مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

الفقه والتصوف1

    اعلم أن الفقه والتصوف أخوان في الدلالة على أحكام الله سبحانه، إذ حقيقة التصوف ترجع لصدق التوجه إلى الله تعالى من حيث يرضى بما يرضى، وذلك متعدد، فلذلك ادعاه كل أحد بما هو فيه، وعبر عنه كل أحد بما انتهى إليه على قدر القصد والفيض والهمة، واعتبر ذلك أئمته، حتى إن أبا نعيم في حليته غالبا لا يترجم لرجل إلا أتبع ذلك بقول من أقوالهم يناسب حال ذلك الشخص، وقال: إن التصوف كذا، فأشعر أن تصوف كل أحد صدق توجهه، وأن من له قسط من صدق التوجه له قسط من التصوف على قدر حاله.

    ثم الفقه والأصول شرط فيه، والمشروط لا يصح بدون شرطه، والشرط أن يكون بما يرضاه الحق من حيث يرضاه، فما لا يرضاه لا يصح أن يكون قربة إلا من الوجه الذي يرضاه، فالصلاة يرضاها الحق، لكن لا في الأوقات الممنوعة ولا على غير الوجه المستقيم، ولا يرضى لعباده الكفر، فلزم تحقيق الإيمان: ﴿وإِنْ تَشْكُرُو يَرْضهُ﴾ [الزمر: 7]، فلزم العمل بالإسلام، فلا تصوف إلا بالفقه، إذ لا تعلم أحكام الله الظاهرة إلا منه، ولا فقه إلا بتصوف، إذ لا حقيقة للعلم إلا بالعمل، ولا عمل إلا بصدق التوجه، ولا هما إلا بالإيمان، إذ لا يصحان دونه، فهو بمنزلة الروح هما بمنزلة الجسد لا ظهور له إلا فيها، ولا كمال لهما إلا به، وهو مقام الإحسان المعبر عنه: «بأن تعبد الله كأنك تراه»[2]، إذا لا فائدة لذلك إلا بصدق التوجه إلى الله على حد ما قلناه، غير أن الفقيه مقصور على ما يسقط به الحرج، ونظر الأصولي متعد لما يحصل به الأصل الذي هو الإيمان، ونظر الصوفي متعد لما يحصل به الكمال فيطلب في باب الأصول على تحلية الإيمان بالإيقان حتى يصير في معد العيان، وفي باب الفقه على أن يأخذ بالأعلى أبدا، ثم له حكم بخصه فيما يخصه، ومدار الأمر فيه على اتباع الأحسن والأكمل، لقوله تعالى: ﴿الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه﴾ [الزمر: 18].

    فلذلك كان مذهبهم في الاعتقاد تابعا لمذهب السلف من اعتقاد التنزيه ونفي التشبيه، أما علم الصوفي فيحتاج إليه الناس في كل وقت، لأنه يتعلق بالأحوال والمقامات والمجاهدات، وقبول ما ورد كما ورد، من غير تعرض لكيف ولا غيره، إذ ليس ثم ألحن من صاحب الحجة بحجته ولا يضرنا الجهل بالتأويل مع ذلك، كما لا يضرنا الجهل بألوان الأنبياء وأسماءهم مع العلم بتعظيمهم واحترامهم ولئن كان لا يضرنا الجهل بألوان الأنبياء وأسمائهم مع العلم بتعظيمهم واحترامهم، ولئن كان التأويل أعلم فالتفويض أسلم، هذا مع تكلمهم في وجوه التأويل مما يقبله اللفظ من حيث إنه علم، فلذلك توسعوا في العبارة عنه مع قصدهم أمثالهم بالكلام لا غيرهم، فأنكر عليهم الغير ذلك، وهو معذور بما بدا له ولو سلم لكان خيرا له.

    وهذا مذهبهم في الأحكام، مذهب الفقهاء لأنهم حرروا وهذبوا ونقحوا، غير أنهم يأخذون من المذاهب ما يوافق الحديث ليجمعوا بين نور الاقتداء ونور الاهتداء، مع تقييدهم بالمذهب الواحد، وعدم مخالفتهم للأحوط والمشهور منه إلا من الضرورة، فقد كان الجنيد على مذهب أبي ثور، والمحاسبي شافعيا، والشبلي مالكيا، والجريري حنفيا مع إجماعهم على اتباع الحديث كما ذكره السهروردي، فكان الجمع بين إجماعهم وفعلهم كما ذكر والله أعلم.

    ومذهبهم في الفضائل مذهب المحدثين، فلا يأخذون بموضوع كصلاة الرغائب والأسبوع ونحوها، وإن ذكرها أئمة منهم، فلم ينقلها أحد عنهم بل ولا عن أئمة المذاهب، وإن كان الشيخ أبو طالب المكي قد أثبتها للنساك وتبعه الغزالي على ذلك، فقد نبه عليها النووي بأن لا يتبع ذلك، ولها أصل في ذلك ذكرناه في القواعد، وبالغ في إنكار ذلك ابن عبد السلام من الشافعية والطرطوشي من المالكية، وكذا ابن العربي وغيرهم.

    وانفردوا في الأدب بأصل هو جمع قلوبهم على مولاهم، فبأي وجه تمكن لهم انتهجوه سواء كان مباحا صريحا أو رخصة أو أمرا مختلفا فيه، فمن ثم قالوا بأشياء أنكرها عليهم من لم يعرف قصدهم، وطالبهم فيها بما طالبوا أنفسهم في العبادات من الاحتياط وإيثار الأولى، وآثرهم من غلب عليه هواه فهلك بذلك.

    وقد أشار الجنيد رضي الله عنه لهذا الأصل بقوله لما سئل عن السماع: «كل ما يجمع العبد على مولاه فهو مباح». ونقل القشيري في باب السماع عن أبي علي الدقاق رضي الله عنه أنه قال عن المشايخ أنهم قالوا: «ما يجمع قلبك إلى الله عز وجل فلا بأس به».

هوامــش

[1] عدة المريد الصادق: أحمد زروق، تحقيق: عاصم الكيلاني، دار الكتب العلمية –بيروت- ط. الأولى:1428ﻫ/2007م، (ص 20-22).

[2] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، وبيان النبيﷺ له، رقم50. وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان والإسلام والإحسان والقدر وعلامة الساعة رقم1.

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق