذا النوع من الإدارات ليس أصلا، وإنما طارئا تنعقد له اللجان الوظيفية عند الحاجة، ثم لا تلبث أن تنفك وتنحل بمجرد إنجاز العمل الموكول إليها حيث يعود كل عامل إلى عمله الفرداني الخادم للمنهج التسيدي.

ثالثا: المنهج

يرتبط المنهج بطرائق العمل، وخطط الإنتاج، وأساليب التطوير والمراقبة والتقويم، وهو منهج إما أن يكون إبداعيا إلى أقصى حد مختبرا حدود العقل، موغلا في الحدس والتصرف والتجديد، وهو ما نسميه “التعقل الواسع”، وإما أن يكون محافظا على النمط مرتبطا بالعقل الحسابي والمنطقي وهو  ما نسميه “التعقل الضيق”، فلنتول تفصيل هاتين الصورتين المتقابلتين فيها يأتي:

1. التعقل الواسع

 يرتبط وصف السعة هنا بأمور ثلاثة متكاملة: أولها؛ تبني الإبداع أساسا للتدبير، وثانيها؛ توخي الجودة الشاملة، وثالثها؛ اعتماد التقويم الشامل. وفيما يلي تفصيل ذلك:

أ. الإبداع

تؤكد الدراسات الحديثة في التدبير والقيادة الإدارية على أهمية الإبداع والابتكار لتطوير المؤسسة الإدارية، ويحتاج ذلك إلى امتلاك طاقة واسعة لوضع الحلول المبتكرة وإعمال الحدس والخيال واختبار إمكانيات العقل إلى أقصى حد، وتشجيع مختلف العاملين على التصرف والإبداع.

ولذلك فإن القيادة المبدعة في الإدارة هي التي تلتمع في ذهنها أفكار جديدة، وتتصرف وفق حلول وإمكانيات متعددة لا تجمد على الإجراءات المتبعة والقواعد المرعية، وإنما تتيح إمكانيات واسعة للتصرف الإبداعي الذي يكون له أثر فاعل في العمليات الإدارية، وفي العاملين وفي المنتوج النهائي للمؤسسة الإدارية.

ب. الجودة الشاملة

يتكامل الحس الإبداعي الفاعل مع تبني سياسة الجودة الشاملة، وعندما نقول الجودة الشاملة فإننا نعني بها الجودة التي تتجاوز العمل على تجويد الإنتاج والمنتوج إلى أن تكون منعكسة على العاملين أنفسهم، بحيث يكون الهواء الذي يتنفسه الجميع مطبوعا بطابع الجودة.

وكما هو معلوم فإن تحقيق الجودة وتحسينها يتطلب الخطوات التالية:

ـ التخطيط للجودة من خلال أنشطة تحدد الأهداف والمتطلبات الخاصة بالجودة.

ـ ضبط الجودة من خلال أنشطة عملياتية لتلبية متطلبات الجودة ومنها أنشطة مراقبة العيوب.

ـ ضمان الجودة، من خلال أنشطة منهجية مخططة لضمان الثقة الكافية بأن المؤسسة قادرة على تلبية متطلبات الجودة.

ـ تحسين الجودة  بأعمال تتخذ لزيادة فاعلية الأنشطة والعمليات بهدف تحقيق فوائد إضافية للمؤسسة وزبنائها.

ويحتاج هذا إلى تطوير إدارة للجودة الشاملة من خلال:

ـ  التحليل المستمر للعمليات المرتبطة بالعمل بالمؤسسة بهدف تحسين الأداء، ويقوم بذلك العاملون أنفسهم من خلال إشراكهم في العملية.

ـ توفير التدريب والتكوين المستمر والحوافز للمحافظة الدائمة على الجودة العالية.

ـ التركيز على عمليات الإنتاج في مجملها وليس النتائج فقط.

ـ تجويد تلبية حاجات زبائن الإدارة أو المستهلكين لمنتوجها.

ـ التحسين المستمر لأن الجودة ليست تابثة بل في تطور مستمر[25].

والخلاصة أن توخي الجودة الشاملة القابلة للتحسين المستمر والتطوير الدائم هي أصل من أصول المنهج المقاصدي. فليس أحب إلى نفس المقاصدي من إتقان العمل.

ج. التقويم الشامل

لا يمكن الحفاظ على استمرارية الإبداع وفاعلية الجودة إلا من خلال التقويم الشامل للعملية الإدارية برمتها؛ أي أن يشمل التقويم كل العناصر من العمليات الإدارية والنظام الإداري والرؤية التدبيرية والعاملين والإجراءات والمنتوج أيضا، ولا ينبغي أبدا أن يقتصر التقويم على عنصر دون عنصر من مكونات العملية الإدارية، كما لا ينبغي في إطار ربط المسؤولية بالمحاسبة أن تقتصر المحاسبة على الحلقات الضعيفة في سلسلة المسؤوليات الإدارية، بل ينبغي، ضمانا للنجاعة والفاعلية، أن تشمل الجميع[26].

والخلاصة أن المنهج التعقلي الواسع يقوم أساسا على الإبداع والاجتهاد المتواصل لضمان الجودة التامة والشاملة والحرص على التقويم الشامل المستمر الضامن لاستمرارية التحسين والتطوير.

2. التعقل الضيق

وترجع صفة الضيق هنا إلى أن العقل يبقى في حدوده  الدنيا لا يعدوها، ويقف عندما يتطلبه الموقف لا يجاوزه، ولا يؤمن سوى بالعقلية الحسابية الملموسة، ولا يغامر أبدا بالثقة بالحدوس ولا بالبدائل المتنوعة، فالحفاظ على النظام، وعلى التسلسل وعلى العلاقات المنطقية المألوفة أولى عنده من اختبار آفاق التصرف وامتحان مجاهل الخيال والحدس، ويتجلى التعقل الضيق من خلال عناصر ثلاثة ترتبط بالحفاظ على النمط وتوخي الجودة الجزئية، وإعمال التقويم غير التام.

أ. الحفاظ على النمط

يرى بعض الباحثين أن “المنظمات والمؤسسات تتطور بالروتين والحفاظ على الوضع القائم[27]”  ولذلك فإن المنهج الشكلاني يرتبط أساسا بالحفاظ على النمط والجمود على ظاهرية الإجراءات وحرفية القوانين، ولا يسمح بالتصرف إلا بصورة محدودة وعلى نطاق ضيق جدا.

وهذا النوع من الإداريين تجده “بصورة عامة يتمسك بأول بديل مقبول حين يتخذ قرارا، بدلا من البحث عن أفضل خيار، وهو نادرا ما يغير الأشياء إلا إذا ساءت كثيرا، وحتى حين يغيرها فهو يستمر في محاولة ما سبق أن أدى إلى نتيجة، وأنه يقصر بحثه عن الحلول على السبل المطروقة كثيرا والمصادر التقليدية للمعلومات والأفكار الراسخة، ويميل لأن يبقى منشغلا بالروتين، وبذلك يمنع الابتكار[28].”

 ونظرا لعدم انفتاح هذا الصنف على أية إمكانية تجديدية أو مبتكرة للنظر إلى الأمور وحل المشاكل، فإن رؤيته وتصرفه يربك سير المؤسسة أو يضعف فاعليتها وتنافسيتها، وذلك لأنه لا يرى الأمور إلا من زاوية ضيقة، ولا يمتلك أساليب كثيرة لحل المشكلات وابتكار الحلول، فقد صدق من قال: “إذا لم يكن لديك سوى مطرقة أصبحت كل مشكلة في نظرك مسمارا[29].” ولذلك تجد هذا النوع من الإداريين غارقا في الشكلانية من خلال الحفاظ على الروتين وعلى البروتوكول وعلى قدسية الإجراءات الشكلية بصورة مبالغ فيها. وما أكثر ما تزخر إداراتنا بهذه الأصناف.

ب. الجودة الجزئية

لا يجادل هذا النوع من القيادات في أهمية تبني الجودة والحرص على تجويد الإدارة، ولكنه للأسف لا يرى من الجودة إلا وجها واحدا وهو جودة المنتوج النهائي للمؤسسة أو الإدارة. فإن تحققت هذه الجودة الجزئية فإنه لا يهتم بغيرها ولا بأي ثمن تحققت هذه الجودة. والذي يهم هذا الصنف من المسؤولين الإداريين أن تمتدح مؤسستهم بجودة منتوجها، حتى ولو كانت ظروف العاملين غير جيدة، وحتى لو كانت مساطر العمل نفسها غير جيدة.

ج. التقويم الجزئي

يتبني هذا الصنف عملية تقويم الإنتاج والمنتوج، ولكن التقويم عنده لا يرتبط بمجموع منظومة العمل وكافة العمليات والإجراءات والأفراد المتدخلين فيها، وإنما ينصب النقد والتقويم ومن ثم المحاسبة على العاملين فقط. وفي غياب تام لأية إجراءات تحفيزية تدفع العاملين للإبداع والإخلاص، فإنهم يتفاجأون عند التقويم بأن آثاره تنصب عليهم دون غيرهم. وهذا الخلل هو الذي يربك كثيرا من الإدارات والمؤسسات ويجعل فاعليتها وتطورها بطيئا جدا.

وإذا أردنا أن نلخص الفارق بين التعقل الواسع والتعقل الضيق، فإنه يمكن أن نقول إن الأول يتسامى بالعقل إلى حدود الحدس، بينما يخلد الثاني إلى أرض المنطق لا يعدوه، فالأول يبدع ويبتكر ويغامر، والثاني يحسب ويؤمن بالملموس ويتردد في الإيمان بما فوقه، ولذلك كان الأول واسعا منفتحا، وصار الثاني ضيقا ومنغلقا.

خلاصة

يمكن أن نحلص في الختام إلى أن الإدارة المقاصدية هي إدارة عقلانية في أساليبها، أخلاقية في مسالكها، تعبدية في مقاصدها، فالعقلانية تحكمها الأخلاقية وتعلوهما معا الغاية التعبدية. ولذلك فإن صلاح الإدارة وإصلاحها لا يتم بغير هذا المنهج المقاصدي من خلال اختيار القيادات المقاصدية أي القيادة المتعبدة المتخلقة الواسعة التعقل.

أما القيادات المتسيدة والمتسلقة والضيقة التعقل فإنها ستؤدي حتما إلى فساد الإدارة وإفسادها.

وبهذا نفهم القولة المنسوبة إلى سيدنا عمر بن الخطاب والتي تلخص هذا الصنف من القيادات الإدارية المقاصدية، يقول رضي الله عنه: “أريد رجلا إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم كان كأنه رجل منهم”. وما أنذر هذا الصنف من الرجال وخصوصا في هذا الزمان الذي أفسدته القيادات التسيدية الشكلانية، فأين الأمير الذي لا يتميز عن أصحابه كأنه منهم؟

ويمكن اختصار التقابل بين المنهجين الشكلاني والمقاصدي في هذا الجدول:

المقصد المسلك المنهج
المنظور المقاصدي للإدارة 1. التعبد 

ـ الاستبصار

ـ الإخلاص

ـ التحول

2. التخلق 

ـ الإشراك

ـ القدوة

ـ التعاون

3. التعقل الواسع 

ـ الإبداع

ـ الجودة الشاملة

ـ التقويم الشامل

المنظور الشكلاني للإدارة

1. التسيد 

ـ الإبصار

ـ الارتباط بالذات

ـ الجمود

2. التسلق 

ـ الانفراد

ـ مخالفة القول للفعل

ـ التنازع

3. التعقل الضيق 

ـ المحافظة على النمط

ـ الجودة الجزئية

ـ التقويم الجزئي

وأحب قبل الختام أن أؤكد على أمرين اثنين:

الأول؛ أن المنهجين المتقابلين المذكورين في هذا البحث؛ أقصد الشكلاني والمقاصدي لهما مراتب تتفاوت بين حد أعلى وحد أدنى، وهذا يتيح إمكانية تصنيف مختلف التطبيقات الواقعية التي نراها اليوم في مختلف الإدارات والمؤسسات العامة والخاصة في سلم تقويمي يفاضل بينها. فقد يدخل بعضها في صنف الإدارة المقاصدية ولكنه قد يكون في أدنى مراتبها حتى يكاد يلتحق بالشكلانية، وقد يدخل بعضها في صنف الإدارة الشكلانية ولكنه قد يكون في أعلى مراتبها حتى يكاد يقترب من المقاصدية.

والأمر الثاني؛ أنه لا ينبغي أن يفهم من هذا التصنيف أن المنهج المقاصدي مرتبط بالإنسان الدياني (أو المتدين) والمنهج الشكلاني مرتبط بغير الدياني (أو غير المتدين)، فقد يطبق المنهج المقاصدي في أجود صوره في مجتمع علماني غير دياني أصلا. وقد يطبق المنهج الشكلاني بكل عيوبه في مجتمع إسلامي مرتبط بالدين، فالمنهج المقاصدي منهج عقلاني يقوم على الأصلح للإنسان وفقا للقوانين الإلهية المبثوثة في الكون والتي قد يصل إليها الدياني وغير الدياني على السواء، كما أنهما قد يخطئانها عندما تحجبهم الحواجب الكثيفة  فيفقدون نعمة البصيرة التي جعلها الله مدخلا لإدراك آياته.

الهوامش


[1]. محمد الطاهر بن عاشور، مقدمة كتابه: مقاصد الشريعة الإسلامية، دار السلام، ط4، 2009م، ص3.

[2]. مقاصد الشريعة الإسلامية، م، س، ص6-7.

[3]. المصدر نفسه، ص18.

[4]. المصدر نفسه.

[5]. المصدر نفسه، ص19.

[6]. المصدر نفسه، ص68.

[7]. طه عبد الرحمن، روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية، الدار البيضاء/بيروت: المركز الثقافي العربي، 2012، ص343-344.

[8]. لفنجستون، التنظيم والإدارة الهندسية، لندن 1949، ص84.

[9]. دراكر بيتر، الإدارة: المهام – المسؤوليات – التطبيقات، ترجمة اللواء محمد عبد الكريم، الدار الدولية للنشر والتوزيع، ط1، 1996، ج1، ص5.

[10]. استفدنا هذا التمييز من أستاذنا طه عبد الرحمن في كتابه القيم “روح الدين” وهو وإن أجراه على السياسة إلا أنه يصلح لكل أصناف التدبير.

[11]. أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، بعناية إبراهيم رمضان، دار المعرفة، 2001، 2/468.

[12]. المصدر نفسه، 2/499.

[13] . روح الدين، م، س، ص80.

[14] . المصدر نفسه، ص71.

[15] . انظر:

Zahn: Strategic management systems thinking and modeling.

[16] . الموافقات، م، س، 2/484.

[17] . المصدر نفسه، 2/476.

[18] . المصدر نفسه، 2/496.

[19] . المصدر نفسه.

[20] . الموافقات، م، س، 2/495-496.

[21] . جارت مورجان، نظرية المنظمة المبدعة، ترجمة محمد منير الأصبحي، راجع الترجمة عبد العزيز شافي العتيبي، ط1، الرياض: معهد الإدارة العامة، مركز البحوث/المملكة العربية السعودية، 2004، ص146.

[22] . انظر: عبد الصمد الأغبري، الإدارة المدرسية، البعد التخطيطي والتنظيمي المعاصر، دار النهضة العربية، 2006، ص59-60.

[23] . الأغبري، الإدارة المدرسية، م، س، ص49 في بعدها.

[24] . المصدر نفسه، ص54.

[25] . الخطيب أحمد رداح، إدارة الجودة الشاملة: تطبيقات تربوية، مكتب التربية العربي لدول الخليج، 2004، ص26.

[26] . انظر:  Service quality evaluating modelsالمنشور في مجلة Procedia عدد 31 لسنة 2012.

[27]. Goleman, D, et al, L’intelligence émotionnelle au travail, Nouveaux horizons, Paris 2002, p.276.

[28]. نظرية المنظمة المبدعة، م، س، ص55.

[29]. المصدر نفسه، ص19.

Science

الدكتور عبد الجليل هنوش

• عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض مراكش.
• دكتوراه الدولة في النقد الأدبي من جامعة القاهرة.
• أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، مادة النقد والبلاغة.
• منسق ماستر: الأدب العربي القديم: أصوله اللغوية ومناهجه، بكلية الآداب مراكش.
من أعماله:
ـ التأسيس اللغوي للبلاغة العربية في القرن 2 هـ.
ـ ابن طبا طبا العلوي والتصور التداولي للشعر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق