مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةنصوص مترجمة

المؤسسات الطبية، التعليم والإختصاص

     نال تقدم الطب الصيدلي مكانة مهمة في الإسلام خصوصا مع توطيد الخلافة العباسية، بعد منتصف القرن الثاني هـ(أواخر القرن الثامن ميلادي). الذي يمثل الذروة الأولى للعصر الذهبي العربي ويضع كل المبادئ المشتركة للعلوم الصحية: أخلاقيات العلوم الطبية، والأنظمة التربوية للعلوم الصحية، المؤسسات المستحدثة للعلوم الصحية، وتنظيم المستشفيات، بالإضافة إلى العلوم الصحية لكل من طب الأطفال، وطب العيون، والتشريح، والجراحة، والتغذية، والمداواة، وعلم العلل المرضية وعلم الأمراض.

      جاء تقدم التربية الطبية على يد الطبيب “جورجيس بن بختيشوع”، الذي كان على رأس مدرسة الطب، كما خدم أحفاده مجال الطب بضمير حي لمدة أربع قرون تقريبا. وتم ذلك بالأساس تحت رعاية الخليفة المنصور (158/775هـ) وخلفائه التابعين إلى غاية القرن الخامس/ الحادي عشر.

     عمل “أبو زكرياء بن يوحنا بن ماسويه”  (857-77/243-161) على تطوير مجال في غاية الأهمية، تمحور حول إعادة إحياء التربية الطبية. وقد كان يشجع الأبحاث في بيت الحكمة في بغداد؛ إذ كان مركزا فريدا من نوعه أسهم في تقدم المعرفة الطبية والفلسفية.

     لقد شجع “ابن ماسويه” ترجمات النصوص من اليونانية والسريانية إلى العربية، لغة القرآن الكريم. ونال المترجمون (الذين أتقنوا تلك اللغات) مكافآت رائعة. فأصبحت النصوص الأساسية للعصور القديمة متوفرة باللغة العربية في جميع مراكز التعليم في العالم الإسلامي، وذلك بفضل الترجمة الدقيقة.

    قام “ابن ماسويه” بتسيير أول بيمارستان في بغداد الذي قد تأسس في بداية القرن الثالث هـ/التاسع م من قبل الخليفة “هارون الرشيد” (786هـ-809 م /170 هـ -193م). بعد ذلك تأسست العديد من اليبمارستانات في جميع المدن الإسلامية.

     شغل”ابن ماسويه” منصب رئيس أطباء البلاط  منذ عهد “المأمون” (218 هـ /833م) إلى عهد المتوكل (247 هـ /861م)؛ إذ كان موثوقاً به من طرف الخلفاء العباسيين وبشكل خاص لدى “الواثق” (232هـ/847م)، الذي كان يكن له احتراما جليلا. والجدير بالذكر أن “ابن ماسويه” كان مؤسسا ورئيسا لمدرسة الطب الأولى في الإسلام، وقد كان يحث الاطباء و الطلبة  دائما على حد سواء على  دراسة التشريح وعلم وظائف الأعضاء من أجل التفوق في مجال الصنعة.

   كما اشتغل “أبو الحسن علي بن سهل الطبري”،  زميل ابن ماسويه كطبيب للبلاط هو أيضا ومن أهم إسهاماته موسوعة “فردوس الحكمة” التي أتمها في(235 هـ /850م)، وأهداها “للمتوكل”، وتضم مواضيع مختلفة كالصحة العامة، الطب السريري، علم الصحة، علم التغدية، العلاج، مبحث أسباب المرض، وتقدم علاوة على ذلك أقوالا في الأخلاق مع نظرة إلى كيفية الرفع من مستوى مهنة الطب.

النقل إلى العربية

     نشطت خلال القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي حركة نقل المعرفة الطبية لنصوص هندية وفارسية وخاصة لنصوص يونانية وسريانية. ومن بين المترجمين الأكثر نشاطا في تلك الفترة نجد “حنين بن اسحق العباديُّ” وكان يساعده فريق من المترجمين المهرة، عمل حنين وزملاءه على ترجمة الإرث العظيم لفنون الشفاء من اليونانية الأصلية والسريانية إلى العربية. وقد أصبحت اللغة العربية لغة مشتركة نتيجة لأنشطتهم.

    أنتجت مدرسة حنين بن اسحق نصوصاً عربية وسريانية جيدة في الطب والصيدلة.

     لم يكن “حنين بن اسحق” مترجماً لنصوص فقط، بل كان ايضا مؤلف كتب في الطب وكأمثلة على أعماله المهمة: كتاب “في معرفة أوجاع المعدة وعلاجها”، و”المسائل في الطب للمتعلمين” و”العشر مقالات في العين”  وكتاب “في الأغذية”.

     لقد أسهمت مجموعة من الأطباء المرموقين بقيادة محترفة في المساعدة على ترويج المعايير النظرية والتطبيقية للطب تحت راية الإسلام. من بين أهم الأطباء في القرن الثالث هـ/التاسع م والرابع هـ/العاشر م هو “عيسى بن الحكم الدمشقي” هو الذي عمل على جمع كناش معنون ب “الياقوتية” أو “الهارونية” مهدى للخليفة “هارون الرشيد” و”أحمد الطبري” صاحب كتاب “المعالجات البقراطية” التي أتمه في العهد البويهي حوالي 970م.

1.5 ابن سينا يحاضر تلاميذه، رسم توضيحي لمخطوطة فارسية من القرن 17 عشر
رولاند وصابرين ميشوند

    لقد كان أول كتاب في الإسلام حول الأخلاقيات التطبيقية “آداب الطبيب” مؤلفه هو “اسحق بن علي الرهوي” النصف الثاني من القرن 3 هـ/ 9 م من “أورفة” (إليسة أو الرها). يحتوي كتابه على عشرين فصلا، ويتضمن مواضع كالتالي: أهداف الطب، التشخيص في الأمراض الحادة، الرعاية الاجتماعية للمرضى.

    أكد الرهوي على أهمية التعاون والعلاقات الودية بين مزاولي مهنة الطب، ومن الواجب أن يتبادلوا الاحترام والتقدير لبعضهم البعض ولزملائهم أيضا في العمل وللممرضات كذلك، وللمساعدين الصحيين والصيدلانيين، وقد نصح الرهوي الأطباء أن يتموا دراستهم طوال مزاولتهم لمهنتهم، وهكذا يتم التوحيد بين المسائل النظرية والتطبيقية. فالممارسون لمهنة الطب ينبغي عليهم المحافظة على السجلات الدقيقة لجميع البيانات الطبية التي قاموا بجمعها، وينبغي عليهم أيضا أن يدخروا مثل هاته المعلومات ويدونونها كلها في مذكرة ليتم استعمالها باستمرار.

    أكد الرهوي على مبدأيين أخلاقيين: الأول، الطبيب ينبغي عليه أن يصغي بشكل جيد لأي شيء يقوله المريض كيف ما كان: شابا أو عجوزا رجل أو امرأة، فقيرا أو غنيا. وثانيا، من واجب الطبيب أن يدرب مساعديه من الأطباء والتلاميذ على تطبيق الأمور النظرية؛ إذ بهذه الطريقة يرث التلاميذ التقاليد الطبية ويضعونها مع مرور الزمن في يد خلفائهم.

الصحة العامة

    أخذ أبو سعد سنان بن ثابث بن قرة خطوات متقدمة نحو فرض وتعزيز الصحة العامة، وقد اقترح نظاما جديدا للترخيص لممارسي مهنة الطب، إذ يجب على كل ممارس أن يقوم باجتياز فحص من أجل أن يكون مرخصا له بمزاولة مهنة الطب. ووفقا لابن أبي أصيبعة (668هـ/1270م) اجتاز الخليفة المقتدر في وقت مبكر فحصا من هذا النوع (319 هـ/931م).

وفي خلافة المقتدر، كان يوجد مستشفى واحد آنذاك في بغداد أُسس حوالي(187 هـ /803م). وفي أوائل القرن(306هـ/ 918م) عمل المقتدر على بناء مستشفيات في العاصمة، الأول في سوق يحيى في شواطئ “تيغريس”، كان ممولا من قبل السيدة أم المقتدر، إذ تقدم له هبات عبارة عن أوقاف شهرية قدرها 600 دينار لاحتياجات البيمارستانات. والمستشفى الثاني تحت اسم المقتدري أسس أيضا في بغداد، من قبل الخليفة الذي كان يقدم هبات شهرية ومبالغ نقدية.

    لقد كان سنان مكلفا من طرف الخليفة نفسه لإرسال فريق من الأطباء والمساعدين الطبيين كذلك لمساعدة السجناء المرضى والترويح عنهم من معاناة المرض الجسدي والنفسي كذلك. وتبدو الظروف في السجون المزدحمة مثيرة للقلق، فبعد زيارة الخليفة لسجن واحد أصدر مرسوما يأمر فيه بضرورة تقديم رعاية طبية خاصة للسجناء المرضى. وأمر سنان الأطباء بتزويد المرضى بالأغذية والأدوية، وأن يقدموا لهم مشورة طبية في المستوى المطلوب.

    ومن المثير للاهتمام أن الخليفة بنفسه كان يعاني من نوبات الغضب التي لا يمكن السيطرة عليها، وقد كلفه هذا الشيء غاليا إذ كان يؤذي كلا من أصدقائه وأتباعه. ومن أجل شفاء هذا النوع من المزاج السيء، يذكر أن سنان قال: “كن لطيفا، واعتبر من السهل عند وقت الغضب أنه يجب على الإنسان أن يعد إلى العشرة، أو النوم، فالكراهية والثأر يجب أن يحل محلهما اللطف والتسامح والتفاهم، هذه الفضائل لا تقدر بثمن وشبيهة بالصلاح والتقوى الحقيقية”.

   فالمبادئ المذكورة أعلاه شكلت الركائز الأساسية لمهمات أو بعثات الرحمة التي كانت متوجة بنتائج مذهلة، جلبت تحسينات فعلية في مجال الصحة العامة لجميع المواطنين. ومما كان يوصي به الأطباء في العالم العربي الإسلامي ويجعلونه هدفهم: بعد النظر. وقد اقترنت هذه الصفات مع مصلحة الترويج للطب الوقائي وحفظ الصحة.

شهادة موقعة صادرة عن ابن النفيس
يشهد فيها على أن تلميذه المسيحي شمس الدولة أبو الفضل بن أبي الحسن قد قرأ وأتقن تعليق ابن النفيس حول مقالة أبقراط
هذه الشهادة مكتوبة بخط يد ابن النفيس ومؤرخة في في 29 جمادى الأولى 668 هـ/25 يناير 1270
إهداء المكتبة الوطنية للطب، واشنطن (Ms.A69 Fol. 67b)

المستشفيات في الإسلام

    من بين أهم المؤسسات التي كانت تهتم بالصحة العامة هي المستشفيات أو “البيمارستانات” من الفارسية “بيمار” تعني المرض و”ايستان” تعني البيت.

كان البيمارستان عبارة عن بناية أو بنايات تضم الأكاديمية والموظفين الإداريين، وكان يسمح للمرضى بالدخول إليها على حد سواء من مختلف شرائح المجتمع. كما كان البيمارستان مركزا للعناية الصحية و للمعالجة من المرض الجسدي والعقلي معا.

    قد كانت المستشفيات تعمل على المبادئ الإنسانية والخيرية، فمن بين القواعد الأساسية لمثل هذه المؤسسات أو المراكز أن ترحب بالمرضى من الرجال والنساء. فالهدف الأساسي لتشغيل تلك المستشفيات هو تحقيق التطور في صحة المجتمع، بل وأكثر من ذلك كانت البيمارستانات تعمل كمراكز للبحث العلمي والتحقيقات في أعراض الأمراض والأوبئة وعللها، كما كانت مراكز أيضا للتعليم والتدريب الطبي للأفراد، من الأطباء إلى الممرضين في ميادين التخصص التالية: الجراحة، تجبير العظام، طب العيون، الطب الباطني والسريري. داخل كل مستشفى كانت توجد مكتبة طبية، وغرفة خاصة لمناقشة الحالات الطبية، وصيدلية تحتل جزء من بناية المستشفى(البيمارستان) والصيدلاني الذي كان مسؤولا عن تزويد المواد الطبية غير المغشوشة إلى المستشفى، ويقوم بتحضير الخضار والأدوية المعدنية الموصوفة من قبل أطباء المستشفى.

    بعد ذلك وبوقت قصير نشأت المستشفيات في المدن في العالم الإسلامي من “غزنة” و”خوارزم” إلى “الري” و”مرو” ومن “شراز” و”بغداد” إلى “دمشق” و”حلب”؛ ومن “القاهرة” و”القيروان” إلى “مراكش” و”غرناطة”، وتم تطبيق المبادئ الأساسية في جميع المستشفيات إذ كان هناك فقط اختلاف في الإجراءات والتصاميم والأثاث والمعدات الطبية.

    ومن المناسب تقديم هذا القسم إلى نتيجة أو خلاصة من خلال مراجعة آراء الرازي حول المستشفيات، لقد كان يقدر دور التعليم في المستشفيات، فهو بنفسه درس الطب في مستشفى بغداد، وفي حياته المهنية كان هو أول من أصبح مديرا لمستشفى “الري” مكان ازدياده، وعين له فيما بعد منصب طبي مرموق، ألا وهو مدير مستشفى بغداد.

     ففي كتابه “في مهنة الطبيب” نصح الأطباء من أن يزاولوا مهنتهم في المدن المكتظة التي سيمارس فيها الكثير من زملائهم مهنتهم.

     في بداية مسيرته المهنية في ميدان الطب، أي في حداثة سنه، نسخ نصوصا من كتاب في الوصفات كان تحت تصرف أطباء مستشفى بغداد عنوانه ” تجارب المارستان”، والوصفات بنفسها محفوظة في مكتبة بودليان رقم الخطوط 537.

       
3.5 تصميم مستشفى قلوون، القاهرة، شيد سنة 1284 هـ من طرف المالك المنصور قلوون. المستشفيات التي نعرفها الآن قد طورت في العالم الإسلامي حوالي القرن 2هـ/8م.
المكتبة الوطنية لفرنسا، باريس

هذا النص ترجمة لمقال سامي خلف حمارنة   «Medical Institutions, Education And Specialization»من كتاب:

« The Different Aspects of Islamic Culture volume four Science and Technology in Islam » Editor Prof. A.Y al-Hassan Co Editors : Prof.Maqbul Ahmed Prof.A.Z.Iskandar Part II Technology And Applied Sciences.

ذة. كنزة فتحي

حاصلة على الإجازة في الفلسفة

باحثة سابقة بمركز ابن البنا المراكشي

مهتمة بدراسة تاريخ النساء العالمات في الحضارة العربية الإسلامية

ترجمت عدة مقالات من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق