وحدة الإحياءحوارات

القضية الفلسطينية في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية .. محورية القدس في وجدان المغاربة

حاوره: عبد السلام طويل

في هذا الحوار الفكري الشامل مع الدكتور سعيد خالد الحسن (مدير مركز الدراسات والأبحاث بمؤسسة خالد الحسن، وأستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط) تطارحنا مع فضيلته حول جملة من القضايا المتصلة بواقع الأمة ومصيرها، وما يتصل بذلك من تحديات، وما يستوجبه ويقتضيه من رهانات، في مقدمتها رهان تحرير فلسطين والقدس الشريف.

وذلك إسهاما من الرابطة المحمدية للعلماء من خلال مجلة “الإحياء”، في فعاليات الحملة الدولية لكسر الحصار على القدس ولو بشكل رمزي، خاصة وأن الأستاذ سعيد خالد الحسن يعد من الفاعلين الرئيسيين في تنظيم وتنزيل هذه الحملة.

وفي هذا السياق تساءلنا معه حول حيثيات ومقاصد هذه الحملة، ومدى تفاعل المغاربة والمسلمين معها، وعن الوشائج الروحية والتاريخية التي تربط المغاربة خصوصا والمسلمين عموما بفلسطين والقدس الشريف، وعن حساسية موقعها الجيوسياسي في ملتقى الحضارات الكونية التاريخية، مما جعلها بؤرة استقطاب وتدافع وصراع لا يلين بين مختلف القوى الإمبراطورية عبر التاريخ..

وكان طبيعيا أن نربط واقع فلسطين المحتلة بواقع التأخر التاريخي الذي تعاني منه الأمة، رغم تباشير ومؤشرات النهوض المتنامية، في محاولة لفهم هذا الواقع وتفسيره، سعيا لتجاوزه من خلال مختلف مداخل الإصلاح؛ العلمي والتعليمي والاقتصادي، والاجتماعي والثقافي، والسياسي، والقانوني والمؤسسي..

أسهمتم بشكل فعال في تنظيم وتنزيل “الحملة الدولية لكسر حصار القدس”.. هل لكم أن تطلعونا عن أهم فعاليات هذه الحملة؟ وما مدى استجابة مختلف القوى العربية والإسلامية لها؟ وعن تقييمكم لمدى تأثيرها في التخفيف من الحصار المضروب على القدس بوجه خاص وفلسطين بوجه عام؟

 بدأت فعاليّات “الحملة الدولية لكسر حصار القدس” في مايو المنصرم الذي صادف ذكرى “النكبة” الستين لقيام الكيان الصهيوني في فلسطين. وقد نُظمت في العديد من الساحات على امتداد الوطن العربي والعالم الإسلامي، غير أنها عرفت حضوراً بارزاً في المغرب والجزائر ومصر والسودان واندونيسيا وماليزيا، ويجري الإعداد لتنظيمها في الهند والباكستان وبنغلادش وتركيا وغيرها من الأمصار الآسيوية والإفريقية والأوربية.. ويُفترض في هذه الفعاليات أن تستمر في ساحاتها، وأن تتحول إلى ممارسات شعبية يومية إلى أن تحقق هدفها المتمثل في كسر الحصار المفروض على القدس وأهلها..

ومن أجل تحقيق هذا الهدف، توزّعت فعاليّات “الحملة” على أيام الأسبوع، حيث خُصِّص اليوم الأول من الأسبوع للإعلان عن “الحملة”، واليوم الثاني للأنشطة الثقافية، والثالث لِـ “المؤاخاة” مع القدس، والرابع للأنشطة الإعلامية، والخامس خُصِّص للأنشطة الجماهيرية، والسادس للنشاط البرلماني والسياسي، أما اليوم السابع والأخير فخصص للمؤتمرات الصحافية..

ويهمني هنا الإشارة إلى الفعاليات الثقافية البرلمانية والسياسية. في يوم القدس الثقافي، تم التنسيق مع وزارات التعليم والمدارس والجامعات والمراكز الثقافية من أجل التعريف بواقع حصار القدس وتسليط الضوء على  “منظومة الدعم المتكامل للقدس”. وقد كان تجاوب المغرب المثال لغيره في هذا المجال حيث دعت وزارة التربية والتعليم مختلف مدارس المملكة لتخصيص الحصص المدرسية الصباحية في هذا اليوم للتعريف بالحصار المفروض على أهلنا في القدس وفلسطين، كما نظم العديد من الهيئات الثقافية والجمعوية، وبالخصوص نقابة التعليم العالي، المحاضرات والأيام الدراسية لهذا الغرض في جامعات المملكة..

أما الفعاليات البرلمانية والسياسية فقد شهدت تنظيم جلسة القدس البرلمانية يوم 14 مايو المنصرم، وذلك بالتنسيق مع البرلمانات والفرق البرلمانية في مختلف الساحات الدولية التي عرفتها أنشطة “الحملة”: وقد استهدفت هذه الجلسة تأكيد الالتزام المقدّس من قِبل ممثلي “الشعب” بدعم صمود المقدسيين إلى أن يتم كسر الحصار المفروض على القدس الشريف.. وقد عرف المغرب ومصر تجاوباً ملفتاً في هذا المجال؛ إذ أنه لم يقتصر على عقد اجتماعات خاصة باللجنة البرلمانية السياسية كما هو شأن البرلمان الأندونيسي، مثلاً، وقد كان هذا بحد ذاته أمراً يستحق الاعتزاز والتنويه بطبيعة الحال.. من جهته، خصص مجلس النواب المصري جلسة خاصة أعلن عبرها تأييده الكامل للحملة.

ومن جهة أخرى، وفي نفس التوقيت، انفرد المغرب بعقد جلسة خاصة للبرلمان بغرفتيه دُعي إليها منسق “الحملة الدولية لكسر حصار القدس” وتحدث فيها إلى جانب ممثلي الأغلبية والمعارضة و”وكالة بيت مال القدس الشريف” و”الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني” و”اللجنة الوطنية لدعم فلسطين والعراق” والسفير الفلسطيني مؤكدين جميعاً لذات المواقف التي تنطلق منها “الحملة”. وقد تُوِّجت الجلسة بإصدار “بيان” باسم “أعضاء مجلسي النواب والمستشارين المجتمعين في جلسة عمومية مشتركة في إطار الحملة الدولية لرفع الحصار عن القدس”. وقد شكر البيان “المؤتمر العام لنصرة القدس” على “مبادرته إلى تنظيم الحملة الدولية لكسر حصار القدس” داعياً “البرلمانات العربية والإسلامية والإفريقية والدولية” إلى “إدانة المخططات التي تستهدف القدس ودعم كل الجهود التي تستهدف فك الحصار عنها” وإلى الالتزام بهذه المواقف”، مؤكداً وقوفه “وراء المبادرات” التي يقوم بها العاهل المغربي “على رأس لجنة القدس”.

كما تعلمون فقد كانت القدس ولا زالت، بفضل رمزيتها الدينية والحضارية وبفضل موقعها الجيوسياسي في ملتقى الحضارات الكونية التاريخية، بؤرة استقطاب وتدافع وصراع لا يلين بين مختلف القوى الإمبراطورية عبر التاريخ. هل من أفق تاريخي، وهل من إمكانية على مستوى القانون الدولي وعلى مستوى الحوار الحضاري للنأي بالقدس من كونها بؤرة استقطاب وصراع إلى أيلولتها أرضية تواصل وتفاعل حضاري بين مختلف الفرقاء؟ أم أن منطق الصراع، ومنطق موازين القوى التاريخية الفعلية هو الكفيل بتحديد مصيرها؟   

سؤالك سيدي سؤال مركب. وأبدأ جوابي بالقول، نعم هناك إمكانية على مستوى القانون الدولي وعلى مستوى الحوار الحضاري للنأي بالقدس عن كونها بؤرة الاستقطاب بين القوى الإمبراطورية.. لكنني أيضا أستطيع أن أقول أن منطق الصراع هو الذي سيتكفل بتحديد مصير القدس.

وللتوضيح يجدر هنا التأكيد على أن الاستقطاب والتدافع والصراع الذي لا يلين على القدس بين مختلف القوى الإمبراطورية قد حسمه تاريخ القرون الأربعة وبالكثير الخمسة الأولى للفتح الإسلامي لفلسطين. تلك القرون الخمسة من الحياة المشتركة الحرّة والمستقرة المديدة وغير المتقطعة على الأرض المشتركة لأجيال أهلها كانت  قطعت نهائياً الطور القبلي من تاريخ فلسطين وتاريخ سائر الأمصار التي تتصف اليوم بأنها عربية؛ وبذلك توقفت فلسطين بأرضها وأهلها عن أن تكون مجرّد إقطاعية إمبراطورية ناهيك بأن تكون ساحة للصراعات القبلية أو الشعوبية. وفلسطين لم تصبح كذلك إلا لأن نسيجها الاجتماعي كان قد أضحى نسيجاً مجتمعياً بما يعنيه ذلك من اختصاص أجيال سكانها بأرضهم موطناً لهم دون غيرهم من الجماعات البشرية، ومن تميزهم (ولا أقول امتيازهم) بمكونهم الثقافي الحضاري؛ وبهذا أصبحت فلسطين وطناً لأهلها وليس مجرّد موطنٍ لمن يقيم على أرضها. وما يهمنا هنا، هو أن فلسطين عندما أضحت واقعاً مجتمعياً كان مجتمعها هو المجتمع العربي الإسلامي، ومن هنا صفتها العربية وذلك بغض النظر عن أن القبائل البدوية العربية أو الكنعانية كانت أول من أقام فيها.

لهذا لا يعترف القانون الدولي بحق الغزو أساسا مشروعا لحيازة أرض الآخرين التي تختص بها المجتمعات المتوطنة بها؛ ولذات السبب يؤكد القانون الدولي حقوق الشعوب في تقرير مصيرها على أرضها. والقانون الدولي لا يستحدث هنا قاعدة قانونية وإنما يقر واقعا اجتماعيا قائما يجعل من الشرعية التاريخية مصدرا للشرعية المجتمعية. ولن يعني المس بهذا الأساس من المشروعية التاريخية إلا العودة إلى همجية قانون الغاب الذي تريد الصهيونية فرضه على الضد من محصلة التاريخ ومن واقع الإنسانية القائم منذ قرون.

إن هذا المنطق الذي يُغلِّب موازين القوى المادية الظرفية والمؤقتة قد سقط نهائيا؛ وليس أدل على ذلك من أن أكثر من سبعين عاما من الحياة المشتركة للمجتمعات والشعوب تحت راية اشتراكية الإمبراطورية السوفيتية لم تسفر في نهاية المطاف إلاّ عن تمايز الجمهوريات السوفيتية أمماً ومجتمعات مختصة بأرضها وبثقافتها؛ فما بالك بهذيان الزعيم الصهيوني بن غوريون عندما اعتبر أن حدود إسرائيل إنما تتحدّد بالمدى الذي يصل إليه ما أسماه جيش الدفاع الإسرائيلي.

في إطار هذه الرؤية لن يكون الحديث عن الاستقطاب والصراع الدوليين بين قوى الهيمنة الدولية وبما فيها تلك الإمبراطورية (التي تترامى هيمنتها الدولية جغرافياً)، إلا حديثاً عن تطلعات أو حروب من أجل الهيمنة سرعان ما يتم تجاوزها عبر حركات التحرير والتحرر الوطني، وهو ذلك التجاوز الذي يلخص لنا تاريخ الإنسانية في القرن الأخير، ويؤكد من جهة أخرى حقيقة المجاهدة التي خاضتها أمتنا من قبل في وجه الزحفين الصليبي والمغولي ومن بعد في وجه الاستعمار الغربي الحديث.

إن “الغرب الاستعماري” هو أول من يدرك بعمق ليس فداحة الظلم الذي تعرّض ويتعرض له شعبنا في فلسطين جراء سياساته ومواقفه، فحسب، بل أيضاً يعرف عياناً واقع الطبيعة الاستعمارية الإجرامية للكيان الصهيوني الذي زرعه في بلادنا ولا شرعية هذا الكيان والتناقض القائم بين المشروعية الأممية التي يُراد إضفاؤها عليه، وبين قواعد الشرعية الدولية التي يقررها ميثاق الأمم المتحدة ذاته. وإذا كان بلد كالولايات المتحدة قد شاء أن ينكر هذا الذي يدركه ويعلمه ويعرفه فإنّ ممارساته كلها تؤكده بحكم تصدره للسياسات الاستعمارية المساندة للعنصرية الصهيونية ومشروعها الاستيطاني الإحلالي والإقصائي في الوطن العربي.

من هنا فإن الحوار الحضاري للنأي بالقدس عن أن تكون بؤرة استقطاب وصراع بل فضاء تواصل وتفاعل عمراني إنساني إنما يتطلب بالأساس تكريس الشرعية التاريخية المجتمعية للقدس باعتبارها المؤهلة دون غيرها لاحتضان تعايش الهويات الروحية والدينية والإنسانية لقدس فلسطين، فضلاً عن أن الأمصار العربية بشعبها على امتداد الوطن العربي لن يجد سبيلاً إلى تحقيق تطلعاته المعنوية والمادية بغير تحرير القدس وتفعيل الشرعية التاريخية العربية الإسلامية على امتداد أرضه وبالذات قلبها وعنوان هويتها: القدس الشريف.

إن العرب بمسلميهم ومسيحييهم ومعهم عموم المسلمين لا يمارون في اتساع وغنى الهوية العربية الإسلامية لقدسهم. بل هم في واقع الحال يدركون، وبكل اعتزاز، خصوصية العمق التاريخي لهوية القدس العربية و”دور” مرجعيتها الإسلامية في تعايش الامتدادات الروحية والدينية لهذه الهوية وفي استيعاب رمزياتها المتعددة في هوية واحدة مشتركة؛ وهو الدور الذي صُنِعت على عينٍ منه وبه لُحْمَة الهوية العربية الإسلامية للقدس. غير أن هذه الخصوصية التراكمية المركَبّة لهوية القدس لا تدحض وإنما تُفَسِّر واقع الهوية الوطنية والمجتمعية العربية لفلسطين وتُكرِّسه؛ ومن يعمل على المسِّ بلُحْمَة الواقع التاريخي/الاجتماعي العربي الإسلامي فإنما يسعى خائباً إلى القضاء على تلك اللُحْمَة التي لولاها لما قامت قائمة لتلك التعددية الروحية والرمزية التي تحتضنها هوية القدس.

وبخصوص تساؤلكم سيدي حول الحوار الحضاري، لنا أن نقول أن أحرار العالم المؤمنين بحقوق الشعوب في تاريخها وفي تقرير مصيرها على أرضها سيقفون مع الأمة الإسلامية في مساندة حركة تحررالأمة العربية وهي تُصعِّد مواجهتها الحوارية الحضارية لمنطق الطغيان المسلّح الغشوم الذي يبدو أن الصهيونية وحلفاءها مازالوا غير راغبين في التحاور بغير أدواته العنفية المسلّحة.

بناءً على رؤيتكم هذه، كيف تنظرون إلى مصير القضية الفلسطينية على ضوء المتغيرات الإقليمية والدولية؟

مصير القضية الفلسطينية رهين طي صفحة العنصرية الصهيونية الاستئصالية، وعودة عرب فلسطين إلى ممارسة وجودهم المجتمعي على أرضها بكل أبعاد هذا الوجود المعنوية والمادية.. إنه المصير الصحيح لمشكلة تقتضي حلاً ناجزاً تتوفر عناصر تحققه في الواقع المعاش.

ومشكلة فلسطين في جوهرها مشكلة تحرر وطني (للأرض من الاحتلال الاستيطاني، وللبشر والتراث من الطغيان الإحلالي؛ إحلالاً للصهاينة مكان العرب في فلسطين، وإحلالاً لمعالم ثقافية غريبة ومصطنعة محل ثقافة فلسطين العربية الإسلامية فيها). أما البديل (نظرياً) لهذا التحرر الوطني، فهو أن تفقد الأمة العربية والحضارة الإسلامية الشرعية التاريخية لوجودها. وهو افتقاد يعطل بالضرورة أدائية استمرار هذه الحضارة الإسلامية المعبرة بقوة ووضوح عن رمزية القدس وهويتها العربية التراكمية بامتداداتها الرمزية، التي اتسعت لتضم الحنيفية الإبراهيمية وما قبلها، وبالطبع أيضاً اليهودية والمسيحية، وذلك في إطار منظومة الإسلام المعرفية وأعرافه وتقاليده التي استوعبت ما قبلها استيعاباً يعطي هذه المنظومة مقدرتها الإحيائية التجديدية المتجددة عبر الزمان؛ والتي لم تجعل من الحضارة الإسلامية ركناً مكيناً أصيلاً في منظومة العمران البشري في طوره الحضاري على وجه التحديد، فحسب، بل جعلتها الحضارة الأكثر انفتاحاً إنسانياً ودعوياً على خارجها، ولهذا أضحى إسلامها الأكثر نمواً وتوسعاً مقارنة بأديان الحضارات الأخرى.

لكل هذا علينا أن ننظر ونكشف مكمن الوهن في ما يتوهم بشأن استعصاء  قضية فلسطين على الحل حلا منصفاً يرسي أساساً للسلم الإنساني قائماً على الحق وشرعيته التاريخية، وليس الحل حل تسوية تكرس الاستقرار المصطنع القائم على الطغيان الإقصائي. إن ما يبدو من استعصاء على الحل هو في حقيقته عجز واضطراب في التدبير وليس في توفر عناصر تحقيق الحل في الواقع الموضوعي.

 إن الركيزة الأساس لتحقيق الغايات الوطنية التحررية إنما تكمن في إدارة التحرر التي لا تقبل أبداً بالمساومة على الحقوق الجماعية والوطنية. ولا أنسى في هذا المقام مقولة والدي رحمه الله: “إن من يتنازل عن نصف أرضه لا يستحق نصفها الآخر”. ولقد بذل أهلنا الفلسطينيون من أرواحهم ودمائهم وعرقهم ووجدانهم وما زالوا يبذلون ومعهم أمتهم العربية، ما لا يدع مجالاً للشك في تجذر إرادتهم التحررية في نفوسهم، ناهيك بمجاهدتهم النضالية التي تسم  تقاليدهم وسلوكهم منذ أن نُكبوا بالمشروع الصهيوني: سواء تعلّق الأمر بثورات عرب فلسطين المتوالية خلال حقبة “الانتداب” البريطاني قبل العام 1948، أم تعلق بصمودهم قبضاً على جمر الابتلاء الصهيوني في “فلسطين الصمود” التي خيم عليها ظلام إسرائيل منذ العام 1948؛ أم في “فلسطين الثورة” التي فجرت عام 1965 ثورة شعبها المسلحة من مخيمات تشردها ومواطن لجوئها وإقامتها؛ أم في “فلسطين الانتفاضة” التي (عام 1987) كرّست حجارة فتيانها تقاليد الاشتباك الشعبي المباشر والمستمر في مواجهة سياسات الاحتلال العنصرية الإقصائية ..

وبعد حرب رمضان المجيدة سنة 1973 وانكفاء إسرائيل خارج سيناء، حالت مقاومة أمتنا في لبنان دون امتداد هذه الترسانة الاحتلالية إلى لبنان بعد نجاح تل أبيب وواشنطن في إخراج قوات وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية منه سنة 1982، وارتدت إسرائيل على أعقابها منسحبةً من الجنوب اللبناني بعد أقل من عقدٍ من الزمان من ذلك الإخراج؛ ثم اضطرت للانسحاب بترسانتها من غزة بعد ذلك بقليل.. وهاهم أهلنا اليوم يستهلون مرحلة جديدة من مجاهدتهم التحررية للصهيونية بمواجهة ترسانة الاحتلال الإدارية والقانونية: إن العدو الصهيوني إذ يبقي حتى الآن على حصاره لغزة الصامدة البطلة، فإن شعبنا يتوثب اليوم كما أحسب، ليضرب في الصميم،وفي القدس ذاتها، ترسانة الاحتلال الصهيوني بآلياتها الإدارية والقانونية..

أما الاعتبارات الإقليمية والدولية التي رأيتم التوقف لنتبيّن تأثيرها على السياق المقاوم والمتتابع الذي أشرنا إليه آنفاً، فإنها تضع أمامنا التغيرات والتحوّلات التالية في موازين القوى الديمغرافية والمجتمعية والإقليمية والدولية والحضارية:

ـ تصاعد قوى الكتلة الحضارية الإسلامية وتأثيرها دولياً شأنها في ذلك شأن الكتل الحضارية الكبرى الأخرى؛

ـ أخذت قوى التحالف الصهيوني الدولي تفقد شيئاً فشيئاً قدرتها على إملاء سياساتها الدولية، وهو ما أرى أن أثره سيتضح خلال الأعوام المقبلة وذلك لصالح قوى المنطقة الإقليمية: أنقرة، الرياض، دمشق، طهران، وبالخصوص القاهرة؛

ـ تنامي القدرات الذاتية الأهلية العربية التحررية والتي بدأت، عبر الحراك الشعبي المتنامي، تحصد ثمار قرنين من مساعي إحياء وتجديد مدركاتها الجماعية؛

ـ الوهن الديمغرافي الإسرائيلي أمام الفيضان الديمغرافي العربي المحيط بالكيان الصهيوني: في فلسطين وعلى حدودها يرابط أكثر من 10 ملايين فلسطيني يشكلون ضعف عديد الصهاينة اليهود (والذين يتواجد بينهم مليوني يهودي عربي).

إننا هنا أمام واقع قائم ودلالات بيِّنة على فشلٍ ذي طابع استراتيجي.. والواقع أن رئيس المؤتمر الصهيوني الأسبق ناحوم جولدمان قد أدرك واقع الهزيمة الإستراتيجية للمشروع الصهيوني في الوطن العربي في ذات اللحظة التي وصلت فيها العربدة الإسرائيلية إلى قمتها، أعني عشية حرب عام 1967 عندما نكصت القوات الإسرائيلية وهي في نشوة انتصارها عن خوض مغامرة عبور قناة السويس إلى العمق الديمغرافي العربي؛ واعتبر جولدمان حينئذٍ أن المشروع الصهيوني قد جاء متأخراً خمسين عاماً: وهو فشلٌ استراتيجي يظهره الآن بجلاء واقع الانحسار الفاضح لمشروع إسرائيل الكبرى وراء غيتو جدار الفصل العنصري في فلسطين..

إن هذا السياق الإقليمي والدولي للصراع العربي الصهيوني يظهر لنا أن قضية فلسطين ما زالت تنتظر من يحسن تدبير حلها الحل الصحيح واستثمار الفشل الاستراتيجي للمشروع الصهيوني القائم حتى لا يتطاول عمره وخطره؛ وذلك عبر توظيف العناصر المادية والمعنوية لحل قضية فلسطين باعتبارها قضية تحرر وطني بالأساس؛ وهي عناصر تتمركز في واقع الأمر حول التمكين لإرادة التحرر والكرامة القائمة والتي يفيض بها الآن الحراك العربي الشعبي الواسع على امتداد وطننا العربي الكبير: وهو ما يقتضي بالأساس تمكين هذه الإرادة من توظيف ما تتوفر عليه من عناصر القوة المعنوية الأخلاقية والإدراكية..

لكن كيف؟ ووفق أي منظور؟

أخلاقياً؛ يتوجب تجديد أساليب النضال الوطني التحرري الفلسطيني لأن أسلوبنا في النضال ما زال قاصراً عن تمثّل وإعلاء إنسانية وشرعية الكفاح التحرري الفلسطيني اللتين تجعلان من الهوية الفلسطينية هويةً نضالية تحررية لكل مناصر لهوية القدس العربية وانتمائها الحضاري العربي الإسلامي، وليس فقط هويةً نضالية لمسلمي ومسيحيي فلسطين وسائر مناضلي الشعب العربي والأمة الإسلامية..

 إن البعد الأخلاقي لقضية فلسطين يوجب على نصرة القدس وفلسطين أن تستهدف فضح الممارسات الصهيونية بأبعادها العنصرية والإقصائية، وتجريم هذه الممارسات على الصعيد الدولي سياسياً وقانونياً، ليتحقق في خاتمة المطاف نزع المشروعية الدولية عن إسرائيل نزعاً تاماً ونهائياً.. وبغير هذا لا يستقيم تحرير فلسطين بقدسها من التهويد والصهينة، وتمكينها ثانيةً من التعبير عن هويتها المجتمعية العربية وعن ذاتها الحضارية الإسلامية.

أما إدراكيا؛ فيتوجب كما أحسب، أن ننطلق من واقعنا المجتمعي وذاكرتنا التاريخية في نصرتنا للقدس وفلسطين.. علينا أن نقلع عن تقمّص أساليب العمل “التحديثوية”، ليس لأنها مجرد أساليب لا تعبر عن ذاتنا الحضارية ومنظومتها الإدراكية، بل لأنها عقيمة ولا تحقق تجديداً حقيقياً في أوضاعنا المجتمعية وبالأخص بالنسبة لقضية تحرّر وطني ذات أبعاد دولية متشابكة ومعقدة كقضية فلسطين، وفي ظرفٍ كظرف حقبتنا المعاصرة؛ حيث تختلّ فيها على حسابنا موازين القدرات التسلحية عالية التِقانة..

علينا كما أحسب أن ننظر ونعتبر في دروس الانتفاضة واحتلال العراق والحراك العربي الشعبي الراهن من أجل أن ندرك أنّ النصرة كأسلوب ممارسة، أعني نصرة القدس، هي فعل تعبوي رسالي مبادر مؤمن بالكرامة الإنسانية؛ ولذلك تقتضي النصرة الثقة بمقدرة الناس نُخباً وجماهير على المبادرة ذاتياً لتحقيق تطلعاتهم المشروعة؛ وأن تحقيق التطلعات المستقبلية للناس يقتضي القدوة النضالية المبادرة: لا مجرّد المناشدة أو الإدانة أو مجرّد مطالبة الغير بالفعل خاصةً إن كان طرفاً خارجياً خصماً أو عدواً.. علينا أن نفهم أن النصرة كرؤية سياسية- اجتماعية تعني أنّه لا سلام بلا تحرّر، وأنه لا سلام بالاستقرار المصطنع والمزيّف، وأنه لا سلام إلاّ باحترام حرمة الحقوق وإلاّ بإحقاق العدالة التاريخية، وأن النصرة لا تتحقق إلاّ بتفعيل قيم الحق والكرامة والعدالة تفعيلاً يتحقق به هدف النصرة: أي عودة العرب الفلسطينيين إلى ديارهم ووطنهم فلسطين واستعادتهم مواطنيّتهم على أرضها: لتتحقق العودة إلى القدس وفلسطين عربيةً محرّرةً، والعودة بالقدس وفلسطينها إلى أمتها وحضارتها.

لهذا كله لا أنظر بارتياح للأسلوب الذي تمّ به وقف القتال وإنهاء عدوان عملية “عامود السحاب” الإسرائيلية الأخيرة على غزّة الصامدة قبل أسابيع.. بالفعل لم تُكْسَر إرادة المقاومة والمواجهة في غزّة. أيضاً ولأول مرّة، وصلت صواريخ المقاتلين الفلسطينيين إلى عمق تل أبيب.. لكن في المقابل، تمّ كما يبدو توسيع نطاق الترتيبات الأمنية لاتفاقيات كامب ديفيد لتشمل قطاع غزة مما يُنذر بأن وضعية غزّة الفلسطينية المقاوِمة مهيأة الآن للتلاشي في بحر إكراهات مصر ونظامها المقيد بوضعيتها كدولة مجتزءَة من وضعيتها التاريخية ومحتجزة في حدودها الدولية المصطنعة.

ومن جهة أخرى، جاء استخدام “المقاومة” لصواريخها في شريط غزة بعيداً عن الارتقاء بأدائية “المقاومة” كنظام لحياة مجتمعها، وذلك على خلاف ما كان مثلاً شأن “الانتفاضة” الفلسطينية في الشهور الأولى التي تلت انبلاجها في الشهر الأخير من عام 1987.. لقد جاءت صواريخ المقاومة على حساب الارتقاء بها كنظام يعيشه مجتمع المقاومين، ولحساب طرف يوظف هذا الاستهلاك في سياق صراعاته الإقليمية والدولية.. وكان من الأجدى لو انطلقت تلك الصواريخ من داخل حدود ذلك الطرف، أو حتى من مصر ذاتها؛ ومن هنا أهمية تلك العملية التي انطلقت حينئذ من “فلسطين الصمود”: لا لأنها في ردها على عملية “عامود السحاب” قد انطلقت من خارج غزة، بل لأن ردها من داخل فلسطين الصمود يرنو لأن يُكرِّس الارتقاء بالمقاومة كنظام لا يتجزّأ عن نظام الحياة الذي يعيشه ويطوره مجتمع المقاومين.

إنّ المحصلة تفيد بأن المقاومة الفلسطينية تفتقد الآن بوصلة الارتقاء بأدائيتها التعبوية بعد أن استدرجت نفسها إلى فخ الترتيبات الأمنية الدولية؛ ومن هنا تنويهنا آنفاً بأهمية توثّب شعبنا للتعامل قانونياً وسياسياً مع ترسانة الاحتلال الصهيوني بآلياتها الإدارية والقانونية، وذلك بضرب رمزية هذه الترسانة، وتفكيك جبروتها في القدس ذاتها، حيث عنوان ادعاءاتها وساحة المعركة الفاصلة معها.

يعد “بيت مال القدس” من الصيغ العملية/الوظيفية لدعم القضية الفلسطينية عموما وقضية القدس خصوصا، كيف ينظر المقدسيون والفلسطينيون عموما لهذا البيت؟ وكيف تقيمون أداءه وفاعليته شخصيا؟

لقد حرص الحسن الثاني طيّب الله ثراه، ومن بعده حرص جلالة الملك محمد السادس حرصاً بالغاً على اضطلاع وكالة بيت مال القدس بدورها في دعم صمود أهلنا من المقدسيين ومواجهة سياسات الاحتلال الصهيوني في القدس الشريف وبالأخص تلك الرامية إلى تهويدها وتغيير معالمها، وهو الدور الذي أُنيط بها عندما انبثقت عن “منظمة المؤتمر الإسلامي” التي أصبح اسمها اليوم “مجلس التعاون الإسلامي”.

وقد بذل المغرب، بوجه خاص، جهوداً مشكورة في تمويل مشاريع هذه الوكالة، وأسس بيت المغاربة في القدس وقدّم، بذلك، مثالاً حبّذا لو قامت الدول الإسلامية الأخرى بالنسج على منواله في إطار المؤاخاة مع القدس.. كما يبذل مدير الوكالة السيد العلوي المدغري جهوداً دؤوبة لحث دول “مجلس التعاون الإسلامي” على تمكين الوكالة من الاضطلاع بدورها الذي لن يتأتى القيام به إلاّ في إطار تفعيل منظومة دعم متكاملة بين مختلف الجهود العربية والإسلامية، الأهلية والحكومية، من أجل نصرة القدس؛ ويصعب بغير هذا على الوكالة أو غيرها مجابهة المخاطر المحيقة بقدسنا وكسر الحصار الصهيوني المفروض عليها..

لذا علينا أن نصل إلى الصيغة المناسبة لتفعيل منظومة الدعم المتكامل تلك بما يكفل لكل ذي دورٍ مكانه ومكانته التي يعطيها له دوره في تفعيل هذه المنظومة المتوخّاة من أجل عودة القدس حراً عزيزاً بأهله وحضارته.. وقد أسعفتني الظروف قبل بضعة أيام بعقد لقاء مع معالي السيد العلوي بمكتبه لتبادل المشورة والرأي حول “الحملة الدولية لكسر حصار القدس” واستمعت لوجهة نظره بشأن تلك الصيغة المناسبة لتفعيل منظومة الدعم المتكامل، وأبدى بطبيعة الحال وقوفه وراء كل مسعى يحققها؛ وسنعمل معاً لتحقيقها بمشيئة الله عبر تنظيم لقاء دولي تشارك فيه مختلف الجهات العربية والإسلامية المعنية حكومياً وأهلياً بنصرة القدس.

عرف عن المغاربة تعلقهم التاريخي بالقدس، لدرجة أن عددا لا يستهان به ممن قصدها منهم حاجا لم يتردد في اتخذها موطنا له، وما حي المغاربة إلا دليل دامغ على ذلك. وهو التعلق الذي وجد ترجمته في المرحلة الراهنة، في ترؤس العاهل المغربي للجنة القدس، وفي التظاهرات المليونية التي طالما عبر من خلالها المغاربة عن تضامنهم مع القضية الفلسطينية قبل اندلاع الحراك العربي الأخير. كيف تفسرون هذا التعلق؟ وهل هناك ما يميز تعلق المغاربة عن تعلق غيرهم بها وبرمزيتها؟

كما أحسب، لم يأتِ ترؤس عاهل المغرب للجنة القدس عبثاً أو صدفةً.. إن الذاكرة المجتمعية العربية في المغرب هي الأكثر استحضاراً بحكم الموقع والتاريخ، لتداعيات نكبة اقتلاع الأندلس المسلم من تربته العربية الإسلامية.. لقد تصدّر المغرب منذ عهد القائد الأمازيغي العظيم يوسف بن تاشفين لمساعي اجتثاث الوجود الحضاري العربي الإسلامي من الأندلس؛ والذي تم بالأساس بتحريض من أوروبا الكاثوليكية الصليبية، ولم يستطع كاثوليك إسبانيا إلاّ الامتثال له. وقد تمت تصفية بنية الإسلام الحضارية في الأندلس بشراً ولغةً وطقوساً بعد قرون مديدة ثمانية من الحضور العميق الذي جعل من المركّب الإسلامي عنصراً أصيلاً لا أجنبياً في هوية الأندلس الذي درج المؤرخون على تسميته “إسبانيا المسلمة”؛ بحيث يمكننا القول اليوم بأن هذا المركّب الإسلامي يعيش اليوم كامناً، ولكن بلا مسلميه أو عربيته أو طقوسه الإسلامية.

لقد كانت عُدوَتَيْ جبل طارق في المغرب والأندلس نسيجاً مشتركاً على الأصعدة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وأحياناً السياسية؛ مما جعل من نكبة الأندلس نكبة مغربيةً المركز، لا من حيث الأعباء التي تحملها المغرب الكبير في احتضان المهاجرين النازحين الأندلسيين وحسب، بل أيضاً لما تعرض له نسيج المغرب الاجتماعي والثقافي والاقتصادي من تمزق واضطراب نتيجة لهذه النكبة التي لم تقتصر على مجال إسبانيا المسلمة بل تجاوزته ممنيةً الصليبيين باقتلاع الإسلام من مجمل الضفة المتوسطية الجنوبية، وفي المغرب الكبير منه على وجه الخصوص.. وإن كانت “الصليبية” قد ارتدت خائبة فآثارها الاستيطانية لا تزال حاضرة في احتلال سبتة ومليلية والجزر الجعفرية. بل نحسب أن أصداءها مازالت تتردد في مغرب اليوم الذي يجد نفسه محاصراً بين أوربا متعالية متربصة من جهة، وأوطان مجزّأة، من جهة أخرى، تستدعي تبعية وتجاذبات تحول دون توظيف محصلة الماضي العربي الإسلامي وشرعيته الاجتماعية توظيفاً تتحقق به التطلعات المستقبلية للمغرب وسائر أمته.

ولقد لمس المغرب عياناً أن جذور وجوده المادي والمعنوي هي ذاتها لحمة هويته العربية الإسلامية الممثلة لشرعيته التاريخية الاجتماعية.. فكان دفاعه عن هويته تلك، دفاعاً عن المغرب كوجود اجتماعي تاريخي؛ ومن هنا كان الدور المغربي حاسماً في الجهود العربية الإسلامية في مواجهة الحملات الصليبية قبل وخلال معركة حطين وما تلاها من جهود عسكرية وأهليه لتصفية الوجود الصليبي نهائياً في فلسطين خاصة والشرق العربي على وجه العموم..

لكل هذا أرى أن ترؤس المغرب للجنة القدس لا ينبغي أن يكون أمراً عارضاً، بل علامة على عزيمة المغاربة على المضي في الاضطلاع بوظيفتهم الحضارية بمحدداتها من الموقع والجوار والتاريخ؛ وهي الوظيفة التي تجعل من المغرب أميناً على دور القلعة الغربية لأمته العربية وعالمه الإسلامي: دور القائم على لمِّ شمل جناحها الغربي، ودور الاتصال المحاور بأوروبا؛ والتواصل الدعوي مع إفريقيا. وهي كلها أدوار لا تستقيم مع تصوير المغرب وكأنه حديقةً خلفية لأوروبا أو قاعدة أمامية لواشنطن يُناط بها أدوار وساطة في محيطها العربي والإسلامي أو مع جوارها الإفريقي.

ليس عبثاً، إذن، أن المغرب الكبير والأقصى منه تحديداً، إنما يجد في الذود عن هويته العربية الإسلامية مرتكزة في الاضطلاع بوظيفته الحضارية، خاصةً وأن ذاكرة المغرب الجماعية قد خَبرَت جيداً الأعداء والخصوم ناهيك بالموتورين اللذين يريدون العبث باتساع وغنى هويته العربية والإسلامية وامتداداتها الرمزية وأطيافها المذهبية والقبلية واللغوية، لعلهم يجدون في عبثهم هذا تعلةً لتشويه هوية المغرب وتسميمها مؤملين أنفسهم تجريد أهله وأمته من لحمة هويتهم ووجودهم الحضاري.

إنّ المغربي يجد في نصرته للقدس ومعايشته لها، ما يُكرِّس كينونته المجتمعية من حيث هي ذودٌ عن لحمة هويته في مواجهة المتربصين بها؛ تماماً كما يجد الفلسطيني في نضاله للعودة إلى أرضه وقدسه ما يُكرِّس معايشته لكينونته المجتمعية.

لعائلتكم علاقة تاريخية مميزة باستضافة الحجاج المغاربة، وهو ما كان داعيا لتمتيعكم بالجنسية المغربية من طرف الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله. هل لكم أن تتفضلوا بإلقاء الضوء على حيثيات ومعطيات هذا الأمر؟

كان مبنى سكن أسرة جدي لوالدي، أي سكن جدِّي محمد سعيد أحمد الشيخ حسن، يقع على سفح جبل الكرمل المطل على خليج حيفا ومينائها، وبالتحديد على أحد جانبي “مقام الخضر”؛ ولمقام الخضر مكانة روحية خاصة؛ ليس لدى المسلمين، فحسب، بل أيضا لدى الدروز الموحدين والمسيحيين واليهود على السواء.. وهو وقف كانت عائلة الشيخ موسى قيِّمة عليه إلى أن انتقلت القيمومة على الوقف، عبر المصاهرة، إلى جد الأسرة محمد سعيد أحمد الشيخ حسن، والذي قام بدوره بتحسين ظروف استقبال المقام للزوار من حيث تزويده بالمياه وغير ذلك..

ومقام الخضر عبارة عن مغارة منحوتة في الصخر؛ وقد نُحت أيضاً في جنوبها باتجاه القبلة محراب للصلاة قام الصهاينة بوضع ستارة عليه بغية إخفاء معلمه الإسلامي.. ويتم الدخول إلى “المقام” من طرف ساحة صخرية تحاذي البحر وتفصل بين مبنى سكن الأسرة وبين مبنى للزوار والضيوف الذين يفدون لزيارة المقام أو يمرون به.. ومن هؤلاء الزوار والضيوف، الحجاج المغاربة الذين كانوا يتوجهون إلى القدس إما في طريق الذهاب إلى مكة أو في طريق الإياب والعودة منها..

وقد فهمتُ من والدي، رحمه الله، أن “مقام الخضر” كان موضع حديث عابر ضمن جلسة طويلة جمعته مع جلالة الحسن الثاني الذي كانت تربطه، رحمة الله، وشائج عميقة من المحبة والاحترام المتبادلين مع والدي؛ ولقد توقف جلالة الحسن الثاني عند هذا الموضع من الحديث وما يحفل به من رمزية معبرة عمّا يربط تاريخياً بين المغاربة وإخوتهم في القدس وسائر فلسطين؛ ورأى اعتبار جميع ذرية جدي مواطنين مغاربة، كما أمر بإسقاط عوارض الأهلية عنهم ليتمكنوا مباشرةً من ممارسة الحقوق السياسية التي يتمتع بها سائر المغاربة، وكأنه، رحمه الله، يؤكد بهذا أنّ مغربية الفلسطيني ليست أمرا طارئا وإنما تعبر عن واقع انتماء مشترك مديد..

باعتباركم فلسطينيا/مغربيا تراقبون مسار الإصلاح في المغرب من الداخل، وأتيحت لكم فرصة معاينة التحولات الإصلاحية في بعض الدول التي شهدت تحولات ثورية. كيف تقيِّمون المسار الإصلاحي بالمغرب؟ وما هي المحاذير التي يتعين أخذها بعين الاعتبار لضمان نجاحه؟

أبديت، في سياق آخر، وجهة نظري بشأن “الربيع العربي” وأنه علامة على إنهاء استفراد الغرب الاستعماري بالوصاية على النخب العربية الحاكمة.. وفي هذا السياق أسجل ملاحظات ثلاث رئيسة حول الموقف من الإصلاح كما تُعبِّر عنه النخب المغربية تاريخية أم تقليدية أم جديدة.. أول الملاحظات تتصل بكون شرعية النخبة المغربية الحاكمة هي شرعية تاريخية متجذرة في تاريخ المغرب الحديث على امتداد القرون الأربعة الأخيرة، بل إلى العهود الإسلامية الأولى خاصة أن العلويين يرجعون هذه الشرعية إلى الأدارسة أنفسهم..

 لقد تعرضت هذه الشرعية لخطر الانقطاع وذلك عندما بسطت الحماية الفرنسية سطوتها على المغرب المعاصر؛ غير أن الخيارات الوطنية الحاسمة للسلطان محمد الخامس عملت على تجديد هذه الشرعية.. ومن هنا فهي ليست مجرد شرعية رمزية مستمدة من النسب الشريف، بل لها أوجهها الإصلاحية التي جاءت بها ابتداءً إلى سدة الحكم، وكذلك لها أوجهها الجهادية الوطنية الراهنة التي ارتبطت بالكفاح الوطني من أجل التحرر والاستقلال في المغرب المعاصر..

ومن هنا أقول أن أكثر ما يميز الأسرة العلوية الحاكمة هو فهمها لبنية المغرب الاجتماعية، وحضور مفهوم الشرعية لديها بأبعاده التاريخية والدينية والاجتماعية والنضالية وذلك باعتبارها أبعادا يتحقق بتكاملها استقرار الحكم والتفاف الجماعة الوطنية حوله.

والملاحظة الثانية وثيقة الصلة بسابقتها، إذ أنها تبرز إدراك السلطان والـمُلْك بالمغرب لأهمية تكامل تلك الأبعاد من أجل تدعيم الشرعية والاستقرار. ومن هنا مدّ العاهل المغربي يده للنخب المغربية على اختلافها بما فيها النخب السياسية والإسلامية.. أما ثالث هذه الملاحظات فترصد تجاوب مختلف النخب المغربية مع هذه المبادرة من أجل دفع الفوضى والاضطراب بعيداً عن البلاد.. وهي ملاحظات ثلاث تؤكد جميعها تجذّر قاعدة شرعية الحكم في المغرب بأبعادها التاريخية والاجتماعية والسياسية.

ولا شك أن لهذه القاعدة  الشرعية أهميتها في تزكية عوامل وشروط بناء المستقبل بالمغرب، وإن كانت لا تكفي بحد ذاتها لبناء هذا المستقبل.. إنها قاعدة ومنطلق مواتٍ لبناء المستقبل عندما يتحقق لهذا المستقبل التوظيف الذي لا غنى عنه لمعطيات الماضي بأبعادها الاجتماعية والإقليمية والمعنوية.. وهي أمور ترتبط بقضايا الهوية الوطنية والحضارية والاندماج الإقليميين ناهيك بالتحرر الفكري الذي يشكل رافعة التحرر السياسي/الاقتصادي من التبعية والطغيان الدولي وأدواته المحلية..

وهنا يتوجب ألا يغيب عن بالنا أن المغرب مازال يعاني من انسلاخ عدوته الأندلسية عنه بالرغم من أنه قد مضى على ضياع الأندلس أكثر من خمسة قرون.. إن مواجهة هذه المعاناة وتجاوزها يتطلب توطيد اندماج المغرب بامتداده الوطني والإقليمي العربي وهذا أضعف الإيمان، وهو ما انفك جلالة الملك محمد السادس، ومن واقع موقعه ورؤيته ومسئوليته، يؤكد عليه في المناسبات التي تستدعيه.. إن شروط الإصلاح في المغرب، كما هو شأن الأمصار العربية الأخرى، لا تتوقف على الأصعدة الدستورية والسياسات المحلية، بل إن لشروط الإصلاح متطلباته الاجتماعية والمعنوية والاقتصادية بالأساس كما تتحدد بالحي والفاعل من التاريخ والبلدانية البشرية واللذين، على سبيل المثال لا الحصر، تنهض القدس وقضية فلسطين بالشهادة الحيّة الفاعلة عليهما، وإن لم تكن بطبيعة الحال الشهادة الوحيدة على هذه الحيوية والفاعلية تاريخياً وبلدانياً وبشرياً.. 

 كيف تفسرون “واقع التأخر التاريخي” الذي طالما عانت منه مجتمعاتنا ولا زالت؟ وما هي من وجهة نظركم أنجع السبل النظرية والعملية لتجاوزه؟

نتساءل هنا عن “التأخر التاريخي” الذي تعاني منه مجتمعاتنا.. تساؤلنا هنا يتعلق إذا بالتاريخ، وبالتحديد حركتنا من الماضي إلى المستقبل: وأنت قد وصفتها بالتأخر. أي أن تساؤلك، أو تساؤلنا، بخصوص “واقع التأخر” التاريخي هو تساؤل عن مبعث العجز في أن تكون محصلة حركتنا نحو المستقبل محصلة تزكي واقعنا وترتقي به نحو الأفضل الذي يحقق تطلعاتنا واحتياجاتنا. وأنا هنا أقول “واقعنا” تجاوزاً، مع أن السؤال يتحدث عن “واقع التأخر التاريخي” وليس عن واقع “تأخرنا التاريخي”؛ وبالتالي من غير الواضح ما إذا كان التأخر تأخراً عن اِلآخرين المعاصرين لنا (أوروبا والغرب مثلاً) أم أنه تأخر منسوب إلى ماضينا أم إلى ما لم يتحقق من المستقبل الواجب لهذا الماضي.. على العموم، السؤال يتحدث عن معاناة “مجتمعاتنا” من هذا الواقع، وهو ما سمح لي بأن أقول ما قلت تجاوزاً؛ والسؤال بهذا يتحدث عن معاناة مرتبطة بعجزنا عن التعامل مع واقعنا.. ناهيك أنك لم تحدد لمن يعود الضمير المتصل “نا” في مجتمعاتنا: إلى المغاربة أم العرب أم المسلمين؟.. وهو ما يستدعي مني توضيح ما أفهمه من كلمة “مجتمع” سواءً نُسب إلى العرب أم إلى المسلمين: وهذا يضعنا على شق من شقي الإجابة: أعني به الشق الذي يتعلق بماضي واقعنا؛ وذلك في مقابل الشق الآخر المستقبلي، حيث تتحقق التزكية المطلوبة في مستقبل واقعنا، وشروط تحقق تلك التزكية..

بطبيعة الحال، فالمقصود، سياقا ومقاما، من ضمير الإسناد (نا) يعود على المجتمعات العربية والإسلامية؛ أي على الأمة العربية الإسلامية.

طيب.. بالنسبة للشق الأول الذي يتعلق بماضي واقعنا، أرى أن الإعاقة هي عنوان واقع تأخرنا التاريخي وأن التحرر من هذه “الإعاقة” هو مدخل الخروج من واقع هذا التأخر… إن “التحرر” كعنوان عربي للخروج من التأخر التاريخي يعني أن المشكل الرئيس الذي يعترض المستقبل العربي لا يتعلّق بأسلوب توظيف القدرات والموارد العربية، فحسب، وإنما بالتبعية والتجزئة والاستبداد اللذين يحولون ابتداءً دون القيام بهذا التوظيف ودون الشروع فيه.. أي أن المشكل الأساس ليس مشكل أسلوب وكفاءة التوظيف، وإنما عدم إمكان التوظيف ذاته.. وبالتالي فإن “التحرر” عربياًّ يعني المضي في نقل الإمكانات العربية: من دائرة القابلية النظرية للتوظيف، إلى دائرة المتاح واقعاً وفعلاً للتوظيف والتفعيل: سواءً تعلق الأمر: بالتحرر تحريراً للأرض من الاحتلال الذي يشكل الصورة الفجّة الصارخة لمصادرة الإمكانات العربية لحساب أطماع وقوى خارجية قد تجد سنداً لها في الداخل؛ أم تعلّق بتكامل واندماج ووحدة الإمكانات العربية والإسلامية، وبما يحقق التحرّر من التجزئة التي تَـحول دون وحدة الأمة واستئناف مسيرتها المجتمعية توظيفاً للمعطيات المادية والمعنوية لماضيه؛ أم تعلّق بِالثقافة المجتمعية تحريراً لها من الاستبداد بهويتها ووعيها: تسفيهاً للمدركات الجماعية للأمة، أو تعميةً على احتياجاتها الأساسية، أو تسميماً لمعتقداتها وتوجهاتها التحررية؛ أم تعلّق بتكريس “الجماعية” سمة لمنظومة عملٍ عام تُحرّر المجتمع من الاستئثار بإدارة الشأن العام، كما تحرره من الاستئثار بالمعرفة أو بالرأي والقرار أو بمسؤولية وأمانة الفعل والممارسة السياسيين؛ أم تعلّق بمنازلة الطغيان الظاهر والكامن من خلال توجيه جهود الأصعدة السابقة جميعها وجهةً تحررية تُنهي التبعية، وتحقق الوحدة والإنماء الذي يعتمد على الذات، وتجعل من مكسب أي صعيد من هذه الأصعدة مكسباً للأصعدة الأخرى (لا على حسابها) وخطوةً نحو إنجاز مرحلة التحرّر باستحقاقاتها كاملة، ليتحقق حينها وحينها فقط، نقل إمكانات الأمة من مجال الممكن نظرياًّ، إلى مجال المتاح فعلياًّ لبناء المستقبل.

وعبر هذا التوجه التحرري، وعبره فقط، يمكن للسياسة العربية الإسلامية ولنظامها أن تحمي ذاتها المجتمعية وأن تفعِّل سائر مقدراتها..

غير أن تفعيل الممكن تحررا في الداخل يواجه في واقع الأمر عقبة كأداء تتصل بالشق المستقبلي، الذي أشرنا إليه آنفاً، وشروط تحقق التزكية المأمولة في واقع مستقبلنا.. إن التحرر من قيود الماضي التي تحول دون تفعيل مقدرتنا على تنمية مستقبلنا وتحقيق تطلعاتنا كانت ستكفي لو كنا لم نتعرض لإكراهات العقود الاستعمارية الطويلة من القرنين 13 و14 الهجريين (19 و20م).. ولإيضاح هذا دعنا نعود لتاريخنا قرونا إلى الوراء..

لقد تعرض الكيان الاجتماعي لأمة الإسلام لتحديات قاد إليها تنامي نفوذ أفواج الوافدين الجدد إلى الإسلام فرساً، ومغولاً، وتتراً، وتركاً، وغيرهم ممن استقروا في حواضر ومفاصل الدولة الإسلامية: وكان لهذا تداعياته على وحدة الثقافة العربية السائدة على ذلك الحين والتي شكلت اللحمة الاجتماعية لدولة الخلافة ونواتها الاجتماعية التي كانت بذورها المجتمعية قد بدأت تَنبت وتُزهر شيئا فشيئا في تربة الحضارة الإسلامية..

كان ذلك إيذانا بأفول سيادة العصبية القبلية العربية، إذا أردنا استعارة مصطلح ابن خلدون، ولكنه كان في ذات الوقت إيذانا بعصبية مجتمعية جامعة ومستوعبة بثقافة الإسلام العربية؛ وهي عصبية مجتمعية استوعبت لُحمتُها مختلف الجماعات التي قُدِّر لها أن تتسمّى بلغة القبائل التي حملت بالعربية لواء الدعوة الإسلامية في أطوارها الأولى، والتي جاء كتاب الإسلام قرآنا بلغتها؛ ومن هنا عُرِفت الأمة المجتمعية لهذه الجماعات بأنها أمة عربية..

غير أنه لم يقدر لهذه العصبية أو، الرابطة الاجتماعية الجديدة، أن تستوي على عودها بعد أن ردّت ثم استوعبت في القرنين السابع والثامن الهجريين (13م و 14م) الغزاة من جحافل التتر والمغول ومن حملات الفرنجة الصليبية؛ إذ سرعان ما أمسك العثمانيون بمقاليد أمورها في مطالع القرن العاشر الهجري (16م) خاصة بعد أن تردت أوضاعها الاقتصادية نتيجةً لسقوط الأندلس، ناهيك باكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح الذي أحال حواضر وموانئ الإسلام المتوسطية المزدهرة إلى موانئ مهجورة ومسالك وطرق تجارية آفلة..

كانت مشكلة الحكم العثماني بالنسبة للنواة المجتمعية العربية التي يحكمها؛ هو في الازدواجية التي يعيشها هذا الحكم الذي يستمد شرعيته من الولاء لثقافة جامعة لـمّا يُقَدّر له بعد أن يجعل من لغتها العربية لغته.. وفي المقابل كان هناك أمة مجتمعية صنعها الإسلام وعرّب لسانها.

ألا تشكل التحولات العميقة التي تعرفها مجتمعاتنا إيذانا بتجاوز هذا الانكفاء؟

إنّ أهمّ ما حققه “الربيع العربي” هو إنهاء استفراد وصاية الغرب الاستعماري على النخب العربية الحاكمة.. غير أنه أمام النخب الجديدة وبالأخص الحاكمة منها، أن تدرك عمق الاستلاب الذي ألحقته “الحداثة الغربية” بحق الثقافة العربية الراهنة والفصام الثقافي الذي ألحقه بها هذا الاستلاب، وأثره في تعطيل قدرة الحضارة العربية الإسلامية على تجديد مدركاتها وإحياء مجتمعها..

إن جوهر الحداثة الغربية، على خلاف ما كان عليه شأن سابقتها الحضارة الكاثوليكية، هو القطع مع الماضي قطعاً لا يعرف إلاّ النسبي والراهن ولا يقر إلاّ لغة الأرقام؛ وهذا بدوره هو جوهر تناقض هذه الحداثة مع الحضارة العربية الإسلامية التي تستمد قدرتها التجديدية والإحيائية من تواصلها مع تراثها، القرآني منه بشكل خاص، والتي تجعل من هذا التواصل منهجاً يسم تعاملها مع ظروفها ومنطلقاً لبناء مستقبلها.

إن قطع الحداثة الغربية مع الماضي يجعلها مرجعيةً لذاتها، ومن ثم يفتقد إنسانها القدرة على الاقتداء؛ ومن هنا الطابع الإلزامي القهري للنظام العام في الحضارة الغربية الذي يسم تغوّل الدولة من الخارج على الناس باسم “خارج” مبهم يُنسب عادةً للقانون، وعبر سلسلة من الإجراءات تجعل الإنسان، من الناحية النظرية وحسب، مرجعية لذاته في إطار إجرائي محض يُسمّى “النظام الديمقراطي”..

بالمقابل، فإن الحضارة الإسلامية ذات مرجعية متجاوزة تؤسس للتواصل مع الماضي، وتؤسس له لا باعتباره مُؤسِّس للاستهداء فحسب، وإنما أيضاً للاقتداء؛ وذلك عبر منظومة معنوية تستند للحق الواحد كناظم لقيم الحياة الإنسانية؛ وتسم بهذا الاستناد سلوك إنسان الحضارة العربية الإسلامية باعتباره سلوكاً ملتزماً طوعياً وينبع من نفس الإنسان ولا يُكرَه عليه أو يُلزِمه به خارجٌ مبهم.. لهذا لا أحسب أننا يمكن أن نتجاوز الإعاقة الراهنة التي تعانيها مجتمعاتنا العربية الإسلامية إلاّ عندما نطوي التشوهات المعنوية التي أحدثتها الحداثة الغربية بحق ثقافتنا؛ إذ أنّ ما نعانيه ليس مجرد مجانبة للخِلقة الإنسانية وإنما فصاما يكرِّس التناقض في بنيتنا المعرفية، وبالتالي يصيب حركتنا بالشلل..

ومن هنا يمكن القول، أن عنوان تجاوز “تخلّف واقعنا المجتمعي عن تطلعاتنا المستقبلية” يجعل من التحرّر المعنوي المعرفي رديفاً لازماً وملازما للتحرر المجتمعي من التبعية والتجزئة والاستبداد السياسي والاقتصادي خارجياً وداخلياً.

حديثكم عن التحرر المعرفي والمعنوي يقودنا للحديث عن سؤال المرجعية ودور الإسلام في تشكيل هوية الأمة واستئناف نهضتها؟

الإسلام لم يكن وحسب عنصراً من عناصر الثقافة الجامعة للمجتمع العربي؛ وإنما كان الإسلام أيضا حين ابتدأ به التكوين المجتمعي العربي: عقيدة جماهيرية ظاهرة (على غيرها) بتوجهها إلى الإنسان بما هو إنسان: بغض النظر عن انتماءاته الاجتماعية: فحررته  عقيدياً من الولاء والموالاة لغير الحق (تعالى): وكفلت له منظومة فكرية تقوم على وحدة القيم في التعامل ليس بين معتنقي الإسلام فحسب، وإنما في التعامل مع غيرهم من الناس على أساس من وحدة الكرامة الإنسانية.. فكان الإسلام بذلك ليس مجرد منظومة فكرية مشتركة بين معتنقيه، وإنما أيضا قوة تحريرية من التبعية التي انحدرت إلى درجة العبودية خاصّةً في مصر وغيرها من أمصار الشمال الإفريقي؛ وهو ما كفل للجماعات المنضوية فيه: ظروف الاستقرار والتعامل والتفاعل الاجتماعيين بحرية: أي أن الإسلام قد كفل لها تحقّق شرط أيّة تزكية اجتماعية ترتقي بالناس بما في ذلك الارتقاء بهم من طور العمران البدوي إلى طور العمران الحضري الذي تتكون به الجماعات القبَلية مجتمعاً بثقافته الجامعة: وذلك عندما يُقدّر لها التفاعل بحرية في ظروف من “الاستقرار” الممتد (زمانياً)؛

وبذلك كانت مقومات الثقافة العربية من لغة، وقواعد وأحكام المعاملات، والعادات والتقاليد والأعراف، والقيم والمدركات الجماعية،هي تلك التي صُنِعت بالإسلام ومنظومته الفكرية، وذلك عبر أجيال لم تستَوِ تكويناً مجتمعياً إلاّ بعد أكثر من أربعة قرون متواصلة من الحياة المستقرة الممتدة والمشتركة في ظل الإسلام على أرض موطنها المشترك..

فالصفة المجتمعية، إذن، ليست مجرّد صفة لبشر يستوطنون إقليماً يمارسون عليه سلطانهم السياسي عبر مؤسسة الدولة؛ وإنما هي الحصيلة التاريخية التي تجعل من الإقليم الذي تستوطنه أجيالٌ متعاقبة من الناس وطناً لهم؛ والتي تجعل عبر ذلك، من جماعة مستوطني الإقليم مجتمعاً متميزاً بثقافته الجامعة (والتي تنتظم ما ينشأ تاريخياً من علاقات اجتماعية وإنتاجية ومعنوية يتكون بها المجتمع)؛ فمصطلح “الأمة” هو الدلالة على حصيلة تلك العلاقة المركبة: البشرية/المكانية/الاجتماعية/التاريخية: والتي مجالها حقل دراسة التطور والارتقاء الاجتماعيين للبشر على امتداد أماكن تواجدهم خلال زمان حياتهم المشتركة: أي مجال الدراسات التاريخية البلدانية للبشر.

هناك من يعتبر أن “الفكر السياسي الإسلامي الحديث والمعاصر” لا يعدو أن يكون مجرد تأويل إيديولوجي وظيفي لمنظومة الحداثة السياسية. ما مدى صحة هذا الحكم؟ إذا كان لهذا الفكر من أصالة فأين تكمن، من وجهة نظركم، هذه الأصالة؟ 

إذا أردنا أن نعتبر أصالة الفكر السياسي العربي الإسلامي (الحديث والمعاصر) أمرًا مرهونًا بتجاوزه لدور تلفيقي يعيد إنتاج المنظومة الفكرية للحداثة السياسية، فلا شك أن لفكرنا العربي السياسي أصالته وعلى وجه الخصوص في إطار أدبياته الإسلامية. غير أنه هناك بالمقابل اجتهادات لن أُسَمِّي أصحابها: لكن يتوجّب الوقوف عندها والتحفظ بشأنها في هذا الصدد لكونها تمارس ذلك السلوك التلفيقي وأحياناً بعبارات ومصطلحات ومفردات تراثية ومن قبل  أسماء كبيرة لها وزنها السياسي والعلمي..

يبقى أن الدلائل عديدة على اتسام كثير من أدبيات فكرنا العربي السياسي بالأصالة جدةً وعمقاً.. إن الأدبيات والمواقف السياسية التي تتبنّى المرجعية الإسلامية وترفض القطع مع الماضي، إنما تعبر عن تلك الأصالة. وكذلك تلك الأدبيات التي تحاذر من ممارسة ذلك التلفيق الذي أشرت إليه.. وهي أدبيات عديدة تكاد تستعصي على الحصر، ويشوب بعضها أو حتى كثير منها اجتهادات تلفيقية تعود إلينا في ضريبة حالة الفصام التي نوهتُ إليها آنفاً، ناهيك عن كونها؛ (أي تلك السمة التلفيقية) خصيصة تشوب بقدر كبير أو قليل أيما فكر واجتهاد إنساني؛ ولا ننسى في هذا المقام ما يحفل به تراثنا من تحذير لا ينقضي من الشرك الخفي الذي يكاد يتسلل إلى نفوسنا ويتلَبّسُنا مع كل نفَسٍ ينفثه صدرُنا أو مع كل خاطرة تراود ذهننا.

بالطبع، إن الـمُعَوّل عليه في هذا المضمار هو التطوير الواعي لهذه المواقف المبدئية، لتضحى فكرًا يستوعب الأدب السياسي الإنساني بمختلف مدارسه؛ تقليدية، وليبرالية، واشتراكية، ويتمثّل توجهات هذه الأدبيات دينية أم علمانية أم إلحادية أم عدمية، ويتناول مختلف هذه التوجهات وتلك المدارس بالنقد والتقييم وهو يقدم فكره السياسي العربي الإسلامي..

إذا انتقلنا من مجال الفكر إلى مجال التعليم، نلحظ أن النظام التعليمي يعاني في جل إن لم يكن في كل الدول العربية من اختلالات بنيوية على مستوى الرؤية كما على مستوى الوسائل والمناهج.. كيف تشخصون أهم معضلات المنظومة التعليمية خاصة فيما يتصل بالتعليم العالي؟ وما هي أنجع السبل لتجاوزها؟

حاولتُ قبلاً أن أُبين أن تجاوز تخلّف واقعنا المجتمعي إنّما يتطلّب طيّ فصام التشوهات المعنوية التي أحدثتها الحداثة الغربية بحق ثقافتنا العربية الإسلامية.. بغير هذا يتعذر تحرّرنا من الشلل المتربص بحركتنا نتيجة تغيير وجهتنا الفكرية من جهة، وذلك لصالح وجهة “حداثية” تتناقض مع بنيتنا المعرفية وطابعها الاستهدائي بالوحي؛ ونتيجة لتعتيم الحداثة، من جهة أخرى، على نموذجنا الحضاري الاقتدائي.. وما بقي هذا الشلل لن يتأتّى لنا تحديث واقعنا بتزكية ظروفنا وتجديد مدركاتنا؛ وإنّما ستعمل “الحداثة” على مسخ ماضينا عِوضاً عن البناء عليه ناهيك أنها ستدفع نحو تعطيل مستقبلنا عِوض إحيائه؛ وسنبقى بذلك مفتقدين للطاقة المعنوية الملهمة والدافعة لجهود تحررنا من التشرذم  والتبعية والاستبداد.. وبذلك نظل مفتقدين لروح العملية التعليمية وأساسها؛ أعني الأستاذ المؤمن بهويته وثقاقته، لا المستلَب أو المقيد أو المرتهن لحساب خصومها أو المتنكرين لها؛ كما نبقى مذبذبين بين ولاء منكور لتراث ولغة غيرنا وولاء معطّل لتراثنا ولغتنا؛ وتظل العملية التعليمية مفتقدة لهدفها الذي لا يتحقق إلاّ ببناء المستقبل توظيفاً لمعطيات الماضي وتحقيقاً لتطلعاته المشروعة..

ضمن هذا المنظور لا تبدو المعضلة المحيقة بالتعليم معضلةً عمليّةً أو إجرائية بقدر ما هي معضلة توجُهيّة ومعنوية تجعل من تحقيق النجاح المستهدف تكريساً للفشل.. إن جوهر العملية التعليمية يكمن في صنع المفاهيم باعتبارها منهجية صنع الحياة؛ فكيف يمكن لمفاهيم تتغنّى بِـ”حداثة” هي مناقضة لبنيتنا وقناعاتنا المعرفية، وعاجزةً بالتالي عن تحديث ظروفنا، أن تصنع حياةً مستقبلية سويةً لأجيالنا القادمة.. وهل يجانبنا الصواب إن اعتبرنا أولئك المُتَغَنِّين بحداثة لا اقتدائية ولا إحيائية: أناساً ينطبق عليهم قول الله تعالى: ﴿الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا﴾ (الكهف: 104).

د. سعيد خالد الحسن

جامعة محمد الخامس السويسي/سلا

رئيس مركز خالد الحسن-الرباط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق