وحدة الإحياءدراسات وأبحاث

المالكية وتأصيل الاعتراف بالاختلاف الفقهي: -مراعاة الخلاف أنموذجا-

يرى المؤرخون وأهل التراجم قصة شهيرة وقعت بين الإمام مالك وأحد خلفاء بني العباس[1]؛ حاصلها أن هذا الخليفة طلب من الإمام الإذن له بكتابة نسخ من الموطأ، ثم توزيعها على أهل الأمصار  مع توجيه الأوامر إلى أهل الآفاق بوجوب العمل بما في هذه النسخ، والاقتصار على ما تضمنته من الفقه والأثر، وأن لا يتعدوها إلى غيرها مما أحدثوه من الآراء الفقهية الاجتهادية، قائلا:” اجعل العلم، يا أبا عبد الله، علماً واحداً[2]“، ومعللا ذلك بأن “أصل العلم رواية أهل المدينة وعملهم[3]“.

إن الخليفة، انطلاقا من حسه السياسي، وبحثه الدؤوب عن مصالح مملكته واستقرارها، كان يميل إلى جمع الأمة على قول واحد، وإلزامها بمذهب معين لا تخرج عنه؛ درءًا للفتن، وقطعا لسبل الخلاف، وحسما لمادة النزاع التي قد تنتقل من مسائل الفقه إلى شؤون الحياة…

غير أن الإمام لم ينسق وراء هذا الخطاب الذي قد يبدو صوابا في بعض أبعاده، بل كان رده الحاسم رفضا صريحا لمشروع إلزام الأمة بما يراه من اجتهاد في النقل وفي الرأي، وأثر عنه في تعليل موقفه ذاك أقوال تناقلها الناس من بينها أنه قال: “يا أمير المؤمنين، إن أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تفرقوا في البلاد، فأفتى كل في مصره بما رآه، (…) إن لأهل هذه البلاد قولا، ولأهل المدينة قولا، ولأهل العراق قولاً[4]“.

وفي رواية أخرى عنه يتوقع من أهل العراق عدم الرضى بما عنده، فيسلم لهم بما رأوه ويقول: “إن أهل العراق لا يرضون علمنا[5]“. وفي رواية ينقل عنه أنه قال: “يا أمير المؤمنين، لا تفعل؛ فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث وروايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا به من اختلاف أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوا شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم[6].”

غير أن ما نود التركيز عليه من بين تلك الأقوال المروية في هذه الحادثة، رواية جاء فيها: “لا تفعل؛ فإن في كتابي حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقول الصحابة، وقول التابعين، ورأياً هو إجماع أهل المدينة لم أخرج عنهم، غير أني لا أرى أن يعلق في الكعبة[7].”

ومكمن الأهمية في هذا القول أنه يسلط الضوء على العقلية الفقهية للإمام مالك؛ فإن تأمله يوقفك على معالم رئيسة في تلك العقلية الفريدة، في المقدمة منها هذا النظر المتواضع لما عنده من العلم، فليس كله وحيا من عند الله، أو منصوصا عليه في سنة رسوله، وليس هو التجلي الأوحد للحكم الشرعي في النوازل والأقضية، كما أنه لا يعد من حيث الحُجِّية على درجة واحدة في القبول، ولاسيما عند المخالفين الخصوم…

ومنها الاعتراف بالآخر المختلف فقهيا، وأن من حقه الوجود والاستمرار، وليس من مقاصد الإمام القضاء على الاختلاف، ولا محو الآراء المخالفة بقرار سياسي، بل على النقيض من ذلك يرى أن قول الخصم ورأيه يجب أن يحفظ ويرعى تمهيدا لاعتباره وإعماله، فعلى الرغم من أن الإمام يرى أن ما ذهب إليه من الفقه راجح لموافقته الأدلة المعتبرة، ومن ضمنها إجماع أهل المدينة، فلم يسوغ لنفسه الخروج عنه أبدا، إلا أنه لم يلزم غيره من الفقهاء بما اختاره وترجح لديه من آراء في بابي الأصول والفروع…

لقد كان لهذا المنزع في شخصية مالك العلمية، أثر عميق في قواعد الاستنباط وآليات الاجتهاد التي عرف بها الفقه المنتسب إليه؛ فظهرت في المذهب المالكي أصول وقواعد إذا نحن حللناها إلى مفرداتها وجدنا فيها هذا النزوع إلى الاعتراف باختلاف الأمة، والنأي عن مسالك التعصب للمذهب، ووضع الرأي المخالف في محل الاعتبار حتى مع رجحان دليل الرأي الموافق، وظهور مستنده.

ومن أصول المالكية التي تتخرج على هذا المنهج ما عرف عنهم من أخذ بما سموه في أصولهم الفقهية بـ: “مراعاة الخلاف”.

مفهوم مراعاة الخلاف

1. مراعاة الخلاف لغة

ينحل هذا التركيب الإضافي إلى عنصرين هما: المراعاة والخلاف، ومعالجتها في حال التركيب ليس من وظائف أهل اللغة؛ لأنه شأن اصطلاحي بحت، وأما في اللغة؛ فإن المراعاة تعني المناظرة والمراقبة، يُقَال: راعيت فلَانا مُرَاعَاة ورِعَاء، إِذا راقبته وتأمَّلت فعله[8].

ويقال: راعيت الأمر أراعيه مراعاة، إذا نظرت إلامَ يصير، وإلى أي شيء يؤول[9].

وأصل المراعاة مادة رعى وهي تدور في الاستعمال اللغوي على معنيين أولهما: المراقبة والحفظ للشيء، وثانيهما: الرجوع[10].

ويظهر أن استعمال الفقهاء لهذا المصطلح لا يبتعد كثيرا عن المعنى اللغوي، بل إن استيعاب المعنى الاصطلاحي يوصلنا إلى اكتشاف أن المصطلح قد أخذ بجماع المعنى اللغوي، فانطوى تحت جوانحه المعنيان اللغويان، ألا ترى أن الأصوليين يقصدون بمراعاة الخلاف مراقبة مذهب المخالف، وحفظه، ومن ثم ذلك الرجوع إليه في حال الوقوع، إعمالا للازم دليله مع أنه لم يعمل به أول الأمر؟ فاجتمع بهذا البيان متفرق المعنى اللغوي تحت المفهوم المصطلح عليه بين الأصوليين.

وأما الجزء الثاني لهذا التركيب هو الخلاف، وهو من حيث الأصل اللغوي يرجع إلى الفعل الثلاثي خلف، وهذا الأصل يتفرع في الاستعمال اللغوي عند العرب إلى ثلاثة من المعاني: أحدها؛ أن يجيء شيء بعد شيء ويقوم مقامه، والثاني؛ كونه خلاف قدام، والثالث؛ بمعنى التغير والتحول[11].

وابن فارس يرى أن الخلاف والاختلاف في الرأي داخل في دائرة المعنى الأول من هؤلاء الثلاثة المذكورين، ثم يفسر وجه دخوله فيه بقول: “وأما قولهم: اختلف الناس في كذا، والناس خلفة؛ أي مختلفون، فمن الباب الأول؛ لأن كل واحد منهم ينحي قول صاحبه، ويقيم نفسه مقام الذي نحاه[12].”

2. مراعاة الخلاف في الاصطلاح

استفسر أبو إسحاق الشاطبي الشيخَ المالكي أبا العباس ابن القباب (779ﻫ)[13] عن مراعاة الخلاف في مكاتبة بينهما ذائعة الصيت[14]، وقد عرف القباب هذا الأصل التشريعي بقوله: “هو إعطاء كل واحد من الدليلين حكمه[15].”

وهو تعريف لا يوضح بشكل جلي حقيقة المصطلح، كما أن فيه عموما يجعله قابلا لإدخال مصطلحات مغايرة له تحت رسمه؛ فإن مجمل ما يقوم به الفقيه من اجتهاد هو عبارة عن إعطاء كل دليل حكمه؛ فيجري دليل الحظر في محله، وكذلك يفعل مع دليل الإباحة… فأين هذا من مراعاة الخلاف الذي يتحدث عنه الفقهاء؟ وإن كان مفهومه ما ذكر، فما الداعي إلى الاختلاف فيه أصلا؟

ولقد أوضح أبو العباس مقصوده فيما ذكر، لكن الاعتراض يظل قائما؛ لأنه متعلق بالتعريف، لا بشرحه وتفسيره.

وأما الشرح الذي عقب به التعريف فخلاصته أنه يفرق بين ضربين من المراعاة:

 أولهما: مراعاة خلاف الخصم في مسألة ما مع أن الأدلة الشرعية فيها من القوة والوضوح بحيث يجزم الناظر فيها بصحة ما ذهب إليه من القول، وضعف قول المخالف ضعفا بينا لا امتراء فيه؛ فهاهنا لا وجه لمراعاة الخلاف، ولا معنى له…

 وثانيهما: ما يقوى فيه أحد الدليلين، وتترجح فيه إحدى الإمارتين، غير أن هذا الرجحان وتلك القوة لا ينقطع معهما تردد النفس، وتشوفها إلى مقتضى الدليل الآخر، فهاهنا تحسن مراعاة الخلاف…[16].

 وعد هذا التقسيم يصل إلى مفهوم المراعاة ونتيجته كما يراهما، وذلك بأن “يعمل ابتداء على الدليل الراجح؛ لمقتضى الرجحان في غلبة ظنه، فإذا وقع عقد أو عبادة على مقتضى الدليل الآخر، لم يفسد العقد، ولم تبطل العبادة؛ لوقوع ذلك على موافقة دليل له في النفس اعتبار، وليس إسقاطه بالذي تشرح له النفس[17].”

ويقدم ابن عرفة الورغمي (803ﻫ)[18] تعريفا للمراعاة يضمنه بعدا حجاجيا واضحا بتنصيصه على الخصم فيه، يقول: هو “إعمال دليل الخصم في لازم مدلوله الذي أعمل في نقيضه دليل آخر[19].” وهو إلى ذلك أدق من تعريف أبي العباس القباب لاحتوائه على جملة من الفصول التي يحترز بها من دخول المماثلات فيه، ومن ذلك:

ـ قوله: “دليل” فصل أخرج به الشيخ غير الدليل، فالقول إن كان بغير دليل خارج عن ماهية الموضوع أصلا؛ إذ كيف يكون اعتبار المعدوم وجودا؟

ـ وقوله “في لازم مدلوله” أخرج به إعمال الدليل في مدلوله، فهذا لا يسمى مراعاة، وإنما عملا بالدليل، والدليل هو ما يمكن التوصل به إلى مطلوب[20].

وقيدُ إعمال لازم الدليل لا أصل الدليل، هو أخص ما تتميز به مراعاة الخلاف في معناها الضيق المعمول به عند المالكية، والذهول عنه أحد مسببات الخلط بينه وبين مُشاكِلاته من المصطلحات، وأكثر اعتراضات الرافضين له أصلا في التشريع، أتوا من هذا المأتى، فركبوا إيراداتهم عليه انطلاقا من تصور غامض له يجعله أقرب إلى القول بالشيء ونقيضه، فقالوا مثلا إن “دليلي القولين لابد أن يكونا متعارضين يقتضي كل واحد منهما ضد ما يقتضيه الآخر، وهو معنى مراعاة الخلاف، وهو جمع بين متنافيين[21]“، ولو التفتوا إلى هذا القيد، لزال طرف عظيم من هذا الاستشكال ونحوه؛ لأن “الحكم على مراعاة الخلاف يستدعي سبق تصوره[22].”

أمثلة من عمل المالكية بهذا الأصل

وقد أورد التسولي (1258ﻫ)[23] جملة أمثلة تطبيقية تشرح هذا التعريف، وتوضح مفهومه، منها:

1. أن الإمام مالكا فسخ نكاح الشغار في حياتهما بدليل رجح له هذا الحكم، وكان القياس هو أن يستمر فيه إلى ما بعد مماتهما، فيسقط التوارث بينهما، لانتفاء سببه وهو الزوجية، لكنه أعمل لازم دليل أبي حنيفة الذاهب إلى عدم الفسخ في الشغار، فقال بتوارثهما ولو بعد الفسخ[24].

2. أن الفقيه المتمذهب بمذهب مالك يقول بفساد إنكاح المرأة نفسها مستدلاً بكون الأدلة من الكتاب والسنة تدل على أن النكاح بيد وليها، وأنها إن أنكحت نفسها بغير إذن أوليائها فنكاحها باطل… لكن إن وقع هذا النكاح بهذا الوصف ثم مات أحدهما، أعمل لازم مذهب أبي حنيفة؛ لأنه يجوز إنكاحها نفسها، قياساً على البيع.

فقد أعمل المالكي دليله في الحياة، ودليل خصمه في لازم مدلوله بعد الممات، فأوجب توارثهما، وهذا هو مراعاة الخلاف،  وإلا فمقتضى القياس أن لا توارث بينهما للبطلان[25].

مراعاة الخلاف والخروج منه

استدل بعض الفقهاء بقول ابن الحاجب في جامع الأمهات “والمستعمل فِي الْحَدث طهُور، وَكُره للخلاف[26]“، قائلين إن ظاهر لفظه يدل على أن مراعاة الخلاف يجوز أن تكون ابتداء، وليس من شرطها أن يعمل بها بعد الوقوع حصرا وتحديدا.

 والمسألة خلافية بين أهل الأصول، والسؤال المعبر عنها هو: هل تعم مراعاة الخلاف ابتداء ووقوعا؟ أو أنها خاصة بالوقوع، ولا تصح مراعاة الخلاف ابتداء؟[27].

ويستنتج من هذا السؤال أن مراعاة الخلاف بالمعنى الأعم تشمل نوعين هما:

   1. مراعاة الخلاف ابتداء؛ أي قبل الوقوع، وذلك كأن يحكم المفتي في مسألة ما بناء على دليله الراجح بأنها مباحة مثلا، ثم ينتقل عنه إلى الحكم بكراهتها خروجا من خلاف من قال بالحرمة، وهذا النوع هو الذي يصدق عليه لقب الخروج من الخلاف، والفقهاء من مختلف المذاهب كثيرو الاستعمال لهذا النوع، وهو أعم وأشمل من قسيمه.

   2. مراعاة الخلاف انتهاء؛ أي بعد الوقوع، وصورته أن يحكم المجتهد على مسألة معينة بالتحريم مثلا فيكون القياس إعمال لازمه وتوابعه من الإبطال أو الفسخ أو نحوهما، لكن المجتهد بعد الوقوع وتورط الناس فيه، يقطع دليله عن العمل، ويُعمل لازم دليل الخصم من الصحة وثبوت الآثار… وهذا الضرب أكثر من يستعمله المالكية، وقلما تجده عند غيرهم.

ولا يفهم من هذا أن المالكية لا يستعملون الخروج من الخلاف، بل الصواب أنهم هم أيضا قائلون به، وقد مر بك قول ابن الحاجب آنفا، وهذا الباجي يخرج فروعا من أقوال الإمام مالك على أنها خروج من الخلاف منها اختياره أن الوتر ثلاث ركعات؛ “لأن جماعة من أهل العلم يقولون: الوتر ثلاث ركعات لا سلام فيها، فأراد مالك إبقاء الصورة، إذ لم يجز عنده اتصالها[28].”

ومن الأمثلة التطبيقية عليه أن الشيخ الخرشي في شرحه للمختصر قرر مشهور مذهب مالك وحاصله من كراهة قراءة البسملة في الصلاة سرا أو جهرا، إلا أنه تعقب هذا التقرير بقوله: “لكن من الورع الخروج من الخلاف بالبسملة أول الفاتحة، ويسرها، ويكره الجهر بها، ولا يقال قولهم يكره الإتيان بها في الفريضة ينافي قولهم يستحب الإتيان بها للخروج من الخلاف…[29].” فهذا المثال داخل كما هو ظاهر في القسم الأول من المراعاة؛ لأن الذي يأتي بالبسملة على الصفة المذكورة، يأتي بها ابتداء لا بعد الوقوع، ويتوسط في الحكم بين مذهبي المالكية القائلين بالكراهة، ومذهب الشافعية القائلين بالوجوب، وتلك مميزات فارقة يعرف بها الخروج من الخلاف[30].

وتأسيسا على هذا التقسيم يتبين أن مراعاة الخلاف والخروج منه مصطلحان متقاربان من حيث الانتماء والمجال العام، لكنهما مختلفان اختلافا جوهريا من وجوه عدة يمكن إجمالها في الآتي:

أ. الخروج من الخلاف فعل ابتدائي يختاره المجتهد من أول نظره في النازلة، فيختار حكما ما، وغالبا ما يكون حكما وسطا، اعتبارا للدليل المخالف، أما المراعاة فهي فعل نهائي لا تكون إلا بعد نزول الواقعة، وقد يكون المجتهد غافلا عن دليل المخالف في وقت النظر، ثم يستحضره بعدئذ.

ومما يوضح هذا الفرق أن ابن رشد خرج مذهب مالك في المسبوق ومقتضاه: القضاء في الأقوال والبناء في الأفعال على أنه قاله مراعاة للخلاف مع غيره من الفقهاء[31]، وأنكر هذا التخريج منه بناء على أنه يلزم منه الخروج عن ماهية أصل المراعاة الاصطلاحية؛ لكون المسبوق في هذه الصورة سيراعي الخلاف قبل الوقوع، وإنما حقيقته أن يكون بعده[32].

ب. مراعاة الخلاف إعمال للازم دليل الخصم بعد الوقوع من غير إنشاء حكم جديد، فكأنها انتقال وتحول لا غير، وأما الخروج من الخلاف فهو إنشاء حكم جديد هو وسط بين ما أفاده الدليل الراجح عند المجتهد، وما أفاده دليل الخصم كالحكم بالكراهة توسطا بين الدليل المفيد للإباحة، ومعارضه المفيد للتحريم.

ج. المقصد من كلا النوعين مختلف في الغالب، فالخروج من الخلاف مبتناه على الورع، واتقاء الشبهات، وأما المراعاة فغالبها يكون لرفع الحرج، والتخفيف عن المكلفين، وتوسيع ما ضاق عليهم من الأمور؛ رفقا بهم، وإصلاحا لأحوالهم.

إذا تحرر هذا واتضح علمنا أن الفريق القائل بالمنع من المراعاة ابتداء إنما يقصد على التعيين الخروج من الخلاف، ومن قال بجوازه ابتداء وانتهاء كان ممن يجوز الخروج من الخلاف ومراعاته على حد سواء، أو لعله ممن لا يرى فرقا كبيرا بينهما، وهو مسلك الكثيرين من أهل الأصول والفقه حتى إن بعضهم جمع بينهما في لفظ واحد فقال: “مراعاة الخروج من الخلاف[33]“.

ومما ينبغي تجليته في هذا الموطن أن المالكية لهم نوع اختصاص بمراعاة الخلاف على المعنى المبين قريبا، ولم يمل هذه الدعوى التعصب ولا الانتصار بالباطل للمذهب من غير بينة أو دليل، وإنما هي نسبة للأمور إلى أصحابها، بالاستناد إلى الإثباتات الشاهدة من أصول القوم وفروعهم.

 ولا يحتجن محتج علينا بأمثلة للخروج من الخلاف، سيأتي طرف منها، فيزعم على ضوئها أن الفقهاء المتبوعين بلا استثناء قائلون بمراعاة الخلاف يإطلاق، من غير أن يقيد ذلك بابتداء أو انتهاء، قد علمت البون الشاسع بين الضربين.

القائلون بمراعاة الاختلاف 

نص جماعة من كبار المالكية على أن مراعاة الخلاف من الأصول التشريعية التي بنى عليها الإمام مالك مذهبه، فقد نقل عن أصبغ بن الفرج (225ﻫ)، وهو من كبار شيوخ المذهب ومتقدميهم، قوله: “ومن الاستحسان مراعاة الخلاف، وهو أصل في المذهب[34]“، وقال ابن رشد: “من أصل مذهب مالك مراعاة الخلاف، وهو استحسان[35]“. وقد خرج كثيرا من آراء مالك وفتاويه ومسائله “على أصله في مراعاة الخلاف[36]“.

وأبو إسحاق الشاطبي جزم بأنه من جملة أصول المذهب المالكي، وأنه معمول به جدا في فروع فقهية كثيرة لا يفهم صنيع الإمام فيها، إلا بحملها على هذا الأصل[37].

وأكد ذلك ابن عرفة فقال إن أهل المذهب يستندون إلى مراعاة الخلاف في أحكامهم وأقضيتهم حتى إنهم جعلوها قاعدة من القواعد التي يعملونها في مختلف الأبواب الفقهية[38].

واعتبر القباب أخذ المالكية به من محاسن هذا المذهب[39]، وقال الونشريسي (914ﻫ)[40]: “هو من الأصول التي بنى عليها مالك مذهبه[41]“، واعتبره بعضهم الأصل السابع عشر من أصوله التشريعية المعتبرة[42].

وإذا كان مالك وأصحابه قد عرفوا بأصل مراعاة الخلاف حتى غدا لصيقا بهم، فإن التحقيق يوصل إلى أن بقية المذاهب الفقهية لم تنكر الأخذ بهذا الأصل بإطلاق، بل نجدهم كثيرا ما يطبقون القسم الأول منها؛ أعني الخروج من الخلاف، فقد صرح القاري (1014ﻫ) فقال: “يستحب في مذهبنا الخروج من الخلاف؛ فإنه احتياط في الدين[43]“. وكذلك فعل ابن عابدين (1252ﻫ) فأكد أن مذهب الأحناف: الخروج من الخلاف، بل هو مندوب إليه بحسب قوة دليل المخالف[44]

ونقل ابن نجيم استحباب مراعاة الخلاف في كثير من المسائل منها: مس الذكر، ومس المرأة، وأكل لحم جزور؛ فيعاد بها الوضوء استحبابا، مع أن المذهب عندهم عدم الإعادة، ومنها: استحباب قراءة الفاتحة مراعاة للخلاف المقتضي لبطلان الصلاة بدون قراءتها[45].

وكذلك نص جماعة من الشافعية على أخذ فقهائهم به، منهم: العز بن عبد السلام، والسيوطي، وابن السبكي… وقال الزركشي: “قد راعى الشافعي وأصحابه خلاف الخصم في مسائل كثيرة[46]“.

بل إنهم اعتبروا شهرة الأخذ به من قبل جمهور الأئمة، قد توحي بإجماعهم عليه، قال التاج السبكي: “…اشتهر في كلام كثير من الأئمة، ويكاد يحسبه الفقيه مجمعا عليه، من أن الخروج من الخلاف أولى وأفضل…[47].”

وقد قال أيضا، في غير ما موضع، أن الخروج من الخلاف مطلوب شرعا؛ لما فيه من الاحتياط، والاستبراء للدين[48].

ونقل ابن عبد السلام عن بعض أكابر الشافعية إطلاقهم “أن الخروج من الخلاف حيث وقع أفضل من التورط فيه[49]“، ثم تعقبهم في إطلاق  القول دون تقييد، وأما أصل القول فلم ينكره.

ولعل أهم ما يتميز به الشافعية من طريقة في التعامل مع هذا الأصل، هو محاولتهم وضع جملة من الشروط العلمية، والضوابط المنهجية التي تحول دون الانحراف في تطبيقه والعمل به.

فقد اشرطوا لإعمال مراعاة الخلاف، أو الخروج منه على الاصطلاح الآخر أمورا منها:

1. أن لا يؤدي الخروج منه إلى ترك مطلوب شرعي من ترك سنة ثابتة مثلا،  أو ارتكاب محذور باقتحام أمر مكروه أو نحو ذلك…[50] قال النووي: “العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة، أو وقوع في خلاف آخر[51].”

ومن المثال على هذا أن الشافعية رأوا أنه يسن غسل المني من الثوب حال كونه رطبا، والاقتصار على  فركه إذا كان يابسا، مع الحكم بأن غسله أفضل، لكن ذهب بعض منهم إلى أن الغسل مسنون مطلقا، سواء أكان رطبا أم يابسا بلا تفريق مراعاة للخلاف، وخروجا منه[52].

وقد اعترض أحد فقهاء الشافعية على أصحابه الذاهبين إلى هذا، مستدلا بالقاعدة أعلاه؛ ففي نظره يفضي تطبيق المراعاة في هذا الموضع إلى إسقاط سنة ثابتة عنه عليه السلام، وهي الاكتفاء بفركه دون غسله حال يبسه[53]، قال معلقا عليهم بقوله: “… يعارضه أن محل مراعاة الخلاف ما لم تثبت سنة صحيحة بخلافه، وقد ثبت فركه يابسا هنا، فلا يلتفت لخلافه[54].”

2. أن يكون مأخذ المخالف قويا[55]، قال السيوطي: “أن يقوى مدركه، أي دليله، بحيث لا يعد هفوة. ومن ثم كان الصوم في السفر أفضل لمن قوي عليه، ولم يبال بقول داود: إنه لا يصح[56].”

وقيد اعتبار قوة دليل لمخالف في المراعاة ليس خاصا بالشافعية، فالمالكية أيضا يجعلونه ضابطا لإجراء هذا الأصل، قال ميارة وهو يتحدث عن ضابط تطبيقه: “حيث يترجح عندهم  دليل الغير أعملوه، وحيث لا أهملوه[57].”

وقد تساءل الرصاع (894ﻫ)[58] في سياق شرحه لتعريف المراعاة: هل يراعي الفقيه كل خلاف اطلع عليه، أم لابد أن يشترط فيه نوع قوة؟ ثم بعد أن حكى ترددات أصوليي المالكية في الجواب عن هذا السؤال وما يتفرع عنه، استنتج أن الإمام مالكا إنما يراعي من الخلاف ما قوي دليله[59].

وهاهنا لابد من التنبيه على مسألة غاية في الأهمية لا يصح التغافل عنها، وإلا صار الحديث عن قوة الدليل المعارض وقوعا من التناقض لا يمكن رفعه، والمسألة هي أن القوة في مدرك الخصم إنما هي بالنظر إلى الأدنى لا الأعلى، ألا ترى أن المجتهد لو وجد دليل الخصم أقوى من دليله لكان الواجب في حقه الأخذ به وتركه دليله لضعفه، ولم يكفه مجرد إعمال لازمه، أو إنشاء حكم جديد، وكذا لو كان مساويا لكان مخيرا في إعمال دليله أو دليل خصمه، وفي كلا الحالين لا يسوغ اللجوء إلى تطبيق أصل مراعاة الخلاف.

3. أن لا توقع مراعاته في خلاف آخر؛ ومن ثم كان فصل الوتر أفضل من وصله عند أكثر الشافعية[60]، ولم يراعوا خلاف أبي حنيفة القائل بالوصل هروبا من خلاف أكبر، وهو أن من العلماء من لا يجيز الوصل[61].

والحاصل أن الجماهير من الفقهاء من مختلف المذاهب والمدارس يأخذون بأصل مراعاة الخلاف، أو على الأقل الخروج منه، وأن موضع الاختلاف فيما بينهم حوله هو مقدار ذلك الأخذ وحدوده؛ فمنهم من يعمل به ابتداء وانتهاء، ومنه من يأخذ بالأول دون الثاني، ومنهم يتوسع فيه دون كثير بحث في الشروط إلا قليلا، ومنهم من يضع الشروط والضوابط المتعددة قبل تطبيقه.

مشروعية الأخذ بأصل مراعاة الخلاف

أولا: حجية مراعاة الخلاف بالأدلة النقلية

1. قوله عليه الصلاة والسلام: “أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ”، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَالْمَهْر[62].”

 واضح أن النبي ليس عليه أن يراعي خلاف غيره؛ لنبوته وعصمته وتأييده بالوحي النصي من ربه، لكن في هذا الحديث تنبيها على صورة مراعاة الخلاف كما يطبقها الفقهاء، وتبيان ذلك أن صدر الحديث نص بطلان الزواج الفاقد لركن الولي، فكان لازم البطلان أن لا تثبت بمثل هذا الزواج حقوق لا مهر ولا غيره، غير أن نهاية الحديث أوضحت أن هذا الزواج بهذه الصفة لو وقع، فإن الزوجة تستحق المهر، ويعني هذا مراعاة حالة منهي عنها بعد الوقوع، قال الشاطبي: “وهذا تصحيح للمنهي عنه من وجه، ولذلك يقع فيه الميراث، ويثبت النسب للولد[63].”

2. قوله عليه السلام: “الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْت زَمْعَةَ[64].”

فالحديث قرر حكما شرعيا هو إلغاء حكم نكاح الزنا في الإلحاق، وعدم اعتباره في النسب، بل المعتبر الفراش، ثم أضاف حكما فيه نوع اعتبار له، وهو أمر سودة بالاحتجاب من عتبة، وذلك أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لما رأى الشبة بعتبة علم أَنه من مَائه، فأجراه في التَّحريم مجرى النسب، فأمرها بالاحتجاب منه[65].

وأمر النبي، صلى الله عليه وسلم، لها بالاحتجاب منه فيه شبه بإعمال المالكية للازم الدليل المعارض؛ إذ الاحتجاب لازم للحكم المقابل، وهو عدم أخوة الغلام لسودة بنت زمعة، ولهذا قال ابن دقيق العيد: “… لو كان الولد ابن زمعة في علم الله، عز وجل، لما أمر سودة بالاحتجاب منه، كما لم يأمرها بالاحتجاب من سائر إخوانها عبد وغيره[66].”

وحمل هذا الأمر النبوي على قاعدة إعمال الدليلين أقرب من التأويلات التي تكلفها الشراح لهذا الحديث، من أجل ذلك اختار ابن القيم هذا الحمل وأثنى عليه فقال: “وأما أمره سودة بالاحتجاب منه، فإما أن يكون على طريق الاحتياط والورع لمكان الشبهة التي أورثها الشبه البين بعتبة، وإما أن يكون مراعاة للشبهين، وإعمالا للدليلين، فإن الفراش دليل لحوق النسب، والشبه بغير صاحبه دليل نفيه، فأعمل أمر الفراش بالنسبة إلى المدعي لقوته، وأعمل الشبه بعتبة بالنسبة إلى ثبوت المحرمية بينه وبين سودة، وهذا من أحسن الأحكام وأبينها وأوضحها[67].”

3.  ثبت عن ابن مسعود خلافه مع عثمان في شأن إتمام الصلاة بمنى، وقد كان يراه خلاف سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والخليفتين بعده، وكان يقول: “صليت مع النبي، صلى الله عليه وسلم، ركعتين، ومع أبي بكر، رضي الله عنه، ركعتين، ومع عمر، رضي الله عنه، ركعتين، ثم تفرقت بكم الطرق، فيا ليت حظي من أربع ركعتان متقبلتان[68].”

ومع أنه قد كان يعتقد بمقتضى ما عنده من الدليل، ويرى ما يخالفه خطأ، ولهذا حين علم أن عثمان بن عفان سيصلي أربعا بمنى عبر عن تخطئته له بالاسترجاع، ثم لما تهيأ الخليفة للصلاة قام يصلي معه، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أَتُصَلِّي مَعَهُ وَقَدِ اسْتَرْجَعْتَ؟ قَالَ: “الْخِلَافُ شَرٌّ[69]“.

 فصلاة ابن مسعود التامة مع عثمان، نوع من مراعاة الخلاف؛ لأنه يتضمن تصحيحا لصلاة يرى أنها ركعتان فقط، إعمالا للازم دليل مخالفه.

4. من المعلوم أن نصوص الشرع من الكتاب والسنة متظاهرة على دعوة المكلفين إلى الاحتياط في أمورهم الشرعية، والاستبراء للدين باتقاء الشبهات، وترك ما حاك في الصدر، والابتعاد عن مواطن الريبة إلى ما لا ريبة فيه، ومعلوم أيضا أن النصوص كثيرة في بيان أن الشريعة جاءت من أجل رفع الآصار والأثقال عن الخلائق، ودفع المشقات عنهم، والتخفيف والتوسعة عليهم. ولا شك أن مراعاة الخلاف أو الخروج منه فيهما حضور معتبر لهذه المعاني، فإن مبناهما في أكثر الأحوال إما على رفع الحرج عن المكلفين، أو على الورع والاحتياط للدين.

 ثانيا: حجية مراعاة الخلاف بالأدلة العقلية

1. المراعاة والاحتمال

إن النتائج التي يتوصل إليها الفقيه في بحثه الفقهي نظرا وتنزيلا سواء أكانت حظرا، أم إيجابا، أم إباحة، أم كراهة، أم استحبابا… لا يمكن وصفها البتة بالقطعية، ولا بأنها الحق المتعين الذي لا يتطرق إليه الشك من بين يديه، ولا من خلفه؛ بمعنى أن الفقه لا ينتج اليقين بالنظر إلى أن الأدلة المعتمدة فيه ظنية ثبوتا أو دلالة أو هما معا، وليس ذلك بعيب ينقص من مقدار الأحكام الصادرة وفق هذا المنهج؛ لأن الشرع وجه المكلفين إلى العمل بمقتضى غالب الظنون، وقبل منه الاقتصار على ذلك، ولم يكلفهم البحث عن اليقينيات في كل الأمور؛ لعسرها المفضي إلى تكليف المكلف بما لا يطاق وهو منفي عن شريعة الإسلام.

فالفقيه يبذل وسعه في تتبع الدلائل، وتقليب الأمور على وجوهها، والترجيح بين متعارضها، وحين يصل لحكم معين، يعتقد أنه صواب لاقترانه بأدلة كثيرة داعمة لما ذهب إليه من الرأي، وتقوده إلى الاقتناع بصوابه، لكن هذا الاقتناع لا يدفع بالكلية إمكان الصواب في الرأي المخالف.

وإن ما نقل عن أكابر أهل الفقه من أقوال تؤكد احترام الاختلاف، وفسح الصدر له، والقبول به، وعدم التقليل من شأن صاحبه… لا يفهم إلا في ضوء فكرة “احتمالية النتيجة”. ولهذا كان قولهم واضحا في أن الرجحان والقوة ونقيضهما من الضعف والمرجوحية إنما هي أمور نسبية تختلف بحسب المجتهد الناظر في الدلائل، قال ابن عرفة: “… وثبوت الرجحان ونفيه بحسب النظر من المجتهد في النازلة[70].”

ومن هذا الباب تنبيه السرخسي على ملحظ دقيق في أحد مظاهر العمل الفقهي وهو الترجيح؛ إذ يؤكد على أن رجحان دليل على الآخر لا يمحو أصل الراجحية من الدليل المعارض، وإنما يثبت في الأول زيادة ومزية، قال: “كذلك الرجحان يكون بزيادة وصف على وجه لا تقوم به المماثلة، ولا ينعدم بظهوره أصل المعارضة[71]“، فغاية الأمر أن المستدل قد أقام الحجة بالترجيح على عدم المماثلة بين المتعارضين، وأما أصل المعارضة فلا يزال قائما، وذلك ما يورث النتيجة احتمالا ظاهرا.

وبحكم أن الشاطبي كان مهتما بتحرير مفهوم مراعاة الخلاف وضبطه، كما يلاحظ ذلك قارئ كتابيه: “الموافقات”، و”الاعتصام”، فقد ساعده ذلك على التبصر الثاقب لاستكشاف الأصول العقلية التي أدت لظهور مفهوم المراعاة عند من يقول بها من الفقهاء، فبحسب رأيه، صارت الجهتان المتعارضتان معتبرتين عندهم؛ “إذ كل واحدة منهما يحتمل أن تكون هي المقصودة للشارع[72]“.

ثم يربط المراعاة بنظرية الاحتمال في الفقه الإسلامي حين يعتبر أن المجتهد مكلف في خطاب الشارع باعتماد ما أداه إليه نظره واجتهاده، والتمسك بالمسألة التي انقدح في ذهنه أنها راجحة، لكنها مع ترجحها في مبلغ علمه، “لا تقطع إمكان كون الجهة الأخرى هي المقصودة للشارع، إلا أن هذا الإمكان مطرح في التكليف، إلا عند تساوي الجهتين، وغير مطرح في النظر، ومن هنا نشأت قاعدة مراعاة الخلاف عند طائفة من الشيوخ[73].”

وغير خفي أن اتضاح الفكرة عنده على هذا النحو اكتسبه من جواب أبي العباس على سؤاله، فإن له كلاما شبيها بهذا في جوابه[74].

2. وجه العلاقة بين المراعاة والاحتمال في الفقه

مراعاة الخلاف أصل وثيق الصلة باحتمالية النتائج الفقهية، وذلك لائح من أول نظر في مفهومه، واطلاع على تطبيقه… فالفقيه وإن كان قد توصل إلى ما يظن أنه صواب حسب ما وقع لديه من الشواهد، وتبين له وجه الراجحية في مختاره من القول والمذهب، بناء على ما اطلع عليه من الأدلة، إلا أنه لا يعتقد أن ما توصل إليه هو الحق الأوحد الذي لا يتطرق إليه الباطل، ولا أنه هو مقصود الشارع وغايته على جهة الحصر والتعيين…

ولذلك فإنه لا يقطع الرجاء من موافقة الخصم للصواب والتسديد؛ فلذلك يُعمل لازم قوله احتياطا في الدين، وحذرا من أن يكون الصواب مع ثاني الجهتين.

قال ابن عبد السلام: “وإن تقاربت الأدلة في سائر الخلاف بحيث لا يبعد قول المخالف كل البعد؛ فهذا مما يستحب الخروج من الخلاف فيه، حذرا من كون الصواب مع الخصم[75].”

والتفت صاحب “البحر المحيط” إلى الاحتمال المزدوج في مراعاة خلاف الفقهاء والمتمثل في عدم القطع بخطأ الخصم، والاعتماد في الترجيح على غالب الظن دون اليقين، فقال وهو يتحدث عن هذا الأصل: “… وهو إنما يتمشى على القول بأن مدعي الإصابة لا يقطع بخطأ مخالفه، وذلك لأن المجتهد لما كان يجوز خلاف ما غلب على ظنه، ونظر في متمسك خصمه فرأى له موقعا، راعاه على وجه لا يخل بما غلب على ظنه، وأكثره من باب الاحتياط والورع، وهذا من دقيق النظر، والأخذ بالحزم[76].”

ولقد كان هذا المعنى المتضمن في المراعاة المقتضي للاحتمال مدخلا عظيما للإيراد عليه من قبل من لا يرون العمل به، حتى دعاهم ذلك إلى استشناع “أن يقول المفتي: هذا لا يجوز ابتداء، وبعد الوقوع يقول بجوازه؛ لأنه يصير الممنوع إذا فعل جائزا[77].”

والرد على هذا الإيراد العقلي ميسور بأن يقال: إن المجتهد وإن كان قد قال بالحظر أو الإباحة، فإنه لا يقطع به؛ لأنه بناه على أدلة مظنونة غايتها إنتاج الظن الغالب الذي لا يسد باب الاحتمال، والحال أن الموضع محل اختلاف في الحكم قائم على الاختلاف في الأدلة، قال القباب: “… وإذا خرجت المسألة المختلف فيها إلى أصل مختلف فيه، فقد خرجت عن حيز الإشكال، ولم يبق إلا الترجيح لبعض تلك المسائل، ويرجح كل أحد ما ظهر له بحسب ما وفق له[78].”

خاتمة

إن من معضلات الفكر الإسلامي المعاصر، هذا البروز الظاهر لخطاب التطرف والانغلاق النابع أساسا من اعتقاد البعض امتلاكه الحصري للحقيقة، وأن غيره ومن يخالفه ليس على شيء من الحق قل أو كثر. وهذا ما يؤدي بهم إلى اختيار مسالك في التدين، واتجاهات في الفقه، وتوجهات في الحياة تشذ عن المسارات العامة لجمهور الأمة، وتفضي بهم في الختام إلى معاداة المجتمع شعوريا، تمهيدا لإعلان الحرب المادية عليه أفرادا ومؤسسات…

ولعل من أوكد الواجبات المتعينة على أهل الرأي والعلم في الأمة، وبخاصة أهل الفقه منهم، محاربة هذا النمط من التفكير إلى حين القضاء عليه، أو تضييق دائرة مفاسده على الأقل، وذلك لا يكون إلا عبر التركيز على معالجة أصول الداء، وإصلاح الخلل من الجذور.

وأعتقد أن من الوسائل الناجعة لاقتلاع نبت التطرف الخبيث من المجتمع، نشر ثقافة التسامح مع الآخر المخالف، والتأصيل العلمي لفقه الاختلاف، وإبراز مظاهر التعددية في تراث المسلمين سلفا وخلفا، وفي طليعته الفقه الإسلامي بمختلف تجلياته ومنها القواعد الأصولية والتشريعية من قبيل “مراعاة الخلاف” التي عمل بها فقهاؤنا الأسلاف من المالكية وغيرهم، وطبقوها في نظرهم الفقهي الاجتهادي، دون أن يتطرق إلى أفهامهم أن من خالفهم في الرأي والاجتهاد واقع في الضلال المبين الذي لا يخالطه هدى أو صواب، وإنما كان شعارهم القول المأثور: “مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب مخالفنا خطأ يحتمل الصواب[79].”

إن استيعاب مفهوم رعي الخلاف بما يحيل عليه من التفات لمذاهب الغير، أحد العوامل التي من المرجح أن تسهم في كبح جماح التعصب للمذاهب والآراء والأشخاص، ومن شأن تفعيله في العمل الفقهي المعاصر أن يجسر هوة الخلاف بين الاتجاهات الفقهية المتباينة، وذلك لأن المجتهد حين يراعي دليل غيره، بل خصمه، فهو إنما يعلن بلسان الحال لا المقال أن الحق ليس حكراً على إمام وحده، ولا الصواب مقصورا على مذهب بعينه، وأنه متى ظهر الصواب في جهة وجب الانتقال إليه من غير جمود على الرأي أو تعصب للقول الأول.

 الهوامش


[1]. اضطرب المؤرخون في تعيين اسم الخليفة الذي وقعت له هذه الواقعة مع الإمام، فمرة يقال إنه المنصور، وهو الأشهر، ومرة يروى أنه المهدي… انظر: تاريخ الطبري (11/659)، الطبقات الكبرى ط العلمية (5/468)، الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء (ص40 و41)، سير أعلام النبلاء ط الحديث (7/168).

[2]. ترتيب المدارك وتقريب المسالك (2/72).

[3]. تاريخ الرسل والملوك، المعروف بتاريخ الطبري (11/660)، وانظر: ترتيب المدارك وتقريب المسالك (2/72).

[4]. ترتيب المدارك وتقريب المسالك (2/72).

[5].  المرجع نفسه.

[6]. المرجع نفسه، وانظر: الطبقات الكبرى ط العلمية (5/468)، والانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء (ص41)،

[8]. انظر: تهذيب اللغة (3/ 104)؛ لسان العرب (14/327).

[9]. انظر: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (6/2358)؛ مقاييس اللغة (2/408).

[10]. انظر: مقاييس اللغة (2/408).

[11]. انظر: مقاييس اللغة (2/210).

[12]. مقاييس اللغة (2/213).

[13]. القباب، أو ابن القباب (724- 779ﻫ).

    أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن الجذامي الفاسي، أبو العباس الشهير بالقباب: فقيه مالكي، قاض. مولده ووفاته بفاس. ولي الفتوى، والقضاء بجبل الفتح ثم اعتزل وعكف على التدريس والفتيا. وتوفي سنة: 779ﻫ.

من مؤلفاته: “شرح قواعد عياض” و”اختصار أحكام النظر لابن القطان”، و”مجموعة فتاوى” أثبت بعضها الونشريسي في المعيار. وهو أول من نقل عنه وابتدأ به…

   [الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، (1/279)، الوفيات،  (1/372)، الأعلام للزركلي (1/197)].

[14]. انظر نص المكاتبة في الاعتصام – الشاطبي، (1/390).

[15]. المعيار المعرب – الونشريسي، (6/388).

[16]. المرجع نفسه، (6/378).

[17]. المرجع نفسه، (6/378).

[18]. ابن عرفة (716 – 803ﻫ):

    هو محمد بن عرفة الورغمي. إمام تونس وعالمها وخطيبها ومفتيها. قدم للخطابة سنة 772ﻫ والفتوى 773ﻫ. كان من فقهاء المالكية، تصدى للدرس بجامع تونس وانتفع به خلق كثير.

من تصانيفه: “المبسوط” في الفقه سبعة مجلدات؛ و”الحدود” في التعريفات الفقهية.

  [الديباج المذهب ص337؛ ونيل الابتهاج ص 274؛ والأعلام للزركلي 7/272].

[19]. البهجة في شرح التحفة – التسولي، (1/21).

[20]. انظر: شرح حدود ابن عرفة (ص178).

[21]. فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك (1/82).

[22]. شرح حدود ابن عرفة (ص178).

[23]. التسولي ( ؟ – 1258ﻫ): 

      هو علي بن عبد السلام التسولي، أبو الحسن القاضي المالكي المدعو بمديدش، الفقيه النوازلي. من أهل فاس بالمغرب. أخذ عن الشيخ محمد بن إبراهيم وحمدون بن الحاج وغيرهما. من تصانيفه: “البهجة في شرح التحفة”، و”شرح الشامل”، و”جمع فتاوى”، وحاشية على شرح الشيخ التاودي”. [شجرة النور الزكية 397، ومعجم المؤلفين 7/122، وهدية العارفين 1/775].

[24]. انظر: البهجة في شرح التحفة – التسولي، (1/21).

[25]. المرجع نفسه، (1/21 و22).

[26]. جامع الأمهات (ص31). وانظر: شرح حدود ابن عرفة (ص182).

[27]. انظر: شرح حدود ابن عرفة (ص182).

[28]. المنتقى شرح الموطأ (1/209).

[29]. شرح مختصر خليل للخرشي (1/289).

[30]. وللتوسع في الاطلاع على أمثلة الخروج من الخلاف عند المالكية يرجى الرجوع إلى المصادر الآتية: مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (1/ 205)؛ الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/178)؛ حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني (1/361)؛ حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/337).

[31]. انظر: البيان والتحصيل (2/48).

[32]. انظر: شرح حدود ابن عرفة (ص178).

[33]. الميزان ـ عبد الوهاب الشعراني (1/36)، ط البابي الحلبي، مصر، ط1.

[34]. البيان والتحصيل (4/157).

[35]. المرجع نفسه، (3/419).

[36]. المرجع نفسه، (4/369)، وانظر: البيان والتحصيل، م، س، (4/288)، و(4/369).

[37]. انظر: الاعتصام – الشاطبي، (1/390).

[38]. انظر: شرح حدود ابن عرفة (ص177).

[39]. المعيار المعرب، م، س، (6/388). ثم تمثل عقب هذا بقول الشاعر:

             وكم من عائب قولاً صحيحاً  ***  وآفته من الفهم السقيـم

[40]. الونشريسي (834-914ﻫ). 

هو أحمد بن يحيى بن محمد، أبو العباس، الونشريسي التلمساني الأصل والمنشأ، فقيه مالكي. أخذ عن علماء تلمسان، ونقمت عليه حكومتها أمراً فانتهبت داره وفر إلى فاس سنة 874ﻫ فتوطنها إلى أن مات فيها.

من تصانيفه: “إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك”، و”المعيار المعرب عن فتاوى أفريقية والمغرب” اثنا عشر جزءاً، و”القواعد” في فقه المالكية؛  و”الفائق في الأحكام والوثائق”؛  و”الفروق”.

  [شجرة النور الزكية 274، ونيل الابتهاج على الديباج 87، ومعجم المؤلفين 2/205، والأعلام 1/255].

[41]. المعيار المعرب، م، س، (6/388).

[42]. انظر: الفواكه الدواني، (1/161). ونص هنالك على أن قائل هذا هو الشيخ الأجهوري في حاشيته على خليل.

[43]. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/411).

[44]. انظر: حاشية رد المحتار – ابن عابدين، (1/147)، ونص على ذلك في مواضع أخرى:قال: “صرحوا باستحباب مراعاة الخلاف” (1/505). وقال: “مراعاة الخلاف مستحبة” (2/603).

[45]. غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر (2/44).

[46]. البحر المحيط في أصول الفقه – الزركشي (4/549).

[47]. الأشباه والنظائر – تاج الدين السبكى، (1/128).

[48]. المرجع نفسه، (1/128).  وانظر: (1/133).

[49]. قواعد الأحكام في مصالح الأنام – ابن عبد السلام، (1/266).

[50]. انظر: الأشباه والنظائر، م، س، (1/128).

[51]. شرح النووي على مسلم (2/23).

[52]. انظر: تحفة المحتاج في شرح المنهاج وحواشي الشرواني والعبادي (1/298).

[53]. المراد بذلك ما أخرجه الأئمة عَنْ عَائِشَةَ فِي الْمَنِيِّ أنها قَالَتْ: “كُنْتُ أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، صحيح مسلم، رقم: 106، (1/238)؛ سنن أبي داود، باب بَابُ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ، رقم: 371، (1/101)؛ سنن الترمذي، باب في المني يصيب الثوب، رقم: 106 (1/199).

[54]. تحفة المحتاج في شرح المنهاج وحواشي الشرواني والعبادي (1/ 298).

[55]. انظر: المنثور – الزركشي، (2/129).

[56]. الأشباه والنظائر، م، س، ص137.

[57]. شرح ميارة على التحفة – (1/13).

[58]. الرصاع (؟ – 894ﻫ):  محمد بن قاسم، أبو عبد الله الأنصاري التلمساني ثم التونسي المغربي المالكي. له: “شرح الأسماء النبوية”؛ “شرح حدود ابن عرفة”؛ “فهرست الرصاع”؛ “التسهيل والتقريب والتصحيح لرواية الجامع الصحيح”. [الضوء اللامع 8/287–288؛ شجر النور الزكية 1/259–260؛ الأعلام للزركلي (7/5)].

[59].  انظر: شرح حدود ابن عرفة (ص183).

[60]. قلت أكثرهم لأنه قد نقل عن بعضهم قول: الوصل أفضل خروجا من خلاف أبي حنيفة؛ فإنه لا يصحح الفصل. نهاية المحتاج – الرملي، (2/113).

[61]. انظر: الأشباه والنظائر – السيوطي، ص137. وممن قال بالكراهة: القفال، والقاضي حسين من الشافعية، انظر: نهاية المحتاج – الرملي، (2/113). ومنع بعض الحنابلة، وهو القاضي أبو يعلى، صورة وصل الوتر على مذهب الحنفية، قال: “إذا صلى الثلاث بسلام واحد ولم يكن جلس عقيب الثانية: جاز وإن كان جلس، فوجهان: أصحهما لا يكون وترا”.  الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف – المرداوي، (2/121).

[62]. سنن الترمذي، رقم: 1102، (3/400)؛ سنن أبي داود، بَابٌ فِي الْوَلِيِّ، رقم: 2083، (2/229)؛ سنن ابن ماجه، بَابُ لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ، رقم: 1879، (1/605).

[63]. الموافقات، م، س، (5/191).

[64]. صحيح البخاري (3/81)؛ صحيح مسلم (2/1080).

[65]. كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/291). وانظر: فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك (2/61).

[66].  شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد (ص45).

[67]. زاد المعاد في هدي خير العباد (5/371).

[68]. صحيح البخاري (2/161).

[69]. سنن أبي داود (2/199)؛ الآثار لأبي يوسف (ص30)؛ مصنف عبد الرزاق الصنعاني (2/516)؛ مصنف ابن أبي شيبة (3/257).

[70]. شرح حدود ابن عرفة (ص180).

[71]. أصول السرخسي – (2/249).

[72].  الموافقات، م، س، (2/52).

[73]. المرجع نفسه.

[74]. انظر: المعيار المعرب، م، س، (6/388).

[75]. قواعد الأحكام في مصالح الأنام – ابن عبد السلام، (1/267).  وانظر: المنثور، م، س، (2/129).

[76]. البحر المحيط في أصول الفقه، م، س، (4/549).

[77]. الاعتصام – الشاطبي، (1/390).

[78].  المرجع نفسه.

[79]. نسبت هذه المقولة إلى النسفي الحنفي في كتابه المصفى، وتمامها: “يجب علينا إذا سئلنا عن مذهبنا ومذهب مخالفنا في الفروع، أن نجيب بأن مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب مخالفنا خطأ يحتمل الصواب”. الفتاوى الفقهية الكبرى – الهيتمي (4/313). وانظرها في المصادر الآتية:  الدر المختار – الحصفكي، (1/51). وحاشية رد المحتار – ابن عابدين، (1/51). والقول السديد – الموري،  ص53.  وإرشاد النقاد –  الصنعاني، ص17.

Science

د. أحمد غاوش

باحث في أصول الفقه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق