وحدة الإحياءمفاهيم

المرجعية والسياق وصراع التأويلات مراجعات نقدية في الفكر الإسلامي

أولا: مقدمات تمهيدية

1. لقد دلّ تتابع وتسارع أحداث عالمنا المعاصر، منذ نهاية القرن العشرين إلى الآن، أنه لم يعد مستساغاً التقليل من دور الأفكار والتصورات أو المذاهب والقيم في التأثير في حياتنا المعاصرة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا؛ حتى إنه ليجوز لنا أن ننعت عصرنا بأنه عصر القيم بلا منازع من كثرة ما أصبح يتردد على لسان الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين من مصطلحات ومفاهيم وشعارات تُرفع في مختلف المحافل هنا وهناك، ترجع إلى بنية القيم الأخلاقية والتمثلات الفكرية والدينية…

 وإذا كانت مراكز البحث الإستراتيجية في العالم الغربي قد سبقتنا إلى الانتباه إلى الدور الذي صارت تلعبه منظومة القيم والمبادئ والمذاهب الدينية أو الفكرية في تحولات عالمنا المعاصر، وأصبحت تسترخص إنفاق الأموال في سبيل دراسة المذاهب الدينية والفكرية داخل العالم الإسلامي خاصة؛ فحريٌّ بنا أن نولي العناية اللازمة في مثل لقائنا العلمي هذا بتاريخ فكرنا الإسلامي ونبادر قبل غيرنا إلى تقييمه وتجديد النظر إليه؛ فذلك أمر واجب ومطلب مستعجل، وليس ترفاً فكرياً ولا استلاباً اجتماعياً! بل إن وقفنا من حين لآخر لمعالجة قضايانا الفكرية ومفاهيمنا الحضارية وتاريخنا العلمي المشترك، تبرره قدرة الأفكار والمفاهيم على البقاء والتجدد و”الترحل” في الزمان والمكان والتجلي من جديد عبر صور مختلفة ومتباينة في شتى مظاهر وأنحاء حياتنا المعاصرة.

 ولنفتح قنوات إعلامنا ولنقرأ صحفه السيارة، فلا نكاد نجد يوماً لا تتداول فيه تلك المنابر الإعلامية بكيفية من الكيفيات مفاهيم ومصطلحات وأفكار تمت بصلة إلى تراثنا الإسلامي من قريب أو بعيد… من ثم تتأكد صلة الوصل بين ورشاتنا العلمية وأبحاثنا الأكاديمية في تاريخنا الفكري والديني وبين واقعنا المتحول المعيش. وهو ما يفرض علينا المبادرة قبل غيرنا بطرح قضايانا الفكرية على بساط البحث والتداول، خدمة للحقيقة أولاً وصوناً لتراثنا العلمي من العبث ثانياً…

2. لاشك، إذن، في مشروعية التساؤل عن طبيعة ما تراكم لدينا من إنتاج فكري وعلمي متنوع، وكذا التساؤل عن راهنية ذلك الإنتاج وأشكال حضوره في حياتنا المعاصرة؛ ولعل مسألة “التأويل” بحد ذاتها هي من القضايا الأساس التي أثبتت حضورها في تاريخ فكرنا الإسلامي كإشكال يحتاج إلى تنظير وتقعيد، مثلما أثبتت حضورها كذلك في الفكر الإنساني عامة، وتكفي الإشارة إلى أن قضية التأويل تحيلنا إلى شبكة من العلاقات دائرة بين معنى النص والتلقي والفهم والتفسير والقراءة… وغير ذلك من القضايا والإشكالات التي ترجع بنا إلى مشكلة اللغة ذاتها.

ولم يكن الإلحاح على تجاوز تعريف الإنسان بالرسم إلى طلب تعريفه بالحدّ، إلا بهدف إبراز خاصية اللغة أو الكلام والتي تميزه عن باقي الكائنات. من ثم كان الكلام وكانت اللغة ميزة الإنسان الأولى وخاصيته الأساس؛ واللغة أسماء ومفاهيم مجردة، ليس بمقدور مخلوق آخر أن ينشئ مثلها، ولذلك عجزت الملائكة أن تنشئ للموجودات، بَلْه للوجود أسماء؛ ولذلك اعتُبرت القدرة على تسمية الوجود وأشيائه حداًّ فاصلاً بين الملائكة المسيَّرين والبشر المخيّرين، وما ذلك إلا لأن إنشاء الاسم ليس مجرد عملية “تلقين” فجّة ولا هي وليدة لحظة تعلم وتعليم آنية عابرة، وإنما الاسم خلاصة تجربة إنسانية وجودية عميقة وفريدة مع هذا العالم تعكس مدى استعداد الإنسان وقدرته على فهم عالمه الذي كان نزوله إليه “نزول كرامة، لا نزول إهانة!” بحيث تأتي الأسماء وتأتي القدرة على التسمية وكأنها تعيد تشكيل الوجود في وعي الإنسان، من حيث كونها تعكس تجربته الحية مع أشيائه، وهي تجربة لا يستطيعها غير هذا الإنسان العاقل المتكلم، الجامع و”القارئ” للوجود المسخّر له بفضل أسماء ومفاهيم لغته…

ولعل هذه المنزلة الوجودية التي تحتلها الأسماء والمفاهيم هي التي حملت مارتن هايدغر HEIDEGGER. M. في الفلسفة الحديثة، وبفضل رؤيته الفينومينولوجية والتأصيلية للوجود، على النظر إلى اللغة وإلى خزّان الأسماء التي تتضمنها، كأداة مقاصدية بالأساس، بحيث لا يكون الاسم مجرد “علامة” أو محض تصوير للوجود المدرك، بقدر ما أن وظيفة الاسم ومقصده الأكبر إنما هو بالأساس إخراج وإبراز وإظهار الشيء إلى الوجود، واستظهاره واستحضار له وتمييزه عن غيره(1)؛ ومن ثم كان الاسم، كما قيل “مشتقاً من السموّ، لأنه لمّا دلّ على الذات فقد أبرزها(2)” وأضفى عليها وجوداً. لذا كان وجود الموجودات في الأصل “وعيا” أو “شهادة” يضفيها المتكلم (إلهاً كان أو إنساناً) على أشياء العالم، فيمنحها بذلك وجودا، إذ لا وجود خارج هذا الوعي ولا خارج اللغة المترجمة عنه ولا خارج الاسم أو “الكلمة” التي هي النواة الأساس في اللغة…

3. لذا ورغم ما لاحظه بعض المعاصرين من أن قدماء الأصوليين، منذ مرحلة التأسيس مع الإمام الشافعي (204ﻫ) قد بالغوا في العناية بالجانب اللغوي المصطلحي من النص وأن ذلك كان من جملة الأسباب التي شغلتهم عن الاعتناء بالمقاصد الشرعية وصرفتهم عن إدراك خصائصها الكلية… إلا أن المنظِّر الكبير لعلم المقاصد أبا إسحاق الشاطبي (790ﻫ) يبادر، بخلاف هؤلاء إلى تثمين مشروع الإمام الشافعي القائم على المبادرة بتنقيح وضبط “صور البيان” المعرب عن “قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام” منبهاً إلى أن الإقدام على فهم وتفسير و”تأويل” مقاصد الخطاب الشرعي واستنباط أحكامه الكلية مع الجهل بلغته والتقصير في ضبط مفاهيمه ومصطلحاته هو نوع من الإسقاط والتكلف والتخرص(3) والركون إلى محض الهوى، والتثاقل إلى أرض التقاليد وجهلا بضوابط الفهم وشروط التلقي وخروجاً عن “قانون التأويل”، هذا التأويل الذي يجب اعتباره في الأصل ممارسة طبيعية في كل خطاب لغوي، شأنه في ذلك شأن التشبيه والاستعارة والمجاز وغير ذلك مما يُلجأ إليه لتجاوز “عوائق التعبير” في التداول الطبيعي وتخطي حواجز الفهم والتلقي لأجل تفسير مراد “النص” واستشراف مقاصده…

استحضاراً لذلك البعد اللغوي في الممارسة التأويلية، نرى مفكرنا الكبير أبا حامد الغزالي (505ﻫ) سواء في أعماله الفقهية الأصولية أو كتاباته الكلامية والفلسفية يشدد على ضرورة اعتبار مستويات التلقي لأيّ خطاب وتنزيلها بحسب مستويات الوجود التكويني، هذا “الوجود” الذي يقال دائماً “باشتراك”، نظرا لكون مفهوم الوجود بحسب الغزالي، يحتمل بذاته مراتب خمساً(4): مرتبة الوجود الذاتي، والوجود الحسي، والوجود الخيالي، والوجود العقلي، ثم الوجود الشّبهي: فإن كانت المرتبة الأولى تعني استقلال الشيء في ذاته وتميزه عن الحس والعقل معاً فإن باقي المراتب الأربع شاهدة على تلك “المسافة” التي تظل قائمة بين الشيء في ذاته Noumène والإدراك الإنساني، وهي مسافة يحضر فيها التأويل كآلية ناجعة لفهم الوجود وتفسيره.

وعلى الرغم من الخلاف ما بين الغزالي وابن رشد، فإن هذا الأخير قد حرص أن يختم كتابه الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة بطرح مشكلة التأويل ثمَّن خلال كلامه عنها موقف الغزالي، معتبراً أن ما سلكه أبو حامد في هذا الباب هو “القانون المعتبر” لفهم مستويات اللغة، بل لفهم الوجود جملة، جاعلا من مراعاة مراتب الوجود الخمس التي تحدث عنها الغزالي “القانون” الذي لو تم ضبط قواعده لبدّد كثيرا من الأوهام الناشئة في الخلافات بين المتكلمين والفلاسفة في الإسلام؛ وبوحي من ذلك القانون يعمد ابن رشد إلى تفصيل أصناف التقابل بين التأويل أو التمثيل والوجود(5)، فيقسم مشكلة الدلالة أو المعنى إلى صنفين كبيرين: صنف يطابق فيه المعنى للوجود ولا يحتاج بالتالي لأي تفسير أو تأويل. وصنف ثان يحضر فيه التأويل والتمثيل بمستويات مختلفة. وهنا نرى ابن رشد، مسترشداً برأي الغزالي في الموضوع، يعمد إلى تقسيم هذا الصنف الثاني من الدلالة إلى أربعة أصناف فرعية:

أ. صنف لا تدرك طبيعته أو وظيفته التمثيلية ولا دلالته التأويلية إلا بعلم بعيد ومجهود فكري عميق. ومن شأن هذا أن يدعو إلى منع تأويله أو الطمع في إدراك حقيقة دلالته إلا على من ينعتهم ابن رشد “بالراسخين في العلم!” وهذا صنف لا يجوز التصريح به إلا لهؤلاء الراسخين في العلم (وهذا نحو الخلاف حول العالم، قديم هو أم محدث).

ب. في مقابل ذلك نجد صنفاً ثانياً من ذلك التقابل تدرك طبيعته أو وظيفته التمثيلية كما تدرك دلالته الرمزية “بعلم قريب” مما يسمح بتأويل هذا الصنف من التمثيل كما يسمح بالتصريح بدلالته، إن لم يكن التصريح بذلك التأويل واجبا (نحو قولنا: زيد أسد).

ج. بعد هذين الطرفين المتقابلين من التمثيل والتأويل، نجد ذلك الصنف الثالث الذي تدرك طبيعته ووظيفته التمثيلية بعلم قريب، إلا أن مقصده لا يدرك إلا “بعلم بعيد”. وأن هذا التردد في العلم بين القرب والبعد من شأنه أن يجعل تأويله مترددا أيضا بين الراسخين في العلم وبين غيرهم الذين يجوز أن يقرّب إليهم هذا التمثيل بتمثيل أو تأويل آخر أقرب إلى مداركهم (كتأويل حديث “الحجر الأسود يمين الله في الأرض”).

د. ثم يأتي الصنف الرابع والأخير من هذه العلاقة الجدلية بين التمثيل (التأويل) والوجود، وهو ذلك الصنف الذي لا تدرك طبيعته التأويلية، ووظيفته التمثيلية إلا “بعلم بعيد”، في حين تدرك دلالته “بعلم قريب. ومع أن تأويل دلالة هذا الصنف ممكن إذا ما كان هناك توافق حول طبيعته التمثيلية، فإنه في غياب هذا الشرط يصبح تأويل هذا الصنف خاصاً أيضاً بالراسخين في العلم، خوفاً من تحويل النص الشرعي، إلى محض “إشارات” رمزية لا مناسبة بينها وبين موضوعاتها ودلالتها الأصلية في لغة التداول الطبيعي. كما جنحت إلى ذلك بعض التأويلات الشيعية والصوفية…

هكذا يتأكد لنا حضور مشكلة التأويل في الفكر الإسلامي انطلاقا من إشكالية العلاقة بين اللغة والفكر والتساؤل عن حدود اللغة الطبيعية ومدى قدرتها على الإحاطة بمراتب الوجود وترجمة الإدراك العقلي للمستويات التي يحتملها ذلك الوجود؛ ومن ثم كانت مشروعية التأويل تنطلق من اعتبار مستويات البيان في اللغة الطبيعية ذاتها، ومن خلال نصوصها التأسيسية خاصة، كما هو الحال بالنسبة للقرآن الكريم؛ إذ هو نص يعلن عن ذاته أنه مؤسس في الأصل على قصدية الوضوح ومتوجه به إلى المخاطب العاقل؛ إلا أن ذلك الوضوح يحتمل مستويات بحسب مراتب الوجود وما تحتمله مصطلحات لغة التداول الطبيعي ودرجاتها في “سلّم البيان”.

ولذلك يأتي القرآن الكريم كنصٍّ تأسيسي في الإسلام وكمتن corpus مدشن لعملية القراءة والتلقي ليعلن عن نفسه أن “أمّ” وأغلب ما يقع بين دفتيه “محكم” المعنى، مضبوط الدلالة، قابل للفهم، واضح المقصد؛ وأن ما يقع فيه من قليل “المتشابه” أمر تفرضه بنية العلاقة بين لغة التداول الطبيعي و”إشاراتها” إلى مراتب الوجود المختلفة؛ ومن ثم وجب، في تلقي وقراءة هذا الكتاب، ردّ المتشابه القليل الورود إلى المحكم الغالب(6)، وفقاً لقواعد خطابية مقبولة تسمح بفهم وتأويل أبعاد ومقاصد ذلك المتشابه في ضوء مقاصد المحكم الغالب، وذلك مراعاة لمستويات “البيان” المشيرة إلى مقاصد الخطاب… وليس غريباً بعد هذا أن يكون مفتتح رسالة الشافعي في فهم جملة الخطاب الشرعي هو تساؤله عن طبيعة وماهية ومستويات ذلك البيان.

ثانيا: التأويل ومحنة النص في التجربة الغربية

1. خلافا لحضور هذا المعنى الأول لمفهوم التأويل في الفكر الإسلامي، سواء لدى علماء الأصول أو علماء الكلام، نجد مشكلة التأويل في تاريخ الفكر الغربي لا تطرح انطلاقا من فرضية قصدية “البيان” والوضوح، بقدر ما تنطلق من فرضية قصدية التورية والتعمية “والغموض” المقصود في النص أو النصوص التأسيسية؛ ذلك أن أشهر تلك النصوص التأسيسية التي طلب تفسيرها وتأويلها هي تلك التي جُمعت فيما سمي “بالكتاب المقدس” والتي اعتُبرت بحسب بنيتها الإنشائية وبالنظر إلى “سياقاتها” التاريخية التي أثرت كثيرا في اضطراب سندها وصعوبة تنقيحها وكثرة مراجعاتها ومحاولات إضفاء “شرعية” ما عليها… اعتبرت نصوصاً مكرسة بذاتها للغموض والإغراق في الرمزية واللغة الإشارية، مما سهل الربط بين متن هذا “الكتاب المقدس” ومتون الأساطير والحكايات الرمزية الشائعة قديماً في الثقافتين الإغريقية والرومانية والتي تستوجب المبادرة بفك رموزها واستشراف دلالاتها البعيدة…

 وذلك من شأنه أن يمنح مساحة واسعة للتأويل و”التلقي الحرّ” دون ضوابط معقولة المعنى. ولذلك لم يكن مستغرباً أن يصبح مصطلح الهيرمينوطيقا Herméneutique عنواناً دالاً على طبيعة التعامل مع مثل هذه النصوص المتسمة أصلا بالغموض إن لم تكن هي في الأصل متعمدة البقاء في ذلك المستوى من الغموض المعرفي واللغوي، ولم تكن الشخصية الوهمية الأسطورية لهرمس (HERMES) ابن الإله “زيوس” والذي اشتق من اسمه عنوان علم التأويل هذا إلا نموذجا دالاً على طبيعة مفهوم التأويل في الفكر الغربي، بما عرف به هرمس أو أشيع عنه من شغف “بالتلفيق” Eclectisme بين المعارف غير المنسجمة ومن نزوع نحو الغموض والرمزية في التعبير ومن تعمد تفسير الكون جملة بوصفه “كلمة” غامضة، بدل اعتباره “آية” محكمة كما يلح على ذلك القرآن الكريم…

وإذا كانت تلك النصوص التأسيسية في الثقافة الغربية، سواء تمثلت في الأساطير أو في نصوص “الكتاب المقدس”، متسمة بهذا الطابع “الهرمسي” فلا مفر لأجل فكّ “شفرات” هذه النصوص من اصطناع تأويل يتسم بقدر كبير من حرية الفهم واستشراف ذاتي للمقاصد الكامنة وراء مثل ذلك الكلام الذي لا يكاد يبين…
والواقع أن مفهوم الدين نفسه في التقاليد الغربية القديمة والحديثة، يكاد يتماهى مع معنى الغموض وعدم البيان! فلا توافق بين وضوح وصريح العقل وغموض النقل أو الدين، ومن هنا ذلك التبادل القديم في الأدوار بين الإله والعرّاف، أو بين النبي والكاهن؛ وعلى حد قول هيراقليطس الحكيم (475 ق.م): إن الإله لا يفصح عن تنبؤاته ولا يخفيها، بل يشير إليها ويرمز! ومن ثم تحددت مهمة “العراف” في تفسير ما ترمز إليه أقوال ونبؤات الإله…

والواقف على أسفار التوراة، خاصة، يلحظ مقدار ما كان ينتاب “أنبياءها” من حالات “الجذب” تسلبهم عن واقع الناس ولا يفصحون خلالها عن مراد “الوحي”، حيث كانت أقوالهم وتصرفاتهم كذلك تتسم بالغموض والغرابة وعدم الوضوح، وذلك ما كان يتطلب دائماً تدخل الكاهن لشرح وتفسير و”تعبير” الرؤى والنبوءات أو تأويل ذلك الأمر الغامض في الأقوال والأفعال التي غالباً ما يخرج فيها “الأنبياء” عن أطوارهم البشرية(7)، ويكتفون في تبليغها للسامع بالرمز والتلميح، بدل الإحكام والتصريح.

2. الجدير بالتنبيه عليه بخصوص هذه الإشكالات المعروفة المتعلقة بنص “الكتاب المقدس” أن الطبيعة الإنشائية لهذا النص قد أغرت بالفعل العديد من الفيلولوجيين والمهتمين بالنقد التاريخي بضرورة إيجاد منهجية تسمح “بإعادة تأويل” تلك النصوص الدينية، وبمعيتها النصوص الأسطورية الإغريقية والرومانية والتي تبدو، خلافاً للنصوص الفلسفية والتاريخية، في حاجة إلى “فك رموزها” وتخمين معانيها البعيدة المختفية وراء الكلمات؛ حيث يفترض منذ البداية “سوء الفهم” وليس انطباقه على مضمون ذلك النوع من النصوص، إذ لا مضمون مفترض واضح في مثل تلك النصوص! من هنا صارت بعض المناهج الهرمينوطيقية في مرحلة متأخرة إلى القول “بموت المؤلف” وإحلال القارئ المتلقي محله، بهدف إنشاء “قراءات”خاصة أو نصوص مختلفة على هامش النص الأول…

3. لاشك، إذن، في أن هذا التطور الذي صارت إليه بعض المناهج الهرمينوطيقية في الغرب لا يستقيم بالضرورة ومفهوم التأويل في التجربة الإسلامية التي بالرغم من تأديتها هي أيضا إلى القول بانفتاح النص وقابليته لقراءات متجددة، إلا أن سياق نشأة علوم التفسير والتأويل في التجربة الإسلامية يختلف تماماً عن سياقه في التجربة الوسطوية في الغرب، اعتباراً لتباين المعطيات الموضوعية المتعلقة بتاريخ النصوص المؤسسة وببنيتها في كل من الفكر الإسلامي والفكر الغربي. ومن ثم جاء تشديد مفكري الإسلام على وجوب النظر ثم ضرورة الالتزام بضوابط علمية معقولة في كل منهج يبغي التعرف على مقاصد النص، انطلاقاً من تحليل منطقي للغة التداول الطبيعي، دون أية محاولة تعدى على هذه اللغة المشتركة أو تأويل متعسف لمضامين مصطلحاتها، حتى ما كان يقع من هذه المصطلحات أحياناً على سبيل المجاز والاستعارة أو الإشارة والرمز، فلا يمكن اعتبار ذلك من “صلب العلم” وإن جاز اعتباره من “مُلَحه” التي يشترط فيها أن تنسجم مع المضامين المعقولة للنص ولا تتناقض مع مقاصده الكبرى…

والجدير بالملاحظة، هنا، أنه إذا جاز في ظل هذه الضوابط قبول بعض التأويلات الرمزية لدى صوفية الإسلام في تفسيراتهم ذات المنحى الإشاري للنصوص التأسيسة في الإسلام، لكون الدلالات البعيدة والممكنة لتلك التأويلات مما لا يتناقض مع المقاصد الكبرى للنصوص المذكورة، فإن التأويلات الرمزية الشيعية، الإسماعيلية منها خاصة، للعديد من آيات القرآن الكريم لا يمكن قبولها، لكونها محض إسقاطات لا تفهم إلا في سياقها السياسي الإيديولوجي، ولا تحترم بالتالي مقاصد النص مثلما لا تحترم قبل ذلك بنية اللغة الطبيعية التي يحرص النص أن يقدم عبرها “آياته” المحكمة…

وشبيه بذلك تلك التأويلات الإسقاطية “الرمزية” القديمة للفيلسوف اليهودي فيلون الإسكندري (54م) لنصوص التوراة ذات النزعة التشبيهية الغليظة؛ ولقد كان القصد الإيديولوجي لفيلون تطهير التوراة مما علق بها من تجسيم غليظ اعتبر لدى معاصري فيلون نقيضا لعقلانية الخطاب الفلسفي وسقوطاً في براثين الأسطورة؛ وقد سلك فيلون لتهذيب نصوص التوراة ذات الطابع الأسطوري والتجسيمي نفس المنحى الذي انتهجه قبله الفلاسفة الرواقيون في تأويلاتهم الرمزية لأساطير اليونان بناء على تحليلهم المعروف لوظيفة اللغة وطبيعة الكلام…

وقد ترك فيلون الإسكندري بمنهجه التأويلي هذا، وبعقائده، ونظرياته الفلسفية الغنوصية التي هذّب بها نصوص العهد القديم أثراً بالغاً في الفكر اللاهوتي المسيحي(8)؛ وعلى غرار سلطة فيلون الإسكندري نلاحظ أن المفكر اليهودي ابن ميمون (600ﻫ) في ظل حضارة الإسلام وهيمنة عقيدة التوحيد والتنزيه، وانطلاقا من فلسفة ابن رشد (595ﻫ) سيحاول أن يمارس، هو الآخر، تأويلا رمزيا متعسفاً(9) على لغة ومصطلحات التوراة التجسيمية التشبيهية حتى تدل على ذلك التنزيه والتوحيد الذي هيمن على الفكر الإسلامي كمرجع أو “براديغم” جديد في الفكر الإنساني…

 ولعل ما يدل على “مسؤولية” أسفار التوراة في انتشار نزعة التجسيم الغليظ، ثم في خلق تربة للتفكير المادي المؤدي إلى انتشار نزعة إلحادية في المجتمعات الغربية إبّان عصر النهضة، أن الفيلسوف “سبينوزا” في فترة شبابه اعترف أنه: “بقراءة المرء لأسفار موسى والأنبياء فلن يستطيع التوصل إلى القول بخلود النفس أو بأن الله كائن روحي؛ بل على العكس سيتوصل إلى أن النفس ليست خالدة وأن الله مادي… إنني أقر، يضيف سبينوزا، بأنه إذا لم يوجد شيء في التوراة حول كون الله غير مادي وغير جسمي فليس هناك اعتراض على القول بأن لله جسداً…!(10).”

ثالثا: الإسلام كسياق أكبر

1. هكذا يبدو لنا جلياً كم هو مهم مراعاة خصوصية السياق في كل دراسة فكرية، فلسفية كانت أم دينية أم لغوية؛ غير أن الحديث عن السياق يقتضي التمييز بين نوعين متضافرين منه، سياق النص في ذاته (سياق الخطاب وبنيته الإنشائية) وسياق التاريخ (مناسبة ورود النص وحضوره)؛ إذ من غير الممكن فهم سياق النص فهما أكمل إلا في ضوء سياقه التاريخي، وإن من شأن الوعي بهذا السياق التاريخي أن يعمق معرفتنا بالأبعاد الفكرية والمقاصد العملية لأي نص تأسيسي ولأية ظاهرة دينية أو أي موقف فكري أو اجتماعي أو سياسي… وذلك يصدق بوضوح على الإسلام “كظاهرة” حدثت في التاريخ البشري وخلقت بذاتها سياقاً أكبر، ما لبث أن أثر في مسيرة التاريخ الإنساني:

فلقد دلت كل الشواهد التاريخية على أن ظهور الإسلام في ظل بيئته الداخلية وظرفيته الخارجية جعل منه مشروعاً إصلاحياً كبيراً، حمل المعاصرين له أن ينظروا إليه كحدث كبير وجديد أشبه ما يكون بالانقلاب الشامل، من حيث كونه مسّ الحياة الدينية والفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ليس لشبه الجزيرة العربية فحسب، بل ولمركز العالم آنذاك حول البحر الأبيض المتوسط عموماً؛ لقد اختار الإسلام أن يبني مشروعه التجديدي الشامل انطلاقا من رؤية نقدية تصحيحية لمسيرة تاريخ الإنسانية واعتماداً على ترشيد مفاهيمي لجملة مصطلحات دينية وأخلاقية، وجملة إجراءات عملية تنظيمية سياسية واجتماعية، كما استطاع خصوصا أن يبشر عبر كل ذلك بوحدة إنسانية تنقل الإنسان من الولاء للعصبيات القبلية و”لأمّ القرى” إلى الولاء لمجتمع “المدينة”.

 إنها نقلة نوعية و”هجرة” وجودية تترجم من الناحية الفكرية نقلة من الولاء للقبيلة إلى الولاء “للقبلة” وتخرج الإنسان وتحرره من الارتباط “بالمجتمع المغلق” وتدفعه للانخراط في مجتمع “الأمة” المفتوح… كما عمل الإسلام من الناحية الدينية المحضة، وعبر مفهوم التصديق وكذا مفهوم الهيمنة (التي تعني القدرة على المراجعة النقدية التقويمية) على تصحيح المسيرة الدينية في المجتمعات الإنسانية؛ مع حرصه على تصحيح مفهوم الدين مما علق به من شوائب مناقضة لمقاصد الدين وسماحة التدين، تسربت إليه مما عرفه تاريخ البشرية من سلطة الكهانات وحكايات الأساطير، ولقد اتخذ الإسلام دائما في سبيل ذلك التصحيح والتوضيح، من الحوار والحجاج والبرهان مع المخالف المنهج المناسب لبناء مشروعه التصحيحي الكبير…

وفي ضوء شهادة التاريخ هذه، يمكننا أن نؤكد أن ذلك المشروع الإصلاحي الكبير الذي اضطلع به الإسلام سرعان ما أصبح، في ظل سياقه التاريخي والحضاري، يمثل هو نفسه نوعاً من المرجعية Paradigme الجديدة المهيمنة على ذلك العصر، مرجعية أساسها أمران اثنان: توحيد الألوهية، بإخراج كل الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد الأحد، ثم تكريم الإنسانية تبعاً لذلك…

ذلك “سياق” جديد قلب رأساً على عقب ما كان سائداً، إذ ذاك، من مفاهيم حول العالم وحول الإنسان. وقد تمكن الإسلام بفضل مشروعه الإصلاحي المنوه به، وبعد أن صار هكذا يمثل مرجعية كبرى أثرت في الموالي والمخالف معاً، تمكن من أن يؤسس رؤية جديدة للعالم تضفى، خلافا للرؤى الفلسفية والدينية قبله، “معنى” معقولا على العالم وتنزل الإنسان منزلة التكريم وتحرره من تلك “الغنوصيات” التي كانت إلى حدود عصره تكبّل الفكر الإنساني بنظرية “السقوط” وتؤرقه بالشعور بالذنب وتحاصره بعقيدة “الخطيئة الأصلية” وتنفره، تبعاً لذلك، من الإقبال على الحياة. وبالجملة، وعلى حد قول الأستاذ الكبير محمد عبد الهادي أبو ريدة: “إن مجيء الإسلام بكتابه الكريم كان بداية تحول في تاريخ حياة الفكر والعلم، كما في تاريخ الدين والسياسة والحضارة في هذه الدنيا(11).”

 2. ذلك هو السياق العام الذي سيضفي مشروعية على أهم علوم الإسلام وعلى رأسها علم التفسير وعلم الحديث وعلم الكلام، وهي العلوم التي تأسست حول حياض القرآن الكريم وتحت مظلة السياق العام الجديد الذي جاء مع الإسلام. ولقد اعتبر أوائل المتكلمين علمهم الجديد استجابة لوضعية عامة تمثّل إطارها التاريخي في تلك التجربة الإسلامية الأولى وما خلّفته من تغيير في البنى الاجتماعية والاقتصادية للعالم القديم برمته وعلى أنقاضه؛ وتمثّل إطارها الفكري النظري في تلك القيم العليا والمقاصد الكبرى التي كرسها القرآن الكريم ثم أنزلها على أرض الواقع النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام؛ لقد رأى المتكلمون في كل ذلك تقنيناً لواقع جديد وترشيداً له، كما رأوا فيه مصدراً لمشروعية علمهم ومرجعاً لضبط اجتهاداتهم…

ونعتقد أنه في ضوء وعي هؤلاء المتكلمين بذلك السياق العام الذي خلقه الإسلام، وفي ضوء استحضارهم لرسالة الإسلام ومقاصده الإصلاحية، العقدية والاجتماعية، يجب أن ندرك إقبالهم النهم واحتفاءهم الكبير بإعادة القراءة والتلقي للنص الإسلامي التأسيسي، حيث خاضوا من ثم في ضبط قواعد التأويل وفي تحديد منهجية الفهم والتفسير…

في هذا السياق إذن، يجب أن نلتمس أسباب نشأة التأويل في الإسلام، وكل محاولة لتقييم هذا التأويل بعيداً عن استحضار ظرفيته والسياق العام لنشأته لن تكون إلا محاولة قاصرة، لا تستوعب الأسباب الحقيقية الباعثة على نشأة علوم التأويل، إن لم تقع هذه المحاولة في أحكام إسقاطية، خصوصاً إذا ما التبس تقييمها بعوامل إيديولوجية أو دوافع سياسية غالباً ما لا يتم التصريح بها…!

لذا نعتقد أن هذه مناسبة يتيحها لنا هذا الموضوع لإبداء بعض المراجعات النقدية لجملة تقييمات طالت النشأة الأولى لمشكلة التأويل في فكرنا الإسلامي، وهي مراجعات نستحضر خلالها بالضرورة سؤال المرجعية ومقتضيات السياق مثلما نستحضر بالتبعية بعض العوائق التي استحكمت وعمقت أسباب الاختلاف مع التنبيه إلى إمكانية رفع هذا الاختلاف بالمرة أو على الأقل التقليل من شأنه بين المتناظرين.

رابعا: نشأة التأويل في الإسلام بين المقاصد والمزالق

1. يستفاد من المصادر المعتنية بالتأريخ للفكر الإسلامي، قديمها وحديثها، أن الجهم بن صفوان (128ﻫ) كان أول من آثار في الإسلام مشكلة القراءة والتأويل وانتبه مبكراً إلى وجوب مراعاة مستويات التعبير والدلالة اللغوية في قراءة وتلقي النصوص العقدية خاصة. ونعتقد من جهتنا أنه من غير الممكن فهم مواقف هذا المدشن لإشكالية القراءة والتأويل في الإسلام دون اعتبار مواقفه تلك ردود فعل طبيعية ضد انتشار “قراءات” حرفية للنصوص الشرعية؛ هذه القراءات التي غالباً ما كانت تكرس بوضوح نزعة تشبيه غليظ وتصر على التعامل مع أي خطاب لغوي، خاصة الخطاب الشرعي، في حدود المستوى المادي التجسيمي المستفاد من ظاهر النص المنطوق، والمؤدي بطبيعته إلى تكريس التشبيه والتجسيم الغليظ…

 لأجل دحض هذا الاتجاه في قراءة وتلقي النص الشرعي يبادر جهم بن صفوان إلى اصطناع “منهج التأويل” وتدشين القول فيه قاصداً إنقاذ النص من إسقاطات المجسمة والمشبهة، منطلقا من مسلمة موافقة المنقول للمعقول في تأكيده التنزيه المطلق والتوحيد الخالص، الشيء الذي يقضي أن يكون التنزيه مقصداً نقلياً وعقلياً معاً، وذلك ما كان يشكل المرجعية الكبرى Paradigme التي مثلها الإسلام بإجراءاته التصحيحية خصوصا على المستوى العقدي…

هكذا نستطيع القول إن مشكلة التأويل ومشكلة “القراءة” تهيمنان على كل ما نسب إلى الجهم بن صفوان من نصوص وأقوال، مع قلتها، ولعل ما يزكي رأينا هذا أمران اثنان، السياق والمضمون:

أ. فمن حيث السياق العام وكذا مناسبة ظهور جهم بن صفوان في الساحة الفكرية والسياسية معاً، يلاحظ أن موقفه الكلامي لا يمكن أن يفهم إلا كرد فعل ضد تيار تفسيري للنص القرآني وللحديث النبوي تمثل لدى معاصره وخصمه الفكري والسياسي كذلك مقاتل بن سليمان (150ﻫ) المفسر المعروف؛ وإذا كان الإمام الشافعي قال في حق مقاتل: “الناس عيال في التفسير على مقاتل(12)” فإن صاحب هذا التفسير علاوة على اتهامه بالكذب في الحديث كان يشحن تفسيره بالتشبيه والحشو الأدب التوراتي. لذلك لم يدخل الجهم في المواجهة العنيفة مع مقاتل إلا حينما رآه يتعامل مع لغة القرآن والحديث تعامل اليهود مع نصوصهم ويسقط على النص الإسلامي ذلك الركام من الحشو الذي ازدحم فيه التشبيه والتجسيم والأساطير الإسرائيلية والغنوص المسيحي.

وفي مقالات الإسلاميين يروي أبو الحسن الأشعري أن مقاتل بن سليمان كان يقول: “إن الله جسم، وإنه جثة على صورة إنسان، لحم ودم وشعر وعظم، له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين؛ وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه!(13)”. ويقول: “بعض من ينتحل الحديث [وكان مقاتل أحدهم]: إن العرش لم يمتلئ به، سبحانه، وإنه يُقعد نبيه، عليه الصلاة والسلام، معه على العرش(14)”.

 ومن ثم وجب على مؤرخ الفكر الإسلامي أن يعي جيداً أن مواقف جهم بن صفوان تمثل في أصلها رفضاً لمثل هذا المستوى من مستويات التعامل مع اللغة الطبيعية، رأى الجهم في انتشاره بين المسلمين وتوظيفه في قراءة النص الشرعي قاصمة الدهر وضربة قاضية ضد المقصد الإسلامي الكبير ومرجعيته Paradigme الأولى، مقصد ومرجعية التوحيد والتنزيه(15).

ب. وإذا كان المشكل اللغوي هكذا بادياً في نشأة المشروع الفكري لجهم بن صفوان، فإن مضمون هذا المشروع لا يعدو أن يكون طرحا لرؤية لغوية جديدة ترمي إلى مواجهة مثل ذلك الحشو المستشري، وتقصد في الأخير إنقاذ النص الشرعي من مخالب التجسيم الغليظ، وذلك لا يتم عند الجهم إلا بفضل اصطناع منهج التأويل ومراعاة مستويات التعبير في اللغة الطبيعية.

والتنبيه واجب هنا إلى أننا بالرغم من جواز الاستدراك على مختلف اختيارات الجهم وحلوله للإشكالات الكلامية التي خاض فيها، إلا أن المطلوب ابتداء هو محاولة التعرف على مقاصد الرجل من خلال تدشينه القول في قضية التأويل في الإسلام؛ وعلى الرغم من افتقادنا لأية كتابة أصلية صحيحة النسبة للجهم، إلا أن كل مرويات خصومه عنه دالة على أن الرجل في اصطناعه للتأويل اللغوي كان أبعد ما يكون عن القول لا بنفي الصفات ولا بالجبر! وإليك الدليل القاطع:

2. ينطلق جهم بن صفوان من مقدمة يتخذها مبدءاً مسلماً يتيح له مواجهة المجسمة والمشبهة، مفادها أنه “لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها [على الحقيقة] خلقه(16)”، ومن ثم فإن أخص خصائص الله تعالى أنه ذات وليس شيئاً، ما دام مفهوم  الذات في أصله يدل على الثبات والاستمرارية؛ حين ينطبق مفهوم الشيئية في تداوله اللغوي الطبيعي على كل ما كان قابلا للرؤية واللمس، وذلك مؤد ضرورة إلى التجسيم والتشبيه.

ومن ثم يؤكد الجهم، حسب روايات خصومه، “أن الله ليس شيء” وهي الصيغة التي يبدو أنها أثارت ردود فعل قوية من الذين اعتبروا ذلك إفراطاً في النفي، وتعطيلا مطلقا للصفات وللذات أيضا، كما سبق وأن لاحظ ذلك الإمام أبو حنيفة(14)، دون أن ينتبهوا إلى أن الجهم بانطلاقه من ذلك المبدإ المنوه به أعلاه لا يمكن أن يقول بتعطيل الصفات، خاصة وأن هؤلاء المنتقدين للجهم يؤاخذون عليه القول بالجبر المطلق الذي يحصر القدرة والفعل والخلق في الذات الإلهية دون غيرها، وهذا الموقف إن صح من الجهم يكون دليلا على بعد جهم بن صفوان من القول بالتعطيل وتجريد الذات الإلهية عن صفاتها القديمة. إذ القول بالجبر إثبات واضح للصفات، وليس نفياً لها! إذ ما معنى الجبر المطلق سوى إثبات كل الأفعال إلى الله تعالى، وهذا منتهى الإثبات للصفات الإلهية وأبعد ما يكون عن تعطيلها!

حقا! إن الموقف الكلامي لجهم بن صفوان يقوم على أساس “نفي الصفات”، غير أن النفي، حسب مسلمته المذكورة آنفا يتضمن نفياً وإثباتاً بالنسبة للطرفين معاً، الذات الإلهية والإنسان؛ فكما يقتضي التنزيه والتوحيد كمرجعية أساس وجوب نفي الصفات البشرية عن الذات الإلهية، فإنهما يقتضيان في نفس الآن إثبات الصفات الإلهية الذاتية ونفيها عن الإنسان! ومن ثم يقرر الجهم أن “الله لا يجوز أن يوصف بصفة يوصف بها خلقه، لأن ذلك يقتضي تشبيها. فنفي كونه حياً عالماً [مريدا موجودا] وأثبت كونه قادراً فاعلا خالقاً” وحده(18).

ونحن نفترض أن الجهم لا يمكنه أن يتجاهل هنا كون القرآن الكريم كنص مؤسس لا يكف عن استخدام نفس المصطلحات اللغوية المتداولة في الخطاب الطبيعي، غير أنه لم يجد بداً من التحذير من عدم الارتقاء عن مستوى الدلالة الطبيعية الأصلية إلى الدلالة المجازية التي تتوافق ومقاصد التنزيه في الخطاب الشرعي الذي يشكل مرجعية كبرى في الإسلام.

وبالجملة تقوم عملية “التأويل” لدى جهم بن صفوان على ضرورة صرف المصطلح اللغوي عن دلالته الطبيعية إلى دلالته المجازية والإشارية إذا ما تبين ذلك ضروريا للحفاظ على مقاصد التنزيه المؤسس له في المرجعية الإسلامية. ومن ثم وجب القول إن كل الصفات التي لا يجوز نسبتها حقيقة لغير الذات الإلهية، والتي هي قديمة قدم الذات، لابد أن تكون في صيغة الفعل والعطاء. خلافا للصفات البشرية التي توحي بالتلقي والقبول والانفعال.. فالله تعالى هو المحيي، بينما الإنسان حي؛ والله هو الموجد، والكون موجود؛ والله هو الخالق، والعالم مخلوق… فكل ما عدا الله تعالى يشار إليه بصيغة المفعول للدلالة على ذلك التمييز بين صفات الله الخالق وصفات باقي الأشياء المخلوقة. ولقد فطن الإمام الجويني لهذا القصد في تأويل الجهم فنسب إليه القول “بأن الشيء هو الحادث؛ والله مشيّئ الأشياء، ولا يتصف [بالتالي] بكونه شيئاً(19)”.

وإذا كان مؤرخو الملل والنحل في الإسلام قد أصروا، رغم وضوح مقاصد الرجل، على أن يروا في مثل هذه التأويلات شاهد إثبات على النفي والتعطيل عند جهم، فما ذلك إلا لكونهم أغفلوا منذ البداية النظر إلى المستوى الذي يتحرك فيه، وهو المستوى اللغوي قبل كل شيء، خاصة في ضوء ما عرفته المصطلحات اللغوية والمصطلحات الشرعية تحديداً من سطو المشبهة والمجسمة، فأنزلوها على الذات الإلهية مشبعة بأبعادها المحسوسة… وذلك نوع من التطرف العقدي لم يجد الجهم بداً من مقابلته “بتطرف لغوي” قائم على تأويل وتأصيل ومراجعة “حفرية” للمصطلحات اللغوية بغرض نفي كل ما من شأنه أن “يوهم” بالتجسيم والتشبيه!

لذلك نظن أنه بغض النظر عن البعد العقدي المتصل بسبل التعرف على الصفات الإلهية وإثباتها، فإن لمواقف جهم بن صفوان المشار إليها آنفاً بعداً تأصيلياً أو تأثيلياً “بحسب مصطلح الدكتور طه عبد الرحمن، بل لقد وجدنا في المشروع التأثيلي لطه عبد الرحمن طرحاً معمقاً لبعض ما أثاره الجهم بن صفوان من مشاكل لغوية في صورة ساذجة أولية، ومن قضايا تتعلق بالتأويل وعلاقة ذلك بالاشتقاق اللغوي وبالتفكير الفلسفي: وكمثال على استمرار حضور ما أثاره الجهم من إشكالات لغوية، ومحاولة طه عبد الرحمن حديثا معالجته في ضوء الدراسات اللغوية والمنطقية المعاصرة، خاصة في ضوء قمة الاشتغال التأثيلي في الفكر الغربي الحديث مع الفيلسوف مارتن هايدغر، نذكَّر هنا بقاعدة الجهم في إثبات الصفات والتي تنص على أنه لا يجوز أن يوصف البارئ تعالى بصفة يوصف بها خلقه؛ وبالتالي فالله هو “الموجد” بينما غيره هو “الموجود” هكذا في صيغة اسم المفعول… نقول: على غرار هذا يعمد طه عبد الرحمن إلى معالجة مشكلة الاشتقاق اللغوي في دلالته على “الوجود” خاصة، فيقول موضحاً المشكل”(20): ولإيضاح ذلك في نهاية كلامنا عن التأويل الاشتقاقي نفحص مثال مفهوم “الموجود”، فمن معاني هذا المصطلح ما يلي:

ـ أنه مشتق من مصدر هو: “الوجود”.
ـ أنه يدل على موضوع موصوف بالوجود.
ـ أن صيغته موضوعة للدلالة على المفعولية.
ـ أن هذه المفعولية تستلزم فاعلا هو: “الواجد” وفعلاً هو: “وَجَد”.

ثم يقف طه عبد الرحمن منتقداً غفلة فلاسفة الإسلام (الفارابي وابن سينا وابن رشد) عن هذه المعاني الاشتقاقية مكتفين بصيغة واحدة هي “الموجود” للإشارة إلى كل تلك التمايزات الاشتقاقية! بحيث ينطبق مفهوم “الموجود” على الفاعل والمفعول معاً كما يدعي الفارابي! “وواضح أن الفارابي، يقول طه عبد الرحمن مصحّحا، في دعوته هاته، غابت عنه كلياً مكانة الصيغ الصرفية من التفكير، فليس هي مجرد مضامين ذهنية يمكن التصرف فيها بالزيادة أو النقصان، وإنما هي بمثابة الصور الذهنية التي تتولى حمل هذه المضامين والتي لا تتم عمليات التفكير إلا بها، فلا يمكن أن يفكّر في أي مضمون، كائناً ما كان، إلا إذا تشكل بإحداها، ومتى تشكل بها لازمه معناها… في حين يدعونا الفارابي إلى حفظ هذه الصورة، وهي هنا صورة “المفعول”. مع صرف معناها؛ (أي المفعولية)، فيكون كمن يدعونا إلى إتيان محال!(21)” وعند إبرازه لقيمة التأثيل الاشتقاقي الذي تميز به فكر مارتن هايدغر ينبه طه عبد الرحمن إلى أنه “لا يصح [عند هذا الفيلسوف] أن نقول: “الوجود موجود”؛ لأن ذلك يجعل من الوجود (Das sein=) واحدا من الموجودات (Das Seiend=). والحقيقة أن بين “الوجود” و”الموجود” فرقاً “أونطولوجياً” غاب عن “الميتافيزيقا” التقليدية(22 )” ما دام الوجود هو الذي “يُعطي” أو هو “الذات الفاعلة للإعطاء أو المُعْطي” الحاضر والقريب والممد غيره بالوجود… وعلى غرار قول الجهم بأن “الله مشيء الأشياء” فإن الكلمات عند هايدغر “تخرج الشيء إلى الشيء” وتحضره إلى الوجود أي “تجعل الشيء شيئاً(23).”

ولضيق الوقت عن التفصيل، لا نملك أخيرا إلا أن نؤكد أنه مهما كان تقييمنا اليوم لهذا التدشين الأول في الإسلام لفعل التأويل مع الجهم بن صفوان، فإن تأثير هذا الأخير فيمن جاء بعده كان تأثيراً بالغاً؛ فعلاوة على وضوح تأثيره في المعتزلة، فإن أهم ما عُرفت به الأشعرية في تنظيرها للطبيعة وللإنسان، وهو مفهوم كون “العرض لا يبقى زمانين” وما نتج عنه من القول بالعادة والسببية ونظرية الجزء الذي لا يتجزأ؛ وكذا مفهوم الكسب وما تولد عنه من تفسير الفعل الإنساني… نجد التأصيل الأول لكل ذلك عند الجهم بن صفوان. وحُقّ لجمال الدين القاسمي، آن يؤكد في كتابه المتميز تاريخ الجهمية والمعتزلة أن: “المتكلمين المتأخرين المنسوبين للأشعرية يرجع كثير من مسائلهم إلى مذهب الجهمية كما يدريه المتبحر في فن الكلام”(24).

تلك مواقف أساسية في فكر جهم بن صفوان دالة على النشأة الأولى للتأويل في الفكر الإسلامي وما صاحب تلك النشأة من قضايا وإشكالات فرضت نفسها على أكبر الفرق الكلامية في الإسلام… ولاشك أنها إشكالات كان للمصطلح وللبعد اللغوي عامة حظه في إبراز تلك الإشكالات، بجانب البعد السياسي الذي يؤكد المنصفون أنه لعب دوراً حاسماًُ في تشويه صورة الجهم لدى مؤرخي الملل والنحل(25)..!”

وبالجملة فتأثير مذهب الجهمية في الأفكار إنما كان، على حد قول جمال الدين القاسمي(26)، تنبيهاً إلى التأويل وسلوك منهج المجاز في تلك المسائل؛ وكان هذا الباب موصداً قبلها، لا يطرقه أحد ولا يخطر بباله!”.

الهوامش
————————————

(1) قارن هنا التحليل الممتاز الذي قام به طه عبد الرحمن لمواقف هيدغر من مشكلة اللغة والوجود، وذلك طيلة الفصل الخامس من كتابه: فقه الفلسفة، الجزء.2: القول الفلسفي، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 1999م.

(2)محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، تونس: دار سحنون، 1997، المجلد:1، ص 408-409.
ـ أبو إسحاق الشاطبي، الاعتصام، بيروت: دار المعرفة، د.  ت،  2/289-298، 301؛ الموافقات، تحقيق: عبد الله دراز، بيروت: دار المعرفة، ط2، 1975م،  4/117.

(3)الغزالي، فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة.

(4)ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1998م، ص 205-208.

(5) انظر: شرح الإمام الرازي لمفهوم المحكم والمتشابه في القسم الثالث من كتابه: الهام أساس التقديس؛ ومن جهته يرى الإمام الجويني أن ادعاء البعض وجوب “الإعراض عن التأويل حذاراً من مواقعة محذور في الاعتقاد [من شأنه أن] يجرّ إلى اللبس والإيهام… وتعريض بعض كتاب الله تعالى لرجم الظنون”؛ كما أنه لا يرى في قوله تعالى: سوى كلاماً واضحاً من خلال سياق الآية حينما يتوجه الخطاب إلى منكري البعث من المشركين وسؤالهم عن منتهاها ومآلها، وهي من الأمور الغيبية، “والمراد بقوله تعالى: ﴿وما يعلم تاويله إلا الله﴾ (ءال عمران: 7)؛ أي وما يعلم مآله إلا الله، ويشهد لذلك قوله تعالى: ﴿هل ينظرون إلا تاويله﴾ (الأعراف: 52).
أنظر: إمام الحرمين الجويني، كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، ط1، 2009م، ص46-47.

(6) قارن بهذا الصدد أوصاف الأنبياء في “سفر التكوين” وفي “سفر صمويل الأول”، حيث يرتبط فعل التنبؤ بحالات الغيبوبة الدائمة والعُرى والاستعانة على ذلك بالآلات الوترية مع تعذيب الجسد والإشارات الرمزية المحذرة من المستقبل… والملاحظ أن المنزلة التي ينزلها الفيلسوف اليهودي B. Spinoza للأنبياء في عمله الموسوم ب- “رسالة في اللاهوت والسياسة”، والتي هي دون منزلة الفلاسفة والعقلاء من الناس، إنما هي مجرد رؤية تعكس تلك النماذج النبوية في “الكتاب القدس”، ويبدو أن نفس التقويم لمنزلة الأنبياء نجده في الإسلام عند الفارابي الذي نعلم التأثير الكبير الذي تركه فيه الآباء السريان ذووا الثقافة اليهودية-المسيحية…

(7) أنظر: حول فيلون الإسكندري الدراسة الهامة ل- EMILE BREHIER: الآراء الدينية والفلسفية لفيلون الإسكندري، ترجمة: محمد يوسف موسى، وعبد الحليم النجار، مصطفى البابي الحلبي-القاهرة، 1954م.

(8) انظر النقد القوي الذي وجهه سبينوزا Spinoza  إلى “التأويلات المتعسفة” عند ابن ميمون لنصوص التوراة رغم معارضتها لصريح العقل: رسالة في اللاهوت والسياسة، سبينوزا،  ترجمة: حسن حنفي، بيروت: دار الطليعة، ط2، 1981م،  ص262-259.

(9) من سيرة سبينوزا كما كتبها أحد معاصريه؛ نقلا عن: أشرف منصور، سبينوزا ونقد العقل الخالص، رؤية-القاهرة، ط1، 2013م،  64- 63).

(10) محمد عبد الهادي أبو ريدة، تجديد المنهج العلمي وتقدم المعرفة العلمية على يد علماء الإسلام، ضمن المؤتمر الدولي حول العلم في السياسة الإسلامية، إسلام أباد-باكستان، نوفمبر 1963م، (مخطوط خاص).

(11)علي سامي النشار، نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام، الإسكندرية: دار المعارف، ط7، ص289؛ جمال الدين القاسمي، تاريخ الجهمية والمعتزلة، الجيزة،  ط1، 2006م، ص53.

(12)أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، القاهرة: مكتبة النهضة المصرية،  ط2، 1969م، 1/283.

(13)المرجع نفسه،  1/285.

(14) للوقوف على ما كانت تمثله تلك النزعة التشبيهية والقراءة السطحية للغة النص الديني من خطر فكري وعقلي وتأثر بعض الحنابلة بها، انظر: ابن جوزي، دفع شبه التشبيه، تحقيق: الشيخ محمد زاهد الكوثري، وانظر أيضا: كتاب أساس التقديس للإمام فخر الدين الرازي، وكذا الدراسة الهامة لسهير محمد مختار، “التجسيم عند المسلمين: مذهب الكرامية”، ط1، 1971م.

(15) الشهرستاني،  الملل والنحل، بيروت: دار المعرفة،  ط2، 1975م،  1/109.

(16) روى أن الإمام أبا حنيفة قال: “أفرط جهم في نفي التشبيه حتى قال إنه تعالى ليس بشيء؛ وأفرط مقاتل في معنى الإثبات، حتى جعله مثل خلقه، إن هذا معطل وذاك مشبه، وإن لهما رأيين خبيثين!” نشأة التفكير الفلسفي في الإسلام، م، س،  1/334.

(17)الشهرستاني، الملل والنحل، م، س، (1/109). لعل من أهم الأعمال الحديثة التي خصصت فكر جهم بن صفوان بالتأليف، كتاب خالد العلى، جهم بن صفوان ومكانته في الفكر الإسلامي، بغداد: مطبعة الرشاد، 1965م، غير أن هذا العمل يغلب عليه الجمع والتوثيق، ويقل فيه التحليل الفكري لمضامين ما جمعه من أقوال متناثرة عن الجهم…

(18) إمام الحرمين الجويني،  الشامل في أصول الدين، تحقيق: علي سامي النشار وآخرون، الإسكندرية:  منشأة المعارف، 1969م،  ص125، خلافا لرأي الجهم رأي الأشاعرة أن: “حقيقة الشيء [هو] الموجود، كل شيء موجود، وكل موجود شيء”، في حين يرى المعتزلة أن: “حقيقة الشيء [هو] المعلوم”، ومن ثم جاز للأشاعرة وللمعتزلة أن يصفوا الذات الإلهية بالشيئية بناء على هذه الدلالة للمصطلح في تداوله الطبيعي، في حين منع الجهم من ذلك خشية الوصل بين معنى ‘الشيء’ وما يلازمه من التجسيم والحدوث والتغير…! وسوف يذهب بعد قليل المنظّر الشيعي هشام بن الحكم (199ﻫ) “إلى أن الشيء هو الجسم” نفسه (ص126)، وذلك ما كان يخشاه الجهم!

(19) طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة: (2) القول الفلسفي، كتاب المفهوم والتأويل، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي،  ط1، 1999م،  ص147.

(20) المرجع نفسه،  ص148.

(21) المرجع نفسه،  ص320-321.

(22) أنظر: مزيد تفصيل وتدقيق لهذا التأثيل الاشتقاقي-المعرفي في كتاب: د. طه عبد الرحمن، م، س، ص320-335.

(23) مكتبة النافذة، ط.1، 2004م، (ص51).

(24) يشدد جمال الدين القاسمي على الأسباب السياسية التي كانت وراء قتل الجهم ثم وراء تشويه صورته لدى عامة الناس، فيقول: “ولا يخفى أن نبز [الخليفة الأموي] هشام بن عبد الملك لجهم بأنه من “الدهرية…” إنما أراد به زيادة الإغراء بقتله ليكون ‘حجة’ له وتمويها على العامة… وقد علمت أن الباعث على قتله أمر سياسي محض؛ لأن جهما كان خطيب الحارث [الذي خرج على الأمويين] لسوء سيرتهم… وجهم كان داعية للكتاب والسنة… ‘مجتهداً’ في أبواب مسائل الصفات… والتاريخ شاهد عدل؛ وليس القصد التحزب لجهم والدفاع عن مذهبه وآرائه، كلا! فأنا أبعد الناس عن التعصب والتحزب والتقليد، ولكن الإنصاف يدعو أن يذكر المرء بما له وما عليه إذا أراد درس حياته ومعرفة سيرته “تاريخ الجهمية والمعتزلة” ص58؛ ولعل من أغرب ما يمكن أن يقف عنده مؤرخ الفكر الإسلامي بخصوص تعمد تشويه شخصية جهم بن صفوان ما ذكره حسن المقدسي الحنفي  836ﻫ، من أن الإمام مالك إنما قال رأيه المشهور حول مسألة “الاستواء” وكيفيته جوابا على سؤال ملح من طرف شخص مجهول كان لا يكف عن إثارته بين الناس؛ فلما سأل الإمام مالك عن اسم هذا الشخص قيل له إنه الجهم بن صفوان! فأمر الإمام مالك بصفعه وطرده من مجلسه بعد أن قال له: ما أراك إلا ضالاً”! انظر: حسن المقدسي الحنفي، غاية المرام في شرح بحر الكلام، مخطوط، (ص69)، نقلا عن مقدمة تحقيق عبد الله محمد عبد الله إسماعيل لكتاب الفخر الرازي، أساس التقديس، القاهرة:  المكتبة الأزهرية للتراث، ط1، 2011م،  هامش ص30.
وهذا الخبر الملفق لجهم إن دل على شيء فإنما يدل على مقدار الجهل بالتاريخ، فكيف يعقل أن يكون جهم بن صفوان البعيد و الثائر في خراسان منذ سنة 116ﻫ، والمقتول سنة 128ﻫ. قد تخلل إلى مجلس إمام دار الهجرة المتوفى سنة 179ﻫ! وإذا كان السائل في هذه القصة كما ذكرها القاضي عياض في المدارك بقي مجهولا غير معروف ولا مطرود، فإن راوي قصتنا يأبى إلا أن يجعل بطلها جهم بن صفوان المطرود من مجلس الإمام مالك كما “طرد” قبله واصل بن عطاء من مجلس الحسن البصري! لهذا حُق للإمام أبي الحسن الأشعري أن يقول: “ورأيت الناس فيما يحكون… من بين مقصر فيما يحكيه، وغالط فيما يذكره من قول مخالفيه، ومن بين متعمد للكذب في الحكاية إرادة التشنيع على من يخالفه… وليس هذا سبيل الربانيين!” الأشعري، مقالات الإسلاميين، (ص1).

(25) القاسمي، تاريخ الجهمية والمعتزلة، م، س،  ص60.

المرجعية والسياق وصراع التأويلات
مراجعات نقدية في الفكر الإسلامي

د. عبد المجيد الصغيَّر
أستاذ الفلسفة و تاريخ الفكر الإسلامي
كلية الآداب والعلوم الإنسانية-الرباط

أولا: مقدمات تمهيدية
1. لقد دلّ تتابع وتسارع أحداث عالمنا المعاصر، منذ نهاية القرن العشرين إلى الآن، أنه لم يعد مستساغاً التقليل من دور الأفكار والتصورات أو المذاهب والقيم في التأثير في حياتنا المعاصرة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا؛ حتى إنه ليجوز لنا أن ننعت عصرنا بأنه عصر القيم بلا منازع من كثرة ما أصبح يتردد على لسان الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين من مصطلحات ومفاهيم وشعارات تُرفع في مختلف المحافل هنا وهناك، ترجع إلى بنية القيم الأخلاقية والتمثلات الفكرية والدينية…
وإذا كانت مراكز البحث الإستراتيجية في العالم الغربي قد سبقتنا إلى الانتباه إلى الدور الذي صارت تلعبه منظومة القيم والمبادئ والمذاهب الدينية أو الفكرية في تحولات عالمنا المعاصر، وأصبحت تسترخص إنفاق الأموال في سبيل دراسة المذاهب الدينية والفكرية داخل العالم الإسلامي خاصة؛ فحريٌّ بنا أن نولي العناية اللازمة في مثل لقائنا العلمي هذا بتاريخ فكرنا الإسلامي ونبادر قبل غيرنا إلى تقييمه وتجديد النظر إليه؛ فذلك أمر واجب ومطلب مستعجل، وليس ترفاً فكرياً ولا استلاباً اجتماعياً! بل إن وقفنا من حين لآخر لمعالجة قضايانا الفكرية ومفاهيمنا الحضارية وتاريخنا العلمي المشترك، تبرره قدرة الأفكار والمفاهيم على البقاء والتجدد و”الترحل” في الزمان والمكان والتجلي من جديد عبر صور مختلفة ومتباينة في شتى مظاهر وأنحاء حياتنا المعاصرة.
ولنفتح قنوات إعلامنا ولنقرأ صحفه السيارة، فلا نكاد نجد يوماً لا تتداول فيه تلك المنابر الإعلامية بكيفية من الكيفيات مفاهيم ومصطلحات وأفكار تمت بصلة إلى تراثنا الإسلامي من قريب أو بعيد… من ثم تتأكد صلة الوصل بين ورشاتنا العلمية وأبحاثنا الأكاديمية في تاريخنا الفكري والديني وبين واقعنا المتحول المعيش. وهو ما يفرض علينا المبادرة قبل غيرنا بطرح قضايانا الفكرية على بساط البحث والتداول، خدمة للحقيقة أولاً وصوناً لتراثنا العلمي من العبث ثانياً…
2. لاشك، إذن، في مشروعية التساؤل عن طبيعة ما تراكم لدينا من إنتاج فكري وعلمي متنوع، وكذا التساؤل عن راهنية ذلك الإنتاج وأشكال حضوره في حياتنا المعاصرة؛ ولعل مسألة “التأويل” بحد ذاتها هي من القضايا الأساس التي أثبتت حضورها في تاريخ فكرنا الإسلامي كإشكال يحتاج إلى تنظير وتقعيد، مثلما أثبتت حضورها كذلك في الفكر الإنساني عامة، وتكفي الإشارة إلى أن قضية التأويل تحيلنا إلى شبكة من العلاقات دائرة بين معنى النص والتلقي والفهم والتفسير والقراءة… وغير ذلك من القضايا والإشكالات التي ترجع بنا إلى مشكلة اللغة ذاتها.
ولم يكن الإلحاح على تجاوز تعريف الإنسان بالرسم إلى طلب تعريفه بالحدّ، إلا بهدف إبراز خاصية اللغة أو الكلام والتي تميزه عن باقي الكائنات. من ثم كان الكلام وكانت اللغة ميزة الإنسان الأولى وخاصيته الأساس؛ واللغة أسماء ومفاهيم مجردة، ليس بمقدور مخلوق آخر أن ينشئ مثلها، ولذلك عجزت الملائكة أن تنشئ للموجودات، بَلْه للوجود أسماء؛ ولذلك اعتُبرت القدرة على تسمية الوجود وأشيائه حداًّ فاصلاً بين الملائكة المسيَّرين والبشر المخيّرين، وما ذلك إلا لأن إنشاء الاسم ليس مجرد عملية “تلقين” فجّة ولا هي وليدة لحظة تعلم وتعليم آنية عابرة، وإنما الاسم خلاصة تجربة إنسانية وجودية عميقة وفريدة مع هذا العالم تعكس مدى استعداد الإنسان وقدرته على فهم عالمه الذي كان نزوله إليه “نزول كرامة، لا نزول إهانة!” بحيث تأتي الأسماء وتأتي القدرة على التسمية وكأنها تعيد تشكيل الوجود في وعي الإنسان، من حيث كونها تعكس تجربته الحية مع أشيائه، وهي تجربة لا يستطيعها غير هذا الإنسان العاقل المتكلم، الجامع و”القارئ” للوجود المسخّر له بفضل أسماء ومفاهيم لغته…
ولعل هذه المنزلة الوجودية التي تحتلها الأسماء والمفاهيم هي التي حملت مارتن هايدغر HEIDEGGER. M. في الفلسفة الحديثة، وبفضل رؤيته الفينومينولوجية والتأصيلية للوجود، على النظر إلى اللغة وإلى خزّان الأسماء التي تتضمنها، كأداة مقاصدية بالأساس، بحيث لا يكون الاسم مجرد “علامة” أو محض تصوير للوجود المدرك، بقدر ما أن وظيفة الاسم ومقصده الأكبر إنما هو بالأساس إخراج وإبراز وإظهار الشيء إلى الوجود، واستظهاره واستحضار له وتمييزه عن غيره( )؛ ومن ثم كان الاسم، كما قيل “مشتقاً من السموّ، لأنه لمّا دلّ على الذات فقد أبرزها( )” وأضفى عليها وجوداً. لذا كان وجود الموجودات في الأصل “وعيا” أو “شهادة” يضفيها المتكلم (إلهاً كان أو إنساناً) على أشياء العالم، فيمنحها بذلك وجودا، إذ لا وجود خارج هذا الوعي ولا خارج اللغة المترجمة عنه ولا خارج الاسم أو “الكلمة” التي هي النواة الأساس في اللغة…
3. لذا ورغم ما لاحظه بعض المعاصرين من أن قدماء الأصوليين، منذ مرحلة التأسيس مع الإمام الشافعي (204ﻫ) قد بالغوا في العناية بالجانب اللغوي المصطلحي من النص وأن ذلك كان من جملة الأسباب التي شغلتهم عن الاعتناء بالمقاصد الشرعية وصرفتهم عن إدراك خصائصها الكلية… إلا أن المنظِّر الكبير لعلم المقاصد أبا إسحاق الشاطبي (790ﻫ) يبادر، بخلاف هؤلاء إلى تثمين مشروع الإمام الشافعي القائم على المبادرة بتنقيح وضبط “صور البيان” المعرب عن “قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام” منبهاً إلى أن الإقدام على فهم وتفسير و”تأويل” مقاصد الخطاب الشرعي واستنباط أحكامه الكلية مع الجهل بلغته والتقصير في ضبط مفاهيمه ومصطلحاته هو نوع من الإسقاط والتكلف والتخرص( ) والركون إلى محض الهوى، والتثاقل إلى أرض التقاليد وجهلا بضوابط الفهم وشروط التلقي وخروجاً عن “قانون التأويل”، هذا التأويل الذي يجب اعتباره في الأصل ممارسة طبيعية في كل خطاب لغوي، شأنه في ذلك شأن التشبيه والاستعارة والمجاز وغير ذلك مما يُلجأ إليه لتجاوز “عوائق التعبير” في التداول الطبيعي وتخطي حواجز الفهم والتلقي لأجل تفسير مراد “النص” واستشراف مقاصده…
استحضاراً لذلك البعد اللغوي في الممارسة التأويلية، نرى مفكرنا الكبير أبا حامد الغزالي (505ﻫ) سواء في أعماله الفقهية الأصولية أو كتاباته الكلامية والفلسفية يشدد على ضرورة اعتبار مستويات التلقي لأيّ خطاب وتنزيلها بحسب مستويات الوجود التكويني، هذا “الوجود” الذي يقال دائماً “باشتراك”، نظرا لكون مفهوم الوجود بحسب الغزالي، يحتمل بذاته مراتب خمساً( ): مرتبة الوجود الذاتي، والوجود الحسي، والوجود الخيالي، والوجود العقلي، ثم الوجود الشّبهي: فإن كانت المرتبة الأولى تعني استقلال الشيء في ذاته وتميزه عن الحس والعقل معاً فإن باقي المراتب الأربع شاهدة على تلك “المسافة” التي تظل قائمة بين الشيء في ذاته Noumène والإدراك الإنساني، وهي مسافة يحضر فيها التأويل كآلية ناجعة لفهم الوجود وتفسيره.
وعلى الرغم من الخلاف ما بين الغزالي وابن رشد، فإن هذا الأخير قد حرص أن يختم كتابه الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة بطرح مشكلة التأويل ثمَّن خلال كلامه عنها موقف الغزالي، معتبراً أن ما سلكه أبو حامد في هذا الباب هو “القانون المعتبر” لفهم مستويات اللغة، بل لفهم الوجود جملة، جاعلا من مراعاة مراتب الوجود الخمس التي تحدث عنها الغزالي “القانون” الذي لو تم ضبط قواعده لبدّد كثيرا من الأوهام الناشئة في الخلافات بين المتكلمين والفلاسفة في الإسلام؛ وبوحي من ذلك القانون يعمد ابن رشد إلى تفصيل أصناف التقابل بين التأويل أو التمثيل والوجود( )، فيقسم مشكلة الدلالة أو المعنى إلى صنفين كبيرين: صنف يطابق فيه المعنى للوجود ولا يحتاج بالتالي لأي تفسير أو تأويل. وصنف ثان يحضر فيه التأويل والتمثيل بمستويات مختلفة. وهنا نرى ابن رشد، مسترشداً برأي الغزالي في الموضوع، يعمد إلى تقسيم هذا الصنف الثاني من الدلالة إلى أربعة أصناف فرعية:
أ. صنف لا تدرك طبيعته أو وظيفته التمثيلية ولا دلالته التأويلية إلا بعلم بعيد ومجهود فكري عميق. ومن شأن هذا أن يدعو إلى منع تأويله أو الطمع في إدراك حقيقة دلالته إلا على من ينعتهم ابن رشد “بالراسخين في العلم!” وهذا صنف لا يجوز التصريح به إلا لهؤلاء الراسخين في العلم (وهذا نحو الخلاف حول العالم، قديم هو أم محدث).
ب. في مقابل ذلك نجد صنفاً ثانياً من ذلك التقابل تدرك طبيعته أو وظيفته التمثيلية كما تدرك دلالته الرمزية “بعلم قريب” مما يسمح بتأويل هذا الصنف من التمثيل كما يسمح بالتصريح بدلالته، إن لم يكن التصريح بذلك التأويل واجبا (نحو قولنا: زيد أسد).
ج. بعد هذين الطرفين المتقابلين من التمثيل والتأويل، نجد ذلك الصنف الثالث الذي تدرك طبيعته ووظيفته التمثيلية بعلم قريب، إلا أن مقصده لا يدرك إلا “بعلم بعيد”. وأن هذا التردد في العلم بين القرب والبعد من شأنه أن يجعل تأويله مترددا أيضا بين الراسخين في العلم وبين غيرهم الذين يجوز أن يقرّب إليهم هذا التمثيل بتمثيل أو تأويل آخر أقرب إلى مداركهم (كتأويل حديث “الحجر الأسود يمين الله في الأرض”).
د. ثم يأتي الصنف الرابع والأخير من هذه العلاقة الجدلية بين التمثيل (التأويل) والوجود، وهو ذلك الصنف الذي لا تدرك طبيعته التأويلية، ووظيفته التمثيلية إلا “بعلم بعيد”، في حين تدرك دلالته “بعلم قريب. ومع أن تأويل دلالة هذا الصنف ممكن إذا ما كان هناك توافق حول طبيعته التمثيلية، فإنه في غياب هذا الشرط يصبح تأويل هذا الصنف خاصاً أيضاً بالراسخين في العلم، خوفاً من تحويل النص الشرعي، إلى محض “إشارات” رمزية لا مناسبة بينها وبين موضوعاتها ودلالتها الأصلية في لغة التداول الطبيعي. كما جنحت إلى ذلك بعض التأويلات الشيعية والصوفية…

أصناف التقابـل بين التمثيـل والوجــود
بحسب شرح ابن رشد لتصنيف الغزالي
الصنف الأول                                        الصنف الثاني
مطابقة المعنى للوجود                                    حضور التمثيل في الوجود
[غياب التمثيل = غياب التأويل]

هكذا يتأكد لنا حضور مشكلة التأويل في الفكر الإسلامي انطلاقا من إشكالية العلاقة بين اللغة والفكر والتساؤل عن حدود اللغة الطبيعية ومدى قدرتها على الإحاطة بمراتب الوجود وترجمة الإدراك العقلي للمستويات التي يحتملها ذلك الوجود؛ ومن ثم كانت مشروعية التأويل تنطلق من اعتبار مستويات البيان في اللغة الطبيعية ذاتها، ومن خلال نصوصها التأسيسية خاصة، كما هو الحال بالنسبة للقرآن الكريم؛ إذ هو نص يعلن عن ذاته أنه مؤسس في الأصل على قصدية الوضوح ومتوجه به إلى المخاطب العاقل؛ إلا أن ذلك الوضوح يحتمل مستويات بحسب مراتب الوجود وما تحتمله مصطلحات لغة التداول الطبيعي ودرجاتها في “سلّم البيان”.
ولذلك يأتي القرآن الكريم كنصٍّ تأسيسي في الإسلام وكمتن corpus مدشن لعملية القراءة والتلقي ليعلن عن نفسه أن “أمّ” وأغلب ما يقع بين دفتيه “محكم” المعنى، مضبوط الدلالة، قابل للفهم، واضح المقصد؛ وأن ما يقع فيه من قليل “المتشابه” أمر تفرضه بنية العلاقة بين لغة التداول الطبيعي و”إشاراتها” إلى مراتب الوجود المختلفة؛ ومن ثم وجب، في تلقي وقراءة هذا الكتاب، ردّ المتشابه القليل الورود إلى المحكم الغالب( )، وفقاً لقواعد خطابية مقبولة تسمح بفهم وتأويل أبعاد ومقاصد ذلك المتشابه في ضوء مقاصد المحكم الغالب، وذلك مراعاة لمستويات “البيان” المشيرة إلى مقاصد الخطاب… وليس غريباً بعد هذا أن يكون مفتتح رسالة الشافعي في فهم جملة الخطاب الشرعي هو تساؤله عن طبيعة وماهية ومستويات ذلك البيان.
ثانيا: التأويل ومحنة النص في التجربة الغربية
1. خلافا لحضور هذا المعنى الأول لمفهوم التأويل في الفكر الإسلامي، سواء لدى علماء الأصول أو علماء الكلام، نجد مشكلة التأويل في تاريخ الفكر الغربي لا تطرح انطلاقا من فرضية قصدية “البيان” والوضوح، بقدر ما تنطلق من فرضية قصدية التورية والتعمية “والغموض” المقصود في النص أو النصوص التأسيسية؛ ذلك أن أشهر تلك النصوص التأسيسية التي طلب تفسيرها وتأويلها هي تلك التي جُمعت فيما سمي “بالكتاب المقدس” والتي اعتُبرت بحسب بنيتها الإنشائية وبالنظر إلى “سياقاتها” التاريخية التي أثرت كثيرا في اضطراب سندها وصعوبة تنقيحها وكثرة مراجعاتها ومحاولات إضفاء “شرعية” ما عليها… اعتبرت نصوصاً مكرسة بذاتها للغموض والإغراق في الرمزية واللغة الإشارية، مما سهل الربط بين متن هذا “الكتاب المقدس” ومتون الأساطير والحكايات الرمزية الشائعة قديماً في الثقافتين الإغريقية والرومانية والتي تستوجب المبادرة بفك رموزها واستشراف دلالاتها البعيدة…
وذلك من شأنه أن يمنح مساحة واسعة للتأويل و”التلقي الحرّ” دون ضوابط معقولة المعنى. ولذلك لم يكن مستغرباً أن يصبح مصطلح الهيرمينوطيقا Herméneutique عنواناً دالاً على طبيعة التعامل مع مثل هذه النصوص المتسمة أصلا بالغموض إن لم تكن هي في الأصل متعمدة البقاء في ذلك المستوى من الغموض المعرفي واللغوي، ولم تكن الشخصية الوهمية الأسطورية لهرمس (HERMES) ابن الإله “زيوس” والذي اشتق من اسمه عنوان علم التأويل هذا إلا نموذجا دالاً على طبيعة مفهوم التأويل في الفكر الغربي، بما عرف به هرمس أو أشيع عنه من شغف “بالتلفيق” Eclectisme بين المعارف غير المنسجمة ومن نزوع نحو الغموض والرمزية في التعبير ومن تعمد تفسير الكون جملة بوصفه “كلمة” غامضة، بدل اعتباره “آية” محكمة كما يلح على ذلك القرآن الكريم…
وإذا كانت تلك النصوص التأسيسية في الثقافة الغربية، سواء تمثلت في الأساطير أو في نصوص “الكتاب المقدس”، متسمة بهذا الطابع “الهرمسي” فلا مفر لأجل فكّ “شفرات” هذه النصوص من اصطناع تأويل يتسم بقدر كبير من حرية الفهم واستشراف ذاتي للمقاصد الكامنة وراء مثل ذلك الكلام الذي لا يكاد يبين…
والواقع أن مفهوم الدين نفسه في التقاليد الغربية القديمة والحديثة، يكاد يتماهى مع معنى الغموض وعدم البيان! فلا توافق بين وضوح وصريح العقل وغموض النقل أو الدين، ومن هنا ذلك التبادل القديم في الأدوار بين الإله والعرّاف، أو بين النبي والكاهن؛ وعلى حد قول هيراقليطس الحكيم (475 ق.م): إن الإله لا يفصح عن تنبؤاته ولا يخفيها، بل يشير إليها ويرمز! ومن ثم تحددت مهمة “العراف” في تفسير ما ترمز إليه أقوال ونبؤات الإله…
والواقف على أسفار التوراة، خاصة، يلحظ مقدار ما كان ينتاب “أنبياءها” من حالات “الجذب” تسلبهم عن واقع الناس ولا يفصحون خلالها عن مراد “الوحي”، حيث كانت أقوالهم وتصرفاتهم كذلك تتسم بالغموض والغرابة وعدم الوضوح، وذلك ما كان يتطلب دائماً تدخل الكاهن لشرح وتفسير و”تعبير” الرؤى والنبوءات أو تأويل ذلك الأمر الغامض في الأقوال والأفعال التي غالباً ما يخرج فيها “الأنبياء” عن أطوارهم البشرية( )، ويكتفون في تبليغها للسامع بالرمز والتلميح، بدل الإحكام والتصريح.
2. الجدير بالتنبيه عليه بخصوص هذه الإشكالات المعروفة المتعلقة بنص “الكتاب المقدس” أن الطبيعة الإنشائية لهذا النص قد أغرت بالفعل العديد من الفيلولوجيين والمهتمين بالنقد التاريخي بضرورة إيجاد منهجية تسمح “بإعادة تأويل” تلك النصوص الدينية، وبمعيتها النصوص الأسطورية الإغريقية والرومانية والتي تبدو، خلافاً للنصوص الفلسفية والتاريخية، في حاجة إلى “فك رموزها” وتخمين معانيها البعيدة المختفية وراء الكلمات؛ حيث يفترض منذ البداية “سوء الفهم” وليس انطباقه على مضمون ذلك النوع من النصوص، إذ لا مضمون مفترض واضح في مثل تلك النصوص! من هنا صارت بعض المناهج الهرمينوطيقية في مرحلة متأخرة إلى القول “بموت المؤلف” وإحلال القارئ المتلقي محله، بهدف إنشاء “قراءات”خاصة أو نصوص مختلفة على هامش النص الأول…
3. لاشك، إذن، في أن هذا التطور الذي صارت إليه بعض المناهج الهرمينوطيقية في الغرب لا يستقيم بالضرورة ومفهوم التأويل في التجربة الإسلامية التي بالرغم من تأديتها هي أيضا إلى القول بانفتاح النص وقابليته لقراءات متجددة، إلا أن سياق نشأة علوم التفسير والتأويل في التجربة الإسلامية يختلف تماماً عن سياقه في التجربة الوسطوية في الغرب، اعتباراً لتباين المعطيات الموضوعية المتعلقة بتاريخ النصوص المؤسسة وببنيتها في كل من الفكر الإسلامي والفكر الغربي. ومن ثم جاء تشديد مفكري الإسلام على وجوب النظر ثم ضرورة الالتزام بضوابط علمية معقولة في كل منهج يبغي التعرف على مقاصد النص، انطلاقاً من تحليل منطقي للغة التداول الطبيعي، دون أية محاولة تعدى على هذه اللغة المشتركة أو تأويل متعسف لمضامين مصطلحاتها، حتى ما كان يقع من هذه المصطلحات أحياناً على سبيل المجاز والاستعارة أو الإشارة والرمز، فلا يمكن اعتبار ذلك من “صلب العلم” وإن جاز اعتباره من “مُلَحه” التي يشترط فيها أن تنسجم مع المضامين المعقولة للنص ولا تتناقض مع مقاصده الكبرى…
والجدير بالملاحظة، هنا، أنه إذا جاز في ظل هذه الضوابط قبول بعض التأويلات الرمزية لدى صوفية الإسلام في تفسيراتهم ذات المنحى الإشاري للنصوص التأسيسة في الإسلام، لكون الدلالات البعيدة والممكنة لتلك التأويلات مما لا يتناقض مع المقاصد الكبرى للنصوص المذكورة، فإن التأويلات الرمزية الشيعية، الإسماعيلية منها خاصة، للعديد من آيات القرآن الكريم لا يمكن قبولها، لكونها محض إسقاطات لا تفهم إلا في سياقها السياسي الإيديولوجي، ولا تحترم بالتالي مقاصد النص مثلما لا تحترم قبل ذلك بنية اللغة الطبيعية التي يحرص النص أن يقدم عبرها “آياته” المحكمة…
وشبيه بذلك تلك التأويلات الإسقاطية “الرمزية” القديمة للفيلسوف اليهودي فيلون الإسكندري (54م) لنصوص التوراة ذات النزعة التشبيهية الغليظة؛ ولقد كان القصد الإيديولوجي لفيلون تطهير التوراة مما علق بها من تجسيم غليظ اعتبر لدى معاصري فيلون نقيضا لعقلانية الخطاب الفلسفي وسقوطاً في براثين الأسطورة؛ وقد سلك فيلون لتهذيب نصوص التوراة ذات الطابع الأسطوري والتجسيمي نفس المنحى الذي انتهجه قبله الفلاسفة الرواقيون في تأويلاتهم الرمزية لأساطير اليونان بناء على تحليلهم المعروف لوظيفة اللغة وطبيعة الكلام…
وقد ترك فيلون الإسكندري بمنهجه التأويلي هذا، وبعقائده، ونظرياته الفلسفية الغنوصية التي هذّب بها نصوص العهد القديم أثراً بالغاً في الفكر اللاهوتي المسيحي( )؛ وعلى غرار سلطة فيلون الإسكندري نلاحظ أن المفكر اليهودي ابن ميمون (600ﻫ) في ظل حضارة الإسلام وهيمنة عقيدة التوحيد والتنزيه، وانطلاقا من فلسفة ابن رشد (595ﻫ) سيحاول أن يمارس، هو الآخر، تأويلا رمزيا متعسفاً( ) على لغة ومصطلحات التوراة التجسيمية التشبيهية حتى تدل على ذلك التنزيه والتوحيد الذي هيمن على الفكر الإسلامي كمرجع أو “براديغم” جديد في الفكر الإنساني…
ولعل ما يدل على “مسؤولية” أسفار التوراة في انتشار نزعة التجسيم الغليظ، ثم في خلق تربة للتفكير المادي المؤدي إلى انتشار نزعة إلحادية في المجتمعات الغربية إبّان عصر النهضة، أن الفيلسوف “سبينوزا” في فترة شبابه اعترف أنه: “بقراءة المرء لأسفار موسى والأنبياء فلن يستطيع التوصل إلى القول بخلود النفس أو بأن الله كائن روحي؛ بل على العكس سيتوصل إلى أن النفس ليست خالدة وأن الله مادي… إنني أقر، يضيف سبينوزا، بأنه إذا لم يوجد شيء في التوراة حول كون الله غير مادي وغير جسمي فليس هناك اعتراض على القول بأن لله جسداً…!( ).”
ثالثا: الإسلام كسياق أكبر
1. هكذا يبدو لنا جلياً كم هو مهم مراعاة خصوصية السياق في كل دراسة فكرية، فلسفية كانت أم دينية أم لغوية؛ غير أن الحديث عن السياق يقتضي التمييز بين نوعين متضافرين منه، سياق النص في ذاته (سياق الخطاب وبنيته الإنشائية) وسياق التاريخ (مناسبة ورود النص وحضوره)؛ إذ من غير الممكن فهم سياق النص فهما أكمل إلا في ضوء سياقه التاريخي، وإن من شأن الوعي بهذا السياق التاريخي أن يعمق معرفتنا بالأبعاد الفكرية والمقاصد العملية لأي نص تأسيسي ولأية ظاهرة دينية أو أي موقف فكري أو اجتماعي أو سياسي… وذلك يصدق بوضوح على الإسلام “كظاهرة” حدثت في التاريخ البشري وخلقت بذاتها سياقاً أكبر، ما لبث أن أثر في مسيرة التاريخ الإنساني:
فلقد دلت كل الشواهد التاريخية على أن ظهور الإسلام في ظل بيئته الداخلية وظرفيته الخارجية جعل منه مشروعاً إصلاحياً كبيراً، حمل المعاصرين له أن ينظروا إليه كحدث كبير وجديد أشبه ما يكون بالانقلاب الشامل، من حيث كونه مسّ الحياة الدينية والفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ليس لشبه الجزيرة العربية فحسب، بل ولمركز العالم آنذاك حول البحر الأبيض المتوسط عموماً؛ لقد اختار الإسلام أن يبني مشروعه التجديدي الشامل انطلاقا من رؤية نقدية تصحيحية لمسيرة تاريخ الإنسانية واعتماداً على ترشيد مفاهيمي لجملة مصطلحات دينية وأخلاقية، وجملة إجراءات عملية تنظيمية سياسية واجتماعية، كما استطاع خصوصا أن يبشر عبر كل ذلك بوحدة إنسانية تنقل الإنسان من الولاء للعصبيات القبلية و”لأمّ القرى” إلى الولاء لمجتمع “المدينة”.
إنها نقلة نوعية و”هجرة” وجودية تترجم من الناحية الفكرية نقلة من الولاء للقبيلة إلى الولاء “للقبلة” وتخرج الإنسان وتحرره من الارتباط “بالمجتمع المغلق” وتدفعه للانخراط في مجتمع “الأمة” المفتوح… كما عمل الإسلام من الناحية الدينية المحضة، وعبر مفهوم التصديق وكذا مفهوم الهيمنة (التي تعني القدرة على المراجعة النقدية التقويمية) على تصحيح المسيرة الدينية في المجتمعات الإنسانية؛ مع حرصه على تصحيح مفهوم الدين مما علق به من شوائب مناقضة لمقاصد الدين وسماحة التدين، تسربت إليه مما عرفه تاريخ البشرية من سلطة الكهانات وحكايات الأساطير، ولقد اتخذ الإسلام دائما في سبيل ذلك التصحيح والتوضيح، من الحوار والحجاج والبرهان مع المخالف المنهج المناسب لبناء مشروعه التصحيحي الكبير…
وفي ضوء شهادة التاريخ هذه، يمكننا أن نؤكد أن ذلك المشروع الإصلاحي الكبير الذي اضطلع به الإسلام سرعان ما أصبح، في ظل سياقه التاريخي والحضاري، يمثل هو نفسه نوعاً من المرجعية Paradigme الجديدة المهيمنة على ذلك العصر، مرجعية أساسها أمران اثنان: توحيد الألوهية، بإخراج كل الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد الأحد، ثم تكريم الإنسانية تبعاً لذلك…
ذلك “سياق” جديد قلب رأساً على عقب ما كان سائداً، إذ ذاك، من مفاهيم حول العالم وحول الإنسان. وقد تمكن الإسلام بفضل مشروعه الإصلاحي المنوه به، وبعد أن صار هكذا يمثل مرجعية كبرى أثرت في الموالي والمخالف معاً، تمكن من أن يؤسس رؤية جديدة للعالم تضفى، خلافا للرؤى الفلسفية والدينية قبله، “معنى” معقولا على العالم وتنزل الإنسان منزلة التكريم وتحرره من تلك “الغنوصيات” التي كانت إلى حدود عصره تكبّل الفكر الإنساني بنظرية “السقوط” وتؤرقه بالشعور بالذنب وتحاصره بعقيدة “الخطيئة الأصلية” وتنفره، تبعاً لذلك، من الإقبال على الحياة. وبالجملة، وعلى حد قول الأستاذ الكبير محمد عبد الهادي أبو ريدة: “إن مجيء الإسلام بكتابه الكريم كان بداية تحول في تاريخ حياة الفكر والعلم، كما في تاريخ الدين والسياسة والحضارة في هذه الدنيا( ).”
2. ذلك هو السياق العام الذي سيضفي مشروعية على أهم علوم الإسلام وعلى رأسها علم التفسير وعلم الحديث وعلم الكلام، وهي العلوم التي تأسست حول حياض القرآن الكريم وتحت مظلة السياق العام الجديد الذي جاء مع الإسلام. ولقد اعتبر أوائل المتكلمين علمهم الجديد استجابة لوضعية عامة تمثّل إطارها التاريخي في تلك التجربة الإسلامية الأولى وما خلّفته من تغيير في البنى الاجتماعية والاقتصادية للعالم القديم برمته وعلى أنقاضه؛ وتمثّل إطارها الفكري النظري في تلك القيم العليا والمقاصد الكبرى التي كرسها القرآن الكريم ثم أنزلها على أرض الواقع النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام؛ لقد رأى المتكلمون في كل ذلك تقنيناً لواقع جديد وترشيداً له، كما رأوا فيه مصدراً لمشروعية علمهم ومرجعاً لضبط اجتهاداتهم…
ونعتقد أنه في ضوء وعي هؤلاء المتكلمين بذلك السياق العام الذي خلقه الإسلام، وفي ضوء استحضارهم لرسالة الإسلام ومقاصده الإصلاحية، العقدية والاجتماعية، يجب أن ندرك إقبالهم النهم واحتفاءهم الكبير بإعادة القراءة والتلقي للنص الإسلامي التأسيسي، حيث خاضوا من ثم في ضبط قواعد التأويل وفي تحديد منهجية الفهم والتفسير…
في هذا السياق إذن، يجب أن نلتمس أسباب نشأة التأويل في الإسلام، وكل محاولة لتقييم هذا التأويل بعيداً عن استحضار ظرفيته والسياق العام لنشأته لن تكون إلا محاولة قاصرة، لا تستوعب الأسباب الحقيقية الباعثة على نشأة علوم التأويل، إن لم تقع هذه المحاولة في أحكام إسقاطية، خصوصاً إذا ما التبس تقييمها بعوامل إيديولوجية أو دوافع سياسية غالباً ما لا يتم التصريح بها…!
لذا نعتقد أن هذه مناسبة يتيحها لنا هذا الموضوع لإبداء بعض المراجعات النقدية لجملة تقييمات طالت النشأة الأولى لمشكلة التأويل في فكرنا الإسلامي، وهي مراجعات نستحضر خلالها بالضرورة سؤال المرجعية ومقتضيات السياق مثلما نستحضر بالتبعية بعض العوائق التي استحكمت وعمقت أسباب الاختلاف مع التنبيه إلى إمكانية رفع هذا الاختلاف بالمرة أو على الأقل التقليل من شأنه بين المتناظرين.
رابعا: نشأة التأويل في الإسلام بين المقاصد والمزالق
1. يستفاد من المصادر المعتنية بالتأريخ للفكر الإسلامي، قديمها وحديثها، أن الجهم بن صفوان (128ﻫ) كان أول من آثار في الإسلام مشكلة القراءة والتأويل وانتبه مبكراً إلى وجوب مراعاة مستويات التعبير والدلالة اللغوية في قراءة وتلقي النصوص العقدية خاصة. ونعتقد من جهتنا أنه من غير الممكن فهم مواقف هذا المدشن لإشكالية القراءة والتأويل في الإسلام دون اعتبار مواقفه تلك ردود فعل طبيعية ضد انتشار “قراءات” حرفية للنصوص الشرعية؛ هذه القراءات التي غالباً ما كانت تكرس بوضوح نزعة تشبيه غليظ وتصر على التعامل مع أي خطاب لغوي، خاصة الخطاب الشرعي، في حدود المستوى المادي التجسيمي المستفاد من ظاهر النص المنطوق، والمؤدي بطبيعته إلى تكريس التشبيه والتجسيم الغليظ…
لأجل دحض هذا الاتجاه في قراءة وتلقي النص الشرعي يبادر جهم بن صفوان إلى اصطناع “منهج التأويل” وتدشين القول فيه قاصداً إنقاذ النص من إسقاطات المجسمة والمشبهة، منطلقا من مسلمة موافقة المنقول للمعقول في تأكيده التنزيه المطلق والتوحيد الخالص، الشيء الذي يقضي أن يكون التنزيه مقصداً نقلياً وعقلياً معاً، وذلك ما كان يشكل المرجعية الكبرى Paradigme التي مثلها الإسلام بإجراءاته التصحيحية خصوصا على المستوى العقدي…
هكذا نستطيع القول إن مشكلة التأويل ومشكلة “القراءة” تهيمنان على كل ما نسب إلى الجهم بن صفوان من نصوص وأقوال، مع قلتها، ولعل ما يزكي رأينا هذا أمران اثنان، السياق والمضمون:
أ. فمن حيث السياق العام وكذا مناسبة ظهور جهم بن صفوان في الساحة الفكرية والسياسية معاً، يلاحظ أن موقفه الكلامي لا يمكن أن يفهم إلا كرد فعل ضد تيار تفسيري للنص القرآني وللحديث النبوي تمثل لدى معاصره وخصمه الفكري والسياسي كذلك مقاتل بن سليمان (150ﻫ) المفسر المعروف؛ وإذا كان الإمام الشافعي قال في حق مقاتل: “الناس عيال في التفسير على مقاتل( )” فإن صاحب هذا التفسير علاوة على اتهامه بالكذب في الحديث كان يشحن تفسيره بالتشبيه والحشو الأدب التوراتي. لذلك لم يدخل الجهم في المواجهة العنيفة مع مقاتل إلا حينما رآه يتعامل مع لغة القرآن والحديث تعامل اليهود مع نصوصهم ويسقط على النص الإسلامي ذلك الركام من الحشو الذي ازدحم فيه التشبيه والتجسيم والأساطير الإسرائيلية والغنوص المسيحي.
وفي مقالات الإسلاميين يروي أبو الحسن الأشعري أن مقاتل بن سليمان كان يقول: “إن الله جسم، وإنه جثة على صورة إنسان، لحم ودم وشعر وعظم، له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين؛ وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه!( )”. ويقول: “بعض من ينتحل الحديث [وكان مقاتل أحدهم]: إن العرش لم يمتلئ به، سبحانه، وإنه يُقعد نبيه، عليه الصلاة والسلام، معه على العرش( )”.
ومن ثم وجب على مؤرخ الفكر الإسلامي أن يعي جيداً أن مواقف جهم بن صفوان تمثل في أصلها رفضاً لمثل هذا المستوى من مستويات التعامل مع اللغة الطبيعية، رأى الجهم في انتشاره بين المسلمين وتوظيفه في قراءة النص الشرعي قاصمة الدهر وضربة قاضية ضد المقصد الإسلامي الكبير ومرجعيته Paradigme الأولى، مقصد ومرجعية التوحيد والتنزيه( ).
ب. وإذا كان المشكل اللغوي هكذا بادياً في نشأة المشروع الفكري لجهم بن صفوان، فإن مضمون هذا المشروع لا يعدو أن يكون طرحا لرؤية لغوية جديدة ترمي إلى مواجهة مثل ذلك الحشو المستشري، وتقصد في الأخير إنقاذ النص الشرعي من مخالب التجسيم الغليظ، وذلك لا يتم عند الجهم إلا بفضل اصطناع منهج التأويل ومراعاة مستويات التعبير في اللغة الطبيعية.
والتنبيه واجب هنا إلى أننا بالرغم من جواز الاستدراك على مختلف اختيارات الجهم وحلوله للإشكالات الكلامية التي خاض فيها، إلا أن المطلوب ابتداء هو محاولة التعرف على مقاصد الرجل من خلال تدشينه القول في قضية التأويل في الإسلام؛ وعلى الرغم من افتقادنا لأية كتابة أصلية صحيحة النسبة للجهم، إلا أن كل مرويات خصومه عنه دالة على أن الرجل في اصطناعه للتأويل اللغوي كان أبعد ما يكون عن القول لا بنفي الصفات ولا بالجبر! وإليك الدليل القاطع:
2. ينطلق جهم بن صفوان من مقدمة يتخذها مبدءاً مسلماً يتيح له مواجهة المجسمة والمشبهة، مفادها أنه “لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها [على الحقيقة] خلقه( )”، ومن ثم فإن أخص خصائص الله تعالى أنه ذات وليس شيئاً، ما دام مفهوم  الذات في أصله يدل على الثبات والاستمرارية؛ حين ينطبق مفهوم الشيئية في تداوله اللغوي الطبيعي على كل ما كان قابلا للرؤية واللمس، وذلك مؤد ضرورة إلى التجسيم والتشبيه.
ومن ثم يؤكد الجهم، حسب روايات خصومه، “أن الله ليس شيء” وهي الصيغة التي يبدو أنها أثارت ردود فعل قوية من الذين اعتبروا ذلك إفراطاً في النفي، وتعطيلا مطلقا للصفات وللذات أيضا، كما سبق وأن لاحظ ذلك الإمام أبو حنيفة( )، دون أن ينتبهوا إلى أن الجهم بانطلاقه من ذلك المبدإ المنوه به أعلاه لا يمكن أن يقول بتعطيل الصفات، خاصة وأن هؤلاء المنتقدين للجهم يؤاخذون عليه القول بالجبر المطلق الذي يحصر القدرة والفعل والخلق في الذات الإلهية دون غيرها، وهذا الموقف إن صح من الجهم يكون دليلا على بعد جهم بن صفوان من القول بالتعطيل وتجريد الذات الإلهية عن صفاتها القديمة. إذ القول بالجبر إثبات واضح للصفات، وليس نفياً لها! إذ ما معنى الجبر المطلق سوى إثبات كل الأفعال إلى الله تعالى، وهذا منتهى الإثبات للصفات الإلهية وأبعد ما يكون عن تعطيلها!
حقا! إن الموقف الكلامي لجهم بن صفوان يقوم على أساس “نفي الصفات”، غير أن النفي، حسب مسلمته المذكورة آنفا يتضمن نفياً وإثباتاً بالنسبة للطرفين معاً، الذات الإلهية والإنسان؛ فكما يقتضي التنزيه والتوحيد كمرجعية أساس وجوب نفي الصفات البشرية عن الذات الإلهية، فإنهما يقتضيان في نفس الآن إثبات الصفات الإلهية الذاتية ونفيها عن الإنسان! ومن ثم يقرر الجهم أن “الله لا يجوز أن يوصف بصفة يوصف بها خلقه، لأن ذلك يقتضي تشبيها. فنفي كونه حياً عالماً [مريدا موجودا] وأثبت كونه قادراً فاعلا خالقاً” وحده( ).
ونحن نفترض أن الجهم لا يمكنه أن يتجاهل هنا كون القرآن الكريم كنص مؤسس لا يكف عن استخدام نفس المصطلحات اللغوية المتداولة في الخطاب الطبيعي، غير أنه لم يجد بداً من التحذير من عدم الارتقاء عن مستوى الدلالة الطبيعية الأصلية إلى الدلالة المجازية التي تتوافق ومقاصد التنزيه في الخطاب الشرعي الذي يشكل مرجعية كبرى في الإسلام.
وبالجملة تقوم عملية “التأويل” لدى جهم بن صفوان على ضرورة صرف المصطلح اللغوي عن دلالته الطبيعية إلى دلالته المجازية والإشارية إذا ما تبين ذلك ضروريا للحفاظ على مقاصد التنزيه المؤسس له في المرجعية الإسلامية. ومن ثم وجب القول إن كل الصفات التي لا يجوز نسبتها حقيقة لغير الذات الإلهية، والتي هي قديمة قدم الذات، لابد أن تكون في صيغة الفعل والعطاء. خلافا للصفات البشرية التي توحي بالتلقي والقبول والانفعال.. فالله تعالى هو المحيي، بينما الإنسان حي؛ والله هو الموجد، والكون موجود؛ والله هو الخالق، والعالم مخلوق… فكل ما عدا الله تعالى يشار إليه بصيغة المفعول للدلالة على ذلك التمييز بين صفات الله الخالق وصفات باقي الأشياء المخلوقة. ولقد فطن الإمام الجويني لهذا القصد في تأويل الجهم فنسب إليه القول “بأن الشيء هو الحادث؛ والله مشيّئ الأشياء، ولا يتصف [بالتالي] بكونه شيئاً( )”.
وإذا كان مؤرخو الملل والنحل في الإسلام قد أصروا، رغم وضوح مقاصد الرجل، على أن يروا في مثل هذه التأويلات شاهد إثبات على النفي والتعطيل عند جهم، فما ذلك إلا لكونهم أغفلوا منذ البداية النظر إلى المستوى الذي يتحرك فيه، وهو المستوى اللغوي قبل كل شيء، خاصة في ضوء ما عرفته المصطلحات اللغوية والمصطلحات الشرعية تحديداً من سطو المشبهة والمجسمة، فأنزلوها على الذات الإلهية مشبعة بأبعادها المحسوسة… وذلك نوع من التطرف العقدي لم يجد الجهم بداً من مقابلته “بتطرف لغوي” قائم على تأويل وتأصيل ومراجعة “حفرية” للمصطلحات اللغوية بغرض نفي كل ما من شأنه أن “يوهم” بالتجسيم والتشبيه!
لذلك نظن أنه بغض النظر عن البعد العقدي المتصل بسبل التعرف على الصفات الإلهية وإثباتها، فإن لمواقف جهم بن صفوان المشار إليها آنفاً بعداً تأصيلياً أو تأثيلياً “بحسب مصطلح الدكتور طه عبد الرحمن، بل لقد وجدنا في المشروع التأثيلي لطه عبد الرحمن طرحاً معمقاً لبعض ما أثاره الجهم بن صفوان من مشاكل لغوية في صورة ساذجة أولية، ومن قضايا تتعلق بالتأويل وعلاقة ذلك بالاشتقاق اللغوي وبالتفكير الفلسفي: وكمثال على استمرار حضور ما أثاره الجهم من إشكالات لغوية، ومحاولة طه عبد الرحمن حديثا معالجته في ضوء الدراسات اللغوية والمنطقية المعاصرة، خاصة في ضوء قمة الاشتغال التأثيلي في الفكر الغربي الحديث مع الفيلسوف مارتن هايدغر، نذكَّر هنا بقاعدة الجهم في إثبات الصفات والتي تنص على أنه لا يجوز أن يوصف البارئ تعالى بصفة يوصف بها خلقه؛ وبالتالي فالله هو “الموجد” بينما غيره هو “الموجود” هكذا في صيغة اسم المفعول… نقول: على غرار هذا يعمد طه عبد الرحمن إلى معالجة مشكلة الاشتقاق اللغوي في دلالته على “الوجود” خاصة، فيقول موضحاً المشكل”( ): ولإيضاح ذلك في نهاية كلامنا عن التأويل الاشتقاقي نفحص مثال مفهوم “الموجود”، فمن معاني هذا المصطلح ما يلي:
ـ أنه مشتق من مصدر هو: “الوجود”.
ـ أنه يدل على موضوع موصوف بالوجود.
ـ أن صيغته موضوعة للدلالة على المفعولية.
ـ أن هذه المفعولية تستلزم فاعلا هو: “الواجد” وفعلاً هو: “وَجَد”.
ثم يقف طه عبد الرحمن منتقداً غفلة فلاسفة الإسلام (الفارابي وابن سينا وابن رشد) عن هذه المعاني الاشتقاقية مكتفين بصيغة واحدة هي “الموجود” للإشارة إلى كل تلك التمايزات الاشتقاقية! بحيث ينطبق مفهوم “الموجود” على الفاعل والمفعول معاً كما يدعي الفارابي! “وواضح أن الفارابي، يقول طه عبد الرحمن مصحّحا، في دعوته هاته، غابت عنه كلياً مكانة الصيغ الصرفية من التفكير، فليس هي مجرد مضامين ذهنية يمكن التصرف فيها بالزيادة أو النقصان، وإنما هي بمثابة الصور الذهنية التي تتولى حمل هذه المضامين والتي لا تتم عمليات التفكير إلا بها، فلا يمكن أن يفكّر في أي مضمون، كائناً ما كان، إلا إذا تشكل بإحداها، ومتى تشكل بها لازمه معناها… في حين يدعونا الفارابي إلى حفظ هذه الصورة، وهي هنا صورة “المفعول”. مع صرف معناها؛ (أي المفعولية)، فيكون كمن يدعونا إلى إتيان محال!( )” وعند إبرازه لقيمة التأثيل الاشتقاقي الذي تميز به فكر مارتن هايدغر ينبه طه عبد الرحمن إلى أنه “لا يصح [عند هذا الفيلسوف] أن نقول: “الوجود موجود”؛ لأن ذلك يجعل من الوجود (Das sein=) واحدا من الموجودات (Das Seiend=). والحقيقة أن بين “الوجود” و”الموجود” فرقاً “أونطولوجياً” غاب عن “الميتافيزيقا” التقليدية( )” ما دام الوجود هو الذي “يُعطي” أو هو “الذات الفاعلة للإعطاء أو المُعْطي” الحاضر والقريب والممد غيره بالوجود… وعلى غرار قول الجهم بأن “الله مشيء الأشياء” فإن الكلمات عند هايدغر “تخرج الشيء إلى الشيء” وتحضره إلى الوجود أي “تجعل الشيء شيئاً( ).”
ولضيق الوقت عن التفصيل، لا نملك أخيرا إلا أن نؤكد أنه مهما كان تقييمنا اليوم لهذا التدشين الأول في الإسلام لفعل التأويل مع الجهم بن صفوان، فإن تأثير هذا الأخير فيمن جاء بعده كان تأثيراً بالغاً؛ فعلاوة على وضوح تأثيره في المعتزلة، فإن أهم ما عُرفت به الأشعرية في تنظيرها للطبيعة وللإنسان، وهو مفهوم كون “العرض لا يبقى زمانين” وما نتج عنه من القول بالعادة والسببية ونظرية الجزء الذي لا يتجزأ؛ وكذا مفهوم الكسب وما تولد عنه من تفسير الفعل الإنساني… نجد التأصيل الأول لكل ذلك عند الجهم بن صفوان. وحُقّ لجمال الدين القاسمي، آن يؤكد في كتابه المتميز تاريخ الجهمية والمعتزلة أن: “المتكلمين المتأخرين المنسوبين للأشعرية يرجع كثير من مسائلهم إلى مذهب الجهمية كما يدريه المتبحر في فن الكلام”( ).
تلك مواقف أساسية في فكر جهم بن صفوان دالة على النشأة الأولى للتأويل في الفكر الإسلامي وما صاحب تلك النشأة من قضايا وإشكالات فرضت نفسها على أكبر الفرق الكلامية في الإسلام… ولاشك أنها إشكالات كان للمصطلح وللبعد اللغوي عامة حظه في إبراز تلك الإشكالات، بجانب البعد السياسي الذي يؤكد المنصفون أنه لعب دوراً حاسماًُ في تشويه صورة الجهم لدى مؤرخي الملل والنحل( )..!”
وبالجملة فتأثير مذهب الجهمية في الأفكار إنما كان، على حد قول جمال الدين القاسمي( )، تنبيهاً إلى التأويل وسلوك منهج المجاز في تلك المسائل؛ وكان هذا الباب موصداً قبلها، لا يطرقه أحد ولا يخطر بباله!”.

الهوامش

Science

د. عبد المجيد الصغيَّر

أستاذ الفلسفة و تاريخ الفكر الإسلامي
كلية الآداب والعلوم الإنسانية-الرباط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق