وحدة الإحياءدراسات عامة

السياق بين علماء الشريعة والمدارس اللغوية الحديثة

أولا: تعريف السياق

لقد ابتدأ اهتمام المسلمين بقضية العلاقة بين اللفظ والمعنى منذ أن بدأ القرآن الكريم ينزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. فقد عني المسلمون بتتبع معاني القرآن المجيد واستيضاح ما يدل عليه هذا الكتاب من أمور عقدية وأحكام عملية وتوجيهات أخلاقية وأدبية.

وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مرجع الصحابة، رضوان الله عليهم، لفهم ما استشكل عليهم مصداقا لقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم﴾ (النحل: 44).

وبعد عصر الرسول، صلى الله عليه وسلم، وعصر الصحابة الكرام ظهرت مؤلفات لمفسرين كبار عنيت بجمع الألفاظ التي استعملت في القرآن الكريم بمعان مختلفة في سياقات متنوعة.

وكانت عناية علمائنا بالألفاظ وما تحمله من معاني عناية كبيرة جدا، وذلك لأن «الألفاظ خدم للمعاني والمخدوم، لاشك، أشرف من الخادم» كما يقول ابن جني[1].

وقال الراغب في كتابه القيم: المفردات في غريب القرآن[2]: «وذكرت أنَّ أول ما يحتاج أن يشتغل به من علوم القرآن العلوم اللفظية. ومن العلوم اللفظية تحقيق الألفاظ المفردة. فتحصيل معاني مفردات ألفاظ القرآن في كونه من أوائل المعاون لمن يريد أن يدرك معانيه، كتحصيل اللبن في كونه من أوائل المعاون في بناء ما يريد أن يبنيه. وليس ذلك نافعاً في علم القرآن فقط، بل هو نافعٌ في كل علم من علوم الشرع. فألفاظ القرآن هي لب كلام العرب وزبدته وواسطته وكرائمه وعليها اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحكمهم».

ولقد اهتم الأصوليون والمفسرون واللغويون بدلالة السياق الذي يعول عليه في فهم استعمالات اللفظ في سياقه، وإن لم تكن تشهد لها استعمالات لغوية أخرى خارج السياق في بعض الأحيان. والحقيقة أنه يصعب على الباحث القيام بعملية استقراء كامل للتراث الأصولي والتفسيري من أجل تتبع استعمالات كلمة “سياق” ومعرفة المدلول الذي اعتمده هؤلاء بشأنها.

ونلاحظ في بعض المؤلفات أن لفظة “سياق” تختفي ويبقى معناها حاضراً بألفاظ أخرى مثل “الموضع” و”المواضع” و”المساق” و”الاتساق” و”سوق الكلام” و”نظم الكلام” و”مقتضى الحال” و”التأليف” وكلها بمعنى “سياق”.

وإذا تتبعنا استعمالات كلمة “سياق” فإننا نجدها تستعمل كالآتي:

جاء في كتاب العين للخليل[3]: «سقته سياقاً، ورأيته يسوق سياقاً، أي: ينزع نزعاً، يعني الموت. والساق لكل شجر وإنسان وطائر».

وفي لسان العرب[4]: «ساق الإبل وغيرها يسوقها سوقاً وسياقاً وهو سائق وسواق.

وساق إليها الصداق والمهر سياقا وأساقه وإن دراهم أو دنانير؛ لأن أصل الصداق عند العرب الإبل، وهي التي تساق. وساق فلان من امرأته أي أعطاها مهرها. والسياق: المهر».

وفي المعجم الوسيط[5]: «ساق الحديث، سرده وسلسله، وساوقه: تابعه وسايره وجاراه.

وتساوقت الماشية ونحوها: تتابعت وتزاحمت في السير. وتساوق الشيئان: تسايرا أو تقارنا.

ويقال: ولدت المرأة ثلاثة ذكور ساقاً على ساقٍ أي بعضهم في إثر بعض، ليس بينهم أنثى.

وسياق الكلام: تتابعه، وأسلوبه الذي يجري عليه».

وقد وردت هذه اللفظة في القرآن الكريم باستعمالات متعددة إلا أنها تفيد معنى آخر غير الذي نقصده في هذا البحث. ومن هذه الاستعمالات:

قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاء﴾ (الاَعراف: 56)، قال الشنقيطي رحمه الله في كتابه القيم أضواء البيان[6]: «بين في هذه الآية الكريمة أنه يحمل السحاب على الريح، ثم يسوقه إلى حيث يشاء من بقاع الأرض، وأوضح هذا المعنى بآيات كثيرة كقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ﴾ (فاطر: 9)، وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلَى الاَرْضِ الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَاكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ﴾ (السجدة: 27).

وقال تعالى: ﴿وَنَسُوقُ المُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا﴾ (مريم: 87). قال الشيخ الطاهر بن عاشور: «السوق: تسيير الأنعام قدام رعاتها، يجعلونها أمامهم لترهب زجرهم وسياطهم فلا تنقلب عليهم. فالسوق: سير خوف وحذر»[7].

وقال تعالى في موضع آخر: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا﴾ (الزمر: 68)، وقال تعالى: ﴿كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ﴾ (الاَنفال: 6)، وقال تعالى: ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ (ق: 21).

من خلال ما سبق نسجل الملاحظات الآتية:

1. إن كلمة “سياق” كثيرا ما استعملت في اللغة والقرآن والحديث النبوي الشريف مضافة إلى ذي حياة من الماشية بشكل خاص، كما استعملت مضافة إلى أمور معنوية كالروح والكلام وغيرهما.

2. إن كلمة “ساق” تثير في الذهن معنى لحوق شيء لشيء آخر، واتصاله به، واقتفائه أثره، كما تشير إلى معنى الارتباط والتسلسل والانتظام. ولهذا يمكن أن نخلص إلى تعريف جزئي للسياق بأنه مجموع ما يحيط بالنص من عناصر مقالية ومقامية توضح المراد وتبين المقصود، أو هو ربط الآية بالآيات قبلها وبعدها، وهذا ينطبق على نوع واحد فقط من أنواع السياق.

إذن، هل هناك تعريف جامع مانع للسياق؟

الحقيقة أن مصطلح “السياق” يعتبر من المصطلحات العصية على التحديد الدقيق، حتى قال الدكتور طه عبد الرحمن بأنه بحث في كثير من المقالات من أجل العثور على بعض التعريفات، ولم يجد تعريفاً محددا للسياق[8]. كما صرح جون لاينـز أيضا بأنه: «لا يمكن إعطاء جواب بسيط على السؤال: ما هو السياق؟»[9].

والحقيقة أن كثيراً من المصطلحات العلمية شاع استعمالها بين الدارسين “حتى توهم البعض أن هذا المصطلح أو ذاك واضح ومفهوم، فإذا ما حاولوا تحديد المعنى الذي ظنوا أنهم يفهمونه، بدا الأمر عسيرا غاية العسرة غامضا أشد الغموض. ومن تلك المصطلحات اللغوية الشائعة الاستعمال، العصية على التحديد الدقيق بشكل متفق عليه بين الدارسين مصطلح الكلمة ومصطلح الجملة ومصطلح السياق الذي نحن بصدد تحديده»[10].

ولعل هذه الصعوبة هي التي جعلت الذين كتبوا في هذا الموضوع يغضون الطرف عن تعريف السياق وينتقلون إلى تبيين أهميته في دراسة المعنى، وإظهار وظائفه وعناصره والحديث عن سياق الحال وغير ذلك من المباحث المتعلقة بهذا الموضوع. وهذا ما فعله الدكتور حبلص حينما قال: «إذا كنا نشعر بالصعوبة الواضحة في تجلية المقصود بالسياق بوصفه مصطلحا، فإن مرجع هذه الصعوبة في نظري، هي محاولة العثور على تعريف للمصطلح من ذلك النوع الجامع المانع كما يقول المناطقة، فسوف أولي وجهتي شطر ناحية أخرى لعلها أجدى في تجلية المقصود بالسياق من محاولة البحث عن مثل هذا التعريف العصي. أعني بذلك صرف الجهد في التعرف على خصائص السياق وفهم عناصره، وبيان دوره في تحديد المعنى كما يظهر ذلك عند أصحاب نظرية السياق»[11].

ثانيا: اعتناء علماء الأمة الإسلامية بالسياق في دراسة المعنى

لقد كان علماء الأمة الإسلامية، عند اعترافهم بفكرة السياق بشقيه المقالي والمقامي، متقدمين بأكثر من ألف سنة عن زمانهم؛ لأن الاعتراف بفكرتي المقام والمقال باعتبارهما أساسين متميزين   من أسس تحليل المعنى يعتبر الآن في الغرب من الكشوف التي جاءت نتيجة لمغامرة العقل المعاصر في دراسة اللغة[12].

وإذا تتبعنا هذا الموضوع في تراثنا الإسلامي، فإننا نجد أن أول من تنبه إلى دوره في دراسة المعنى هو الإمام الشافعي رحمه الله (توفي 204ﻫ).

ففي كتابه النفيس “الرسالة” عنون أحد أبوابه بقوله: «باب الصنف الذي يبين سياقه معناه» وذلك أثناء حديثه عن قوله تعالى: ﴿وَسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ البَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَاتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَـوْمَ سَبْتهم شُرَّعـًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُـونَ لاَ تَاْتِيهمْ، كَذَلِـكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ (الاَعراف: 163).

قال رحمه الله: «فابتدأ جل ثناؤه ذكر الأمر بمسألتهم عن القرية الحاضرة البحر فلما قال: “إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْت” دل على أنه إنما أراد أهل القرية، لأن القرية لا تكون عادية ولا فاسقة بالعدوان في السبت ولا غيره»[13]، وأنه إنما أراد بالعدوان أهل القرية الذين بلاهم بما كانوا يفسقون.

وفي تبيين معنى قوله تعالى: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمـَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَﻫا قَوْمًا ـاخَرِيـنَ¯ فَلَمَّا أَحَسـُّوا بَأْسَنـَا إِذَا ﻫمْ مِنْﻫا يَرْكُضُـونَ﴾ (الاَنبياء: 11-12)، قال رحمه الله: «وهذه الآية في مثل معنى الآية قبلها، فذكر قصم القرية، فلما ذكر أنها ظالمة، بان للسامع أن الظالم إنما هم أهلها دون منازلها التي لا تظلم، ولما ذكر القوم المنشئين بعدها، وذكر إحساسهم البأس عند القصم أحاط العلم أنه إنما أحس البأس من يعرف البأس من الآدميين»[14].

أما شيخ المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله (توفي 310ﻫ) فإنه يلح على وجوب النظر في القرآن الكريم من زاوية مراعاة العلاقات النحوية والأسلوبية والمقامية القائمة بين آيات الذكر الحكيم، ولذلك كان يرى أن «اتباع الكلام بالأقرب إليه أولى من اتباعه بالأبعد منه»[15]، وقال أيضا: «غير جائز صرف الكلام عما هو في سياقه إلى غيره، إلا بحجة يجب التسليم لها من دلالة ظاهر التنزيل، أو خبر عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، تقوم به حجة، فأما الدعاوى فلا تتعذر على أحد»[16]، وقال أيضا: «توجيه الكلام إلى ما كان نظيرا لما في سياق الآية، أولى من توجيهه إلى ما كان منعدلا عنه»[17].

أما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد تحدث في مقدمته في أصول التفسير عن الذين يصرفون ألفاظ القرآن الكريم عن معانيها، وبين خطأهم في مراعاة مجرد اللفظ دون النظر إلى سياق الكلام وما يقتضيه. كما حمل على الذين يعتقدون معاني ثم يبحثون في ألفاظ القرآن الكريم عما يؤيدها. قال رحمه الله: «وأما النوع الثاني من مستندي الاختلاف، وهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل، فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، فإن التفاسير التي يذكر فيها كلام هؤلاء صرفا لا يكاد يوجد فيها شيء من هاتين الجهتين…

إحداهما؛ قوم اعتقدوا معاني ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها. والثانية: قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب، من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنزل عليه، والمخاطب به. فالأولون راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالات والبيان. والآخرون راعوا مجرد اللفظ وما يجوز أن يريده به عندهم العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به ولسياق الكلام»[18].

أما ابن القيم الجوزية (توفي 751ﻫ) فقد حلل دور السياق في تحديد الدلالة تحليلا نظريا دقيقا فقال رحمه الله: «السياق يرشد إلى تبيين المجمل وتعيين المحتمل والقطع بعدم احتمال غير المراد وتخصيص العام وتقييد المطلق وتنوع الدلالة. وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره وغالط في مناظرته. فانظر إلى قوله تعالى: ﴿ذُقْ اِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ﴾ (الدخان: 46)، كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير»[19].

أما الزركشي (توفي 794ﻫ) الذي جاء بعد ابن القيم، فقد قال: «ليكن محط نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سيق له، وإن خالف أصل الوضع اللغوي لثبوت التجوز، ولهذا نرى صاحب “الكشاف” يجعل الذي سيق له الكلام معتمداً، حتى كأن غيره مطروح»[20].

وفي حديثه عن الألفاظ ودلالتها وطريق التوصل إلى فهم معناها يقول: «الثاني ما لم يرد فيه نقل عن المفسرين، وهو قليل، وطريق التوصل إلى فهمه النظر إلى مفردات الألفاظ من لغة العرب. ومدلولاتها واستعمالاتها بحسب السياق، وهذا يعتني به الراغب كثيرا في كتابه “المفردات” فيذكر قيداً زائداً على أهل اللغة في تفسير مدلول اللفظ لأنه اقتنصه من السياق»[21].

وأفرد الزركشي فصلا في كتابه “البحر المحيط في أصول الفقه” تحت عنوان “دلالة السياق” قال رحمه الله: «أنكرها بعضهم، ومن جهل شيئا أنكره، وقال بعضهم إنها متفق عليها في مجاري كلام الله تعالى. وقد احتج بها أحمد على الشافعي في أن الواهب ليس له الرجوع من حديث (العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه)[22] حيث قال الشافعي: هذا يدل على جواز الرجوع، إذ قيء الكلب ليس محرماً عليه. فقال أحمد: ألا تراه يقول فيه: (ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته…) الحديث. وهذا مثل سوء فلا يكون لنا.

واحتج بها في أن المراد بأنه استيعابهم واجب، وسياق الآية يدل على الأول بقوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ اعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ (التوبة: 58)، فإن الله تعالى لما رأى بعض من لا يستحق الصدقة يحاول أن يأخذ منها، ويسخط إذا لم يعط يقطع طمعه ببيان أن المستحق لها غيره، وهم الأصناف الثمانية»[23].

أما الغزالي (توفي 505ﻫ) فقد وقف وقفات مهمة ركز خلالها على أهمية القرائن المقالية والمقامية ، التي يسميها بـ”قرائن الأحوال”، في تحديد المعنى يقول: «والقرينة إما لفظ مكشوف،كقوله تعالـى: ﴿وءاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حِصَادِهِ﴾ (الاَنعام: 142)، والحق هو العشر. وإما إحالة على دليل العقل، كقوله تعالى: ﴿وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ (الزمر: 64)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن)[24]. وإما قرائن أحوال من إشارات ورموز وحركات وسوابق ولواحق، لا تدخل تحت الحصر والتخمين، يختص بدركها المشاهد لها فينقلها المشاهدون من الصحابة إلى التابعين بألفاظ صريحة، أو مع قرائن من ذلك الجنس، أو من جنس آخر، حتى توجب علماً ضروريا بفهم المراد أو توجب ظنا.

وكل ما ليس له عبارة موضوعة في اللغة، فتتعين فيه القرائن.

وعند منكري العموم والأمر، يتعين تعريف الأمر والاستغراق بالقرائن، فإن قوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ﴾ (التوبة: 5)، وإن أكده بقوله “كلهم” و”جميعهم” فيحتمل الخصوص، عندهم، كقوله تعالى: ﴿ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ (الاَحقاف 24)، و﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (النمل: 23)، فإنه أريد به البعض»[25].

وأفرد الغزالي في كتابه “المستصفى” عنوانا خاصا للسياق سماه: “الضرب الرابع فهم غير المنطوق به من المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده” كفهم تحريم “الشتم” و”القتل” و”الضرب” من قوله تعالـى: ﴿فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾ (الاِسراء: 23).

وفهم تحريم مال اليتيم وإحراقه وإهلاكه من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْمًا﴾ (النساء: 10).

وفهم ما وراء الذرة والدينار من قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه﴾ (الزلزلة: 8)، وقوله:﴿وَمِنْهُمْ مَنْ اِنْ تَامَنْهُ بِدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ (ءال عمران: 74)، وكذلك قول القائل: «ما أكلت له برة، ولا شربت له شربة، ولا أخذت من مَالِه حبة» فإنه يدل على ما وراءه.

فإن قيل: هذا من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى.

قلنا: لا حرج في هذه التسمية، لكن يشترط أن يفهم: أن هذا بمجرد ذكر الأدنى لا يحصل هذا التنبيه، ما لم يفهم الكلام وما سيق له»[26].

كما تنبه الغزالي، رحمه الله، أيضا إلى قرائن الأحوال أو ما يسمى في الدرس اللغوي الحديث بسياق الحال ودوره في تحديد المعنى قال: «إن قصد الاستغراق يعلم بعلم ضروري، يحصل عن قرائن أحوال ورموز وإشارات وحركات من المتكلم، وتغيرات في وجهه وأمور معلومة من عادته ومقاصده، وقرائن مختلفة لا يمكن حصرها في جنس ولا ضبطها بوصف، بل هي كالقرائن التي يعلم بها خجل الخجل ووجل الوجل وجبن الجبان، وكما يعلم قصد المتكلم إذا قال: «السلام عليكم»، أنه يريد التحية أو الاستهزاء واللهو.

ومن جملة القرائن: فعل المتكلم، فإنه إذا قال على المائدة: «هات الماء» فهم أنه يريد الماء العذب البارد، دون الحار المالح.

وقد تكون دليل العقل كعموم قوله تعالى: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 28)، ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الارْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ (هود: 6)، وخصوص قوله تعالى: ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ (الزمر: 59)؛ إذ لا يدخل فيه ذاته وصفاته»[27].

أما العز بن عبد السلام فيؤكد في كتابه “الإمام” على وظائف السياق في تحديد المعنى ويقول: «السياق يرشد إلى تبيين المجملات وترجيح المحتملات وتقرير الواضحات، وكل ذلك يعرف الاستعمال فكل صفة وقعت في سياق المدح كانت مدحاً وإن كانت ذما بالوضع، وكل صفة وقعت في سياق الذم كانت ذما وإن كانت مدحا بالوضع كقوله تعالى: ﴿ذُقْ اِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ﴾ (الدخان: 46)»[28].

أما الإمام الشاطبي فله وقفات موفقة في فهم أثر السياق في دراسة المعنى «ويمكن نعت بحث الشاطبي مسألة السياق بأنه وليد نظرة علمية تنم عن حس لغوي رفيع، مستوعب لمقتضيات الخطاب التي تتطلب النظر في مجموع ما يرتبط به… فالمتتبع لمسألة السياق في عمله يجدها أضبط وأشمل مقارنة بما ورد عند غيره»[29].

ومما جاء في كلامه عن السياق اللغوي قوله: «كلام العرب على الإطلاق لابد فيه من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ وإلا صار ضحكة وهزءة، ألا ترى إلى قولهم فلان أسد، أو حمار، أو عظيم الرماد، أو جبان الكلب، وفلانة بعيدة مهوى القرط وما لا ينحصر من الأمثلة. لو اعتبر اللفظ بمجرده لم يكن له معنى معقول. فما ظنك بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وعلى هذا المساق يجري التفريق بين البول في الماء الدائم وصبه من الإناء فيه»[30].

وأثناء حديثه عن سياق الحال قال رحمه الله: «إن المساقات تختلف باختلاف الأحوال والأوقات والنوازل وهذا معلوم في علم المعاني والبيان. فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم والالتفات إلى أول الكلام وآخره، بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها لا ينظر في أولها دون آخرها، ولا في آخرها دون أولها، فإن القضية وإن اشتملت على جمل فبعضها متعلق بالبعض، لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف»[31].

وقد اتسع مفهوم السياق عند الشاطبي ليشمل سياق السورة كله، وذلك عند تفسير قوله تعالـى: ﴿الَّذِينَ ءامَنُـوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم﴾ٍ (الأنعام: 83)، قال: «فإن سياق الكلام يدل على أن المراد بالظلم أنواع الشرك على الخصوص، فإن السورة من أولها إلى آخرها مقررة لقواعد التوحيد، وهادمة لقواعد الشرك وما يليه، والذي تقدم قبل الآية قصة إبراهيم عليه السلام في محاجته لقومه بالأدلة التي أظهرها لهم في الكوكب والقمر والشمس، وكان قد تقدم قبل ذلك قوله: ﴿وَمَنْ اَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا اَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾ (الأنعام: 22)، فبين أنه لا أحد أظلم ممن ارتكب هاتين الخلتين وظهر أنهما المعني بهما في سورة الأنعام»[32].

ويتسع مفهوم السياق أكثر عند الشاطبي ليشمل التشريع الإسلامي كله وذلك في وحدة منسجمة وهو ما يسميه الشاطبي بـ”السياق الحكمي” المتميز عن المساق العربي. قال رحمه الله: «وهذا الوضع وإن كان جيء به مضمنا في الكلام العربي فله مقاصد تختص به، يدل عليها المساق الحكمي أيضا، وهذا المساق يختص بمعرفته العارفون بمقاصد الشرع. كما أن الأول يختص بمعرفته العارفون بمقاصد العرب»[33].

وإذا رجعنا إلى البلاغيين القدماء، نجد أنهم قد تنبهوا إلى ضرورة مراعاة الأحوال وظواهر الأداء اللغوي للكشف عن مراد المتكلم. يقول ابن جني أثناء حديثه عن أضرب حذف الاسم، مبينا كيف يمكن للحال أن يحل محلها؛ «وقد حذفت الصفة ودلت الحال عليها، وذلك فيما حكاه صاحب الكتاب[34] من قولهم: سير عليه ليل، وهم يريدون: ليل طويل وكأن هذا إنما حذفت فيه الصفة لما دل من الحال على موضعها. وذلك أنك تحس في كلام القائل لذلك من التطويح والتطريح والتفخيم والتعظيم ما يقوم مقام قوله: طويل أو نحو ذلك.

وأنت تحس هذا في نفسك إذا تأملته. وذلك أن تكون في مدح إنسان والثناء عليه فتقول: كان والله رجلا. فتزيد في قوة اللفظ ب”الله” هذه الكلمة وتتمكن من تمطيط اللام وإطالة الصوت بها وعليها، أي رجلا فاضلا أو شجاعاً أو كريماً أو نحو ذلك. وكذلك تقول: سألناه فوجدناه إنسانا. وتمكن الصوت بإنسان وتفخمه، فتستغني بذلك عن وصفه بقوله: إنسانا سمحاً أو جواداً أو نحو ذلك.

وكذلك إن ذممته ووصفته بالضيق قلت: سألناه وكان إنسانا! وتزوي وجهك وتقطبه، فيغني ذلك عن قولك: إنسانا لئيما أو لجزاً أو مبخلا أو نحو ذلك»[35].

إذا تأملنا هذا النص نجد أن ابن جني كان على علم واسع بما يسمى ب”سياق الحال” الذي هلل به أصحاب نظرية السياق في العصر الحاضر.

فالنص يبين كيف أن اللفظ واحد والمعنى مختلف حسب اختلاف حال المتكلم، فتمكين الصوت وتفخيمه أثناء نطق كلمة “إنسان” يغنيك عن الوصف المحمود وحركة الوجه؛ (أي تقطيبه) تغني عن الوصف المذموم.

إذن، فثمة سياق لغوي ملفوظ تؤثر الحركات الصوتية وحركات الوجه في تحديد معناه.

فإذا تأملنا هذه الجملة «سألناه فوجدناه إنسانا» وحاولنا فهمها فهماً ظاهريا، سنجدها مركبة من ثلاث كلمات لها مدلولات معجمية معينة لا تعطي المعنى المطلوب، وإنما كل ما تفيده أنه كان إنسانا بكل ما تعنيه كلمة إنسان من كونه مركب من جسد وروح… إلخ.

أما إذا وضعت الجملة في سياقها الاجتماعي، فإن لها دلالات متعددة.

فلو أنها صدرت من فقير يتحدث عن غني مع تمكين الصوت بـ”إنسان” وتفخيمه لكان معناها المتبادر أنه كان إنسانا جواداً.

ولو صدرت من فقير يتحدث عن غني ويزوي وجهه ويقطبه لفهمنا أنه يريد ذمه بأنه إنسان بخيل.

وهكذا يختلف السياق الحالي لو صدرت الجملة من مثقف يتحدث عن مثقف آخر أو عن سياسي أو عن مريض يتحدث عن طبيبه وهكذا…

وهذا يعني أن للظروف الحالية المحيطة بالحدث اللغوي وزناً كبيراً وقيمة هامة في تحديد المعنى المقامي للحدث اللغوي. وهذا يعني أيضا أن الكلام إذا أخذ معزولا عن مقامه أو سياقه الاجتماعي لا يعني أي شيء محدد وإنما الذي يحدد معناه المقصود من بين كل المعاني المحتملة هو سياق الموقف. جاء في وصية بشر بن المعتمر أن المعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتضح بأن يكون من معاني العامة. وإنما مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة مع موافقة الحال وما يجب لكل مقام من المقال»[36].

«ولقد كان علي رضي الله عنه فاهما تماما لكل هذه الحقائق… حين رد على هتاف الخوارج “لا حكم إلا الله” بقوله: “كلمة حق أريد بها باطل” وكان يعني أن الناس ربما قنعوا بالمعنى الحرفي لهذا الهتاف أي بمعنى “ظاهر النص” فصدقوا أن الخوارج أصحاب قضية تستحق أن يدافع الناس عنها، وربما غفل الناس عن المقام الحقيقي الذي ينبغي لهذه الجملة أن تفهم في ضوئه، وهو مقام محاولة إلزام الحجة سياسيا بهتاف ديني. فالمقام في هذا الهتاف من السياسة والمقال من الدين، وكان ينبغي للناس أن يفهموا المقال في ضوء المقام»[37].

أما عبد القاهر الجرجاني فقد وصف الاهتمام بالنظر في سياق الكلام بأنه علم شريف وأصل عظيم، قال رحمه الله: «اعلم أن هاهنا أصلا أنت ترى الناس فيه في صورة من يعرف جانبا وينكر آخر وهو أن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها، ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها وهذا علم شريف وأصل عظيم»[38].

وأثناء حديثه عما يسميه “معنى المعنى” وهو أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر، يظهر دور السياق المقالي والمقامي واضحا، قال رحمه الله: «أولا ترى أنك إذا قلت “هو كثير رماد القدر” أو قلت “طويل النجاد” أو قلت في المرأة “نؤوم الضحى” فإنك في جميع ذلك لا تفيد غرضك الذي تعني من مجرد اللفظ، ولكن يدل اللفظ على معناه الذي يوجبه ظاهره، ثم يعقل السامع من ذلك المعنى على سبيل الاستدلال معنى ثانيا هو غرضك، كمعرفتك من “كثير رماد القدر” أنه مضياف، ومن “طويل النجاد” أنه طويل القامة، ومن “نؤوم الضحى” في المرأة أنها مترفة مخدومة لها من يكفي أمرها»[39].

أما الإمام الشوكاني فقد تحدث في كتابه القيم “إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول” عن مسألة أصولية وهي جواز التخصيص بالسياق، وذكر مذهب الإمام الشافعي في ذلك. قال رحمه الله: «المسألة الثامنة والعشرون في التخصيص بالسياق، قد تردد قول الإمام الشافعي في ذلك، وأطلق الصيرفي جواز التخصيص به ومثله بقوله سبحانـه: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ (ءال عمران: 173) وكلام الشافعي في الرسالة يقتضيه فإنه بوب لذلك بابا فقال: باب الصنف الذي قد بين سياقه معناه، وذكر قوله سبحانه: ﴿وَسْئلْهُمْ عَنِ القَرْيَـةِ الَّتِي كَانَـتْ حَاضِـرَةَ البَحـْرِ﴾ (الأعراف: 163)، قال: فإن السياق أرشـد إلى أن المراد أهلها وهو قوله: ﴿إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ﴾ (الأعراف: 163)، قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإلمام: نص بعض الأكابر من الأصوليين أن العموم يخص بالقرائن القاضية بالتخصيص، قال ويشهد له مخاطبات الناس بعضهم بعضا حيث يقطعون في بعض المخاطبات بعدم العموم بناء على القرينة والشرع يخاطب الناس بحسب تعارفهم. قال: ولا يشتبه عليك التخصيص بالقرائن بالتخصيص بالسبب كما اشتبه على كثير من الناس، فإن التخصيص بالسبب غير مختار فإن السبب وإن كان خاصا فلا يمنع أن يورد لفظ عام يتناوله وغيره كما في ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ (المائدة: 38) ولا ينتهض السبب بمجرده قرينة لرفع هذا بخلاف السياق فإنه يقع به التبيين والتعيين، أما التبيين ففي المجملات، وأما التعيين ففي المحتملات، وعليك باعتبار هذا في ألفاظ الكتاب والسنة والمحاورات تجد منه ما لا يمكنك حصره. انتهى[40].

والحق أن دلالة السياق إن قامت مقام القرائن القوية المقتضية لتعيين المراد، كان المخصص هو ما اشتملت عليه من ذلك، وإن لم يكن السياق بهذه المنزلة ولا أفاد هذا المفاد فليس بمخصص»[41].

ثالثا: اهتمام المدارس اللغوية الغربية بدلالة السياق

مع بداية القرن العشرين، بدأ علماء اللغة في الغرب يهتمون بفكرة السياق في إطار علم الدلالة الوصفي[42]، وقد تناول هؤلاء السياق في إطار تأكيدهم للوظيفة الاجتماعية للغة، وبيان أثر السياق  في البنية ودوره في تنوع الدلالة.

ولذلك ففور سماع كلمة “سياق” تتبادر إلى الذهن بعض الأسماء الغربية مثل: فيرث ومالينوفسكي وبصحبتهما عدد من المصطلحات مثل: السياق اللغوي وسياق الحال.

والحقيقة أن مالينوفسكي وهو يصوغ مصطلحه الشهير “سياق الحال” context of situation لم يكن يعلم أنه مسبوق إلى هذا المفهوم بأكثر من ألف سنة كما أسلفنا.

يقول الدكتور تمام حسان: «إن الذين عرفوا هذا المفهوم قبله سجلوه في كتب لهم تحت اصطلاح “المقام” ولكن كتبهم هذه لم تجد من الدعاية على المستوى العالمي ما وجده اصطلاح مالينوفسكي من تلك الدعاية بسبب انتشار نفوذ العالم الغربي في كل الاتجاهات وبراعة الدعاية الغربية الذائبة»[43].

إن مالينوفسكي رأى أن الجملة هي المادة الأساسية في اللغة، أما الكلمة فليست إلا فكرة ثانوية مجردة، وعرف الجملة بأنها منطوق ينتهي بصمت أو وقفة مسموعة، ومع أنه يعترف بأن تحديد معنى الكلمة المفردة مشكلة صعبة، فإنه يقرر أنها ليست المشكلة الأولى؛ إذ الحقيقة اللغوية الواقعية في اللغة هي المنطوق الكامل في إطار المقام. ولهذا كانت الجملة عنده أكثر أهمية باعتبارها أداة اجتماعية. وقد قرر بناء على هذا أننا ينبغي أن ندرس اللغة باعتبارها طريقة عمل لا صورة رمزية للتفكير فاللغة أداة للنشاط الاجتماعي والتعاون المشترك[44].

لقد واجه مالينوفسكي مشكلة في ترجمة بعض نصوص الشعوب الميلانيزية التي تقطن جزر تروبرياند في غرب المحيط الهادي إلى اللغة الإنجليزية، وكان أمامه اختياران، إما أن يعتمد على الترجمة الحرفية للنص بحيث يحافظ على صورة النص الأصلي، ولكنها في هذه الحالة لا تكون مفهومة للقارئ الإنجليزي، أو يختار الترجمة المصحوبة بالملاحظات «وكانت وظيفة هذه الملاحظات تشخيص الموقف الخاص بالنص بنسبته إلى بنيته سواء كانت بنية لفظية أو غير لفظية وقـد أشار مالينوفسكي لذلك وسماه سيـاق الموقف (context of situation) ويشمل كل ما ينتمي للمحيط الثقافي الذي يصحب عملية إنتاج النص وتلقيه»[45].

ويرى مالينوفسكي أن اللغة لا ينبغي أن تتخذ معيارا؛ لأن المعيار مقتصر على أداء مهمة محدودة في اللغة ولأن اللغة في الأصل ليست مرآة تعكس الأفكار وإنما هي أنواع من السلوك[46]. ولذلك فهو يرى أن اللغة هي أكثر من مجرد “دوال”، وأرجع صعوبات الترجمة إلى ما بين جوهر اللغات من فروق ملحوظة.

وقد تأثر زعيم مدرسة لندن فيرث بمالينوفسكي وأكد أيضا على الوظيفة الاجتماعية للغة.

ومعنى الكلمة عند فيرث هو استعمالها في اللغة أو الطريقة التي تستعمل فيها في اللغة؛ ولهذا يؤكد أنه لا ينكشف المعنى إلا من خلال وضع الوحدة اللغوية في سياقات مختلفة، وتبعا لذلك فإن معنى الكلمة يتحدد تبعا لتعدد السياقات التي تقع فيه.

وقد قسم أنصار هذه المدرسة السياق إلى أربعة أقسام:1. السياق اللغوي. 2. السياق العاطفي. 3. سياق الموقف. 4. السياق الثقافي.

أما السياق اللغوي فهو حصيلة استعمال الكلمة داخل نظام الجملة متجاورة مع كلمات أخرى مما يعطيها معنى خاصا؛ ذلك أن المعنى المعجمي عادة ما يتصف بالاحتمال، ولا يتحدد إلاَّ إذا وضع في سياق.

أما السياق العاطفي فهو يحدد درجة الانفعال قوة وضعفا.

أما سياق الموقف فيهتم بالموقف الخارجي الذي تقع فيه الكلمة، وهذا المصطلح يقابله عند البلاغيين العرب مصطلح “المقام”.

أما السياق الثقافي فيقتضي تحديد المحيط الثقافي أو الاجتماعي الذي يمكن أن تستخدم فيه الكلمة[47].

وهناك من ركز على السياق اللغوي وحده، وقد عرف -عندهم- بالرصف أو النظم أو التساوق «وقد عرف الرصف بأنه الارتباط الاعتيادي لكلمة ما في لغة ما بكلمة أخرى معينة»[48].

وقد طرح اللغوي هاليداي هذه الفكرة في منتصف الستينات استنادا إلى أن معنى الكلمة يتحدد من خلال ورودها مع مجموعة من الكلمات فحتى نتوصل إلى المعنى الدقيق للكلمة، فلابد لنا أن نتمعن في العناصر التي تقع معها في سياق لغوي يقبله أبناء اللغة.

ومن أمثلة ذلك، كلمة “أطلق” فإن هذه الكلمة ترد في اللغة العربية في سياقات عديدة، كل سياق يعطي معنى مستقلا عن الآخر. ذلك مثل قولنا:

– أطلق النار

– أطلق صاروخا

– أطلق سراحه

– أطلق لحيته

– أطلق عليه اسما

– أطلق ساقيه للريح.

«ويكون الرصف أو التساوق مقبولا في مستويين اثنين من الاستعمال اللغوي، هما:

1. حين يكون متمشيا مع الاستعمال العادي الذي ارتضاه أبناء اللغة.

2. حين يمكن تفسيره حسب الاستعمال المجازي المقبول.

ومن المعروف أن الاستعمال المجازي خروج على النمط السائد في الاستعمال الدلالي، لكن هذا الخروج يدخل ضمن نظام دلالي له مواصفات معينة تأخذ في الاعتبار نظرة المستعمل المبدع كالشاعر والكاتب»[49].

الهوامش


1. الخصائص لابن جني/1: 220. 

. المفردات للراغب الأصفهاني: ص 62

3. العين للخليل/5: 190. 

. لسان العرب لابن منظور، مادة سوق.4

 المعجم الوسيط مادة سوق..5

6. أضواء البيان لمحمد الأمين الشنقيطي/2: 242. 

7. التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور/8: 168.

8. د.طه عبد الرحمن، ندوة البحث اللساني (منشورات كلية الآداب بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات): ص 302.

9. اللغة والمعنى والسياق لجون لاينز: ص 242.

10. البحث الدلالي عند الأصوليين لمحمد يوسف حبلص ص 28.

11.البحث الدلالي عند الأصوليين: ص 29.

12. انظر اللغة العربية معناها ومبناها للدكتور تمام حسان، ص 337.

13. الرسالة للإمام الشافعي: ص 62.

14. الرسالة: ص 63.

15. تفسير الطبري بتحقيق أحمد شاكر/3: 316.

16. المرجع السابق/9: 289.

17.المرجع السابق/6: 91.

18. مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية:ص 71-72.

19. بدائع الفوائد لابن القيم الجوزية/2: 301.

20. البرهان للزركشي،  2/200

21. البرهان/2: 267.

22. سنن النسائي/6: 267.

 البحر المحيط للزركشي، ص 54-55.. 23

24.  صحيح مسلم بشرح النووي/16: 204.

25. المستصفى لأبي حامد الغزالي/3: 31.

26. نفسه /3: 411-412.

27. نفسه/3: 229-230.

28. البحر المحيط/8: 55.

29. منهج الدرس الدلالي عند الإمام الشاطبي لعبد الحميد العلمي، ص 235.

30. الموافقات للشاطبي/3: 133.

31. نفسه/3: 413.

32. نفسه/3: 276.

33. نفسه/3: 276. 

34. يعني سيبويه.

35. الخصائص لابن جني/2: 370-371.

36. البيان والتبيين/1: 136.

37. حسان تمام: اللغة العربية معناها ومبناها: ص 338.

. دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني، ص 53938

39. نفسه، ص 262

 40. أي انتهى كلام ابن دقيق العيد.

41. إرشاد الفحول للشوكاني:ص  162 

42. كان البحث اللساني هو الشكل الوحيد المتصور للبحث اللغوي قبل دي سوسير، ثم ظهر بعد ذلك علم اللغة الوصفي، وهو علم يتناول بالدراسة العلمية لغة واحدة أو لهجة واحدة في زمن بعينه أو مكان بعينه. انظر مدخل إلى علم اللغة للدكتور محمود فهمي حجازي: ص 23.

. اللغة العربية معناها ومبناها: 37243

. انظر مدخل إلى علم اللغة. محمد حسن عبد العزيز: 32 و 32144

. انظر الخطاب والمترجم لباسل حاتم وإياس ميسون، ص 5445

. مدخل إلى علم الدلالة. فران بالمر: ص  9646

. انظر التفصيل في مبادئ اللسانيات لأحمد محمد قدور: 298 وعلم الدلالة لمختار عمر:ص 7047

. علم الدلالة لمختار عمر: ص 7448

49. مبادئ اللسانيات لأحمد محمد قدور، ص 302 

Science

د. إبراهيم أصبان

• دكتوراه الدولة في الدراسات الإسلامية.
في موضوع: “أثر السياق في تفسير القرآن الكريم”.

• أستاذ التعليم العالي بجامعة الحسن الثاني عين الشق، الدار البيضاء.

• خريج جامعة الإسكندرية قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق