مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

المدرسة الصوفية المغربية

    يعتبر التصوف أحد المقومات الروحية والاجتماعية والثقافية والسياسية في تاريخ المجتمع المغربي، لم تنحصر آثاره في جانب العمل التربوي فحسب، وإنما عمل على إصلاح الواقع الإنساني بمختلف طبقاته وتشعب مجالاته، وفق رؤية أخلاقية، تتواصل فيها القيم المثلى التي ينشدها الصوفي من خلال مجاهدته المستمرة، وضرورة التغيير التي ستصحب هذه العملية، بانعكاس الباطن على الظاهر حسب المنظور الصوفي.

    فالمنهج الصوفي لا تقتصر معالجته الإصلاحية في شكلها العمودي، بل إن صحة ارتباطه بالعالم المطلق أن يرجع إلى العالم المادي كإطار لتنزيل تلك المعاني الأخلاقية المستثمرة من التجربة الحية، ليسري مفعولها إلى واقع المجتمع الإنساني، فتوجه السلوكيات المنحرفة إلى ما يستقيم مع ضوابط الشرع، ويتوافق ومصالح الرعية، ومن ثمة فإن مشروع الولاية في العمل الصوفي هو ضمان ممارسة أخلاقية داخل المجتمع الإسلامي، والحد من التعدي على الحقوق، إلهية كانت أو إنسانية، “فالولي لا يعيش على هامش الكون بل هو قريب من الله، قريب من الناس، ومن ثم كان تأكيد الصوفية الدائم، أن خدمة الخلق جزء لا يتجزأ من عبادة الحق”[1]. فهناك علاقة تفاعلية بين الصوفي والظروف الطارئة على المجتمع، وهو منهج متأصل عبر طبقات صالحي الأمة، والفعل النبوي هو الأنموذج الأمثل للاقتداء، بخصوص الاقتراب من هموم المجتمع وتطلعاته المشروعة، وما الدور الإصلاحي الذي تقلده صلحاء الأمة إلا تفعيل لهذا المنهج الأسنى، حتى لا ينطفئ نور الهدي النبوي في الأمة المحمدية.

    ولقد عمل التصوف عبر تاريخ الأمة على بناء كيان المجتمع الإسلامي وفق ثنائية التخلية والتحلية، التي شكلت داخل المنظومة الصوفية قطب رحى أي معالجة تتشوف إلى الإصلاح والتغيير.

    فليس مبدأ التخلية يختص بتصفية الباطن من أدران الغفلة، وقطع الشواغل المبعدة عن جمع الهمة بالله تعالى، وليست التحلية تمثُّل المعاني الربانية في قلب الصوفي  وسلوكياته، بل إن غاية السلوك الصوفي أن يكون مثالا نبويا للتخلق، وآية دالة بكيانها على عالم المثال، وهنا تبرز المفارقة في مقاربة العمل الإصلاحي الذي يسلكه الصوفي، وباقي المسالك التي يتخذها الآخر على اختلاف مجالاته وتوجهاته.

    فالمقاربة الصوفية هي عمل على مستوى العمق الإنساني، تنفذ بقيمها وحركيتها في صبغ هوية الإنسان بفضيلتي الصلاح والإصلاح، ولا تكتفي بالتغيير الذي يقف عند حدود بعض المظاهر السلوكية، التي سرعان ما تتبدل عند مواجهة أزمات وضغوط الحياة، لعدم تجدرها في نفسية المصلح، كما أن توجه الصوفي إلى الظواهر التي تحيط بواقع المسلم، لا يعني انحصار النظر في مادياتها، وإنما تبقى دلالة مرتبطة بالعالم المطلق، ومن ثمة فالصوفي من جهة يشارك غيره بالنفع والانتفاع بالأسباب المادية، ومن ناحية أخرى فهو يستشرف بها الأفضال الإلهية، باعتبار أن الأعمال هي مواطن للتقرب من المولى عز وجل.

    ويكفي أن نستقرئ بعض الكتب المنقبية التي أرخت لرجالات الصلاح، حتى نجد هذا الفعل التواصلي بين عالمي المثال والواقع داخل الشأن الصوفي، ويعتبر صوفية المغرب نماذج رائدة في هذا التوجه، بما يغلب عليهم من منحى عملي، يجعل تصوفهم لصيقا بهموم المجتمع وإشكالاته.

    وهو ما خلص إليه الأستاذ عبد المجيد الصغير حين قرر بأن تموقع الفكر الصوفي داخل مختلف الأوساط المجتمعية كان بسبب صبغته العملية[2]، ولذلك فقد استطاع المنهج الصوفي أن ينفذ إلى مجالات الحياة، ويستقطب مختلف الطبقات، بما يمتلكه من قدرات على التكيف مع ظروف المجتمع وشرائحه المختلفة.

    فقد دخل التصوف إلى الواقع المغربي بتوطين أركانه كأحد مقومات المجتمع المغربي، وذلك في إطار التلاقح المعرفي بين المشرق والمغرب، فأبو مدين الغوث أخذ عن القدوة شيخ المشايخ في وقته عبد القادر الجيلاني، وعبد الجليل بن ويحان أخذ عن أبي الفضل الجوهري بمصر، وكانت الرحلة لأداء فريضة الحج أو طلب العلم من أسباب الأخذ والتلقين التي حملت إلى المغرب بذور ظهور رجالات من الصلاح بنزعة صوفية، كرست وجودها داخل المجتمع المغربي كمنارات للاهتداء الخلقي، رغم أن هناك من ربط بوادر ظهور التوجه الصوفي بدخول الفتح الإسلامي للمغرب، وما نشأ عن ذلك من تكوين الرباطات التي اتخذت فيما بعد شكل زوايا اهتمت بتعليم الدين وتربية المريدين[3]

    “فقد عرف المغرب مبكرا ظاهرة الرباطات التي تجمع بين داعي الجهاد وداعي الانقطاع للعبادة، ومن أشهر الرباطات آنذاك رباط شاكر، ورباط نفيس، ورباط تيط، وكان من عوائد الأولياء وأحوالهم السفر في كل رمضان إلى رباط شاكر، وكذلك في الأعياد خصوصا منها المولد النبوي”[4]، وإن كانت فترة مابين القرنين الخامس والسادس الهجريين تعد عهد حضور المنحى الصوفي بشكل جلي ونضوجه داخل المجتمع المغربي، من خلال ظهور عدد من الأعلام التي طبعت التاريخ المغربي بمساهماتها التخليقية ومواقفها الاجتماعية والسياسية…، حتى بات المغرب يعرف ببلد الأولياء.

    وإن كانت الظاهرة الصوفية في بداية تشكلها في المغرب تعرف اتجاها فرديا، يتمحور في أخذ معاني التوحيد الخاص عن طريق شيوخ المعرفة، والتنقل عبر رجالات الصلاح قصد التماس البركة والانتفاع بأهل الولاية، ولم تكن الطرق الصوفية قد تشكلت بصيغتها المعروفة عند المتأخرين، وقد لاحظ الأستاذ عبد الله كنون أن “علم التصوف كان له الشفوف في العصر المرابطي، ونظرة واحدة في كتاب التشوف لابن الزيات تظهر القارئ على كثرة من كان يأخذ بطريق القوم من رجال المغرب في هذا العصر، ولكن يلاحظ أن تصوفهم إنما كان رباطة ومجاهدة، ولم يكن هذا التصوف الفلسفي الذي أنكره الفقهاء على الغزالي فأحرقوا كتابه، وعلى ابن العربف وابن برجان والميورقي، فحملوا أمير المؤمنين علي ابن يوسف على إشخاصهم إلى مراكش، ثم ندم على ما فرط منه في حقهم بعد ذلك”[5].

    فرغم مواقف المعارضة التي لحقت عددا من رجال الصلاح في هذا العهد، إلا أن الموقف الغالب كان يذهب إلى الإقرار لأهل الولاية بمكانتهم الروحية وسندهم الاجتماعي، الذي يتمثل في انضواء عدد من رجال العلم والفكر والمعرفة إلى صفوفهم، بالإضافة إلى جمهور من العامة التي وجدت ملاذها الروحي في السلوك الصوفي.

    ولن ندخل في بيان علاقة الصوفي بالسلطة الحاكمة الذي سنتكلم عنه فيما بعد، أو ما كان من تحامل الفقهاء -الذين كان لهم الصيت في العهد المرابطي- على الصوفية، وإنما يكفي أن نبين بأن العمل الصوفي ظل راسخا داخل منظومة المجتمع المغربي، مصطبغا في عاداته وأعرافه بثقافة صوفية أصيلة، دالة على تجدر المعطى الصوفي في البنية المجتمعية للمغرب.

    ولن نعدم الإشارات والمواقف العديدة لأهل التصوف في العهد الموحدي، وإن كان وجود خلافات بين السلطة الموحدية على عهد يعقوب المنصور  وبعض أعلام التصوف بالمغرب، “فإن هذا الخلاف لا يمنع من ملاحظة أن الاتجاه العام في الفكر الصوفي المغربي في هذه الفترة يلتقي مع الأهداف السياسية الإصلاحية التي عمّقها الخليفة المنصور في المجالين الفكري والعملي”[6].

    وكذلك في العهد المريني الذي برز فيه التصوف من خلال مؤسسة الزاوية التي عمت ربوع المغرب، وكانت المجال الروحي والمعرفي والثقافي وكذا الاجتماعي والسياسي داخل المجتمع المغربي، بمحافظتها على الأصول الشرعية، واندماجها في الواقع المعيش الذي يحياه المجتمع، “ومن أشهر الجماعات التي كانت منتشرة في هذه الفترة طريقتان: أولهما طريقة أبي مدين شعيب بن حسين الأنصاري الأندلسي الأصل…، وأما الثانية: فهي طريقة أبي الحسن الشاذلي علي بن عبد الله بن عبد الجبار الحسني الإدريسي الغماري الزرويلي ثم الشاذلي المتوفى سنة 656ﻫ/1258م”[7]

    ويعد تصوف أبي الحسن الشاذلي هو المؤسس لخصوصية العمل الصوفي المغربي، لما تميز به من بعد عملي كان استجابة للظروف التي عرفها المجتمع في ظل “الهجمات الصليبية على المشرق وتكالب الإبيريين على المغرب…، [ف] كان من المنتظر أن تأتي مواقف الشاذلي منسجمة مع تلك الروح الفكرية والسياسية التي عرفتها الدولة الموحدية”[8]، وهو ما أكسبه شيوعا بين فئات المجتمع المغربي الذي كان ينأى عن الخوض في الأذواق والمعاني الخاصة.

    ومن ثمة فإن العمل الصوفي وطد دعائمه كأحد التوابث الرئيسة للمجتمع المغربي، “ولم يقتصر على جماهير العامة، بل صار  السند العلمي والسند في الإذن الصوفي يكادان يقترنان في تراجم معاجم الأعلام، وهو من معطيات الإشعاع المغربي في اتجاه الشرق، ولاسيما صعيد مصر والبلاد التي نالت الطريقة الإدريسية، وفي اتجاه الجنوب، بل وفي اتجاه أوربا…، وعلى الصعيد الداخلي فما زال لتراثه حضور في النسيج الاجتماعي وفي الضمير الأخلاقي، وتجدده في طبيعة الأمور”[9].  

    فتكون هوية المغرب قد تشكلت عبر سياقات تاريخية، عمل المغاربة على تحديد خصوصيتهم وفق منطق تعددي، يحفظ لهم توابثهم الدينية والاجتماعية والثقافية والسياسية.              

الهوامش

[1] محمد حلمي عبد الوهاب: ولاة وأولياء السلطة والمتصوفة في إسلام العصر الوسيط، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ص: 80.

[2] عبد المجيد الصغير: إشكالية الفكر الصوفي في القرنين 18/ 19م، أحمد ابن عجيبة ومحمد الحراق،  دار الآفاق الجديدة،  ص: 13.  

[3] علال الفاسي: التصوف الإسلامي في المغرب، إعداد: عبد الرحمان بن العربي الحرشي، مطبعة الرسالة، ص: 13.

[4] عبد السلام الغرميني: المدارس الصوفية المغربية والأندلسية في القرن السادس الهجري، دار الرشاد الحديثة، ص: 249.

[5] عبد الله كنون: النبوغ المغربي في الأدب العربي، دار الثقافة، 1/ 72.

[6] عبد المجيد الصغير: تجليات الفكر المغربي، دراسات ومراجعات نقدية في تاريخ الفلسفة والتصوف بالمغرب، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، ص: 172.

[7] محمد المنوني: ورقات عن الحضارة المرينية، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ص: 409.

[8] عبد المجيد الصغير: تجليات الفكر المغربي، شركة النشر والتوزيع المدارس، ص: 172.

[9] أحمد التوفيق: معلمة المغرب، 7/ 2396.

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق