مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

الـتـأسـي بالأفعـال

 

يقول الإمام أبي اسحاق الشاطبي رحمه الله:

           “إن التأسي بالأفعال – بالنسبة إلى من يعظم في الناس -، سر مبثوث في طباع البشر، لا يقدرون على الانفكاك عنه بوجه ولا بحال، لا سيما عند الاعتياد والتكرار وإذا صادف محبة وميلا إلى المتأسي به، ومتى وجدت التأسي بمن هذا شأنه مفقودا في بعض الناس فاعلم أنه إنما ترك لتأس آخر، وقد ظهر ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم في محلين:

            أحدهما: حين دعاهم عليه الصلاة والسلام من الكفر إلى الإيمان، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الله، فكان من آكد متمسكاتهم التأسي بالآباء كقوله:(وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، وما أشبهه من الآيات، وقالوا:(أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب)، ثم كرر عليهم التحذير من ذلك، فكانوا عاكفين على ما عليه آباؤهم، إلى أن نوصبوا بالحرب وهم راضون بذلك، حتى كان من جملة ما دعوا به التأسي بأبيهم إبراهيم، وأضيفت الملة المحمدية إليه، فقال تعالى: (ملة أبيكم إبراهيم)، فكان ذلك بابا للدعاء إلى التأسي بأكبر آبائهم عندهم، وبين لهم مع ذلك ما في الإسلام من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم التي كانت آباؤهم تستحسنها وتعمل بكثير منها، فكان التأسي داعيا إلى الخروج عن التأسي، وهو من أبلغ ما دعوا به من جهة التلطف بالرفق ومقتضى الحكمة. وبذلك جاء في القرآن بعد قوله: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا)، وقوله: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)، فكان هذا الوجه من التلطف في الدعاء إلى الله نوعا من الحكمة التي كان عليه الصلاة والسلام يدعو بها، وأيضا فإن ما ذكر في القرآن من مكارم الأخلاق كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصدق الفعل القول بالنسبة إليهم، فكان ذلك مما دعا إلى اتباعه والتأسي به فانقادوا ورجعوا إلى الحق.
           والمحل الثاني: حين دخلوا في الإسلام، وعرفوا الحق، وتسابقوا إلى الانقياد لأوامر النبي عليه الصلاة والسلام و نواهيه. فربما أمرهم بالأمر وأرشدهم إلى ما فيه صلاح دينهم، فتوجهوا إلى ما يفعل ترجيحا له على ما يقول. وقضيته عليه الصلاة والسلام معهم في توقفهم عن الإحلال بعد ما أمرهم، حتى قال لأم سلمة: “أما ترين أن قومك أمرتهم فلا يأتمرون؟، فقالت: اذبح واحلق، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم، فاتبعوه، ونهاهم عن الوصال فلم ينتهوا، واحتجوا بأنه يواصل، فقال: “إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني”. ولما تابعوا في الوصال واصل بهم حتى يعجزوا، وقال: “لو مد لنا في الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم”. وسافر بهم في رمضان وأمرهم بالإفطار وكان هو صائما، فتوقفوا، أو توقف بعضهم حتى أفطر هو فأفطروا. وكانوا يبحثون عن أفعاله كما يبحثون عن أقواله. وهذا من أشد المواضع على العالم المنتصب، […].

           ولعل قائلا يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوما، فكان عمله للاقتداء محلا بلا إشكال، بخلاف غيره، فإنه محل للخطأ والنسيان والمعصية والكفر، فضلا عن الإيمان، فأفعاله لا يوثق بها، فلا تكون مقتدى بها.

           فالجواب أنه إن اعتبر هذا الاحتمال في نصب أفعاله حجة للمستفتي فليعتبر مثله في نصب أقواله، فإنه يمكن فيها الخطأ والنسيان والكذب عمدا وسهوا؛ لأنه ليس بمعصوم، ولما لم يكن ذلك معتبرا في الأقوال لم يكن معتبرا في الأفعال، ولأجل هذا تستعظم شرعا زلة العالم (…) فحق على المفتي أن ينتصب للفتوى بفعله وقوله، بمعنى أنه لا بد له من المحافظة على أفعاله حتى تجري على قانون الشرع ليتخذ فيها أسوة.

            وأما الإقرار: فراجع إلى الفعل، لأن الكف فعل، وكف المفتي عن الإنكار إذا رأى فعلا من الأفعال كتصريحه بجوازه. وقد أثبت الأصوليون ذلك دليلا شرعيا بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكذلك يكون بالنسبة إلى المنتصب للفتوى، وما تقدم من الأدلة في الفتوى الفعلية جار هنا بلا إشكال، ومن هنا ثابر السلف على القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يبالوا في ذلك بما ينشأ عنه من عود المضرات عليهم بالقتل فما دونه، ومن أخذ بالرخصة في ترك الإنكار فر بدينه واستخفى بنفسه، ما لم يكن ذلك سببا للإخلال بما هو أعظم من ترك الإنكار، فإن ارتكاب خير الشرين أولى من ارتكاب شرهما، وهو راجع في الحقيقة إلى إعمال القاعدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمراتب الثلاث في هذا الوجه مذكورة شواهدها في مواضعها من الكتب المصنفة فيه.

الموافقات في أصول الشريعة

 للإمام أبي اسحاق الشاطبي المالكي (ت 790).

2/181.
تحقيق فضيلة الشيخ عبد الله دراز
دار الكتب العلمية

                                   بيروت.                                    

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق