وحدة الإحياءدراسات وأبحاث

الكمال الإنساني: قيمة القيم

يتكامل خلق الإنسان في مرحلة الولادة، نطفة، فعلقة، فمضغة. قبل أن يبلغ طور الكمال الصوري؛ الذي عبر عنه القرآن بـ “الخلق الآخر1“، ليبدأ دورة أخرى فيما بعد الولادة، تتراوح بين التكامل الصوري، طفولة، فشبابا، فكهولة، فشيخوخة، والتكامل الفكري، تمييزا بين الخير والشر والموازنة بين ذلك، ثم التكامل الروحي في الحياة وما بعد الموت، وذلك أن الإنسان “ما دام في دنياه، جار مجرى الفرخ في البيضة، فكما أن من شرط كمال الفرخ تفلق البيضة عنه وخروجه منها، فكذلك شرط كمال الإنسان مفارقة هيكله، ولولا هذا الموت لم يكمل الإنسان2.”

وإذا كانت مراحل الإنسان الجسدية من الوضوح، بحيث لم يختلف الناس بشأنها على اختلاف العصور وتباين العقائد، فإن قضية الكمال المعنوي، تنطوي على الكثير من التعقيد، ليس فقط بين فلاسفة الأخلاق، ولكن أيضا، وبدرجة أقل، بين المفكرين الإسلاميين.

لكن تبقى فكرة السعي نحو الكمال، والاقتداء بشخصيات تجتمع فيها الأخلاق على نحو متكامل، ضاربة في تاريخ البشرية، منذ مراحلها البدائية، وحتى أطوارها الراقية، متجسدة في أسماء متميزة، كالأنبياء، والحكماء، والقديسين، وغيرهم ممن يرى الناس فيهم نماذج للاهتداء.

بيد أن تفاصيل هذا الكمال، وحدوده، وماهيته، ومعاييره، ظلت منذ أقدم العصور، موجهة بمصادر معرفية متباينة، يحكمها العرف تارة، كما كان في المراحل البدائية للإنسان، أو الوجدان، في مرحلة متقدمة نسبيا، أو العقل والمعرفة كما عند سقراط (توفي 399 ق م) وجون ديوي (1952م)، أو القوى الثلاث عند أفلاطون (توفي 348 ق م) (العاقلة، والغضبية، والشهوية)3..

وعلى ضوء هذا الاختلاف، تباينت إجابات فلاسفة الأخلاق عن السؤال الآتي: إذا كان الناس يقدسون الفضائل، كالعدل، والمساواة، والإيثار، والإحسان، والرحمة، ويحترمون المتخلقين بها، فما هي القيمة العليا، والغاية النهائية التي تؤول إليها القيم الإنسانية؟ وبمعنى آخر: إذا كانت الفضائل تأخذ منحى هرميا، بحيث يندرج الأدنى منها فيما هو أعلى منه، في مجموعات من القيم الكبرى، يعبر عنها بـ “أمهات الفضائل”، فهل يجوز وضع هذه المجموعات بأكملها تحت عنوان واحد جامع، يكون الغاية القصوى للإنسان؟

يرى دعاة اللذة، وفي طليعتهم الفيلسوف الإنجليزي بنتام (توفي 1832م)، وجون ستيوارت ميل (توفي 1873م)، أن السعادة هي أعظم غاية ينبغي أن يسعى إليها الإنسان، ولكن ليس على نحو شخصي، بل لإسعاد الآخرين.

وعلى عكس هذا الاتجاه، يرى أبيقور (توفي 270 ق م) وتوماس هوبز (توفي 1679م)، وأتباعهم، أن الإنسان ينبغي أن يطلب أكبر سعادة لنفسه لا للآخرين4.

ويذهب سقراط إلى أن المعرفة هي أم الفضائل، وما العفة والشجاعة، والعدل والرحمة، وغيرها من القيم، سوى مظهر من مظاهرها، وتجل من تجلياتها.

ويرى أفلاطون أن الفضائل ترجع في أصولها إلى أربعة: الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدل.

ويعتبر أرسطو (توفي 322 ق م) “الوسط” بين طرفي الإفراط والتفريط، جماعَ الفضائل، وهو ما يعرف بـ “نظرية الأوساط”؛ فكل فضيلة وسط بين رذيلتين5، وإلى هذا الرأي يميل “الكندي” (توفي 246ﻫ) من فلاسفة المسلمين6.

ويذهب “مسكويه” (توفي 421ﻫ)، إلى أن الفضيلة التي تؤول إليها سائر الفضائل هي “الخير7“.

والحق أن لكل نظرية من هذه النظريات نصيبها من الصواب، لكن لا على نحو شمولي وفي كل الأحوال، بل تبقى نسبية تخضع لتباين الأهواء.

فنظرية الأوساط عند أرسطو، لا تنطبق على كثير من الفضائل، فما الوسط بين الصدق والكذب؟ وما الوسط بين العدل والظلم؟

أما الفضائل الأربعة عند أفلاطون، وهي الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدل، فيمكن إدراجها في قيمة جامعة هي “الخير”، ثم إنها قيم طبقية، تختص عنده كل منها بطبقة من طبقات المجتمع: فالعفة فضيلة العمال، والشجاعة فضيلة الجند، والحكمة فضيلة الفلاسفة، والعدالة فضيلة الحكام.

وفضيلة الخير نفسها، كما اقترحها مسكويه، ليست غاية في حد ذاتها، إنما هي وسيلة إلى غاية أخرى أكبر منها، فالإنسان يفعل الخير لا من أجل الخير، ولكن لشيء آخر، هو إرضاء ربه، أو ضميره، أو هواه، أو الناس الآخرين…

ويبقى “الكمال الإنساني” أو “السعادة” هي قيمة القيم، والفضيلة الجامعة لكل الفضائل، لكن بعد تحريرها من المفاهيم الفلسفية الملتبسة، ووضعها في إطار الوحي، الذي يعد بحق، المصدر المعرفي الأوثق لتحديد الأهداف الحقيقية للإنسان، والغايات التي ينبغي أن يسعى في تحصيلها.

1. منهج القرآن في الدعوة إلى الكمال

يرتكز المنهج القرآني في دعوة الناس إلى الكمال، على عدة أمور، أبرزها:

‌أ. اختيار أسلوب التفضيل في جميع التكاليف، وذلك بالدعوة إلى الارتقاء في فضائل الأعمال سعيا نحو الكمال

من ذلك قوله تعالى في أفضلية قول المعروف، على الصدقة التي يتبعها أذى: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذَى﴾ (البقرة: 262).

وقوله في تفضيل الصيام على الإفطار للمسافر: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً اَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ اَيَّامٍ اُخَر، وَعَلَى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةُ طَعَامِ مَسَاكِين، فَمَنْ تَطَوّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَأَنْ تَصُومُواْ خَيْرٌ لَكُمُ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 183).

وقوله في تفضيل الاستعفاف على وضع الثياب للواتي يئسن من المحيض: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ اَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ، وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ﴾ (النور: 58).
وقوله في تفضيل إخفاء الصدقة على إبدائها: ﴿اِنْ تُبْدُواْ الصّدقاتِ فنِعِمّا هِي، وإِنْ تُخْفُوها وتُوتُوها الْفُقراء فهُو خيْرٌ لكُمْ﴾ (البقرة: 270).

‌ب. ترتيب بعض الفضائل من الأدنى إلى الأعلى في شكل هرمي

من ذلك قوله تعالى: ﴿والْكاظِمِين الْغيْظ والْعافِين عنِ النّاسِ، واللهُ يُحِبُ الْمُحْسِنِين﴾ (ءال عمران: 134).
وقوله: ﴿خُذِ الْعفْو، وامُرْ بِالْعُرْفِ، وأعْرِضْ عنِ الْجاهِلِين﴾ (الاَعراف: 199).
وقوله: ﴿فمِنْهُمْ ظِالِمٌ لِنفْسِه، ومِنْهُمْ مُقْتِصِد، ومِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخيْراتِ بِإِذْنِ الله﴾ (فاطر: 32).
فهذه الآيات وغيرها، تفيد أن الأعمال، بشكل عام، متدرجة في ثلاث مراتب: مرتبة أدنى، ومرتبة وسطى، ومرتبة عليا.

فأما المرتبة الدنيا؛ فهي مرتبة الظلم، سواء للنفس أو الغير، والبغي، والاستئثار، وهي مذمومة في القرآن والسنة.

وأما المرتبة الوسطى؛ فهي مقبولة على كل حال، غير أن الشرع يدفع باتجاه تجاوزها والزهد فيها.

وأما المرتبة العليا؛ فهي المقام المحمود، لأنها تقرب الإنسان إلى مرتبة الكمال، ونظير ذلك الإحسان إلى المسيء، والإيثار مع الحاجة، “فإن فات العبد هذا المقام العالي، فلا يرضى لنفسه بأخس المقامات وأسفلها8.”

‌ج. إعطاء القدوة بالأنبياء والصالحين..

من ذلك حديث القرآن عن إحسان العبد الصالح، الخضر عليه السلام، لأهل القرية اللئام، بإقامة جدارهم رغم إساءتهم، وفي ذلك يقول سبحانه: ﴿فانْطلقا حتّى إِذا أتيا أهْل قرْيةٍ اِسْتطْعما أهْلها فأبوَاْ اَن يُضيِّفُوهُما فوجدا فيها جِدارًا يُرِيدُ اَن ينْقضّ فأقامهُ، قال لوْ شِئْت لتّخذْت عليْهِ أجْرًا﴾ (الكهف: 76).

فالخضر، عليه السلام، لم يقابل الإساءة بالإساءة، ولم يكتف بالعفو والتجاوز، بل زاد على ذلك بالإحسان، وإقامة الجدار المشرف على الانهيار.

قال السيوطي في استنباطاته: “فيها أنه لا بأس بالاستخدام واتخاذ الرقيق والخادم في السفر (..)، وأن صنع الجميل لا يترك ولو مع اللئام9.”

‌د. الدعوة إلى التقرب إلى الله، والارتفاع بالعمل الصالح

ومعنى ذلك، أن يقطع العبد مسافة معنوية في اتجاه ربه جل وعلا، بالعبادة والتبتل والعمل الصالح، وفي هذا السياق وردت آيات قرآنية، وأحاديث نبوية لا حصر لها، نذكر منها:

ـ قوله تعالى في سورة العلق: ﴿واسْجُدْ واقْترِبْ﴾ (العلق: 20).

فهي تفيد أن السجود وسيلة من وسائل الوصول، بل هو أقرب الوسائل وأسرعها على الإطلاق، ذلك أن الإنسان يشرع في السير إلى الله في الصلاة بالتكبير، وحين يقرأ، يقطع مسافة ما، قد تطول أو تقصر، بحسب حال قلبه ومبلغ خشوعه، ثم حين يركع، يقطع مسافة أكبر، وحين يرفع، يزيد اقترابا.. وحينما يخر ساجدا، في وضع العبد الخاضع الذليل، يكون بين يدي مولاه..

وهكذا يستمر راكعا ساجدا ﴿تراهُمْ رُكّعًا سُجّداً﴾ (الفتح: 29).. لكن ليس على نمط متكرر؛ أي لا يعود إلى نقطة الصفر، ثم يبدأ السير من جديد، بل يستأنف من حيث انتهى في الحركة السابقة، وإلا… رجع من منتصف الطريق

ولذلك ثبت في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: “أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء10.”..

ـ وفي هذا المعنى أيضا، ورد الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة، رضي الله عنه، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “إن الله قال: من عادى لي وليا  فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبّ إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ ني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله، ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته11.”

وهذا الحديث، على وجازته، يختصر ثمار التقرب إلى الله؛ إذ يصبح المرء ربانيا في فكره وسلوكه.. لا يسمع إلا ما يرضي الله، ولا يبصر إلا بعين الله، ولا يكون إلا حيث يحب الله، “فلا يتحرك، ولا يسكن، ولا يدرك، إلا والله معه12“.. وهكذا تتجلى فيه صفات الكمال، فالسجود يقربه، ﴿والْعملُ الصّالِحُ يرْفعُهُ﴾ (فاطر: 10).

ﻫ. الدعوة إلى التخلق بأسماء الله وصفاته

أسماء الله تعالى وصفاته، تتضمن قيم الحق، ومعاني الكمال، وآيات الجلال والجمال، وهي أسماء مطلقة عن الزمان والمكان:

﴿الْحمْدُ لِلّهِ ربِّ الْعالمِين. الرّحْمنِ الرّحِيمِ. ملِكِ يوْمِ الدّينِ﴾ (الفاتحة: 1-3).
﴿اللهُ لا إِله إِلاّ هُو الْحيُّ الْقيُّومُ. لا تاخذه سِنةٌ ولا نوْمٌ، لهُ ما فِي السّمواتِ وما فِي الاَرْضِ﴾ (البقرة: 253، 254).
﴿اللهُ نُورُ السّمواتِ والاَرْضِ﴾ (النور: 35).
﴿إِنّ الله هُو الرّزّاقُ ذُو الْقُوّةِ المتِين﴾ (الذاريات: 58).
﴿هُو اللهُ الّذِي لا إِله إِلاّ هُو، عالِمُ الْغيْبِ والشّهادةِ، هُو الرّحْمنُ الرّحِيمُ﴾ (الحشر: 22).
﴿هُو اللهُ الّذِي لا إِله إِلاّ هُو الْملِكُ الْقُدّوسُ السّلامُ الْمُومِنُ الْمُهيْمِنُ الْعزِيزُ الْجبّارُ الْمُتكبِّرُ﴾ (الحشر: 23).
﴿هُو اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصوِّرُ، لهُ الاَسْماءُ الْحُسْنى﴾ (الحشر: 24).

وإذ تفرد سبحانه وتعالى بهذه الأسماء، وصانها عن التشبيه والمثال: ﴿ليْس كمِثْلِهِ شيْءٌ، وهُو السّمِيعُ الْبصِيرُ﴾ (الشورى: 9)، فإنه، بلطفه، لم يحرم عباده من التخلق بها، والتقرب إليه بتحصيلها، وما يزال العبد يذكرها ويسير على هديها، حتى يصير من الله بمكان، ويكون من أهله المقربين، فإنه تعالى “يحب مقتضى صفاته، وظهور آثارها في العبد، فإنه جميل يحب الجمال، عفو يحب أهل العفو، كريم يحب أهل الكرم، عليم يحب أهل العلم، ِوتر يحب الوتر، قوي، والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف، صبور يحب الصابرين، محسن يحب المحسنين، شكور يحب الشاكرين، فإذا كان سبحانه يحب المتصفين بآثار صفاته، فهو معهم بحسب نصيبهم من هذا الاتصاف13.”

2. نظرية السعادة عند جمال الدين الأفغاني والنزوع نحو الكمال

لا يكتمل الحديث في “الكمال الإنساني”، دون الإشارة إلى نظرية الشيخ جمال الدين الأفغاني (توفي 1315ﻫ) التي فصلها في كتابه الموسوم بـ “رسالة في الرد على الدهريين”، وهي تدور حول قواعد الكمال الإنساني، أو باصطلاح الشيخ: “قصر السعادة الإنسانية المسدس الشكل”، وهو بحث قيم في فلسفة التاريخ، وسنن قيام الدول وانهيارها، وإن كان ينطلق من الفرد باعتباره “ملكا أرضيا” يمتلك مقومات الكمال.

يقوم هذا القصر، كما أراده مبدعه، على ثلاث عقائد وثلاث خصال:

أ. العقيدة الأولى: “التصديق بأن الإنسان ملك أرضي هو أشرف المخلوقات”. وهذا الاعتقاد يلزم صاحبه بأن يرتفع عن ملابسة الصفات البهيمية والحيوانية، ويسمو بروحه إلى العالم العقلي، “وكلما سما عقله أوفى على المدنية وأخذ منها بأوفر الحظوظ14.”

ب. العقيدة الثانية: “يقين كل ذي دين أن أمته أشرف الأمم، وكل مخالف له فعلى ضلال باطل”، “وهذا اليقين يدفع الأمة إلى أن تنهض لمكاثرة الأمم الأخرى ومساماتها في مجدها ومسابقتها في مشارف الأمور وغايات المدنية، ويحثها على الرغبة في فوت جميع الأمم والتقدم عليها في المزايا الإنسانية، عقلية كانت أو نفسية، ومعاشية كانت أو معادية15.”

ج. العقيدة الثالثة: “جزمه بأن الإنسان إنما ورد هذه الحياة الدنيا لاستحصال كمال يهيئه للعروج إلى عالم أرفع وأوسع من هذا العالم الدنيوي، والانتقال من دار ضيقة الساحات كثيرة المكروهات، جديرة بأن تسمى بيت الأحزان وقرار الآلام، إلى دار فسيحة الساحات خالية من المؤلمات، لا تنقضي سعادتها ولا تنتهي مدتها”.. وصاحب هذا الاعتقاد مدفوع دوما إلى الارتقاء من حالة الجهل إلى حالة العلم، ومن دنس الرذائل إلى تهذيب النفس وتطهيرها16.

ويبدو أن تحصيل الكمال من خلال هذه العقائد الثلاث، مشروط بثقة المسلم في نفسه أولا، وفي أمته ثانيا، وفي الغاية التي خلق من أجلها ثالثا، وهي المعاني التي نلمحها في عبارات “التصديق”، و”اليقين”، و”الجزم”.
أما الخصال؛ فأولها: خصلة الحياء؛ “وهو انفعال النفس من إتيان ما يجلب اللائمة وينحي عليها بالتوبيخ، وتأثرها من التلبس بما يعد عند الناس نقصا..”، وتأثير هذه الخلة في حفظ نظام الجمعية البشرية، وكف النفوس عن ارتكاب الشنائع، أشد من تأثير مئات القوانين وآلاف من الشرط والمحتسبين.

وثانيها: خصلة الأمانة؛ وهي روح المعاملات وعصبها، كما أنها دعامة بقاء الإنسان ومستقر الحكومات، وباسط ظلال الأمن والراحة والسلطان والعدالة، والأمة التي تعطلت عندها هذه الخلة، “لا تلبث أن تبتلعها بلاليع العدم، وتلتهمها أمهات الهيم.”

وثالثها: خصلة الصدق؛ فالكاذب الذي يرى البعيد قريبا، والقريب بعيدا، ويظهر النافع في صورة الضار، والضار في صورة النافع، هو”رسول الجهالة، وبعيث الغواية، وظهير الشقاء، ونصير البلاء17.”

وهكذا يقدم الشيخ جمال الدين تصورا غير مسبوق لمفهوم السعادة، يقوم على قطبين اثنين: أحدهما: وجداني تصوري، والثاني: سلوكي، متجاوزا بذلك آراء الغربيين، وهرطقات الدهريين.

3. المثل الأعلى: محرك التخلق

سيظل الإنسان، مهما بلغ من رقيه في سلم الحضارة، بحاجة إلى نموذج أعلى يقيس عليه، ويتطلع دوما لبلوغه، وينسج على منواله في شؤونه الفكرية والأخلاقية، ذلك النموذج هو المثل الأعلى.

وبصرف النظر عن قيمة هذا المثل، وماهيته، فإن إحساس الإنسان بالنقص، وتطلعه نحو الكمال، يدفعانه باستمرار، سواء وعى ذلك أم لا، إلى رسم صورة لنموذج أعلى.

والناس يتفاوتون في ذلك:

فمنهم من مثله الأعلى اللات والعزى: ﴿قالُواْ نعْبُدُ أصْناماً فنظلُّ لها عاِكِِفِين) (الشعراء: 71).
ومنهم من مثله الأعلى ذو مال وجاه: ﴿يا ليْت لنا مِثْل ما أُوتِي قارُونُ إِنّهُ لذُو حظٍّ عظِيم﴾ (القصص: 79).
ومنهم من مثله الأعلى ذو سلطة نافذ: ﴿وقالُواْ بِعِزّةِ فِرْعوْن إِنّا لنحْنُ الْغالِبُون﴾ (الشعراء: 43).
ومنهم من مثله الأعلى صِدّيق أو نبي: ﴿أُولئِك الّذِين هدى اللهُ فبِهُداهُم اقْتدِه﴾ (الاَنعام: 91).
ومنهم من مثله الأعلى الله رب العالمين ﴿ولهُ الْمثلُ الاَعْلى فِي السّمواتِ والاَرْضِ﴾ (الروم: 26).

وما يقال في الأفراد، يصدق أيضا على المجتمعات، وعلى الأمم.. وعلى قدر مثلك، ترتسم حدود كمالك.. “وليس كل طالب يحسن الطلب، ويهتدي إلى طريق المطلب، ولا كل سالك يهتدي إلى الاستكمال، ويأمن الاغترار بالوقوف دون ذروة الكمال، ولا كل ظان الوصول إلى شاكلة الصواب، أمِنٌ من الانخداع بلامع السراب18.”
من هنا، ينبغي التمييز بين ثلاثة أنواع من المثل العليا19:

أ. النوع الأول: مثل أعلى منخفض: وهو الذي ينبثق تصوره عن الواقع الذي تعيشه الجماعة، بحيث يصبح حالة تكرارية تجمد حركة الإنسان، وتمنعه من السمو بآماله والارتفاع بطموحاته: ﴿بلْ قالُواْ إِنّا وجدْنا ءابآءنا على أُمّةٍ وإِنّا على ءاثارِهِمْ مُهْتدُون﴾ (الزخرف: 21).

ب. النوع الثاني: مثل أعلى مشتق من رؤية مستقبلية محدودة. وهذا النوع، وإن كان ينطوي على حقيقة موضوعية، ترتبط بمحدودية الإنسان وقصور إدراكه، فإنها تتحول إلى عقبة أمام كدح الإنسان، حين يراها حدا أقصى، وقيمة مطلقة؛ أي غاية في نفسها لا وسيلة. وفي هذه الخانة تندرج أغلب المثل التي تبناها فلاسفة الأخلاق في مختلف العصور، كاللذة، والعدالة، والحرية، والمساواة…

ج. النوع الثالث: المثل الأعلى الحقيقي: وميزته، أنه يتصف بالكمال المطلق، وهو الله، جل جلاله، وإليه يشير قوله تعالى: ﴿يأيّها الاِنسانُ إِنّك كادِحٌ اِلى ربّك كدْحاً فمُلاقِيهِ﴾ (الانشقاق: 6).

وقد اختار لمخاطبته في هذا السياق لفظ “الإنسان”، وهو خطاب مسؤولية ومحاسبة؛ لأن تمييزه بالإنسانية، وتكريمه بالعقل والروح والإرادة، من شأنها أن تدفعه لاختيار ما يليق بهذا التكريم من أنواع المثل العليا، وترفعه إلى مقام الطهارة والعبودية، والسير إلى الله، فإليه المرجع، وإليه المآب.

وبهذا المعنى، فقط، يصبح كدح “الإنسان”، لا كجملة الكادحين، وطريقه غير سُبل الهائمين، “بل هو سير ارتقائي، هو تصاعد وتكامل20“، لا يقف عند ثلث الطريق، أو منتصفه.

وهكذا يتميز سالك طريق الكمال بأمرين:

أولهما: القدرة على الإبداع، والتطور؛ لأن شعوره بنسبية كماله، يدفعه إلى الارتقاء بشكل متواصل، سعيا وراء اكتساب كمال بعد كمال.

والثاني: إقامة التوازن بين نوازع النفس الهابطة، ومطامح الروح السامقة، حيث يشعر الإنسان، أيّ إنسان، بالمسؤولية تجاه مسؤول لديه، وهو الله عز وجل21.

ومن هذا الإبداع المتوازن، أو التوازن البديع، ينشأ العمران، وترتقي الحضارات في معارج الكمال.

إن الإنسان الكامل، في ضوء ما سبق، دائم الوصل بين حدين: العدل.. إلى درجة الإحسان، والصلة.. إلى درجة

الإكرام، والإنظار.. إلى درجة الإبراء، والامتثال.. إلى درجة الاحتياط، والعمل.. إلى درجة الإبداع..

وإلى هذه الأبعاد يشير الأستاذ علال الفاسي (توفي 1394ﻫ) في قوله: “وإذا كان الإسلام قد أمر بالإحسان إلى جانب العدل، فإنه يعتبر هذا متمما لذلك؛ إذ الإحسان في القضاء؛ يعني إتقانه والتحري فيه، ثم بعد هذا كله؛ فإن العدل لا يغني الناس عن أن يطلبوا الإحسان، فلو أقيمت موازين العدل الاجتماعي والدولي بين الناس، لبقي مع ذلك في الأرض من يحتاج إلى الإسعاف، ومن لا يستغني عن مدّ يد المساعدة والعون، وعن التماس العفو والسماح، فلذلك لا تعمر الأرض بالعدل وحده، ولكن لابد من السماح ومن العفو، ولابد من الإسعاف ومن الصدقة، وذلك جماع الإحسان22.”

وبهذا المعنى نفهم “أن الإسلام دين ودنيا؛ أي قانون المساواة وقانون الإحسان السماوي، منطق العدالة ومنطق الأخوة معا، وقانون الإحسان فوق قانون المساواة في الجزاء، ومنطق الأخوة قبل منطق العدالة23.”

خلاصة

مهما يكن من اختلاف في المرجعيات المعرفية حول القيم وقضايا الأخلاق، سيبقى مطلب الكمال شيئا ثابتا، وأمرا لازما للإنسان، خلال سعيه الدائم إلى تجاوز ذاته، والالتحام بغاية سامية تمده بأسباب السعادة ومبرر الوجود.. عندها، يكون مستجيبا لداعي الفطرة، قبل امتثاله لنداء الله.

الهوامش


[1]. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِين. ثُمَّ جَعَلْنَاه ُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِين. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً ـاخَر، فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ (المومنون: 12-14).

[2]. الراغب الأصفهاني، تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، ص100.

[3]. انظر: أحمد أمين، كتاب الأخلاق، ص133-134.

[4]. انظر: توفيق الطويل، مذهب المنفعة العامة في فلسفة الأخلاق، ص24-25.

[5]. انظر: وليام ليلي، مقدمة في علم الأخلاق، ترجمة علي عبد المعطي محمد، ص 44-50.

[6]. انظر: الكندي، رسالة الحيلة في دفع الأحزان، ص7.

[7]. انظر: مسكويه، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، ص83.

[8]. ابن القيم، عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، ص121.

[9]. السيوطي، الإكليل في استنباط التنزيل، ص171.

[10]. أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب: ما يقال في الركوع والسجود، حديث رقم: 1096.

[11]. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب: التواضع، حديث رقم: 6502.

[12]. عدة الصابرين، ص81.

[13]. المرجع نفسه، ص85.

[14]. انظر رسالة في الرد على الدهريين، ضمن الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني، ص 141، بتصرف.

[15]. المصدر نفسه، ص142، 143.

[16]. المصدر نفسه، ص144.

[17]. المصدر نفسه، ص145-148.

[18]. أبو حامد الغزالي، معيار العلم في المنطق، ص26.

[19]. انظر بتفصيل: محمد باقر الصدر، السنن التاريخية في القرآن، ص109 وما بعدها.

[20]. السنن التاريخية في القرآن، ص123.

[21]. المرجع نفسه،  ص125، 126.

[22]. علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص268، 269.

[23]. برهان غليون وآخرون، الاجتهاد والتجديد، ص99.

Science

د. عبد العالي ملوك

باحث في أصول الفقه ومقاصد الشريعة
المجلس العلمي المحلي لفجيج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق