مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

القـول المرجـوح 5

د/ادريس غازي

باحث بمركز دراس بن اسماعيل 

 

وينضاف إلى الاستثناء المذكور أي العمل بالمرجوح عند قيام الضرورة وفي خصوص الأحوال، استثناء آخر تترجح فيه الأقوال المرجوحة على مقابلها بعد النظر والفحص ممن له أهلية الترجيح والقدرة على الموازنة والمقارنة بين أقوال المذهب، بحيث لو قامت عند المتأهل لذلك أرجحية هذا القول المرجوح في المذهب، وتعززت بتحقق الموجبات والأسس العرفية والمصلحية وغيرها، ثم وجد هذا الاختيار استحسانا من لدن العلماء، وصادف تمالؤا وإلزاما من طرف القضاء، قلت لو تحقق كل ذلك لكان العمل بهذا الترجيح أوجب وآكد في الاعتبار.[1]

ولهذا كان لشيوخ المذهب اجتهادات مخصوصة، اختاروا بموجبها تلك الأقوال المرجوحة وقدموها على الأقوال المشهورة. قال ابن ناظم التحفة في شرحها: “لشيوخ المذهب كابن عات وابن سهل وابن رشد وابن زرب وابن العربي واللخمي ونظرائهم اختيارات وتصحيح بعض الروايات والأقوال، عدلوا فيها عن المشهور، وجرى باختيارهم عمل الحكام والفتيا، لما اقتضته المصلحة وجرى به العرف”[2].

وهكذا نجد للإمام المازري الذي اشتهر بالحرص على العمل بمشهور المذهب، وعدم التنكب عنه كما أشير إليه من قبل، اختيارات خاصة عدل فيها عن المشهور وأخذ بالقول المقابل له، كما هو الشأن في مسألة الغاصب للأرض من مالكها قصد زرعها وإجبار صاحبها على كراء المثل بعد فوات الإبان دون مفاصلة، فالمشهور فيها أن الزرع لزارعه وعليه كراء المثل، وفيها قول شاذ من رواية الداودي عن مالك يقضي بالزرع لصاحب الأرض.

قال الهلالي مقررا هذه المسألة: “ومن ذلك مسألة الأرض تزرع غصبا أو تعديا، ولم تقع فيها مفاصلة حتى فات الإبان، المشهور أن الزرع لزارعه وعليه كراء المثل للأرض، والشاذ أن الزرع لصاحب الأرض، وأفتى به المازري مع جماعة من الفقهاء لما رأوا كثرة التعدي والغصب، فيتوصل المتعدي إلى مراده إذا لم يرد رب الأرض أن يكريها له، فيحرثها بلا إذن ثم يماطل بالمفاصلة حتى يخرج الإبان، فيحاكمه فيها بالمشهور، فيتوصل إلى غرضه من حرثها بالكراء، وقد كان ربها لا يرضى بحرثها بأكثر من كراء المثل، فصار مجبورا على قبول كراء المثل، فإذا كثر هذا التعدي في ناحية من البلاد ترجح الشاذ على المشهور، ولهذا العارض حفظا لأموال الناس عن أخذها بغير طيب نفس”[3].

وعلى أساس هذا الاختيار في الترجيح، والمتابعة عليه افتاء وقضاء فيما بعد، قام صرح نظرية العمل أو ما يعرف اصطلاحا باسم ما جرى به العمل.

وما جرى به العمل كما هو مشار إليه، يعد استثناء من قاعدة وجوب الأخذ بالراجح والمشهور، ولكن المتتبع لقضايا المذهب ما يلبث أن يلحظ ما للعمل من قوة وحاكمية لدى العلماء المغاربة، حتى ليجوز لنا القول إن ما جرى به العمل هو القاعدة والأصل الذي ينبني عليه غيره وما سواه هو الاستثناء، لأنه كان في مبدئه عبارة عن اختيارات للأقوال المهجورة في المذهب، أملتها مقتضيات الاجتهاد في ظروف استثنائية مخصوصة، ثم ما لبث أن تطور إلى أن بلغ الذروة والاكتمال وأصبح أصلا قائم الذات ضمن أصول المذهب، وله امتدادت وتجليات في التراث الفقهي المالكي .

 


[1] – قال ابن هلال: “إن المفتي المتأهل له الإفتاء بغير المشهور على وجه الاجتهاد والاستحسان لموجبه من المصلحة بحسب الوقائع واعتبار النوازل والأشخاص” انظر نور البصر للهلالي ص132. وهكذا يصير القول المرجوح- بعد أن حظي بالاختيار من ذوي النظر الحصيف وتأيد بموجبات الترجيح-قولا راجحا في أعلى مراتب الرجحان، قال الهلالي: “فإذا رجح بعض المتأخرين المتأهلين للترجيح قولا مقابلا للمشهور، لموجب رجحانه عندهم وأجروا به العمل في الحكم، تعين اتباعه فيقدم مقابل المشهور لرجحانه على المشهور بموجبه لا بمجرد الهوى” نور البصر ص132.

[2] – انظر نور البصر للهلالي ص132.

[3] – نور البصر ص138.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق