مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثشذور

الفرق بين الروح والنفس

يقول الإمام أبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد الخَثْعَمي السُّهَيلي(ت581هـ)، في بيان الفرق بين الروح والنفس:

ومما يتصل بمعنى الروح وحقيقته أن تعرف: هل هي النفس أو غيرها، وقد كثرت في ذلك الأقوال واضطربت المذاهب، فتعلق قوم بظواهر من الأحاديث لا توجب القطع؛ لأنها نقل آحاد، وأيضا فإن ألفاظها محتملة للتأويل ومجازات العرف واتساعاتها في الكلام كثيرة، فمما تعلقوا به في أن الروح هي النفس، قول بلال:«أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك»، مع قول النبي عليه السلام:«إن الله قبض أرواحنا»، وقوله عز وجل:﴿الله يتوفى الأنفس﴾، والمقبوضة هي الأرواح، ولم يفرقوا بين القبض والتوفي، ولا بين الأخذ في قول بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، وبين قول النبي عليه السلام:«قبض أرواحنا»، وتنقيح الأقوال وترجيحها يطول.

وقد روى أبو عمر في التمهيد حديثاً يدل على خلاف مذهبه، في أن النفس هي الروح، لكن علله فيه أن الله خلق آدم وجعل فيه نفسا وروحا، فمن الروح عفافه وفهمه وحلمه وسخاؤه ووفاؤه، ومن النفس شهوته وطيشه وسفهه وغضبه ونحو هذا، وهذا الحديث معناه صحيح إذا تؤمل، صح نقله أو لم يصح، وسبيلك أن تنظر في كتاب الله أولا، لا إلى الأحاديث التي تنقل مرة على اللفظ ومرة على المعنى، وتختلف فيها ألفاظ المحدثين، فنقول قال الله تعالى:﴿فإذا سويته ونفخت فيه من روحي﴾، ولم يقل: من نفسي، وكذلك قال:﴿ثم سواه ونفخ فيه من روحه﴾، ولم يقل: من نفسه ولا يجوز أيضا أن يقال هذا، ولا خفاء فيما بينهما من الفرق في الكلام وذلك يدل على أن بينهما فرقا في المعنى، وبعكس هذا قوله سبحانه:﴿تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك﴾، ولم يقل: تعلم ما في روحي، ولا أعلم ما في روحك، ولا يحسن هذا القول أيضا أن يقوله غير عيسى، ولو كانت النفس والروح اسمين لمعنى واحد كالليث والأسد، لصحَّ وقوع كل واحد منهما مكان صاحبه، وكذلك قوله تعالى:﴿ويقولون في أنفسهم﴾، ولا يحسن في الكلام يقولون في أرواحهم، وقال تعالى:﴿أن تقول نفس﴾، ولم يقل أن تقول روح كلام الله تعالى ؟

ولكن بقيت دقيقة يعرف معها السر والحقيقة، ولا يكون بين القولين اختلاف متباين إن شاء الله، فنقول وبالله التوفيق:

الروح مشتق من الريح، وهو جسم هوائي لطيف، به تكون حياة الجسد عادة أجراها الله تعالى؛ لأن العقل يوجب ألا يكون للجسم حياة حتى ينفخ فيه ذلك الروح الذي هو في تجاويف الجسد، كما قال ابن فورك وأبو المعالي وأبو بكر المرادي، وسبقهم إلى نحو منه أبو الحسن الأشعري، ومعنى كلامهم واحد أو متقارب.

فصل: فإذا ثبت أن الروح سبب الحياة عادة أجراها الله تعالى، فهو كالماء الجاري في عروق الشجرة صعدا، حتى تحيى به عادة، فنسميه ماء باعتبار أوليته، ونسمي أيضا هذا روحا باعتبار أوليته واعتبار النفخة التي هي ريح، فما دام الجنين في بطن أمه حيا، فهو ذو روح فإذا نشأ واكتسب ذلك الروح أخلاقا وأوصافا لم تكن فيه، وأقبل على مصالح الجسم كلفا به، وعشق مصالح الجسد ولذاته ودفع المضار عنه سمي نفسا، كما يكتسب الماء الصاعد في الشجرة من الشجرة أوصافا لم تكن فيه، فالماء في العنبة مثلا هو ماء باعتبار الأصل والبدأة، ففيه من الماء الميوعة والرطوبة، وفيه من العنبة الحلاوة، وأوصاف أخر فتسميه مصطارا إن شئت، أو خمرا إن شئت، أو غير ذلك مما أوجبه الاكتساب لهذه الأوصاف، فمن قال: إن النفس هي الروح على الإطلاق من غير تقييد، فلم يحسن العبارة، وإنما فيها من الروح الأوصاف التي تقتضيها نفخة الملك، والملك موصوف بكل خلق كريم.

ولذلك قال في الحديث: فمن الروح عفافه وحلمه ووفاؤه وفهمه، ومن النفس شهوته وغضبه وطيشه، وذلك أن الروح كما قدمنا مازج الجسد الذي فيه الدم ويسمى الدم نفسا، وهو مجرى الشيطان وقد حكمت الشريعة بنجاسة الدم لسر لعله أن يفهم مما نحن بسبيله، فمن يعرف جوهر الكلام وينزل الألفاظ منازلها، لا يسمي روحا إلا ما وقع به الفرق بين الجماد والحي، والذي كان سببا للحياة كما في الكتاب العزيز عند ذكر إحياء النطفة ونفخ الروح فيها، ولا يقال نفخ النفس فيها إلا عند الاتساع في الكلام وتسمية الشيء بما يئول إليه، ومن هاهنا سمي جبريل عليه السلام: روحا، والوحي روحا؛ لأن به تكون حياة القلوب قال الله سبحانه:﴿أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها﴾، وقال في الكفار:﴿أموات غير أحياء﴾، وقال:﴿إن النفس لأمارة بالسوء﴾، ولم يقل: إن الروح لأمارة؛ لأن الروح الذي هو سبب الحياة لا يأمر بسوء ولا يسمى أيضا نفسا، كما قدمنا حتى يكتسب من الجسد الأوصاف المذكورة وما كان نحوها، والماء النازل من السماء جنس واحد، فإذا مازج أجساد الشجر كالتفاح والفرسك والحنظل والعشر وغير ذلك، اختلفت أنواعه، كذلك الروح الباطنة التي هي من عند الله هي جنس واحد، وقد أضافها إلى نفسه تشريفا لها حين قال:﴿ونفخ فيه من روحه﴾، ثم يخالط الأجساد التي خلقت من طين، وقد كان في ذلك الطين طيب وخبيث، فينزع كل فرع إلى أصله، وينزع ذلك الأصل إلى ما سبق في أم الكتاب، وإلى ما دبره وأحكمه الحكيم الخبير، فعند ذلك تتنافر النفوس أو تتقارب وتتحاب أو تتباغض على حسب التشاكل في أصل الخلقة، وهي معنى قول النبي ﷺ:«فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف».

وقد كتب بعض الحكماء إلى صديق له: إن نفسي غير مشكورة على الانقياد إليك بغير زمام، فإنها صادفت عندك بعض جواهرها، والشيء يتبع بعضه بعضا.

فصل: وقد يعبر بالنفس عن جملة الإنسان روحه وجسده، فتقول: عندي ثلاثة أنفس، ولا تقول: عندي ثلاثة أرواح، لا يعبر بالروح إلا عن المعنى المتقدم ذكره، وإنما اتسع في النفس وعبر بها عن الجملة، لغلبة أوصاف الجسد على الروح حتى صار يسمى نفسا، وطرأ هذا الاسم بسبب الجسد كما يطرأ على الماء في الشجر أسماء على حسب اختلاف أنواع الشجر، من حلو وحامض ومر وحريف وغير ذلك، فتحصل من مضمون ما ذكرنا: ألا يقال في النفس هي الروح على الإطلاق حتى تقيد بما تقدم، ولا يقال في الروح هو النفس إلا كما يقال في المني هو الإنسان، أو كما يقال للماء المغذي للكرمة هو الخمر أو الخل، على معنى أنه ستنضاف إليه أوصاف يسمى بها خمرا أو خلا، فتقييد الألفاظ هو معنى الكلام، وتنزيل كل لفظ في موضعه هو معنى البلاغة فافهمه.

فصل: وإذا ثبت هذا فلم يبق إلا قول بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، فذكر النفس؛ لأنه معتذر من ترك عمل أمر به، والأعمال مضافة إلى النفس؛ لأن الأعمال جسدانية، وقول النبي ﷺ:«إن الله قبض أرواحنا»، فذكر الروح الذي هو الأصل؛ لأنه أنسهم من فزعهم، فأعلمهم أن خالق الأرواح يقبضها إذا شاء، فلا تنبسط انبساطها في اليقظة وروح النائم، وإن وصف بالقبض فلا يدل لفظ القبض على انتزاعه بالكلية، كما لا يدل قوله سبحانه في الظل:﴿ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا﴾ على إعدام الظل بالكلية، وقوله تعالى:﴿الله يتوفى الأنفس﴾، فلم يقل: الأرواح؛ لأنه وعظ العباد الغافلين عنه، فأخبر أنه يتوفى أنفسهم ثم يعيدها حتى يتوفاها، فلا يعيدها إلى الحشر لتزدجر النفوس بهذه العظة عن سوء أعمالها؛ إذ الآية مكية والخطاب للكفار، وقد تنزلت الألفاظ منازلها في الحديث والقرآن وذلك معنى الفصاحة وسر البلاغة.

الروض الأنف في شرح غريب السير لأبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد الخثعمي السُّهيلي(ت581هـ):(2/72-75)، دار الكتب العلمية –بيروت، علق عليه ووضع حواشيه: مجدي منصور سيد الشوري، الطبعة الأولى د.ت.

Science

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق