مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةمفاهيم

اللغة … شطرنج العارفين

إن الممارس للعبة الشطرنج وهو يحرك قِطعها داخل رقعة اللّعِب لا بد أن يلتزم بحدود مربعاتها وفق ما هو متعارف عليه عند أهلها وأن لا يحركها وفق ما اتفق له، وهذا النظام المنطقي الصارم هو نفسه النظام الذي يتمثله المتكلم عند استعماله لمفردات اللغة حينما يريد التعبير عن بعض ما يجول في باله من المعاني.

فممارستنا للشطرنج لا تتم بمجرد وجود الرقعة فقط، وإنما لا بد من وجود القطع المختلفة الشكل والوظيفة داخل هذه اللعبة، وكذلك فهمنا للغة لا يتم فقط بمعرفة نحوها وصرفها بل لا بد من معرفة مفردات هذه اللغة داخل المعاجم مع إتقان كيفية تحريكها خارج إطارات هذه المعاجم لتتناسب مع سياقاتنا الكلامية المختلفة.

فكما أن اللعبة هي تطبيق لقواعد الشطرنج كذلك الكلام هو تطبيق لقواعد اللغة،(( فالمعجم على رغم كونه قائمة من الكلمات التي لا تنتظم في نظام معين إنما يعتبر جزءا من اللغة من حيث إنه يمد هذه الأخيرة بمادة عملها وهي الكلمات المختزنة في ذاكرة المجتمع ))[1].

والمتأمل في ذاكرة المجتمع ـ أي المعاجم و القواميس ـ يجدها تتوزع حسب الأصناف العلمية والمعرفية؛ فالفقهاء لهم لغتهم الخاصة وكذلك الأدباء والفلاسفة والرياضيون … وغيرهم، ولنأخذ مثالا على ذلك كلمة ( شَهِدَ ) وهي أصل يدل على الحضور والعلم والإعلام[2]؛ لنبرز التطور الذي مرت به  عبر حركتها داخل رقعة السياقات الدلالية والمعرفية المختلفة، ولنبدأ بكتاب الله تعالى، فقد جاء في قصة يوسف قوله جل وعلا: (( وشهد شاهد من أهلها )) آية 26 يوسف، قال بعضهم: (وحكم حاكم من أهلها) والحكمة في ذلك أنه جعل القميص قاضيا بينهما[3]، وهنا يظهر المعنى القضائي أو العدلي للكلمة،أما معناها الأدبي فقد ذكره العلامة الألوسي في إتحاف الأمجاد فيما يصح به الاستشهاد عند قوله: ( الشاهد هو الجزئي الذي يُذكر لإثبات القاعدة، كآية من التنزيل أو قول من أقوال العرب الموثوق بعربيتهم)[4]، وبين الشاهد والمِثال عموم وخصوص فليس كل مثال شاهد والعكس صحيح.

أما أهل الترقي والعرفان فالشاهد عندهم هو:( بقاء صورة المُشَاهَدِ في نفس المُشَاهِدِ)[5] فأنت حينما تشاهد صورة من الصور ثم تغيب عنك لا يبقى في ذهنك إلا خيالها، وذلك الخيال عينه هو الشاهد الوحيد على أنك قد شاهدتها في السابق.

وبلغة الأصوليين الخيال شرط في صحة الشاهد، وقد ذهب أبو هلال العسكري في فروقه إلى ما هو أبعد من ذلك فصرح بأن: ( المُشاهِد للشيء هو المدرِكُ لهُ رؤيةً )[6]، وقال بعضهم: رؤيةً وسماعاً، وهو في الرؤية أشهر.

فانظر إلى تشعب المعاني في هذا اللفظ الواحد، وكيف أنها تتولد منه ـ على شكل متوالية حسابية دقيقة ـ وتتكاثر العديد من المفاهيم التي لا تبدو للناظر فيه من أول وهلة، ولذلك قالوا: (الشهادة مع المشاهدة أولى)؛ لأنك لا تشهد معنى اللفظ إلا إذا كنت حاضر الذهن كامل الإدراك.

ولنختم بهذه العبارة العرفانية لابن عربي:( فمن أعرض عن هذه المشَاهد ولم يفرق بين المشهود والشاهد، فذلك الحائر الخاسر)[7] لا جعلنا الله وإياكم من أهل تلك المشاهد.

 

 فيصل أشرقي

 


[1] اللغة العربية مبناها ومعناها : د. تمام حسان دار الثقافة طبعة 1994ص316.

[2] انظر مادة: شهد في معجم مقاييس اللغة.

[3] انظر: الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم، تفسير الهواري، سورة يوسف ا|لآية26.

[4] مجلة الوعي الإسلامي العدد 555: ذو القعدة 1432 هـ، 2011م ص 54.

[5] المعجم الصوفي الحكمة في حدود الكلمة، سعاد الحكيم، دندرة للطباعة والنشر ط1/1981 ص655 .

[6] الفروق اللغوية، أبو هلال العسكري،دار الكتب العلمية، ط 2010 لبنان، ص 110.

[7] المعجم الصوفي : ص656.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق