وحدة الإحياءأعلام

السيرة الذاتية في كتاب “طوق الحمام “لابن حزم

ذ. عبد الرحيم العلمي

 

 يكاد يجمع الدارسون على أن رسالة طوق الحمامة لا تقتصر قيمتها على ما اشتملت عليه من نصوص أدبية وقيم إنسانية حضارية فحسب، بل أيضا في تلك الحكايات الكثيرة التي يرويها ابن حزم والتي تكشف الكثير من جوانب الحياة الأندلسية، وتوقفنا على أسرار الحكام، والرؤساء، وخبايا القصور، وتنبه إلى ما كان لصنوف من النساء من أنشطة داخل المجتمع، كالطبيبة والحجامة، والماشطة، والمغنية والمعلمة… الخ وإلى جانب هذا فللكتاب قيمة أخرى لا تقل أهمية كذلك، هي اشتماله على كثير من الأخبار التي تلقي الضوء على حياة ابن حزم نفسه، وعلى محيطه.

فقد كان يتسم بالجرأة والصراحة بشكل مثير، مما جعله أكثر إلى الاعترافات، أو السيرة الذاتية، أو التأملات الوجدانية كما وصفها بعض الباحثين[1]، وهي حقائق ما كان غير ابن حزم الاعتراف بها وله ما له من جلال الشيب ووقار الفقه، وهيبة العلم، بل إن هذه الاعترافات جاءت في الكتاب من الكثرة، بحيث جعلها بعضهم دليلا على أن الكتاب عبارة عن مذكرات شخصية”[2]

من هذا المنطلق سنحاول أن نتتبع حياة ابن حزم وشخصيته ومحيطه من خلال الطوق، مع مراعاة التسلسل الزمني، بحثا عن عناصر الصورة التي شاء المؤلف أن يقدمها للقارئ عن ذاته، وعن مجتمع الأندلس آنذاك.

المولد والنشأة

علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب، بن صالح بن سفيان بن يزيد المعروف بابن حزم، المكنى بأبي محمد مثلما ورد في أول المقدمة قال: “أبو محمد عفا الله عنه”[3] ولد سنة 384ﮪ، وكانت أسرته على جانب عريض من العلم والنباهة والجاه، مما مكن لأبيه أحمد أن يزر للمنصور بن أبي عامر، وابنه المظفر بعده، (ومكن له هو الآخر أن يزر للمستظهر بالله عبد الرحمان ثم للمعتمد بالله)[4].

وقد سلك أبوه في تربيته منحى غريبا إذا أحاطه بحجاب منيع عن الخارج من الرقباء والرقائب والمربين الذين كانوا في الأغلب نساءً، يقول في الطوق مثلا: “ولقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري، لأني ربيت في حجورهن ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن، ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب، وحين تفيل وجهي”[5]، ويقول أيضا في موضع آخر من الكتاب: “وكان السبب فيما ذكرته أني كنت وقت تأجج نار الصبا وشرة الحداثة، وتمكن غرارة الفتوة مقصورا محظرا علي بين رقباء ورقائب”[6]، ولا يخفى ما في نمط الحياة النسائية في أحضان القصور من مظاهر النعيم والبذخ والليونة البالغة حدا كبيرا وهو أمر يتجلى بوضوح فيما يذكره (أثناء حديثه عن جارية عشقها أيام صباه) من ذلك، كالجنان الغناء، والشرف العالية المطلة على البساتين وعلى كل قرطبة من جميع الجهات، وكقضاء الوقت في اللهو وسماع الغناء، وتدرب الجواربي على العدو، وغير ذلك…[7].

هكذا إذن قضى ابن حزم مراحل حياته الأولى (الصبا والشباب) في حجور النساء بعيدا عن المعارك السياسية، وحتى عن التيارات الفكرية التي كانت تعج بها قرطبة أيامه، وذلك ما أتاح له فرصة واسعة لاستبطان خبايا النساء، وأسرار العشاق، يقول “ولم يكن وكدي وإعمال ذهني من أول فهمي وألفي سن الطفولة جدا، إلا تعرف أسبابهن والبحث عن أخبارهن… فأشرفت من أسبابهن على غير قليل”[8].

3. شيوخه

إن من حسن الحظ كما يقول الأستاذ محمد المنوني، أن بن حزم قدم شخصيا أول نص في هذا الصدد، وذلك بمناسبة بعض أحاديثه عن النساء، حيث أشار إلى أنهن أول من أخذ عنه، وأشار إلى ما أخذ عنهن من العلوم الأولية، وهي: القرآن ـ الشعرـ الكتابة، يقول: “وهن علمنني القرآن وروينني كثيرا من الأشعار ودربنني في الخط”[9]، وهذا أمر يدل على جانب من الحركة الثقافية بالأندلس داخل المحيط النسوي، فكانت الجواري أديبات وشاعرات وأحيانا عالمات فقيهات.

بعد هذه المرحلة يصل ابن حزم إلى سن التحصيل والخروج إلى مجالس الرجال، ولكن دائما بتوجيه من والده، ونحن نعلم أن قرطبة كانت آنذاك حاضرة كبرى، وعاصمة الأندلس، تحفل بعدد كبير من الأعلام في مختلف فروع المعرفة، والمكتبات والخزائن، وقد أشار ابن الحزم في الطوق إلى جملة من مشايخه هم:

1. أبو القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد الأزدي (توفي سنة 410ﮪ)[10]، وقد أشار إليه في موضعين: أولهما حيث ذكر أنه أول مشايخه بعد النساء، “فلما ملكت نفسي وعقلت، صبحت أبا علي الحسين بن علي الفاسي، في مجلس أبي القاسم الرحمن بن أبي يزيد الأزدي شيخنا، وأستاذي رضي الله عنه”[11] وثانيهما: أوضح فيه ما أخذ عنه من العلوم، “وكان من غلمان أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد الأزدي، أستاذي في هذا الشأن”[12] (وهو يقصد علم الكلام والجدل)، وهنا لا بد من الإشارة إلى أنني فضلت أن أقدم هذا الشيخ على غيره لأن ابن حزم أشار إلى أولويته، وأما فيما سيأتي من الشيوخ، فسأتبع الترتيب الزمني، حسب تاريخ الوفيات.

2. أحمد بن محمد بن أحمد الأموي القرطبي، المعروف بابن الجسور (توفي سنة 401ﮪ)، وهو محدث مكثر[13]، ذكره ابن حزم في معرض روايته لبعض الأحاديث النبوية الشريفة التي يسردها بسنده من لدن ابن الجسور إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، وهي في الطوق أربعة أحاديث وردت في أربعة مواضع متفرقة هي: حديث: “من وقاه الله شر اثنين دخل الجنة، وحديث: “الغيرة من الإيمان، وحديث: “سبعة يظلهم الله….. وحديث: “إياكم والظن فإنه أكذب الكذب”[14].

3. ابن الفرضي: أبو الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف الأزدي،  توفي سنة (403ﮪ)، وهو محدث حافظ وراوية متفنن[15]. وقد أورده ابن حزم أثناء كلامه عن ابنه المصعب الذي كان صديقا له، لأنهما كان يأخذان عن والد المصعب المذكور علم الحديث، قال: “وكان المصعب لنا صديقا وأخا وأليفا أيم طلبنا الحديث على والده وسائر شيوخ المحدثين بقرطبة”[16]، ونلاحظ هنا أن عبارة: “سائر شيوخ المحدثين تدل على أن هناك عددا آخر منهم لم يذكرهم في الطوق، وهم الذين كشف عنهم ذ. المنوني في بحثه القيم اعتمادا على مصادر أخرى.

4. أبو القاسم المصري: عبد الرحمن بن محمد بن أبي يزيد خالد الأزدي العتيكي، وهو نسابة أديب (توفي سنة 410ﮪ)[17]، أشار صاحب الطوق إلى أنه أستاذه، من غير إشارة إلى ما أخذ عنه من العلوم[18].

5. أبو القاسم بن الخراز: عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني الوهراني، من أهل بجاية وهو محدث وراوية (توفي سنة 411)[19]، أخذ عنه ابن حزم الحديث، إذ ذكره في مقدمة سنده لأحاديث يرويها عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، وهي في الطوق ثلاثة: “أولها حديث أي الذنب أكبر عند الله… ” وثانيهما: “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن”، وثالثها: “اجتنبوا السبع الموبقات…”[20]، والملاحظ أن ابن حزم يعتني أحيانا بتجديد المكان والزمان الذين روى فيهما الحديث عن شيخه، كقوله مثلا: “حدثنا الهمداني في مسجد القمري بالجانب الغربي من قرطبة، سنة إحدى وأربعمائة…”[21].

6. ابن الجحاف: عبد الله ابن عبد الرحمن المعافري البلنسي قاض رفقيه ومحدث (توفي سنة 417ﮪ)[22]،  ذكره ابن حزم في ثلاثة مواضع بصدد رواية أحاديث وأخبار غير نبوية، وأثنى عليه قائلا: “وإنه لأفضل قاض رأيته..”[23].

7. الأطروش: حمام بن أحمد بن عبد الله القرطبي المحدث (توفي سنة 421ﮪ)[24]، روى عنه حديثا مرفوعا عن أبي الدرداء (رضي الله عنه)[25].

8. ابن الجعفري: الفتى أبو سعيد خلف مولى الحاجب جعفر، وهو عالم ومقرئ قرطبي (توفي سنة 425ﮪ)[26]، ذكر ابن حزم أنه أخذ عنه معلقة طرفة مشروحة بالمسجد الجامع، فقال: “وهي التي قرأناها مشروحة على أبي سعيد الفتى الجعفري، وعن أبي بكر المقرئ، عن أبي جعفر النحاس رحمهم الله في المسجد الجامع بقرطبة”[27]، وذكره أيضا في مطلع سند حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “خذو عني…”[28]، وهذا يعني أنه كان أيضا محدثا.

9. أبو الخيار: مسعود بن سليمان بن مفلت الشنتريني القرطبي (توفي سنة 426ﮪ)، عالم أديب[29]، وقد ورد في ذكره عرضا في الطوق في عبارة قصيرة: “وكان أستاذي وأستاذه، الفقيه أبو الخيار اللغوي…[30].

4. أصحابه

أما أصحابه وأقرانه الذين ذكرهم، فإنهم يتراوحون ما بين عالم فقيه محدث أو قاض وبين نبيل أو أمير، وبين غني وشريف في قومه ذي مال وجاه، وبين أديب وشاعر، ولكن ما يجمع بينهم بشكل عام هو أنهم من علية أهل البلد مثل ابن حزم نفسه، وقد ورد في الطوق ما يكشف عن الطبقة التي ينتمي إليها هؤلاء الصحب في مجتمع قرطبة إذ يقول: ” تنزهت أنا وجماعة من إخواني من أهل الأدب والشرف إلى بستان لرجل من أصحابنا، فجلسنا ساعة ثم أفضى بنا القعود إلى مكان دونه يتمنى فتمددنا في رياض أريضة، وأرض عريضة، للبصر فيها منفسح، وللنفس لديها مسرح، بين جداول تطرد كأباريق اللجين، وأطيار تغود بألحان تزري بما أبدعه معبد والغريض، وثمار مهدلة قد ذللت للأيدي… وظلال وظلة… وماء عذب.. وأنهار متدفقة… ونواوير مونقة… وهواء سجسج، وأخلاق جلاس تفوق كل هذا…”[31].

وكان ينعتهم بنعوت مثل “صديقنا” و”صاحبنا” و”أليف لنا” و”أخ لنا” وغير ذلك. غير أن بعض هؤلاء الصحب كان بمثابة الشيخ لابن حزم، مثل ما هو عليه الحال بالنسبة لأبي علي الحسين بن علي الفاسي الذي يبدو أن أباه قد وجهه لصحبته ليقيه شر الرفاق، وكان أبو علي هذا أول من صحب ابن حزم بعد النساء، وكان رجلا تقيا، متنسكا فاضلا، له من الهيبة والإجلال في نفس أبي محمد ما جعله لا يمزح بحضرته، وقد كان له من التأثير في شخصيته الشيء الكثير، على المستوى السلوكي على الأقل: “فلما ملكت نفسي، وعقلت صحبت أبا علي الحسن بن علي الفاسي في مجلس أبي القاسم… وكان أبو علي المذكور عاقلا عاملا عالما، ممن تقدم في الصلاح والنسك الصحيح في الزهد في الدنيا والاجتهاد للآخرة وأحسبه كان حصورا لأنه لم تكن له امرأة قط، وما رأيت مثله جملة علما وعملا، ودينا وورعا، فنفعني الله به كثيرا، وعلمت موقع الإساءة وقبح المعاصي”[32] وبعد أبي علي هذا يأتي محمد بن أحمد بن إسحاق الذي أشار إلى صحبته إياه في أربعة مواضع[33]. ثم أبو عامر محمد بن أبي عامر، وذكره مرتين[34]، وابن الطبني وذكره أيضا مرتين[35]، ثم أبو بكر المصعب المعروف بابن الفرضي الذي وصفه بأنه: “كان لنا صديقا وأخا وأليفا أيام طلبنا الحديث…”[36].

بعد هؤلاء نجد مجموعة من الأعلام الذين ذكرهم ابن حزم عرضا، ناعتا إياهم “بصاحبنا” أو “صديقنا”، وهم: أبوبكر محمد بن قاسم بن محمد القرشي المعروف بالشلشي (ص: 11)+ أبو السري عمار بن زياد مولى المؤيد + الإسرائيلي: (ص: 19) + رجل” من الأشراف (ص: 21) + موسى بن عاصم بن عمرو (ص: 40) + أبو دلف الوراق (ص: 44) + أبو المظفر عبد الرحمن بن أحمد بن محمد (ص: 46) + أبو عبد الله محمد بن كليب من أهل القيروان (ص: 46) + أبو السري عمار بن زياد (ص: 47) + عبيد الله بن يحيى الجزيري (ص: 58) + أبو بكر عبد الرحمن بن سليمان البلوي،  من أهل سبتة (ص: 72) + محمد بن وليد بن مكسير الكاتب (ص: 80) + القاضي يونس بن عبد الله (ص: 84) + أبو المغيرة عبد الوهاب بن حزم، ابن عم المؤلف (ص: 92) + أبو الوليد أحمد بن محمد بن إسحاق الخازن (ص: 99) + وأبو بكر محمد بن بقي الحجري (وهو شاعر وشاح كبير) (ص: 103) + أبو العافية مولى محمد بن عباس بن أبي عبدة، (ص: 104) + أبو العافية مولى محمد بن عباس بن أبي عبدة، (ص: 104) + يحيى بن أحمد بن عباس بن أبي عبدة (ص: 105)، أبو السري عمار بن زياد (ص: 115) + أبو بكر (أخو المؤلف) ص: 116) + أبو شاكر عبد الرحمن بن محمد بن وهب العنبري + القاضي أبو الوليد يونس بن محمد المردي + أبو عمرو أحمد بن محرز (ص: 118- 119) + أبو القاسم الهمداني (ص: 120) + أبو حفص الكاتب وهو من ولد روح بن زنباع الجدامي (ص: 123) + من أصحابنا (مجهول) ص: 129) + ثعلب بن موسى الكلاذابي (ص: 132) – أبو بكر محمد بن الوزير عبد الرحمن بن الليث ص: 134) + أبو موسى هارون بن موسى (ص: 143) + أبو عبد الله محمد بن عمرو بن مضاء (ص: 144).

5. ارتباطه بالأمراء والسلاطين

كان ابن حزم صاحب علاقات وطيدة بعدد كبير من الأمراء والوزراء في المرحلة الأولى من حياته قبل النكبة خصوصا فقد نشأ في بيت مال وعز وجاه عريض إضافة إلى أنه وزر لبعض الملوك، كالمستظهر بالله عبد الرحمن، وكالمعتمد بالله[37]، وأنت تجد في ثنايا الطوق صدى واضحا لهذه العلاقات السياسية الرفيعة، فمن ذلك قوله في معرض حديثه عن “البين”: “ولقد أذكرني هذا أني حظيت في بعض الأزمان بمودة رجل من وزراء السلاطين أيام جاهه”[38] وأورد أيضا قصيدة وذكر أنه مدح بها هشام بن محمد أخا أمير المؤمنين عبد الرحمن المرتضى رحمه الله[39]. غير أن ابن حزم لم يقف عند هذا الحد بل تجاوزت علاقاته أمراء بني أمية إلى أميراتهم، يتجلى ذلك بوضوح في حديثه عن حفنى العامرية إحدى كرائم المظفر عبد الملك بن أبي عامر، عندما كلفته بصنع قصيدة ثم غنتها غناءا رائقا، والحقيقة أن هذا الخبر يشير إلى أمرين هامين أولهما: أن ابن حزم كانت تربطه بحفنى علاقة متميزة من الود والتقدير تفوق كونه شاعرا مادحا، وهو المفهوم من قوله: وكنت أجلها، وثانيهما أن حفنى هذه، كانت صاحبة دراية بفن الموسيقى، إذ أنها هي التي غنت القصيدة: “في طريقة النشيد والبسيط” على حد تعبيره.

وهذا أمر فيه الشيء الكثير من الإشارة إلى ازدهار الفنون بالأندلس، ومشاركة نساء الملوك فيها بنصيب ورغبتهن في مضاهاة النساء خلفاء بني العباس بالمشرق.

أما السلاطين، فقد أشار المؤلف في غير ما موضع إلى كثرة تردده على مجالسهم واتصاله بهم، كقوله مثلا: “باب الهجر”: “ولقد وطأت بساط الخلفاء، وشاهدت محاضر الملوك، فما رأيت هيبة تعدل هيبة محب لمحبوبه، ورأيت تمكن المتغلبين من الرؤساء، وتحكم الوزراء، وانبساط مدبري الدول… وحضرت مقام المعتذرين بين أيدي السلاطين ومواقف المتهمين بعظيم الذنوب، مع المتمردين الطاغين ولقد امتحنت الأمرين وكنت في الحالة الأولى أشد من الحديد وأنفذ من السيف لا أجيب إلى الدنية، ولا أساعد على الخضوع، وفي الثانية أذل من الرداء وألين من القطن…[40]، كما أنه قد يشير أحيانا إلى علاقته ببعض السلاطين ذاكرا اسمهم كعبد الملك بن مروان بن عبد الرحمن بن مروان بن أمير المؤمنين الناصر، الذي قال عنه: “وقد رأيته وجالسته”[41]، وقد أتاح هذا القرب من الملوك لابن حزم أن يستنتج ملاحظات لا تصدر إلا عن خبرة وطول معايشة، فمن ذلك ذكره أم سلاطين بني مروان المهدي، وعبد الرحمن المرتضى، رحمهم الله، فإني قد رأيتهم مرارا ودخلت عليهم فرأيتهم شقرا شهلا، وهكذا إخوتهم وأولادهم وجميع أقاربهم”[42]، ولعل في هذا ما يدل على ما خبره أبو محمد من حياة الملوك والخلفاء الذين عاشرهم وعرفهم عن كثب.

6. محنته

وبما أن مثل هذه الارتباطات عادة ما تكون غير مأمونة العواقب خصوصا وأن العهد كان آخر أيام الأمويين في المرحلة الأولى بالأندلس، أي وقت انحلال الأمر، وخروجه من أيديهم إلى يد أبي منصور العامري وأسرته، فقد كان العمال والوزراء دوما معرضين للنكبة بزوال مستعمليهم، وذلك ما حدث لابن حزم وأسرته، فهو يقص بمرارة كيف تبدل نعيمه بؤسا وتشردا وهو في ريعان الشباب لم يتجاوز الخامسة عشر من عمره: “ثم شغلنا بعد قيام أمير المؤمنين هشام المؤيد بالنكبات وباعتداء أرباب دولته، وامتحنا بالاعتقال والترقيب والإغرام الفادح والاستتار، وأرزمت الفتنة وألقت باعها وعمت الناس وخصتنا، إلى أن توفي أبي الوزير رحمه الله ونحن في هذه الأحوال بعد العصر يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة عام اثنتين وأربعمائة، واتصلت بنا تلك الحال…”[43].

كانت إذن هذه هي المحنة الأولى التي ذاقها أبو محمد والتي كانت رحاها تطحن كل من تصادفه، فقد اضطربت قرطبة وصارت هدفا للجيوش البربرية تنهب وتخرب فيها، وبالأخص الجانب الشرقي منها، مما اضطر الأسرة إلى أن تهجر قصورها إلى بعض الدور القديمة بغرب قرطبة سنة (404ﮪ)[44]. لكن الفتن استمرت حتى اضطر ابن حزم إلى مغادرة المدينة نهائيا قاصدا المرية، يقول: “ألقت الفتن جرانها، وأرخت عزاليها، ووقع انتهاب جند البربر منازلنا في الجانب الغربي بقرطبة، ونزولهم فيها… إلى أن انقطعت دولة بني مروان، وقتل سليمان الظافر أمير المؤمنين، ظهرت دولة الطالبية، وبويع علي بن حمود الحسني المسم بالناصر بالخلافة وتغلب على قرطبة وتملكها… وفي إثر ذلك نكبني خيران صاحب المرية… فاعتقلنا أشهرا ثم أخرجنا على جهة التغريب، فصرنا إلى حصن القصر، ولقينا صاحبه… ثم ركبنا البحر قاصدين بلنسية عند ظهور أمير المؤمنين المرتضى…”[45]، وقد أشار المؤلف إلى أنه دخل قرطبة بعد رحيله عنها في ثلاثة مواضع من الطرق، ففي الموضع الأول حدد تاريخ الزيادة بنسبة 409، أي بعد خمس سنوات من هجرته عنها[46]، وفي الثاني لم يذكر تاريخ الزيادة بل ذكرها عرضا في سياق الكلام، وفي الثالث: ذكر أنه زارها في خلافة القاسم بن حمود المأمون[47]، كما أنه وإن لم يذكر القيروان في النص السابق ضمن البلدان التي هاجر إليها، فلأنه قد تحدث في موضع آخر عما دار بينه وبين أحد العلماء بها من حوار حول موضوعات الحب[48].

بهذا استطاعت النكبة أن تغير نمط حياة ابن حزم وتحولها إلى رحلة متواصلة، وتنقل مستمر في البلاد، فاجتمعت لديه الغربة والبعد عن الوطن، مع فقدان المال والجاه، إلى السجن والاعتداءات المتكررة من الجند والولاة وغيرهم، لكنه مع هذا بقي في ذاته وفيا لقرطبة، وماضيه المترف بها يتطلع دوما إلى أخبارها، ويتشوق لثمر تراها، باكيا متفجعا لما أصاب دياره ومراتع صباه بها من صروف الدهر ونكبات الزمان، وهي نبرة باكية تجدها في الطوق تتردد بين الفينة والأخرى حاملة، أحيانا شعورا إنسانيا بالحنين والأسى وأحيانا موقفا سياسيا من طرف معين من أطراف الفتنة: “ولقد أخبرني بعض الرواد من قرطبة، وقد استخبرته عنها، أنه رأى دورنا ببلاط مغيث في الجانب الغربي منها وقد أمحت رسومها، وطمست أعلامها وخفيت معاهدها وغيرها البلى، وصارت صحاري مجدبة بعد العمران، وفيافي موشحة بعد الأنس، وخرائب منقطعة بعد الحسن، وشعابا مفزعة بعد الأمن ومأوى للذئاب ومعازف  للغليان، وملاعب للجان، ومكامن للوحوش بعد رجال كالليوث، وخرائد كالدمى، تفيض لديهم النعم، الفاشية تبدد شملهم، فصاروا في البلاد أيادي سبا… وتذكرت أيامي بها ولذاتي فيها وشهور صباي لديها، مع كواعب إلى مثلهن صبا الحليم… فأبكى عيني وأوجع قلبي، وقرع صفاة كبدي، وزاد في بلاء لبي”[49].

ومثال ذلك أيضا ما ورد في: “باب السلو” حيث ذكر أنه أحب جارية ولم يرها بعد رحيله، فلما عاد إلى قرطبة بعد خمس سنوات آسفه ما بدأ عليها من ذبول بسبب الفقر، فيقول: “وما كدت أن أميزها حتى قيل لي هذه فلانة، وقد تغير أكثر محاسنها وذهبت نضارتها وفنيت تلك البهجة… وذلك لقلة اهتبالها بنفسها وعدم الصيانة التي كانت غذيت بها أيام دولتنا وامتداد ظلنا، ولتبذلها في الخروج فيما لابد لها منه مما كانت تصان وترفع عنه قبل ذلك[50].

ولابد من الإشارة هنا إلى أن محنة ابن حزم هذه، لم تكن نتيجة لمواقف ومواقع سياسية فحسب، بل كان لآرائه في الفلسفة والفقه والعقائد دور كبير في صنع أحداثها: “أن قوما من مخالفي شرقوا بي فأساءوا العتب في وجهي، وقذفوني بأني أعد الباطل بحجتي، عجزا منهم عن مقاومة ما أوردته من نصر الحق وأهله”[51] وهو أمر أكده عدة مرات في مصنفاته الأخرى[52]، وما إحراق كتبه إلا نتيجة لهذا الصراع الفكري.

وهكذا فقد استطاع ابن حزم، بقصد أو بغيره، أن يقدم للباحث صورة واضحة عن حياته وعن محيطه الاجتماعي والفكري والسياسي.

7. طباعه وأخلاقه

الواقع أن ابن حزم قد أسعفنا برصيد هام من المعلومات التي يستطيع الباحث من خلالها أن يتبين بوضوح ملامح نفسيته، وتنقسم هذه المعلومات إلى نوعين فهي إما مصرح بها، وإما مشار إليها بالكناية والمجاز وغير ذلك، بحيث تفهم من سياق الكلام، فمنها:

1. جمود العين: وهو أول ما نبه إليه المؤلف من طباعه في معرض حديثه عن “علامات الحب” حيث يقول: “والبكاء من علامات الحب، ولكن يتفاضلون فيه، فمنهم غزير الدمع هامل الشؤون تجيبه عينه وتحضره عبرته إذا شاء، ومنهم جمود العين عديم الدمع، وأنا منهم، وكان الأصل في ذلك إدماني أكل الكندر… فإني لأصاب بالمصيبة الفادحة فأجد قلبي يتفطر ويتقطع وأحس في قلبي غصة أمر من العلقم… ولا تجيب عيني البتة إلا في الندرة بالشيء اليسير من الدمع”[53]، لكنه أشار في مكان آخر إلى حالة خاصة حصلت له بسبب جارية ماتت كان يعشقها فبكى عليها بالدمع الغزير مدة سبعة أشهر، (رغم جمود عينه)، لم يتجرد خلالها عن ثيابه[54].

2. حب الجواري شقر الشعور دون سودها، وقد طبع على ذلك بسبب جارية شقراء كان أحبها في صباه “وأحببت في صباي جارية لي شقراء الشعر فما استحسنت من ذلك الوقت سوداء الشعر… وإني لا أجد هذا في أصل تركيبي من ذلك الوقت لا تؤاتيني نفسي على سواد ولا تحب غيره البتة”[55].

3. الغيرة الشديدة وسوء الظن: وقد أشار إليهما مرتين: في قوله: “وأصل ذلك غيرة شديدة طبعت عليها، وسوء ظن في جهتين فطرت به” وفي قوله: “وأصل ذلك أني لم أحسن قط بأحد ظنا في هذا الشأن مع غيرة شديدة ركبت في…”[56].

4. كراهية الكذب والنميمة: “وكل نمام كذاب، وما أحببت قط وإني لأسامح في إخاء كل ذي عيب وإن كان عظيما، وأكل أمره إلى خالقه عز وجل، وآخذ ما ظهر من أخلاقه حاشى من أعلمه يكذب، فهو عندي ماح لكل محاسنه…[57]“.

5. التأني والتربص والمسالمة: وفيها يقول: “وطبعت على التأني والتربص والمسالمة ما أمكنت، ووجدت بالانخفاض سبيلا إلى معاودة المودة”[58].

6. كراهية الملل والمرء والملول: “والملل من الأخلاق المطبوعة في الإنسان وأحرى لمن دهي به ألا يصفو له صديق، ولا يصح له أخاء ولا يثبت على عهد ولا يصبر على إلف وأما من تزيا باسم الحب وهو ملول فليس منهم، وحقه ألا يتجرع مذاقه وينفى عن أهل هذه الصفة ولا يدخل في جملتهم”[59].

7. الوفاء: وهي خصلة يفخر بها ابن حزم بصراحة: “ولقد منحني الله عز وجل الوفاء لكل من يمت إلى بلقية واحدة ووهبني من المحافظة لمن يتذمم مني ولو بمحادثة ساعة، أنا له شاكر حامد منه مستمد مستزيد، وما شيئ أثقل علي من الغدر… وبالوفاء أفتخر في كلمة طويلة…[60]، والحقيقة أن وفاء ابن حزم يتجلى في عدة مواضع من الطوق بشكل غير مباشر، فمن ذلك ما ذكره من وفائه لفتاة أحبها فظل يبكي لموتها سبعة أشهر دون أن يخلع ثيابه وقال أنه ما سلا عنها إلى الآن ولو قبل فداء لفداها بكل ما يملك ما طارف وتالد وببعض أعضاء جسمه[61].

8. العزة: غير أن وفاء ابن حزم لا يلبث أن يتعارض مع خصلة أخرى لا يتسع المجال لهما معا في صدر إنسان، وهي العزة، وقد أشار على هذا التصادم الذي يجده من نفسه فقال: “جبلت على طبيعتين لا يهنئني معهما عيش أبدا وإني لأبرم بحياتي باجتماعهما… وهما وفاء لا يشوبه تلون قد استوت فيه الحضرة والغيب والباطن والظاهر… وعزة نفس لا تقر على الضيم…”[62].

9. الورع والبعد عن المصارم: وهو أمر لم يكتف ابن حزم بأن أثبته لنفسه فحسب بل أقسم بأجل الأقسام عليه” ويعلم الله، وكفى به عليماً، أني بريء الساحة سليم الأدم صحيح البشرة نقي الحجزة، وإني لأقسم بالله أجل الأقسام أني ما حللت؟؟؟ على فرج حرام قط، ولا يحاسبني ربي بكبيرة الزنا مذ عقلت إلى يومي هذا” وإثر هذا الاعتراف يورد بعض ما حدث له مع جارية مما يدل على تورعه وتقواه[63].

10. الفخر والاعتداد بالنفس: وهي صفة تستشف من كل ما ذكرناه من مدح النفس ونسبة الفضائل إليها صراحة، ودون مداراة، بالإضافة إلى ما امتلأ به الكتاب من أخبار ونوادر وأشعار للمؤلف، ولعل هذا هو ما جعل بعض الباحثين يعتبر كتاب الطوق ترجمة ذاتية أو مذكرات شخصية لصاحبه.

8. تكوينه العلمي

1. القرآن، الحديث، الفقه، القراءات، الشعر، اللغة، النحو وهي علوم أتقنها ابن حزم، وقد سبق ذكرها في معرض الحديث عن شيوخه.

2. الفيزياء وعلم الهيأة: ويتجلى على وجه الخصوص في تفسيره لتجاذب الأرواح، وتشبيهها بانجذاب الحديد إلى المغناطيس بشكل دقيق[64]، كما يتجلى أيضا في تفسيره لعملية انعكاس الصورة على المرأة والمرأة المعاكسة وهي مسألة ذات علاقة كذلك بعلم البصريات[65].

3. وأما علم الكلام والفلسفة، فنستطيع تلمس آثارهما من أول الكتاب إلى آخره سواء في تفسيره للحب وما إليه من الميتافيزيقيات أو في إشارته إلى أساتذته في هذا الشأن كأبي القاسم.

4. ويشير ابن حزم أيضا إلى اطلاعه على بعض الكتب مثل كتاب “اللفظ والإصلاح” لأبي الحسن أحمد بن يحيى بن إسحاق الرويدي[66] بالإضافة إلى اطلاعه على التوراة مما يدل عليه قوله:

وقرأت في السفر الأول من التوراة…[67].

الهوامش


1. سعد إسماعيل شلبي، البيئة الأندلسية وأثرها في الشعر، عصر ملوك الطوائف، دار نهضة مصر الطباعة والنشر، 1978، ص378.

2. محمد رجب البيومي، الأدب الأندلسي بين التأثر والتأثير، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1980م، ص157.

3. إبراهيم الأبياري، مقدمة الطوق، صب.

4. المرجع نفسه.

5. ابن حزم، طوق الحمامة، تحقيق: حسن كامل الصير، القاهرة: مطبعة الاستقامة، ص50.

6. المرجع نفسه، ص126.

7. الطوق، م، س، ص109.

8. المرجع نفسه، ص50.

9. المرجع نفسه، ص502.

10. محمد المنوني، شيوخ ابن حزم في مقروءاته ومروياته، مجلة المناهل، ع 7، الرباط: وزارة الشؤون الثقافية، ص247.

11. الطوق، م، س، ص126.

12. المرجع نفسه، ص117.

13. شيوخ ابن حزم، م، س، ص246.

14. الطوق، م، س، ص123 و125 و145 و153.

15. شيوخ ابن حزم، م، س، ص247.

16. الطوق، م، س، ص119.

17. شيوخ ابن حزم، م، س، ص247.

18. الطوق، م، س، ص72.

19. شيوخ ابن حزم، م، س، ص247.

20. الطوق، م، س، ص135- 136- 139.

21. المرجع نفسه، ص135.

22. شيوخ ابن حزم، م، س، ص257.

23. الطوق، م، س، ص126.

24. شيوخ ابن حزم، م، س، ص257.

25. الطوق، م، س، ص2.

26. شيوخ ابن حزم، م، س، ص248.

27. الطوق، م، س، ص70.

28. المرجع نفسه، ص136.

29. شيوخ ابن حزم، م، س، ص256.

30. الطوق، م، س، ص119.

31. المرجع نفسه، ص105.

32. المرجع نفسه، ص126.

33. المرجع نفسه، ص18- 22- 118- 154.

34. المرجع نفسه، ص18- 73.

35. المرجع نفسه، ص117- 118.

36. الطوق، ص119.

37. مقدمة الطوق، إبراهيم الأبياري، صب، م، س.

38. الطوق، م، س، ص90.

39. الطوق، م، س، ص77.

40. المرجع نفسه، ص71 وأيضا ص60.

41. المرجع نفسه، ص29.

42. المرجع نفسه، ص29.

43. الطوق، م، س، ص111.

44. المرجع نفسه، ص112.

45. المرجع نفسه، ص118.

46. المرجع نفسه، ص112.

47. المرجع نفسه، ص119.

48. المرجع نفسه، ص46.

49. المرجع نفسه، ص94.

50. المرجع نفسه، ص112.

51. المرجع نفسه، ص82.

52. ابن حزم، محمد أبو زهرة، ص196.

53. الطوق، م، س، ص17.

54. المرجع نفسه، ص91.

55. المرجع نفسه، ص28.

56. المرجع نفسه، ص125.

57. المرجع نفسه، ص55.

58. المرجع نفسه، ص58.

59. المرجع نفسه، ص73.

60. الطوق، م، س، ص82.

61. المرجع نفسه، ص91.

62. المرجع نفسه، ص114.

63. المرجع نفسه، ص126.

64. المرجع نفسه، ص8.

65. المرجع نفسه، ص32.

[66]. المرجع نفسه، ص130.

67. المرجع نفسه، ص9.

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق