مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثشذور

الفرق بين تصرفاته صلى الله عليه وسلم بالقضاء، وبالفتوى، وبالإمامة

يقول الإمام أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي المالكي (ت684هـ) في الفرق السادس والثلاثون من كتابه الفروق في بيان قاعدة تصرفه صلى الله عليه وسلم بالقضاء، وبين قاعدة تصرفه بالفتوى وهي التبليغ، وبين قاعدة تصرفه بالإمامة:
اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم والقاضي الأحكم والمفتي الأعلم، فهو صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة، وقاضي القضاة، وعالم العلماء، فجميع المناصب الدينية فوّضها الله تعالى إليه في رسالته، وهو أعظم من كل من تولى منصبا منها في ذلك المنصب إلى يوم القيامة، فما من منصب ديني إلا وهو متصف به في أعلى رتبة، غير أن غالب تصرفه صلى الله عليه وسلم بالتبليغ؛ لأن وصف الرسالة غالب عليه ثم تقع تصرفاته صلى الله عليه وسلم:
منها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعا.
ومنها ما يجمع الناس على أنه بالقضاء.
ومنها ما يجمع الناس على أنه بالإمامة.
ومنها ما يختلف العلماء فيه لتردده بين رتبتين فصاعدا، فمنهم من يغلب عليه رتبة، ومنهم من يغلب عليه أخرى.

ثم تصرفاته صلى الله عليه وسلم بهذه الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة، فكل ما قاله صلى الله عليه وسلم أو فعله على سبيل التبليغ، كان ذلك حكما عاما على الثقلين إلى يوم القيامة، فإن كان مأمورا به أقدم عليه كل أحد بنفسه، وكذلك المباح، وإن كان منهيا عنه اجتنبه كل أحد بنفسه، وكل ما تصرف فيه عليه السلام بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام اقتداء به عليه السلام؛ ولأن سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة دون التبليغ يقتضي ذلك، وما تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بوصف القضاء لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم حاكم اقتداء به صلى الله عليه وسلم؛ ولأن السبب الذي لأجله تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بوصف القضاء يقتضي ذلك، وهذه هي الفروق بين هذه القواعد الثلاث، ويتحقق ذلك بأربع مسائل:

المسألة الأولى: بعث الجيوش لقتال الكفار والخوارج، ومن تعين قتاله، وصرف أموال بيت المال في جهاتها وجمعها من محالها، وتولية القضاة والولاة العامة، وقسمة الغنائم، وعقد العهود للكفار ذمة وصلحا، هذا هو شأن الخليفة والإمام الأعظم فمتى فعل صلى الله عليه وسلم شيئا من ذلك علمنا أنه تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بطريق الإمامة دون غيرها، ومتى فصل صلى الله عليه وسلم بين اثنين في دعاوى الأموال أو أحكام الأبدان ونحوها بالبينات أو الإيمان والنكولات ونحوها، فنعلم أنه صلى الله عليه وسلم إنما تصرف في ذلك بالقضاء دون الإمامة العامة، وغيرها؛ لأن هذا شأن القضاء والقضاة وكل ما تصرف فيه صلى الله عليه وسلم في العبادات بقوله أو بفعله أو أجاب به سؤال سائل عن أمر ديني فأجابه فيه، فهذا تصرف بالفتوى والتبليغ، فهذا المواطن لا خفاء فيها، وأما مواضع الخفاء والتردد ففي بقية المسائل.

المسألة الثانية: قوله صلى الله عليه وسلم:«من أحيا أرضا ميتة فهي له»: اختلف العلماء رضي الله عنهم في هذا القول، هل تصرف بالفتوى فيجوز لكل أحد أن يحيي، أذن الإمام في ذلك الإحياء أم لا ؟ وهو مذهب مالك والشافعي رضي الله عنهما.

أو هو تصرف منه عليه السلام بالإمامة فلا يجوز لأحد أن يحيي إلا بإذن الإمام، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله.

وأما تفرقة مالك بين ما قرب من العمارة فلا يحيا إلا بإذن الإمام وبين ما بعد فيجوز بغير إذنه فليس من هذا الذي نحن فيه، بل من قاعدة أخرى، وهي أن ما قرب من العمران يؤدي إلى التشاجر والفتن وإدخال الضرر فلا بد فيه من نظر الأئمة دفعا لذلك المتوقع كما تقدم، وما بعد من ذلك لا يتوقع فيه شيء من ذلك فيجوز، ومذهب مالك والشافعي في الإحياء أرجح؛ لأن الغالب في تصرفه صلى الله عليه وسلم الفتيا والتبليغ.

والقاعدة: أن الدائر بين الغالب والنادر إضافته إلى الغالب أولى.
المسألة الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لما قالت له صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفيني، فقال لها عليه السلام:«خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف».

اختلف العلماء في هذه المسألة وهذا التصرف منه عليه السلام: هل هو بطريق الفتوى؟ فيجوز لكل من ظفر بحقه أو بجنسه أن يأخذه بغير علم خصمه به، ومشهور مذهب مالك خلافه، بل هو مذهب الشافعي، أو هو تصرف بالقضاء فلا يجوز لأحد أن يأخذ جنس حقه أو حقه إذا تعذر أخذه من الغريم إلا بقضاء قاض.

حكى الخطابي القولين عن العلماء في هذا الحديث: حجة من قال إنه بالقضاء أنها دعوى في مال على معين فلا يدخله إلا القضاء؛ لأن الفتاوى شأنها العموم، وحجة القول بأنها فتوى ما روي أن أبا سفيان كان بالمدينة والقضاء على الحاضرين من غير إعلام ولا سماع حجة لا يجوز فيتعين أنه فتوى وهذا هو ظاهر الحديث.
المسألة الرابعة: قوله صلى الله عليه وسلم:«من قتل قتيلا فله سلبه».

اختلف العلماء في هذا الحديث هل تصرف فيه صلى الله عليه وسلم بالإمامة؟ فلا يستحق أحد سلب المقتول إلا أن يقول الإمام ذلك، وهو مذهب مالك، فخالف أصله فيما قاله في الإحياء، وهو أن غالب تصرفه صلى الله عليه وسلم بالفتوى، فينبغي أن يحمل على الفتيا عملا بالغالب وسبب مخالفته لأصله أمور منها أن الغنيمة أصلها أن تكون للغانمين، لقوله عز وجل:«واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه»، وإخراج السلب من ذلك خلاف هذا الظاهر.

ومنها أن ذلك إنما أفسد الإخلاص عند المجاهدين، فيقاتلون لهذا السلب دون نصر كلمة الإسلام.
ومن ذلك أنه يؤدي إلى أن يقبل على قتل من له سلب دون غيره، فيقع التخاذل في الجيش، وربما كان قليل السلب أشد نكاية على المسلمين، فلأجل هذه الأسباب ترك هذا الأصل، وعلى هذا القانون وهذه الفروق يتخرج ما يرد عليك من هذا الباب من تصرفاته صلى الله عليه وسلم، فتأمل ذلك فهو من الأصول الشرعية.

كتاب الفروق، للإمام أبي العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي القرافي المالكي (ت684هـ)، عالم الكتب، بيروت: (1/205-209).

Science

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق