مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةأعلام

الشيخ الحسن بن مبارك التاموديزتي (تـ 1316)

أ – اسمه ونسبه:

     حسب ما ورد من نتف في المصادر التاريخية التي ترجمت للتاموديزتي[1] فإن اسم الشيخ هو: أبو علي الحسن بن مبارك بن محمد بن عبد الرحمن بن الحسن بن عبد الله بن يوسف بن عمرو بن أحمد بن زكرياء بن عبد الملك التاموديزتي نسبا ودارا، المالكي مذهبا، الأشعري عقيدة، والدرقاوي طريقة. لقب بجنيد زمانه[2] لجمعه بين الفقه والتصوف، كما برع  في النحو  والحساب والفرائض، وله مشاركة في علوم الحديث والتفسير والمنطق والتنجيم، حلاه الإكراري بقوله:« سُلِّم له الصلاح، من غير تلاح، واشتاق للمعالي وارتاح، ومن نكد الدنيا استراح، فطاب له الغدو والرواح»[3]. أما تلميذه الشيخ عبد العزيز بن محمد الأدوزي فقد وصفه بقوله:« رجل أسمر طويل اللحية ناتئ الجبهة أشم غائر العينين ربعة بين الطول والقصر، لم يكن ببادن ولا خفيف اللحم، متوسط بين ذلك قليل الشعر فيما سوى اللحية، ذكي ممتلئ ذكاء وفطنه، وكأنه ينظر إلى الأمور من وراء الغيب بستر رقيق»[4].

     نشأ التاموديزتي و ترعرع في قرية “تاموديزت” إحدى مداشر قبيلة (إيدَاو بَاعْقِيلْ)[5]، وتُنطق بالعربية “بعقيلة”، وتنتمي هذه القبيلة لاتحادية قبائل (إدَولِتِيتْ) السوسية.

ب – مرحلة التعليم والتخرج:

تلقى التاموديزتي تعليمه الأولي بمسجد ” إذْ الحَاج علي” بـ “أفْلا أنْزِي” على يد الأستاذ موسى بن محمد، كما تتلمذ على يد الشيخ محمد التيغزراني بالمدرسة الأدوزية، الذي أثنى عليه كثيرا في مقدمة كتابه المنجع[6]. كما لازم المُتَرجم الأستاذ العربي الأدوزي(تـ1286هـ) بمدرسة “أدُوز” لسنوات إلى أن توفي الأدوزي فظن الطلبة أن التاموديزتي هو من سيتولى الإشراف على المدرسة، لكنه لم يفعل ذلك بل تعهد ابن شيخيه محمد بن العربي الأدوزي بالرعاية والتشجيع فكان يطالع معه الدروس ليلا ويجلس بين يديه كباقي الطلبة نهارا، فلم تمض إلا شهور حتى ظهر نبوغ ابن شيخه. وفي ما يقارب سنة 1290هـ تخرج التاموديزتي من المدرسة الأدوزية مجازا من ابن العربي الأدوزي الذي خاطبه بأبيات يقول فيها[7]:

أجَزْتُ وَلَكِن مِثْلُكُم مَنْ يُجِيزُنِي       ولَم يَسْتَفِد مِني ولَكِن يُفِيدُنِي

إلى أن قال في أبيات أخرى :

أجَزْتُ لَكُم مَرْوينَا مِثْل مَــا لَنَا           أجَاز شُيوخَنا الأمَــاثِلُ مــن قَبْلُ

ومَا فَتَحَ الله الكَريمُ عَلينــا أو            عَلَيكُم وهُو بِــالصَوابِ لَنَــا أهْلُ

سَواءٌ أصُولَ مَأخَذِ الدينِ مِن كِتَا            ـبِ رَبِّ يَجِل أن يَكُــون  لَـهُ مِثْلَ

تَعَالى الإله أو حَدِيثُ الذي بِــه           هَدَى مَن هَدى وَجَاءهُ الخَيْرُ والفَضْلُ

ومَا اسْتْنْبَطَ التِّلْمِيذُ لِلعِلْمِ كَالرِّضَا             ومَا ضَمْهُ مِن الهَــداةُ بِــهِم شَمْلُ 

بعد فترة التحصيل العلمي سيلتحق التموديزتي ببعض  المدارس العلمية بمنطقة سوس قصد المشارطة والتدريس وكان أول مسجد شارط فيه هو مسجد مدرسة “مُوزيت”.

ج – دواعي إقباله على التصوف:

     سرد المختار السوسي في معرض ترجمته للتاموديزتي مجموعة من الوقائع والأحداث التي جعلت المترجم يُقبل على التصوف ويتخلى في المقابل عن النوازل؛ ومن بين تلك الوقائع أنه كان يوما جالسا إلى متخاصمين، وقد كتب لهم الحكم فصبوا في حجره ثلاثمائة مثقال، فورد عليه وارد دفع به إلى الدخول في تأمل عميق نتج عنه سكون جميع أعضائه، وبينما هو في تلك الحال إذا بأحد المتخاصمين ينظر إلى الشيخ و يلتفت إلى صاحبه قائلا له: «ربما خرجت روح الفقيه فاهرب بنا لئلا يظن الناس أننا قتلناه»[8]، فإذا بالشيخ يرفع رأسه ممزقا الحكم الذي كتبه لهم، نافضا يده من تلك الـدراهم التي وضــعـت في حـجـره عـائـدا إلى داره، فلـما علـم والِد التاموديزتي بالأمـر – وكان يحب المال كثيرا- حاول ثنيه عن هذا التصرف، لكن التاموديزتي صمم أن يضع حدا للاشتغال بالنوازل كلية.

     من الأحداث التي أسهمت بشكل كبير في جعل التاموديزتي يقبل على التجربة الصوفية، ويبتعد عن الاشتغال بالنوازل؛ أنه مرة استأجر مجموعة البنائين ليشيدوا له جدارا في داره، بينما هو واقف بالقرب من البنائين  إذا بإنسان يقبل عليهم ليعينهم على عملهم قائلا: «بسم الله عونك يا رب  لنضع حظنا في هذه الدار الظالم أهلها»[9]، وإن كان هذا الشخص يقصد بذلك المداعبة، غير أنه  يعبر عن الصورة العامة التي رسخت لدى معظم الناس الذين ينظرون إلى العلماء المشتغلين بالنوازل على أنهم ظلمة ويأخذون أكثر مما يستحقون، فما أن سمع التاموديزتي كلام ذلك الشخص حتى ضاق صدره وتغير حاله، فخرج في الحين فأمر البنائين بالنزول من فوق الجدار وأوقف العمل فيه نهائيا.

دانقطاعه إلى شيخه المعدري وتجرده بين يديه:

     أمضى التاموديزتي فترة من الزمان يتلقى العلوم والمعارف بالمدرسة الأدوزية على يد شيخها العربي الأدوزي (تـ1286هـ)، وبعد وفاته استكمل تكوينه العلمي على يد نجل شيخه محمد بن العربي الأَدُوزِي (تـ1323هـ) الذي يعد من أبرز المنافحين عن الطريقة الناصرية بمنطقة سوس، إلى أساق القدر إلى الشيخ سعيد المعدري الذي أحدث تحولا كبير في حياته

مما يذكره المختار السوسي كذلك أن التاموديزتي زار مرة شيخه ابن العربي الأدوزي الناصري وكان معه رفيقه في الطريقة الدرقاوية الشيخ علي الإلغي، فلما دخلا عليه خاطبهما بقوله:« كنا جميعا على أمر يجمعنا كلنا وهو العلم (وهذا دليل على أن التاموديزتي لم يتلق الورد الناصري) فما هذا الذي اخترتموه بعد العلم؟ فأروني ما هو؟ فإن كان حقا اتبعناه كلنا، وإن كان باطلا نبذناه كلنا، فلا خير في أن نفترق بعد أن ائتلفنا»، وأضاف قائلا:« تأملا في ذلك، وفي الصباح نجيل المذاكرة في هذا الأمر»، فلما ذهب عنهما الأستاذ قال التاموديزتي لصاحبه:« تعالى لنتفق على ماذا نجيب به الأستاذ صباحا» فرد عليه الإلغي بقوله:« لا جواب عندنا إلا أن لا يجدنا هنا الصباح، فإن ما سيقوله لنا قد عرفناه، ولكنه لا يمكن أن يدرك ما نقول له نحن، فلا فائدة في محاورته، فنحن نعدره وهو يعذلنا»[10].

لَو كُنْتَ تَعْلَمُ مَا أقُوالُ عَذَرْتَنِي         أو كُنُتُ أجْهَلُ ما تَقُولْ عَذَلْتُكَا

لَكِنْ جَهِلْتَ مَقَالَتِي فَعَذَلْتَــنِي         وعَلِمْتُ أنَكَ جَاهِــلٌ فَعَذَرْتُكَا

هـ- سلوكه ومجاهداته:  

     تأثر التاموديزتي تأثرا بالغا بأفكار شيخه ابن العربي الأدوزي الناصري الذي عاش حياة الزهد والتعفف والإعراض عن الدنيا وأهلها ونبذ الدعاوى الباطلة، الشيء الذي أسهم في تهيئ التاموديزتي لتقبل مبادئ الطريقة الدرقاوية الوافد الجديد على منطقة سوس، والتي تجعل من أسسها تجرد الباطن من الأسباب وخرق العوائد والانقطاع عن الأهل والأولاد، فما كان من التاموديزتي إلا أن سلم مقاليد أموره لشيخه المعدري الرجل “الأمي” الذي لقنه الورد الدرقاوي، ليشرع بعد ذلك في نفض يديه من الأسباب كلها، فتخلى عن النوازل، ورد كل ما توصل به منها إلى أصحابه، وكثف من سياحته؛ فكان دائم التفقد لفقراء شيخه المعدري أينما كانوا، مما دفعه إلى تخير زوجته بين الصبر على ذلك الحال أو الفراق، فاختارت الصبر معه مخاطبة إياه: «هل هناك خير إلا معك؟! فأنا أسامحك في كل الحقوق حضرا وسفرا … نحمد الله على أن يسر لنا عمارة دارنا بالذكر والصلاة في الأوقات فكأننا في جنة دائما»، فأجابها قائلا: «اليوم على هذه الحالة، ولربما يجئ الغد بما لا تحبين، فهل تجدين من نفسك قوة وصبرا على ما ترينه من جديد؟» فكان الحال كذلك[11].

و – منهج التاموديزتي في تربية المريدين

     سلك التاموديزتي منهجا صارما في تربية وإرشاد المريدين، “فكان عارفوه يتعجبون كيف يتأتى لمن معه أن يصبر على تلك الحال الشديدة، ويقول سيدي إبراهيم بن المحجوب من أصحابه الساحليين: «إن مثل سيدي الحاج الحسن في شدة ورعه، وكثرة تضييقه على نفسه، وملازمته للمناقشة والمحاسبة في كل الأقوال والأفعال والأحوال وخطوات القلوب، مثل من ركز عكازة في الأرض فتسلقها حتى علاها، فإنه إن تمكن من الاستواء عليها وتيسر له الدوام على ذلك فإنه لا يمكن لآخرين أن يشاركوه في الاستواء عليها، لأنه لا يمكن أن يستوي عليها إلا واحد»[12]. فقد كان شديد المحاسبة لنفسه فلا يُقْبِل على عمل حتى يقيسه بميزان الشرع؛ ” فلا يمكن أن  يلبس أو يأكل أو يتكلم أو ينام أو يجلس أو يقوم أو يربض في زاويته أو يسيح أو ينزل على إنسان أو يأكل من طعامه إلا إذا كان كل ذلك موزونا بميزان القسطاس الذي لا يغادر ذرة”[13]. ولم يكن يقبل أن يُوسَم بمشيخة ولا أن يشار إليه بالبنان، غير أنه إذا تكلم في العلوم استولى على أعنة القلوب، وقد رزق من حلقه رنة رقيقة تزيد كلامه تأثيرا في السامعين.

ز –  تــلامـيــذه

     خلف التاموديزتي مـجموعة من الأتباع والتـلامـيذ؛ منـهم الفقيه مـحمد بن عبد الرحمن الدرقاوي الحاحي الذي أخذ عنه مختلف المعارف ومنها التصوف قبل أن يلتحق بالقائد سعيد في تزنيت ليشتغل معه ككاتب، وكذلك كان مع الشيخ الهيبة ردحا من الزمان ليرجع إلى بلدته الأصلية “إيداوتغما” بحاحا فسكن هناك ويشارط في المدرسة التامرية ما شاء الله إلى أن توفي سنة 1340 هـ[14]. ومنهم مبارك البعقلي المعدري العلامة المشهور. ومنهم إبراهيم بن المحجوب الساحلي الزهد الورع وقد تأثرا كثيرا بشيخه توفي نحو 1353هـ. ومن أبرز تلاميذ التاموديزتي كذلك الشيخ عبد العزيز بن محمد اليعقوبي السملالي وارث سر التاموديزتي بعد وفاته وإليه انتقلت رئاسة الفقراء التامودزتيين، وكان من كبار مريدي الطريقة الناصرية في سوس قبل أن يعتنق التجانية ليعرض عنها بعد أن وقع خلاف بينه وبين شيخه الحاج الحسين الإفراني السالف الذكر، لينخرط في نهاية المطاف في سلك الدرقاوية التاموديزتية فيصير من أعلامها المبرزين، توفي سنة 1336هـ وخلف العديد من الأتباع[15]. لا شك أن تلاميذ التاموديزتي سيكون عددهم أكبر من هذا العدد، وهذا راجع لغزارة علمه، واشتغاله بالتدريس لمدة طويلة[16].

ص – وفاته

     رَحل التاموديزتي عن هذه الدار بعد أن استعد واجتهد، وهجر المرقد، وهام في البلدان، ولم يستطب لنفسه مكانا، ولا اعتمد على صاحبة و لا إخوان، ولا عد نفسه من الجماعة والجيران، فأنشد حاله وقد طاب ترحاله:

سَلامٌ عَلى الدُّنيَا سَلامَ مُوَدِّعِ

إذا عَاشَ مَنْ أهْوَى فإنِّي قَدْ مِتَّ [17]

     لما قَرُب أجله –رحمه الله- خرج متوجها إلى “أيت جرار” في سياحة مع بعض مريديه، فمرض مرضا خفيفا أسلم على إثره الروح في زاويته “بإدغ” أواخر شعبان عام 1316 للهجرة ودفن هناك، وبعد مرور سنة جاء بعض أهل بلدته “تاموديزت” فنبشوا قبره فوجوده كما دفن فنقلوا رفاته  ليلا  إلى مسقط رأسه “بتاموديزت” بقبائل “بعقيلة”، و قبره هناك وسط المقابر إلى اليوم وقد قمنا بزيارته “بتيغمي”[18] رفقة أحد أحفاد الشيخ فوجدناه قبرا عاديا غير مشيد و ليس به زخارف باستثناء بعض اللبنات التي تستعمل في البناء الموضوعة بجنبات القبر. كما قمنا بزيارة منزله المجاور لزاويته، وقد استقبلتنا زوجة أحد أحفاده مع ابنها والتي أخبرتنا أن الشيخ التاموديزتي قد خلف بنت واحدة تزوجت بأحد أبناء أعمامها ولها أولاد تفرقوا في منطقة تيغمي.


[1] من المصادر التي ترجمت له: المعسول ج 19 ص 5- 31 ، خلال جزولة ج 1 ص 82. وروضة الأفنان في وفيات الأعيان،  ص350.

[2] خلال جزولة ج  1 ص 82 .

[3] روضة الأفنان في وفيات الأعيان، 151.

[4] المعسول، ج 19 ص 21.

[5] يًحُد قبيلة إداوبعقيل من الشرق قبيلة “إداوسملال”، ومن الشمال قبيلة “إداكارسموك”، ومن الجنوب قبيلة “تازروالت” و”إيمجاض”، ومن الغرب قبيلة “أيت المعدر” وقبيلة أولاد جرار وأهل تيزنيت. ولا يفصل مجال قبيلة إداوبعقيل عن قبيلة تازروالت إلا هضبة ووديان كوادي ويجان، ووادي أساكا، ووادي ايمجكارن، ووادي أكويم، ووادي ايمي نتيغمي. (ينظر خريطة القبائل السوسية ضمن الملحق).

[6] يسمى هذا الشرح “المنجع على الحوض” وهو شرح فقهي على كتاب الحوض لأوزال، وقد ألفه التاموديزتي بالأمازيغية لتقريب الفقه المالكي من الأوساط الشعبية البدوية في المجال السوسي.

[7] تنظر هذه الأبيات الشعرية كاملة (والتي هي عبارة عن إجازة من ابن العربي الأدوزي إلى المترجم) بالمعسول ج 19 ص 28 .

[8] نفسه ج 19 ص 6 – 7 .

[9] المعسول، ج 19 ص 7.

[10] المختار السوسي ، الترياق المداوي، ج 1 ص 46 – 47.

[11] المعسول ج 19 ص 13

[12] نفسه ج 19 ص 9

[13] المعسول ج 19 ص 9

[14] المعسول ج 19 ص 12

[15] نفسه ج 5 ص 70- 86.

[16] هذا ما أخبرنا به أحد أقرباء الشيخ التاموديزتي حين قمنا بزيارة ميدانية للزاوية التاموديزتية بتغمي نواحي مدينة تزنيت .

[17] محمد الإكراري، روضة الأفنان في وفيات الأعيان، ص152.

[18] تنظر صور القبر ضمن الملحق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق