وحدة الإحياءدراسات محكمة

القراءة السياقية عند الأصوليين.. قراءة في مفهوم معهود العرب عند الشاطبي

لا معنى من دون سياق، ولا تأويل من دون اعتباره. تلك إحدى خلاصات تعاطي الأصوليين مع خطاب الوحي وإحدى مسلماتهم التي قرروها نتيجة تفاعلهم معه قراءة وفهما وتأويلا. فمنذ البدايات الأولى لتدوين علم الأصول وبناء أدواته، ورسم مفاصله ومهامه، على يد مؤسسه الأول محمد بن إدريس الشافعي، ظهر الاهتمام بمفهوم السياق، وبرز دوره واضحا في تأويل الخطاب؛ بل إن الشافعي قد “بوب لذلك بابا فقال: الصنف الذي قد بين سياقه معناه”[1]. وليس ذلك إلا لإدراكه لضرورته في تحقيق البيان الذي سعى لإقامته نموذجا في التأويل وقانونا عليه المعول في إنجاح سيرورة فهم كتاب الله، واستخلاص مقاصد المتكلم به.

لم يكن الشافعي، وهو يؤسس لعلم الأصول، بانيا لمفاهيم منفصلة بعضها عن بعض؛ ولكنه كان مؤسس نموذج في فهم الوحي “وقانون عام يعول في تفسيره عليه، ويرجع في تفسيره إليه”[2]. ولذلك فقد كان تأثيره في من أتى بعده لا حد له. لقد تناولت إشاراته، الصريحة، بل وغير الصريحة أيضا، بالشرح والتفسير، والتكملة والنقاش. وكان مفهوم السياق أحد تلك الإشارات التي التقطها الأصوليون بعده، وأولوها اهتمامهم. وزادت عنايتهم بها مع توالي الأحداث، وتجدد الوقائع، وتغير المساقات، فزاد إدراك الأصوليين لأهمية السياق وخطورة دوره إلى الحد الذي قال أحد كبار أصوليي الغرب الإسلامي في القرن الثامن الهجري “كلام العرب على الإطلاق لابد فيه من اعتبار معنى المساق”[3]؛ لأنه “لو اعتبر اللفظ بمجرده لم يكن له معنى معقول”[4].

إن هذا الذي آل إليه أمر السياق مع الأصوليين من حيث العناية به، وإدراك أهميته، والشعور بخطورته، لم يكن ببعيد عما آل إليه أمره مع التداوليين المعاصرين الذين رأوا، كما رأى قبلهم الأصوليون، أنه “لا فهم ولا تواصل من دون الاهتمام بمقاصد المتكلم”[5] ولا وصول إلى هذه المقاصد دون الارتكاز على السياق، إذ المعنى عليه يقوم، وبه يتأسس وبتغيره يتغير التأويل[6] ويتنوع.

غير أن أهم ما يمكن استخلاصه من متابعة هذا المفهوم في الدراسات التي اهتمت به أن السياق سياقات، لا بالمعنى الذي يفهم منه تعدد حالاته، ووضعياته، ومصادر عناصره، ولكن بالمعنى الذي يراد منه اختلاف المقصود منه، ومن ثم تعدد تعريفاته النظرية، وتجسيداته التطبيقية.

وإن كان الاختلاف سمة السياق، فإن ذلك لم يمنع من محاولة ضبطه، وإحكام تحيينه حتى لا يترك زمام أمره للصدفة أو لفانطازيا المستقبل، إدراكا لأهميته وخطورته في التأويل. لم يكن ذلك صنيع بعض النظريات المعاصرة في قراءة الخطاب وتأويله، ولكن كان ذلك، أيضا، من مطامح نظريات تراثية تعاطت لفهم النص وتأويله.

ونحسب الأصوليين أهم من سعى لذلك من المدارس التراثية نظرا وممارسة. وكانت تجسيداتهم السياقية متنوعة وتحت أسماء ومفاهيم مختلفة لكنها تعبر عن نفس الرغبة، وتعالج نفس المسألة. وتتغيا هذه الدراسة أن تكشف عن دور السياق وأهميته وبعض إشكالاته من خلال أحد تجسيداته المتميزة عند واحد من كبار أصولي الغرب الإسلامي ألا وهو أبو إسحاق الشاطبي انطلاقا من مفهومه معهود العرب.

1. مفهوم معهود العرب محاولة في التأصيل

يرتبط هذا المفهوم بمفهومين كبيرين أعمَّا منه. منهما يتنـزل وإليهما ينتسب حقيقة أو ادعاء. هذان المفهومان هما: مفهوم لسان العرب كما أسسه الشافعي، ومفهوم أمية الشريعة كما بناه الشاطبي. أما ارتباطه بالثاني فأمر ثابت لا شك فيه، وأما استمداده من الأول فأمر يحتاج إلى وقفة، وبه نبدأ. فما علاقة مفهوم معهود العرب الذي أسسه الشاطبي بمفهوم اللسان؟

أ. مفهوم معهود العرب ومفهوم اللسان العربي: أي علاقة؟

لقد كان مفهوم اللسان[7] من أهم المفاهيم التي بناها الشافعي وهو يؤسس نموذجه في فهم القرآن وتأويله. ويتعلق هذا المفهوم، إذا أردنا الاختزال، بطبيعة عربية الوحي، وما تستتبعه وتقتضيه على مستوى القراءة والتأويل. وقد كان هذا المفهوم موضع احتفاء خاص من لدن الشاطبي؛ إذ تعددت الإحالة إليه، وكثرت صيغ التنويه به.

إن القول بأن القرآن عربي يعني أنه نـزل بلسان العرب على الجملة”[8]؛ وهو بذلك عربي “في ألفاظه ومعانيه وأساليبه”[9]. وإذا كانت ألفاظه عربية بالأصل أو اكتسبت عربيتها باستعمال العرب لها بعد أن لم تكن كذلك، فإن المعاني والأساليب مما ينبغي أن يتضح معنى كونها بلسان العرب.

ليصل الشاطبي إلى ذلك اعتمد على النص المؤَسِّس لهاته المسألة عند الشافعي؛ يقول الشاطبي: “أما ألفاظها فظاهر للعيان”[10]؛ أي ظاهر كونها عربية، و”وأما معانيها وأساليبها، فكان مما يعرف من معانيها: اتساع لسانها، وأن تخاطب بالشيء منه عاما يراد به الظاهر ويستغنى بأوله عن آخره، وعاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص ويستدل على هذا ببعض الكلام، وعاما ظاهرا يراد به الخاص، وظاهرا يعرف في سياقه أن المراد غير ذلك الظاهر، والعلم بهذا كله موجود في أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول اللفظ عن آخره، أو يبين آخره عن أوله، ويتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون اللفظ كما تعرف بالإشارة، وهذا عندها من أفصح كلامها؛ لانفرادها بعلمه دون غيرها ممن يجهله، وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، وتوقع اللفظ الواحد للمعاني الكثيرة…”[11]. وقد أورد الشاطبي بالحرف تقريبا نص الشافعي[12]، بل وأتبعه بالأمثلة نفسها تقريبا التي ضربها الشافعي تمثيلا للمفاهيم وطرق القول التي ضمنها نصه المؤسِّس.

لماذا هذه العودة من الشاطبي لهاته المسألة بالتحديد؟ بتعبير آخر ما المقصود بالقول بمفهوم اللسان وما المراد من التأكيد والإلحاح على أن القرآن نـزل بهذا اللسان؟ وما يستتبع هذا التقرير؟

نتبين الجواب عن هذا السؤال بشكل صريح وواضح من خلال إصراره على تمييز ما يقوم به بخصوص عربية القرآن عما قام به أولئك الذين حصروها في جانب الألفاظ واختزلوها في حديث مكرور، وسؤال لا “غناء منه” عن وجود ألفاظ أعجمية في القرآن أو عدم وجودها، يقول الشاطبي: “إن البحث على هذا الوجه ليس مقصود هنا. وإنما المقصود هنا أن القرآن نـزل بلسان العرب على الجملة وطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة”[13].

إذن، فالحديث عن عربية القرآن الشاملة، والإلحاح على نـزوله بلسان العرب إلحاح على سَنَن للقراءة والتأويل، ولذلك نجد الشاطبي يضيف بمزيد من التأكيد “إذا حُقِّق هذا التحقيق“؛ أي إذا تقرر أن القرآن نـزل بلسان العرب فالنتيجة المنطقية أن يسلك “به في الاستنباط منه والاستدلال به مسلك كلام العرب في تقرير معانيها ومنازعها في أنواع مخاطباتها”، كلام العرب أو لسان العرب الذي من دونه تستحيل قراءة النص الإلهي وفهمه، “فمن جهة لسان العرب يُفْهَم ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة[14] وإلا كان “في ذلك فساد كبير وخروج عن مقصود الشارع”[15].

لقد كان هذا الأمر هو المحرك الذي دفع الشافعي إلى تأسيس هذه المسألة، وهو الدافع نفسه، أيضا، الذي حرك الشاطبي للعودة إليها. إن الدافع إلى تأسيس المسألة، والنظر فيها، والإلحاح عليها غايته بناؤها وتقريرها مسلمة تأويلية، بها يُفهم القرآن، ووفق شرائطها يقرأ، واعتمادا على خصائصها يتم الكشف عن معانيه ودلالاته وأبعاده.

إن اللسان بهذا التصور يصبح ذلك السنن الذي يربط مرسل الرسالة بمتلقيها في إنتاج القول، ليس ذلك فحسب، بل والعَقْد CONTRAT، أو الجزء الأكبر والأهم منه الذي يؤسسه النص من أجل تنظيم قراءته وتأويله، وإحكام عودة المتلقي عبر النص نحو نية المرسل ومقصديته، مادام أن “كل تأويل هو عملية بحث عن المقصدية”[16]. ولأن السنن يختلف باختلاف البيئات والمجتمعات والشعوب، واختلاف طرائقهم في الكلام وإنتاج الملفوظ، وكيفيات تلقيه، ولأن الرسالة عربية أرسلها الله لمتلقين عرب بالسنَن نفسه الذي يتقنون، كان من غير المعقول بل من العبث قراءتها بغير ما نـزلت به “فكما أن لسان بعض الأعاجم لا يمكن أن يفهم من جهة لسان العرب، كذلك لا يمكن أن يفهم لسان العرب من جهة لسان العجم”[17].

ولأن كثيرا ممن أتى بعد الشافعي لم يأخذوا المسألة وفق هذا المنظور، كما يرى الشاطبي، فقد رأى أنه من الواجب التنبيه على ذلك، يقول: “والذي نبه على هذا المأخذ في المسألة هو الإمام الشافعي في رسالته الموضوعة في أصول الفقه، وكثير ممن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذ فيجب التنبه لذلك[18].

إنها، إذن، عودة “تنبيه” وتذكير بما رأى الشاطبي أنه تُجوهل أو بتعبيره “لم يأخذ به”. أفلم يأخذ الأصوليون فعلا بهذا الأمر؟

لا شك أن بعض الأصوليين جزَّؤوا المسألة، واختزلوا عربية الوحي القرآن في المستوى المعجمي، إلا أنهم لم يتجاهلوا لسان العرب باعتباره طرقا في القول، وأساليب في إنتاج الكلام. ومن يراجع المفاهيم التي فصلوا فيها القول في الأبواب المخصصة للاستنباط والاستدلال يدرك ولا شك هذا الأمر بشكل جلي. إذا كان هذا هكذا، فما الأمر الذي لم ينتبهوا إليه إذن فدعا الشاطبي إلى التنبيه عليه؟

ذلك ما سيتبين لنا بُعَيْد الانتهاء من قراءة نص الشاطبي الذي علق به على النص المؤسس لمسلمة اللسان عند الشافعي:

بعد عرض الشاطبي لمسألة لسان العرب كما أسس لها الشافعي من خلال نصه المؤسس[19]، ومن خلال الأمثلة الموضحة والمفصلة للمفاهيم الجزئية المكونة للمسلمة التي يتضمنها النص نفسه، انتهى إلى التعليق التالي:

“هذا كله معنى تقرير الشافعي، رحمه الله، في هذه التصرفات الثابتة للعرب وهو بالجملة مبين أن القرآن لا يفهم إلا عليه، وإنما أتى الشافعي بالنوع الأغمض من طرائق العرب، لأن سائر أنواع التصرفات العربية قد بسطها أهلها، وهم أهل النحو، والتصريف، وأهل المعاني والبيان، وأهل الاشتقاق وشرح مفردات اللغة، وأهل الأخبار المنقولة عن العرب لمقتضيات الأحوال فجميعه نـزل به القرآن ولذلك أطلق عليه عبارة “العربي[20].

ـ يرى هذا النص أن الشافعي في تأسيسه لمسلمة اللسان لم يذكر من “طرائق العرب” سوى النوع الأغمض، أما الطرق الأخرى المكونة لهاته المسلمة فقد ترك الشافعي الحديث عنها لأنها واضحة، وقد بسطها المختصون كل بحسب اختصاصه أهل النحو والتصريف، وأهل المعاني والبيان، وأهل الاشتقاق وشرح مفردات اللغة، وأهل الأخبار المنقولة عن العرب لمقتضيات الأحوال.

إن ذهاب الشاطبي إلى أن الشافعي لم يذكر من “طرائق” العرب وتصرفاتهم الثابتة من كلامهم إلا الأغمض تأويلٌ وافتراضٌ لم يفصح عنه الشافعي، ولم ينص عليه، وإكمال النص بأدوات أخرى وطرق ومفاهيم أُنتِجت في اختصاصات أخرى النحو، واللغة… إنطاق للنص بما سكت عنه. والأولى والأسلم اعتبار ما أشار إليه الشافعي بداية لتأسيس وجمع ما كان متفرقا من مفاهيم رآها كفيلة ببناء جزء من العلم الذي رام بناءه، أصول الفقه، لقراءة النص القرآني والوصول إلى أحكامه الشرعية بعد أن “فسدت الألسن وتغيرت الفهوم فيحتاج إليه كما يحتاج إلى النحو”[21].

وإذا كان الشاطبي قد استقل تلك المفاهيم الجزئية التي أشار إليها الشافعي في النص المؤسس لمسلمة اللسان فإن ذلك أمر طبيعي تسوغه بداية التأسيس والتدوين لعلم كان غير واضح المعالم. وبدايات الأشياء، والعلوم بخاصة، تتميز عادة، كما هو معروف، بذكر الأهم والألصق بالموضوع المراد معالجته، الملائم لأهدافه التي رسمها وغاياته التي يطمح إلى تحقيقها، ويبتعد عن التفصيل والتطويل الذي هو من سمات المراحل المتأخرة من العلوم.

ولذلك فإن إكمال النص المؤسس للشافعي بما أشار إليه أبو إسحاق الشاطبي في نصه/التعليق ربما يكون الدافع إليه رغبة غير معلنة في توسيع وتطوير مفهوم رآه الشاطبي قابلا لذلك، أو على الأقل قابلا للتدقيق حتى يستجيب لما رآه من ضرورة تقييد عملية القراءة والتأويل بمقيدات تمنعها “الشطط”، وتبعدها عن “الشُبَه”، وتجنبها الانحراف والزلل.

ـ لا تخرج شكوى الشاطبي من تجاهل كثير ممن أتى بعد الشافعي عن الأخذ بمسلمة اللسان، كما أرادها صاحبها الشافعي حسب رأيه، عن هذه الرغبة في بناء المفهوم/المفاهيم الكفيلة بحماية التأويل من الفساد الذي يمكن أن يصيبه: “والذي نبه على هذا المأخذ في المسألة هو الشافعي الإمام، في رسالته في أصول الفقه وكثير ممن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذ، فيجب التنبه لذلك[22]. ومن باب التنبه أن ينظر حين القراءة والتأويل إلى النص ليس بوصفه نتاج لغة أو لسان يضم من الطرائق والمنازع والتصرفات اللغوية التي أشار إليها الشافعي إفصاحا فحسب؛ وإنما ينبغي تجاوز ذلك إلى غيرها من المفاهيم التي تقع، بحسب الشاطبي، في حكم البديهي لوضوحها واهتمام أهل اللغة، والنحو، والتصريف بها، بل ويضاف إلى ذلك أيضا ما يتعلق بأخبار مقتضيات أحوال هذا اللسان. ينظر إلى كل هاته الطرائق التي يسميها الشاطبي بـ”أدوات الفهم”[23].

مما لاشك فيه أن حديث الشافعي عن “لسان العرب” يوحي فعلا بهذا الاتساع بل يفصح عنه، “ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي”[24]، غير أن الشاطبي، وهو يؤكد هذا الاتساع ويتبناه، يطمح إلى تجاوز ذلك، إلى تحديد وتدقيق بعض ما تركه الشافعي عاما، أو لنكتف بالقول بتبئيره، وتركيز النظر عليه من أجل تأسيسه مفهوما متميزا له شخصيته المفهومية والاصطلاحية وفعاليته الإجرائية كباقي المفاهيم الأخرى المكونة لمسلمة اللسان.

وإذا كنت أميل إلى أن الشافعي بتأسيسه لمسلمة اللسان بالمفاهيم التي أشار إليها في نصه المؤسِّس مجملة، ثم خص بعضها بعد ذلك بأبواب قصد تفصيل القول فيها توضيحا وتمثيلا قد أشار إلى أهم المفاهيم التي رآها كفيلة بتحقيق عملية الاستنباط من أجل الوصول إلى الحكم الشرعي، وأن ما أشار إليه الشاطبي في نصه/التعليق من أنواع التصرفات العربية الثابتة التي اختص بالكشف عنها ودراستها أهل النحو، واللغة، والصرف والاشتقاق، والمعاني والبيان، وأهل أحوال مقتضيات اللسان التي أراد الشاطبي إضافتها إلى مسلمة الشافعي، لم يسكت عنها الإمام لأنه لم يصرح سوى بالأغمض من الطرق، وترك غيرها لأنها مبسوطة عند أصحابها من أهل الاختصاص الذين فصلوا القول فيها؛ ولكن لأنه ذكر فقط، كما نبه على ذلك الشيخ عبد الله دراز، ماله صلة مباشرة بفن الأصول باعتباره صناعة لقراءة النص. على الرغم من هذا الميل المشار إليه أعلاه، فإن ما أنهى به أبو إسحاق الشاطبي نصه التعليق ربما يكون الإضافة الأساسية التي لها علاقة مباشرة بمفهوم اللسان في بعده التأويلي، ولعلها هي أساس عودة الشاطبي لمفهوم اللسان. أقصد ما أطلق أبو إسحاق على المختصين الذين يقومون به اسم: أهل الأخبار المنقولة عن العرب لمقتضيات الأحوال.

وإذا كان لكل أهل اختصاصٍ اختصاصٌ يختصون به، وعلم يشتغلون به، فإن هذا العلم علم “أخبار مقتضيات أحوال اللسان” الذي يختلف بطبيعة الحال عن معاني الألفاظ في بعدها المعجمي الضيق؛ لأن الشاطبي قد أشار إليها في النص التعليق حين تحدث عن “أهل الاشتقاق وشرح مفردات اللغة“، ومن غير المعقول أن يعود إليها في النص نفسه مرة أخرى لاسيما وأن المقام مقام تعداد للعلوم المتمايزة التي يشتمل عليها اللسان، فإن هذا العلم لا يعرف له وجود قائم الذات كما هو علم المعاني أو البيان وغيرها من العلوم المشار إليها في النص التعليق.

قد يكون هذا العلم المشار إليه هو ما أراد الشاطبي تأسيسه من أجل ضبط عملية قراءة القرآن الكريم وتفسير معجمه. وإن الادعاء بعدم وجود علم مؤسس واضح المعالم بهذا الاسم لا يعني إنكارا لوجود محتواه. ولعل هذا المحتوى هو ما أراد الشاطبي أن يعطيه شخصيته الاصطلاحية وفعاليته الإجرائية حتى يتأسس “علما” أو بالأحرى مفهوما جزئيا يندرج تحت المفهوم الأعم “مفهوم اللسان” بحيث يمكن اعتماده كباقي المفاهيم الأخرى التي أشار إليها الشافعي في نصه المؤَسِّس.

ب. معهود العرب/معهود الأميين

إن هذا الاختصاص المفترض أن يقوم به “أهل الأخبار المنقولة عن العرب لمقتضيات الأحوال” الذي ورد في النص/التعليق مجرد إشارة مجملة هو ما سيتطور إلى مفهوم وليد عن مفهوم اللسان، لصيق به. إنه مفهوم “معهود العرب” الذي سيحاول الشاطبي أن يجعل منه مقيِّدا تأويليا أساسيا لرفض مجموعة من التأويلات التي رآها غير سليمة وغير معتبرة من جهة، ومن جهة أخرى لتأكيد شرعية تأويلات أخرى.

مفهوم “معهود العرب” مفهوم مرتبط ولصيق بالمفهوم الأعم “اللسان”، فكلاهما مما تعوَّد عليه العرب في خطابهم؛ إذ “جرى (هذا) الخطاب… على معتادهم في لسانهم، فليس فيه شيء من الألفاظ والمعاني إلا وهو جار على ما اعتادوه[25]. وإذا كان مما اعتادوه من “لسان العرب” و”معهودها[26] ما يمكن أن تقعد له القواعد حتى يصبح آلة واضحة محددة المعالم، ومرسومة الحدود كالنحو، واللغة، والاشتقاق، فإن بعضا آخر مما يصعب صبه في قوالب مرسومة أو إخضاعه لقوانين ومعايير مضبوطة نتيجة طبيعته المتحركة مثل معاني الألفاظ ودلالتها وأحوالها التي قيلت فيها أو صاحبتها، وكل ذلك يدخل تحت مفهوم اللسان؛ سواء بوصفه قواعد لسنية محضة أم باعتباره أحكاما سوسيولسنية صاغتها ثقافة مجتمع ذلك اللسان.

إن هاته القواعد السوسيولسنية هي ما يميزه الشاطبي بمصطلح خاص هو مصطلح معهود العرب الذي يختص به “أهل الأخبار المنقولة عن العرب لمقتضيات أحوال الألفاظ“. إنه تجسيد لثقافة المجتمع في جدلها مع اللسان المحض، أو ثقافة المجتمع التي أنتج فيها الخطاب في سياق علمي ومعرفي وتاريخي معين. فعلاقة “اللسان” بـ”المعهود”، إذن، علاقة شمول وخصوص، علاقة الجزء بالكل الذي ينصهر فيه، وفي الوقت نفسه يتميز عنه بسمات وخصائص متميزة. فاللسان بمفهومه الشامل الواسع يتضمن “المعهود” ويعطيه طابعه اللغوي بينما يعطي “المعهود” للسان طابعه الاجتماعي باعتباره أداة للتواصل في إطار جماعة اجتماعية معينة.

إن ارتباط مفهوم “المعهود” بكل ما هو ثقافي واجتماعي، وطموحه للإحاطة بكل ذلك بالنسبة للمجموعة اللسنية التي ينتمي إليها، يجعل من الصعب ضبطه في إطار قواعد وقوانين تحكم تحركه بكيفية صارمة، فهو ليس معطى دلاليا يمكن امتلاكه “بواسطة معرفة مطلقة ثابتة بكيفية نهائية ضمن معجم يجب الانطلاق منه لمعرفة معاني الكلمات”[27] ولكنه عبارة عن تلك “المعارف التي يقتسمها المتلفظ والمؤول حول الموضوع اللغوي”[28] والتي يكتسبانه بكيفية طبيعية، وحدسية، نتيجة كونهما ينتميان “لجماعة اجتماعية معينة واحدة تجعلهما يشتركان مع باقي أعضائها في تجارب متنوعة المشارب”[29] شعورية وثقافية وغيرها، فكلمة “لحم” مثلا لا تستدعي حين استعمالها في الخطاب ضرورة التمييز بينها وبين ما يعتبر من مكوناتها عند المخاطبين، من شحم، وعرق، وعصب، وجلد، ما داموا، ولأنهم يتقاسمون المعرفة نفسها بوصفهم أعضاء لمجموعة بشرية واحدة، يفهمون منها حين استعمالها وبكيفية حدسية أنها تعني كل ذلك مجتمعا.

اعتمادا على هذا المعطى يرفض الشاطبي تفسير من ذهب إلى أن شحم الخنـزير حلال مقتصرا “على تحريم اللحم دون غيره”[30]، مستدلا على ذلك بقوله الله تعالى: (ولحم الخنـزير) في قوله عز وجل في سورة البقرة: ﴿إنما حرَّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل به لغير الله (البقرة: 172)؛ لأن أبا إسحاق رأى في قصر معنى اللحم عليه دون غيره، مما لم يعهده العربي الذي يفهم حدسا ومن غير الرجوع للمعجم أن “اللحم يطلق على الشحم وغيره”[31] مما يكوِّن الخنـزير “حتى إذا خص بالذكر قيل: شحم؛ كما قيل: عرق، وعصب وجلد”[32] ولو كان المقصود بلفظ “اللحم” في الآية اللحم دون غيره لـ “لزم أن لا يكون العرق والعصب ولا الجلد ولا المخ ولا النخاع ولا غير ذلك مما خص بالاسم محرما”[33] ولا شك أن في ذلك “خروجا عن القول بتحريم الخنـزير”[34].

إن هذا المفهوم يصعب أيضا الوقوف على حدود مجاله مما يجعل تبييئه وتحيينه حين الرغبة في اعتماده معيارا تأويليا أمرا ضروريا وإلا أصبح التأويل شططا وهذيانا. ومن ثم فليس غريبا أن يرتبط هذا المفهوم/المعيار بمفهوم بديل منه، ومُحيِّن له، يعطيه بعده الزمني، والقيمي ألا وهو “معهود الأميين” الذي يحيِّن الموسوعة الثقافية والاجتماعية الممتلكَة من قبل المتلقي، ويربطها بزمن الوحي، كما يقيِّم محتواها المعرفي فيسِمُها بـ”الأمية” التي تستتبع درجة معينة في التطور العلمي والمعرفي لهذه المجموعة اللسنية، يقول الشاطبي موضحا العلاقة التي تربط مفهوم “معهود العرب” ببديله “معهود الأميين”: “الشريعة التي بعث بها النبي الأمي، صلى الله عليه وسلم، إلى العرب خصوصا وإلى من سواهم عموما إما أن تكون على نسبة ما هم عليه من وصف الأمية، أو لا. فإن كان كذلك فهو معنى كونها أمية أي منسوبة إلى الأميين، وإن لم تكن كذلك لزم أن تكون على غير ما عهدوا، فلم تكن لتنـزل من أنفسهم منـزلة ما تعهد، وذلك خلاف ما وضع عليه الأمر فيها، فلا بد أن تكون على ما يعهدون والعرب لم تعهد إلا ما وصفها الله به من الأمية[35].

إن تغير الإضافة في المركب الإضافي “معهود العرب” من العرب إلى الأميين هو عملية تبييئ وتحيين للمفهوم حتى يتسم الـتأويل الناتج عن اعتماده بالشرعية والمصداقية. إن مفهوم المعهود المضاف إلى العرب بوصفهم الجماعة اللسنية التي أنتجته فطبع خطابها بطابعها، وميزه عن غيره من الخطابات اللسنية الأخرى، المسماة أعجمية، مفهوم إجرائي يحدد ثقافة الجماعة اللسانية وعاداتها في استعمال هذا اللسان في تفاعله مع البيئة المعرفية والثقافية لهذه الجماعة، ومن بين ذلك مراعاة ما يناسب هذا اللفظ أو ذاك من دلالة بحسب ما أنتج له من معان عبر تاريخ الجماعة اللسانية التي ينتمي إليها ذلك اللسان، ووفق ما تمتلك هاته الجماعة من معطيات علمية ومعرفية وثقافية حول ذلك اللفظ ودلالته. إنه يعبر عن المشترك الذي تحمله الجماعة اللسانية عن المعجم.

ولأن هذا المفهوم الإجرائي يتسم بطابع التجريد، فهو يدور حيث دارت الجماعة اللسانية من حيث ثقافتها، ومن حيث مستوى ودرجة موسوعتها. فإننا حين التعرض لتفسير القرآن الكريم لا نتحدث، بحسب الشاطبي، عن معهود العرب بإطلاق العرب، بل عن “معهود” للأميين العرب “الذين نـزل القرآن بلسانهم”؛ لأن العرب بوصفهم جماعة لسنية قد تختلف موسوعتهم المعرفية؛ أي “معهودهم” باختلاف الزمان والمكان وتفاعل الإنسان معهما، الإنسان العربي هنا، أو بالأدق المتكلم بالعربية التي أصبحت ملكة له. إن المعهود الذي ينبغي أن يُشغل لتفسير القرآن الكريم وتأويله ليس “المشترك بين الجماعة اللسنية المتصفة بكونها عربية في كل زمان ومكان، وإنما معهود الأميين فحسب، أي ذلك “المشترك” الذي تقتسمه الجماعة التي حضرت نـزول الوحي، وحازت دلالات الألفاظ التي نـزل بها وعرفت استعمالاتها المختلفة التي كانت لها عند العرب “إنه لابد في فهم الشريعة من اتباع الأميين، وهم العرب الذين نـزل القرآن بلسانهم”[36]، ومن ثم فلا غرابة أن نجد الشاطبي يرفض تفسير قوله تعالى: ﴿اَفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج(ق: 6) اعتمادا على معطيات علم الهيئة[37]؛ “لأن ذلك من قبيل مالا تعرفه العرب”[38] الذين نـزل القرآن بلسانهم ووفق ما يمتلكون من معطيات معرفية “والقرآن إنما نـزل بلسانها وعلى معهودها”[39] والعرب حسب الشاطبي لم تعهد، كما أسلفنا، “إلا ما وصفها الله بها من الأمية”[40].

2. مفهوم معهود العرب محاولة في الإغناء

أ. معهود العرب/الموسوعة

إن معهود العرب، ولأنه بهذه الخصائص، ولأنه مكوِّن من مكونات اللسان بالمفهوم الأصولي، به يتحدد وإليه يضيف البعد الاجتماعي، يقترب اقترابا شديدا من مفهوم الموسوعة الذي أسسه الناقد السيميائي “أمبرطوا إيكو” لضبط عملية التأويل وتقييدها حتى لا تخرج عن كونها تأويلا interprétation إلى كونها استخداما utilisation. إنه المفهوم الذي يسيِّج التأويل ويحميه ضد كل من يحاول أن يتسلط على النص استجابة لرغباته، أو نـزواته أو لذّاته. ولعل ما يقرب بينهما، رغبة كل منهما، لتصور الأصولي ممثلا بالشاطبي، والتصور السيميائي في شخص أحد أكبر رواده الناقد أمبرطو إيكو، في الوقوف في وجه التأويلات الخارجة عن النص.

يرى “إيكو” أن المؤلف يفترض، وهو يبني نصه، أن يؤَوَّل بناء على قدرات القراء اللسانية آخذا في الاعتبار “اللسان بوصفه تراثا اجتماعيا”[41]. ويقصد إيكو بـ”تراث ليس لغة معينة بوصفها مجموعة من القواعد النحوية، لكن علاوة على ذلك كل الموسوعة التي بنيت من خلال ممارسة هذه اللغة”[42]. كما أنه في المقابل “ينبغي على فعل القراءة بالطبع أن يأخذ بعين الاعتبار هذه العناصر في مجموعها وإن كان من غير المحتمل أن قارئا واحدا يمكنه أن يتحكم فيها كلها”[43]. ينبغي على كل من يريد أن يؤول نصا، كما يؤكد أمبرطو إيكو، أن يحترم “رصيده الثقافي واللسني”[44].

 إن احترام هذا الرصيد لا يمكن أن يتحقق إلا باعتماد الموسوعة encyclopédie’l أداة في الفهم، ونموذجا في التحليل.

وليس نموذج الموسوعة غير النموذج المقابل لنموذج المعجم. ولا يتعلق هذا التمييز، بطبيعة الحال، بالمعاجم والموسوعات الحقيقية باعتبارها مصنفات تحمل هذين الاسمين؛ أي معاجم وموسوعات من “لحم ودم”[45]، ولكن الأمر يتعلق “بالنموذجين المجردين اللذين يستهدفان وصف شكل وعينا السيميائي”[46]. وإذا كان الهدف المثالي الذي يستهدفه نموذج المعجم هو وصف المعرفة “بألفاظ لسانية محضة”[47]، فإن “الموسوعة تسعى إلى الأخذ بعين الاعتبار أيضا معرفتنا بالعالم”[48] حيث ينبغي ضرورةً تجاوز هذه اللسانيات المحضة.

إن الموسوعة بوصفها مسلمة سيميائية[49] وفرضية ابستمولوجية[50] تجسد المعارف “التي تختزنها الثقافة داخل إرث المعارف الجماعية”[51].

إن الموسوعة، إذن، هي تلك المعارف الجماعية التي تسري بين أفراد مجتمع أو جماعة ما، والتي ليس من الضروري، ولا هو من الممكن أن يتحكم فيها فرد واحد، مهما اتسعت معرفته، بل هي من سمات المجموعة أو الجماعة باعتبارها كذلك. إنها المعرفة الجماعية والمشتركة والموزعة بين أفراد مجتمع أو جماعة ما، والتي يمتلكها المجتمع في كليته ولا يحيط بها فرد واحد من أفرادها في كليتها.

هذه المعرفة المسماة “موسوعة” عند “إيكو” والمسماة “معهودا” عند الشاطبي هي الفارق الفاصل بين تأويل صحيح ومعتبر، وبين تأويل غير معتبر، ومن ثم فهو لا يمكن أن يسمى تأويلا، وإن سمي كذلك فهو تأويل فاسد، وإلا فهو مجرد “لعب” ليس إلا، كما أكد ذلك الأصوليون، وهو مجرد استخدام كما سماه امبرطو إيكو تمييزا له عن التأويل.

ب. بين التأويل والاستخدام

على الرغم من كثرة ما تحدث الناقد الإيطالي إيكو عن التأويل والاستخدام في كتابه “القارئ في الحكاية” Lector in fabula، فإن أهم نص يبدو لنا الأكثر قدرة على التمييز بين هذين المفهومين هذا النص الذي نجده في كتابه “حدود التأويل”. يقول إيكو في هذا النص:

“بالتأكيد يمكنني أن أستخدم نصا لغايات ساخرة، من أجل إظهار كيف يمكن لنص ما أن يقرأ بإحالته على سياقات ثقافية مختلفة، أو أيضا من أجل هدف شخصي أقرأ نصا مثلا لأستمد منه قوة خلاقة، ومن أجل تغذية هذياني. لكن إذا كنت أريد تأويل نص فينبغي أن أحترم رصيده الثقافي واللسني”[52].

يتضح من خلال هذه القولة أن التأويل ممارسة تحترم رصيد النص، ليس الرصيد اللسني المحض فحسب، ولكن، أيضا، رصيده الثقافي. وذلك ما دعاه إيكو بالموسوعة، بينما الاستخدام هو ممارسة لا تحترم هذا الرصيد، بل لا تعبأ به، لأن مقصدها ليس هو استظهار معنى النص المحدد والمحدود، في الوقت نفسه، بانسجامه ووحدته، ولكن هدفها أن ينصاع النص لإرادة القارئ وغاياته حتى لو كان ذلك بممارسة العنف عليه. سواء كانت تلك الغايات “لَعِبيَّة” “ساخرة”، أو مقاصد شخصية يريد القارئ من خلالها تقوية قدراته الذاتية على الخلق والإبداع، والتي قد تصبح هذيانا، أو كانت تلك الغايات شيئا آخر تماما.

إن هذه المقاصد التي يتغياها المستخدم للنص تخالف طريق المؤول الذي عليه أن يخدم النص لا أن يستخدمه. وإن خدمة النص أو تأويله التأويل المعتبر، بحسب الشاطبي، ينبغي عليها، لكي تكون كذلك، أن لا تخرج عن طريق كلام العرب ومعتادهم في الخطاب. ينبغي على القراءة لكي تكون خدمة للنص لا استخداما له أن تحترم موسوعتهم/معهودهم وأن تتجنب “اتباع الهوى”[53]، بكل ما يمثله الهوى من “تَشَهّ”[54] ورضوخ “للأغراض”[55] الذاتية والأهواء الشخصية، وإلا كانت مجرد “وهم وتخييل”[56] لا علاقة له بالحقيقة، بل و”خبط في عماية”[57]؛ لأن صاحب القراءة فَقَدَ النظر فلم يستطع إبصار الطريق التي عليه أن يأخذها من أجل تحقيق التأويل المعتبر. أو أنه أبصرها، لكنه تعامى عنها فحدث منه “الإغراب باستجلاب غير المعهود[58]، ذاهبا إلى “التبجح أن وراء هذه المشهورات مطالب لا يدركها إلا الخواص”[59]، وأنه منهم. ولأنهم خواص فهم لا يتقيدون في إخراجهم كتاب الله عن ظاهره إلى باطن يرونه “أنه هو المقصود وراء هذا الظاهر”[60] لا بـ”عقل ولا نظر”[61]؛ لأن ذلك خارج عن حدودهما، متجاوز لطاقتهما.

إن هذا النوع من التأويل غير المعتبر بتعبير الشاطبي، الاستخدام باصطلاح إيكو الذي لا يعتمد مسلكا منضبطا بضوابط محددة، ولا يحكمه “عقل ولا نظر”[62]، بل “الهوى والشهوة”[63]، والذي يجسده في صورته القصوى الاتجاه الباطني، يمثل النموذج الأوضح والصارخ للخروج عن معهودِ العرب معيارِ التأويل السليم. ومن الأمثلة التي يضربها الشاطبي لتوضيح هذا النوع من التأويل، قراءة الاتجاه الباطني لقوله تعالى: ﴿يأيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا(النساء: 43).

ويتخذ أبو إسحاق من أجل ذلك الخطة التالية: يبدأ، أولا، بتقرير تأويل المفسرين، ثم يتبعه ببيان تأويل الباطنية، وينهي ذلك كله ببيان موقفه من هذه الممارسة التأويلية للباطنية مشيرا إلى المعيار الذي اعتمده في حكمه.

تأويل المفسرين

وقد رأوا أن “المراد بالسكر (في الآية) ما هو[64] الحقيقة أو سكر النوم، وهو مجاز فيه مستعمل، وأن الجنابة والغسل منها على حقيقته”[65].

تأويل الباطنية

رأت هذه الطائفة أن:

  • السكر في الآية؛ “هو سكر الغفلة والشهوة وحب الدنيا المانع من قبول العبادة في اعتبار التوبة”[66].
  • الجنابة؛ “هي مبادرة الداعي بإفشاء سر إليه قبل أن ينال رتبة الاستحقاق”[67]، أو أن “المراد، بها التضمخ بدنس الذنوب”[68].
  • الاغتسال؛ “هو التوبة”[69] أو معناه “تجديد العهد على من”[70] بادر بإفشاء سر قبل أن ينال رتبة الاستحقاق.

موقف الشاطبي وبيان المعيار

يقرر الشاطبي بعد أن أورد هذه التأويلات أن “كل ذلك غير معتبر”[71]، مبينا معياره لرفض هذا النوع من التأويلات الذي ليس بطبيعة الحال غير معيار معهود العرب الأميين، يقول “فلا يصح استعمال الأدلة الشرعية في مثله، وأول قاطع فيه”[72]؛ أي في كونها تأويلات غير معتبرة “أن القرآن أنـزل عربيا وبلسان العرب وكذلك السنة إنما جاءت على ما هو معهود لهم، وهذا الاستعمال خارج عنه”[73].

إن رفض الشاطبي لهذا النوع من التأويل رفض لممارسة لا تحترم معهود النص، ولا تقف عند رصيده الثقافي واللسني. ومن ثم فهي، كما يرى الشاطبي، “تأويلات لا تعقل”[74]، لأنها تفتقد المعيار المنضبط الذي تعتمد عليه في عملية التأويل مما يصبح معه التأويل، ولاسيما عند الباطنية تداعيات للمعاني وارتباطات إحالية لا يحكمها حاكم، ولا يضبطها ضابط حيث تصبح العلامة اللغوية متحررة تحررا كاملا لأن تترجِم/تؤَوِّل كل علامة أخرى؛ فالجنابة مباشرة الداعي والغسل هو التوبة والصيام هو الإمساك عن كشف السر والتيمم هو الأخذ من المأذون إلى أن يسعد بمشاهدة الداعي والإمام[75] إلخ.

إن هذا النوع من التأويل ذي الطابع الهرمسي[76] المتميز بكون كل كلمة فيه هي في الأصل رمز يقول شيئا آخر غير ذلك الذي يبدو أنه يقوله، وكل كلمة تتضمن رسالة لا يستطيع أي كان بمفرده أن يكشف عنها إلا بالبحث عما توحي به فيما هو أبعد من الكلام الإنساني، من خلال الكشف الذي قد تمده به الذات الإلهية ذاتها عبر مسالك الرؤيا أو الحلم أو الوحي. إنها معرفة سرية عميقة، وبناء على ذلك، فالحقيقة لا تحدد بما قيل ولكن بما لم يُقل، أو بما قيل بطريقة غامضة، وهي من ثم تحتاج لكي تُفهم أن يتم تجاوز سطح النص، لمعانقة باطنه[77]. إن ذلك السر العميق الذي يتميز به هذا النوع من المعرفة لا يفهمه عند الباطنية المسلمين غير “الإمام المعصوم”[78]، ومنه فقط يتعلمه المريدون.

إن الجوهر المميز لهذا النوع من “التأويل”/الاستخدام، هو أنه “تأويل” ليس له من تخوم، ولا يتوقف عند حد. “تأويل” تتحدد فيه العلامة “انطلاقا من تشابهها مع عنصر آخر… حتى لو كان هذا التشابه جزئيا فقط”[79] فتصبح فيه الجنابة مثلا، كما عند الباطنية الإسلامية، مبادرة إلى إفشاء السر، ويصبح الغسل تجديدا للمعاهدة، التي انتقضت بالإفشاء، ويغدو الصيام تبعا لذلك هو الإمساك عن كشف السر[80].

 إن هذا النوع من التأويل الذي يقوم على الإحالات المتتالية والمبنية على التشابه والتناظر “يحول مسرح العالم كله إلى ظاهرة لسانية، في الوقت نفسه الذي يسحب من اللغة قدرتها على الإبلاغ”[81].

إن هذه السلطة الإبلاغية المبنية على المواضعات اللسنية والثقافية، والمفقودة في هذا النوع من التأويل/الاستخدام، هي ما استوقفت الشاطبي؛ لأن انتهاك هذه السلطة انتهاك لحرمة التخاطب، وتدمير للخيط الرابط بين المتخاطبين، ومن ثم زعزعة الثقة في الخطاب ذاته، بل هدم هذه الثقة نهائيا. تلك هي الأطروحة التي جهد الشاطبي لإبرازها، وقدم الكثير من الحجج لتأكيدها.

إن عدم احترام النص بعدم اعتبار رصيده اللسني والثقافي والركون إلى حرية القارئ المطلقة، سواء كان إماما معصوما، كما هو الأمر في النموذج الباطني في التراث الإسلامي، أو قارئا تفكيكيا معاصرا، إلى الحد الذي تصبح فيه كل التأويلات الممكنة مسموحا بها، لا يؤدي إلى التشكيك في هذه التأويلات الناتجة عن هذا النوع من الممارسة، ولكن إلى التشكيك في طبيعة الدلالة ذاتها، لأن ذلك “يفقد الدلالة المحددة بوصفها كلية ذات خصوصية”[82]. ويجعلها بالتالي مفرغة من أي محتوى يمكن أن يكون أساسا يُعتمد عليه، مما يسهل من إمكانية خلخلة انسجام النص، ومن ثم الإجهاز على حقوقه.

هكذا إذن يبدو مفهوم المعهود المفهوم الأكثر أهمية في مراقبة التأويل ورسم حدوده الممكنة بوصفه الشرط الضروري لقيام انسجام النص باعتباره المعيار الوحيد الممكن لاختبار الإمكانات التأويلية. إنه الحد الفاصل بين قراءتين: قراءة جيدة إيكو ومعتبرة الشاطبي وبين قراءة غير معتبرة هي استخدام وليس تأويلا. فعند تخوم هذا المفهوم ينتهي التأويل ليبدأ الاستخدام، وعند عتباته ينتهي مجال تعاون المؤلف والذات القارئة لتبدأ ديكتاتورية الذات الواحدة والوحيدة، في نشر تسلطها على المقروء، ضدا على إرادة هذا المقروء، وضدا على ما يود الكاتب أن يدلّ عليه [83].

غير أن مفهوم معهود العرب وبالصيغة التي آل إليها معهود الأميين، وقد غدا أداة تسييق contextualisation منتهية ومحصورة من حيث الزمان والمكان ومن حيث الحمولة المعرفية الخاصة بإنسان هذا الزمان، قابل لأن يثير الكثير من التساؤلات والإشكالات لاسيما والأمر يتعلق بنص الوحي المطلق في الزمان والمكان؛ إذ يخشى أن يتحول من كونه أداة لمراقبة التأويل إلى وسيلة لغلق الإمكانات المتجددة لعطاء الوحي.

لا شك أن هذا المفهوم كما احتاج إلى محاولة في التأصيل، وأخرى في الإغناء فهو يحتاج إلى ثالثة في التقويم. وعلى الرغم من أهميتها فإني أرجئها إلى عمل آخر بسبب ضيق المجال.

الهوامش

1. إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول الشوكاني، تح، محمد البدري، مؤسسة الكتب الثقافية، ط،4، 1414-1993، ص: 162.

2. البرهان في علوم القرآن، بدر الدين الزركشي، تح، محمد أبو الفضل، دار الفكر، ط/2- 1400/1980، 1/15.

3. الموافقات في أصول الشريعة أبو إسحاق الشاطبي، تح، عبد الله دراز، دار الكتب العلمية، بيروت: 3/115.

4. المصدر نفسه، 3/116.

 5.Dan Sperber et Gloria Origgi, Pourquoi parler, comment comprendre, www.dan.sperber.com, P. 6.

 6.Jacques Moeschler, La pragmatique après Grice ,contexte et pertinence, www.unige.ch/lettres/linguistique/moeschler/. P.3.

7. لمزيد من الاطلاع على طبيعة هذا المفهوم ينظر كتابنا: القراءة في الخطاب الأصولي، الإستراتيجية والإجراء، يحي رمضان، عالم الكتب الحديث، الأردن، 2007.

8. الموافقات، م، س، 2/49.

9. المصدر نفسه: 1/30.

10. الاعتصام الشاطبي، تح، سليم بن عبيد الهلالي، دار ابن عفان، ط: 1، 1418ـ 1997، 2/806.

11. المصدر نفسه، 2/806.

12. للمقارنة نورد النص المؤسس كما أورده صاحبه الشافعي:

النص المؤسس كما ورد عند الشافعي:

“قال الشافعي: فإنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها، على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها. وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به العام الظاهر، ويستغنى بأول هذا منه عن آخره. وعاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه. وعاما يراد به الخاص. وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره. فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو آخره.

وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول لفظها فيه عن آخره. وتبتدئ الشيء يبين آخر لفظها فيه عن أوله.

وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون الإيضاح باللفظ، كما تعرف الإشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها،لانفراد أهل علمها به، دون أهل جهالتها.

وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، وتسمي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة”. ( الرسالة،51 ـ 52).

13. الموافقات، م، س، 2/49.

14. المصدر نفسه: 2/50.

15. المصدر نفسه: 1/30.

 16. Patrick Charaudeau, Langage et discours, éléments sémiolinguistiques, Hachette, Paris, 1983, p.24.

17. الموافقات، م، س، 2/51.

18. المصدر نفسه.

19. للاختصار سأكتفي بالإشارة إلى تعليق الشاطبي على نص الشافعي بـ”النص التعليق”، مقابل “النص المؤسس” مرادا به نص الشافعي موضوع التعليق.

20. الاعتصام، م، س،‌‌ 808 – 809.

21. الإبهاج، م، س، 1/8.

22. الموافقات، م، س، 2/51.

23. الاعتصام، م، س، (2/804).

24. الرسالة، محمد بن إدريس الشافعي، تح، أحمد محمد شاكر، دار الفكر، ص،42.

25. الاعتصام، م، س،2/805.

26. الموافقات، م، س، 2/50.

27. Language et discours, P.22.

28. Ibid.

29. Ibid.

30. الاعتصام: 1/302.

31. المصدر نفسه.

32. المصدر نفسه.

33. المصدر نفسه.

34. المصدر نفسه: 1/303.

35. الموافقات، م، س، 2/53 -54.

36. المصدر نفسه، 2/62.

37. يعرفه الخوارزمي في مفاتيح العلوم فيقول: “علم الهيئة هو معرفة تركيب الأفلاك وهيئتها وهيئة الأرض”. مفاتيح العلوم، أبو عبد الله محمد الخوارزمي، تقديم جودة فخر الدين، دار المناهل، ط،1،1411-1991، ص: 196.

38. الموافقات، م، س، 2/37.

39. المصدر نفسه.

40. المصدر نفسه: 2/54.

41. Eco, Umberto , Les Limites de l’ interprétation, trad. Myriem Bouzaher, Grasset, Paris, 1992,p, 133.

42. Ibid.

43. Ibid.

44. ومن اللافت حقا أن نجد الشافعي وهو يتحدث عن مفهومه للسان العرب يشير إلى استحالة استجماع القارئ لمجمع اللسان، موضحا إمكان تحصيل الجماعة في كليتها له، مقارنا في ذلك بينه وبين الحديث النبوي الذي لا يمكن لشخص واحد أن يجمع كل أطراف الحديث، وإمكان ذلك للأمة.

45. Les limites de l’interprétation, p, 133.

46. Eco, Umberto, Le Signe, histoire et analyse d’un concept, trad. Jean-Marie 47.Klinkenberg. Labor, Bruxelles,1988, p, 144.

 48.Ibid.

49.Le signe, p, 144.

50. Eco, Umberto, Sémiotique et philosophie du langage, trad. Myriame Bouzaher, P.U.F, 1988, 110.

51. Le signe, p, 148.

52. Ibid.

53. Les limites de l’ interprétation, p, 133.

54. الموافقات: 4/121.

55. المصدر نفسه.

56. المصدر نفسه.

57. المصدر نفسه: 1/60.

58. المصدر نفسه،.4/121.

59. المصدر نفسه.

60. المصدر نفسه.

61. المصدر نفسه.

62. المصدر نفسه.

63. المصدر نفسه.

64. الاعتصام، م، س، 1/177.

65. هكذا النص في النسختين نسخة الشيخ عبد الله دراز، ونسخة مشهور بن حسن آل سلمان، ولعل الصحيح هو: منها، ويكون الضمير الغائب عائدا على الآية، فتكون الجملة “أن المراد بالسكر منها هو الحقيقة… وبذلك تكون مناسبة للجملة المعطوفة عليها الذي قال فيها: وأن الجنابة والغسل منها”.

66. الموافقات، م، س، 3/39، نسخة دراز: 3/250 نسخة مشهور بن حسن آل سلمان.

67. الموافقات، م، س، 3/39-40.

68. الاعتصام، م، س،1/322.

69. الموافقات، م، س، 3/40.

70. المصدر نفسه.

71. الاعتصام، م، س،1/322.

72. الموافقات:3/40.

73. المصدر نفسه.

74. الموافقات، م، س، 3/40.

75. الاعتصام، م، س،1/321.

76. المصدر نفسه،1/322.

نسبة إلى “هرمس” وهو إله عند الإغريق تجمعت فيه كل المتناقضات فهو كما يقول عنه إيكو “كائن متقلب وغامض، فقد كان أبا لكل الفنون، وربا لكل اللصوص، ولقد كان شيخا وشابا في ذات الوقت” Interprétation et surinterprétation، ص: 26-27.

77.Umberto Eco, Interprétation et surinterprétation, trad.Jean-Pierre Cometti, P.U.F,1992, p, 27-28.

78. الاعتصام، م، س،1/254.

79. Umberto Eco, Interprétation et surinterprétation, p,29.

80. الاعتصام، م، س،1/221.

81. Umberto Eco, Interprétation et surinterprétation, p,30.

82. Jean, Fiset: Pour une pragmatique de la signification, Monterial Québec, XYZ.1996, p,38.

83. Umberto Eco, Interprétation et surinterprétation, p, 36.

Science

د. يحيى رمضان

جامعة المولى إسماعيل/مكناس

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق