وحدة الإحياءدراسات عامة

الريادة العلمية عند المسلمين

د. محمد بلاسي

(العدد 21)

 

لقد فجر الإسلام تاريخا نسب إليه في العصر الوسيط، واهتم المؤرخون بتتبع حركات الفتوح الإسلامية التي وصلت إلى حدود الهند شرقا وإلى جنوب فرنسا غربا… على أن التاريخ الإسلامي ليس فتحا عسكريا، فحسب بل هو إلى جانب ذلك حضارة متسعة باتساع الفتوح فيما بين الشرق والغرب[1].

فالإسلام الذي نادى بالتوحيد استطاع أن يشعر ذلك العالم المشتت الأطراف بوحدته، وأن يجعل هذه البيئة المترامية الأطراف تشعر بأنها تكون حضارة واحدة يربطها نمط واحد وعن الإسلام نشأت الحضارة العربية؛ ومن الحضارة العربية تولد العلم العربي الذي ساهم في تكوينه مفكرون من مختلف القوميات والجنسيات سوريانيون وفرس وصائبة ومسيحيون ونساطرة ويونانيون وأقباط وعبرانيون وأتراك وذميون، ولكن بلسان عربي وفي ظل الدين الحنيف[2]

ومن هذا المزيج الإنساني كان الفكر الإسلامي إنسانيا أكثر منه إسلاميا!

والحقيقة أن نسبة هذا الفكر للإسلام نسبة تفتقر للدقة العلمية؛ فالإسلام منهج إلهي محدد بكتاب سماوي معجز، ومطلوب من المسلمين جميعا أن يسيروا في حياتهم الدينية الفكرية والاجتماعية والسياسية وفق ذلك التوجيه القرآني، إلا أن المفروض شيء والواقع شيء آخر، وكما حدث بعض الانحراف عن المنهج الإسلامي السياسي بحيث وقعت حروب بين المسلمين، فقد كان الفكر الإسلامي مرتبطا بتراثهم القومي قبل الفتح، أكثر منه ارتباطا بالقرآن والسنة.

وساعد على هذه السقطة أن المسلمين نظروا للقرآن كمعجزة موجهة للعرب فقط، فهو معجز للعرب فقط، ونسوا أن القرآن معجز للإنس والجن في كل زمان ومكان إلى أن تقوم الساعة، وأن نهايات العلوم قد ورد ذكر بعضها في القرآن الكريم، كما أن منهجه العلمي التجريبي لم ترق إلى نظيره أي اجتهادات إنسانية؛ ولا أدل على ذلك من أن عصرنا العلمي الراهن لا يستطيع أن يخالف ما جاء في القرآن الكريم من حقائق علمية…!

ولو اتخذ المفكرون الأوائل من القرآن الكريم رائدا لوفروا على أنفسهم وعلى الإنسانية قرونا من البحث والرقص على أنغام السابقين من اليونان والهنود…![3]

إسلامنا.. دين العلم والمعرفة

لقد كان أول أثر من آثار القرآن في الفكر الإنساني اهتمامه الواسع بالعلم، قال الله تعالى: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق﴾ [العلق: 1]، فهذا أول خطاب إلهي إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وفيه دعوة إلى القراءة والكتابة والعلم[4]. لأنه شعار دين الإسلام؛ ذلك أن العلم أساس التقدم والتعاون، وتبادل الخبرات والمنفعة، وقد كانت عناية القرآن بالعلم تفوق حد الوصف!

تأمل القرآن الكريم وتدبر آياته، تجده يدعو إلى تحكيم العقل والمنطق في مظاهر الكون وأحداث الماضي.

ولقد اشتمل القرآن على ستة آلاف ومائتين وستة وثلاثين آية… منها سبعمائة وخمسون آية كونية وعلمية… احتوت أصولا وحقائق تتصل بعلوم الفلك والطبيعة وما وراء الطبيعة والأحياء والنبات والحيوان وطبقات الأرض، والأجنة والوراثة والصحة الوقائية والتعدين والصناعة والتجارة والمال والاقتصاد… إلى غير ذلك من أمور الحياة… واحتوت باقي الآيات على الأصول والأحكام في المعاملات وعلاقات الأمم والشعوب، في السلم والحرب وفي سياسة الحكم وإقامة العدل والعدالة الاجتماعية وكل ما يتصل ببناء المجتمع… ذلك أن القرآن من العمق والاتساع والعموم والشمول… بما يقبل تفهم البشر له… أيا كان مبلغهم من العلم وبما يفي بحاجاتهم في كل عصر، ويتجاوب مع أهل البداوة في يسر، ويبهر في عمقه أهل الحضارة الذي صعدوا في سلم الرقي وبرعوا في فنون العلم والمعرفة!

ولقد حث الإسلام المسلمين على طلب العلم، والتفقه في الدين، والبحث الدقيق في كل مجالاته وفنونه وفروعه، وأن يتحملوا المشاق في سبيل تحصيله وتعلمه، وأن يبذلوا كل طاقاتهم وقدراتهم في طلب المزيد منه.

الحض على العلم   

لقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يشجع طلاب العلم، ويرحب بهم؛ فرحا بهم وبما يراه، صلى الله عليه وسلم، من حفاوة الملائكة بهم وحبهم لهم، ويعلن ذلك في صراحة حينما أتاه صفوان بن عال المرادي رضي الله عنه قال: أتيت النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو في المسجد متكئ على برد له أحمر، فقلت له: يا رسول الله جئت أطلب العلم فقال: “مرحبا بطالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها ثم يركب بعضهم بعضا حتى يبلغوا السماء الدنيا من حبهم لما يطلب” [رواه أحمد والطبراني بإسناد جيد].

ويؤكد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على المسلمين طلب العلم بأسلوب آخر من أساليب الترغيب المحبب الذي اختص به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو لا يقول إلا حقا، فيقول لأبي ذر الغفاري رضي الله عنه: “يا أبا ذر لأن تغدو فتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي ألف ركعة” [رواه ابن ماجه بإسناد حسن][5].

لذا فإن من أعظم الواجبات على المسلمين أن يكلفوا جماعة منهم للتفقه في الدين، قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾  [التوبة: 122].

يقول المراغي: وفي الآية إشارة إلى وجوب التفقه في الدين والاستعداد لتعليمه في مواطن الإقامة وتفقيه الناس فيه بالمقدار الذي تصلح به حالهم فلا يجهلون الأحكام الدينية العامة التي يجب على كل مؤمن أن يتعرفها، والناصبون أنفسهم لهذا التفقه على هذا القصد لهم عند الله من سامي المراتب ما لا يقل في الدرجة عن المجاهد بالمال والنفس في سبيل إعلاء كلمة الله والذود عن الدين والملة، بل هم أفضل منهم في غير الحال التي يكون فيها الدفاع واجبا عينيا على كل شخص[6].

وإذا كان نشر العلم من أهم الفروض الإسلامية، فإن من كتم علما أوجب الله سبحانه وتعالى بيانه للناس؛ فإنه يستحق الطرد من رحمة الله ويلجم يوم القيامة بلجام من نار، ففي الأثر: عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من علم علما فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار” (رواه أبو داود والترمذي وغيرهما).

أرأيت إلى هذه الدعوة الصريحة الملحة لإزالة “الأمية” من المسلمين بواسطة المتعلمين حيال إخوانهم في الدين، فما تجد دينا دعا إلى العلم والتعلم بكل الأساليب كما دعا الإسلام أبناءه ومريديه؛ ذلك لأن العلم هو سبيل الخير والرشاد والسعادة في الدنيا والآخرة[7]

مما أفاد الإسلام به العلم

لم يكن الإسلام دينا بالمعنى التقليدي للدين، وإنما هو نظام جديد لا يكتفي بمعالجة القضايا التي عالجتها الأديان من قبله من تنظيم العلاقة بين الفرد وربه فحسب أو تنظيم العلاقة بين الإنسان وأخيه في داخل مجموعة صغيرة، وإنما نراه يلجأ إلى العقل ليحرك به الوعي الذاتي للفرد ويدفع به إلى الاستقلال في الرأي[8]؛ لذا نجد أن الإسلام قد سلك في دعوته إلى الإيمان بالله وصفاته مسلكا يثير العقل، وهو الدعوة إلى النظر إلى ما في العالم من ظواهر.

قال تعالى: ﴿فلينظر الإنسان مم خلق﴾ [الطارق: 5].

وقال: ﴿أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء…﴾ [الأعراف: 185]، وقال: ﴿لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون﴾ [يس: 40]، وقال: ﴿إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب﴾ [ آل عمران: 190].

هذا الضرب من الآيات الكريمة فيه بعث العقل على النظر في الكون؛ وقد كان لذلك أثره في نمو الحياة العقلية[9]؛ حيث إن مجال استعمال العقل في الإسلام فسيح وعميق عمق الآيات التي خلقها الله في الأرض وفي السماء ودعا الإنسان إلى التفكير فيها…![10].

مواكبة التعليم للدعوة الإسلامية

ولقد بدأت الحركة التعليمية مع بداية الدعوة الإسلامية بصورة متواضعة تتفق وبداية الدعوة في مكة المكرمة، حيث كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، يجتمع بأصحابه والمؤمنين بدعوته في دار الأرقم بن أبي الأرقم أو في بيته ليعلمهم ويرشدهم ويدعم إيمانهم بالله وبمستقبل الدعوة.

وحينما انتقل الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى مهاجره الشريف في المدينة المنورة، وأخذت دعوته، صلى الله عليه وسلم، في الذيوع والانتشار؛ شيد مسجد قباء ثم المسجد النبوي الشريف بعد أن بناه، صلى الله عليه وسلم، كما شيدت مرابع هذا البلد الطيب؛ دوحة العلم والمعرفة وهي تنمو بسرعة فتمتد أغصانها الخضراء الظليلة في كل اتجاه وهي محملة بأشهى الثمار.

ولحق الرسول، صلى الله عليه وسلم، بالرفيق الأعلى بعد أن ضرب أروع الأمثال وأنبل الأهداف، بكلماته الحية، وأعماله الخالدة لكل الأجيال القادمة.

وتوالت الأيام وتتابعت السنون ومراكز الثقافة والمعرفة في المجتمعات الإسلامية تتعدد منابعها وتتنوع روافدها، فانتشرت حلقات التدريس في المساجد والجوامع وفي منازل ودور الأئمة والعلماء، وكان المسجد النبوي أول جامعة إسلامية يلتقي المئات والألوف من الطلاب فيها حول حلقات التدريس التي يتصدر كل حلقة منها أحد كبار العلماء الذين عرفوا بإطلاعهم الواسع وثقافتهم العميقة وقدرتهم على اجتذاب المتعلمين والتأثير فيهم، وهي الطريقة التي كانت متبعة في كافة أنحاء العالم الإسلامي إلى عهد قريب، وقد ساعدت هذه الحلقات مع امتداد الأيام سواء ما كان منها في المساجد أو في دور العلماء، ساعدت الكثيرين من الأميين الذين لا يعرفون القراءة ولا الكتابة وأرباب المهن والصناعات على أن يصبحوا مع مرور الزمن على درجة كبيرة من العلم والمعرفة، ولقد أصبح هؤلاء العصاميون من طلبة العلم الذين كانوا رغم أميتهم وكفاحهم يملأون المجالس التي يحضرونها علما وأدبا وثقافة واسعة ومتعددة الجوانب بطريقة تدعو إلى الإعجاب والإكبار…![11].

مسيرة العلم عند المسلمين عبر التاريخ

لقد ظلت العناية بالعلم والعلماء هكذا منذ فجر الدعوة الإسلامية، حتى كان عصر الدولة الأموية، فقد كان خلفاء هذه الدولة يعدون أنفسهم حماة للعلم ويرون أن قصورهم يجب أن تكون مركزا يشع منه الثقافة والعرفان… بدأت بعصر معاوية بن أبي سفيان الخليفة الأموي الأول خالد بن يزيد بن معاوية المؤسس الأول لعلم الكيمياء عند العرب، وازدهرت في عصر عبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك.

ونشطت حركة الترجمة نشاطا واسعا في عصر الرشيد والمأمون، وراسل المأمون ملك الروم وأرسل إليه جماعة من العلماء؛ للحصول على الكتب النادرة من علوم الأوائل، واجتمعت في عاصمة الخلافة العباسية أهم كتب الفلاسفة والعلماء من الأغارقة في مختلف الفروع من طب ورياضيات وفلكيات… وطائفة من الكتب العلمية والحكمية الفارسية والهندية والسريانية… فتسنى لطلاب المعرفة والعلم في العالم العربي أن يهضموا في سنوات قليلة ما أنفق اليونان وسواهم القرون في إنشائه…

وقد كانت الكتب تهدى إلى الخلفاء على سبيل الاسترضاء، ولكن هارون الرشيد لما فتح عمورية وأنقرة حمل معه إلى بغداد كل ما وجد فيها من المخطوطات واقتدى به ابنه المأمون.

وكان العلماء، آنئذ، يلحفون في طلب المخطوطات بلا هوادة، وقد حدثنا حنين بن إسحاق عن مخطوط عرف باسم (في البرهان) بقوله: إنني بحثت عنه بحثا دقيقا وجبت في طلبه أرجاء العراق وفلسطين ومصر… إلى أن وصلت إلى الإسكندرية، لكني لم أظفر إلا بما يقرب من نصفه في دمشق.

وفي غضون حكم المأمون (813-833م) وصلت الجهود الثقافية الجديدة قمتها؛ فلقد كان المأمون من مفاخر الدولة العباسية علما وأدبا وفضلا ونبلا، ولقد وجه عنايته للعلوم وأكرم العلماء وأعلى مجالسهم، وانصرفت همته أيما انصراف إلى نقل العلوم والصناعات من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية؛ حيث عد ذلك من أكد أعماله وأنبل أغراضه؛ رغبة في رفع شأن أمته وإعزاز جانبها.

كما أنشأ الخليفة المأمون في بغداد سنة 830ﻫ معهدا رسميا للترجمة مجهزا بمكتبة أطلق عليه اسم “بيت الحكمة”، فكان هذا المعهد، من وجوه كثيرة، أعظم المعاهد الثقافية التي نشأت بعد الفتح الإسكندري، والتي أسست في القرن الثالث قبل الميلاد[12].

وفي عهد المأمون نبغ علماء كثيرون وحكماء وبلغاء وكتاب، ممن كانوا فخر الزمان وحلية الدهر، وعلى كتبهم ومؤلفاتهم في مختلف العلوم والفنون شيد الأوروبيون حضارتهم الماثلة أمامنا الآن[13]

وفي حدود سنة 856م، جدد المتوكل مدرسة الترجمة ومكتبتها في بغداد، وقد استفادت مجالس العلم من التطور العلمي والترجمة اللذين كانا طابع ذلك العصر. ولما ضعفت الخلافة العباسية في بغداد، انتقل مركز الثقل إلى الممالك والدويلات الشبيهة بالمستقلة، فالديلم كانت لهم مجالس علم ثم السلاجقة ثم الغزنيون والساسانيون.

ومن هذه المجالس مجلس الوزير ابن الفرات أبو الفضل جعفر في عشرينات القرن الرابع الهجري… ومجلس أبي عبد الله الحسين بن سعدان في سبعينيات القرن نفسه، وكان مجلسه حافلا بجلة العلماء والأدباء وكان يباهي بمجلسه بأمثال أبي حيان وابن مسكويه وأبي الوفاء… ثم مجلس السلاجقة وكان يتصدره الوزير الطغراني العالم الشاعر… ومجلس رابع كان يزدان بأمثال البيروني والفردوسي.

وقد بدأت هذه “الصالونات” أو الجمعيات العلمية في القصور المصرية منذ ظهرت الدولة الطولونية وكانت دار الحكمة قد أنشئت بالقاهرة في عهد الحاكم بأمر الله عام 395ﻫ على غرار بيت الحكمة في بغداد، وقد حملت إليه الكتب من خزائن القصور وحمل إليها من خزائن الحاكم من الكتب ما لم ير مثله مجتمعنا لأحد الملوك قط، وأجريت الأرزاق على من فيها من العلماء والفقهاء والأطباء!

ومن أشهر العلماء في العصر الفاطمي الطبيب ابن بطلان وعالم البصريات ابن الهيثم؛ استدعى الحاكم بأمر الله الأول من سوريا والآخر من العراق.

وفي تاريخ العلم عند المسلمين ستة يوضعون على القمة في قيادة الحركة العلمية وريادتها هم: المأمون، ونظام الملك، ونور الدين زنكي، والحاكم بأمر الله، وصلاح الدين الأيوبي، والسلطان أولغ بيك في سمرقند.

ارتبطت هذه الأسماء ارتباطا وثيقا؛ فالأول أنشأ بيت الحكمة، والثاني أسس المدارس النظامية، والثالث كان راعيا للعلوم في سوريا، والرابع أنشأ دار الحكمة في القاهرة وجلب العلماء والمخطوطات لها من الأرجاء كافة وأنشأ مرصد المقطم بإشراف ابن يونس الفلكي، والخامس حمى التراث العلمي من غوغاء التتار، والسادس هو مؤسس النهضة العلمية في الدولة التيمورية ونبغ في عصره جمشيد غياث الدين الكاشي وقاضي زادة رمى وشرع في تأسيس مرصد المراغة.

منارات العلم في الأندلس  

وفي الأندلس أصبحت قرطبة في ظل عبد الرحمن الثاني (821-852م) مركزا هاما للرخاء الاقتصادي والنشاط الفكري جميعا وتبوأت مقاما عالميا في عهد الخليفة الأول عبد الرحمن الثالث (912- 961م) حامي العلوم والآداب، وبفضل تشجيع مطرد النمو أيضا، تزايدت هذه النهضة في حكم ابنه وخليفته الحكم الثاني (961- 976م)، الذي أبى إلا أن يكون هو نفسه من العلماء، فأرسل وكلاء عنه إلى جميع أصقاع العالم الإسلامي لابتياع الكتب واستنساخها، ووفق في جمع مكتبة غاية في الثراء تقدر محتوياتها بأربعمائة ألف كانت، كما كانت فهارس كتبها تملأ أربعة وأربعين جزءا…وكان يساعد الخليفة في هذا النشاط العلمي وزيره محمد بن أبي عامر المتوفى عام 1002م، وأخيرا كان حكم هشام (976- 1009م) الذي ازدهرت العلوم على يديه[14].

وحمل الأزهر الشعلة

وليت شعري أن يظل الحال على ما هو عليه؛ فلقد انقسم المسلمون على أنفسهم في الأندلس، ومن قبل دهم التتار بغداد، حاضرة العلوم، بل وأحرقوا ما فيها من كتب وألقوها في دجلة حتى غدت جسرا يعبرون عليه، كما قتلوا العلماء، وعطلوا المدارس، وأصبح المسلمون محكومين بقوم من غير جنسهم، كل هذا كون غيوما في سماء المعرفة عند المسلمين، ولكن الله الذي تكفل بحفظ دينه والإبقاء على قرآنه هيأ الأزهر ليكون المكان الذي يشع منه نور العلم والمعرفة، فلقد لجأ العلماء الفارون إليه من وجه التتار، كما لجأ العلماء المهاجرون من الأندلس، كلهم وجد فيه محطا لرحاله، مكانا صالحا لأداء رسالته.

وقد حبب الله إلى سلاطين المماليك أن يميلوا إلى العلم، وأن يقربوا العلماء ويغدقوا عليهم، فتخرج في الأزهر علماء أجلاء لا نزال ننعم بما خلفوه من دراسات واسعة شاملة في شتى ميادين المعرفة: كالسيوطي، وابن منظور، وابن هشام، والسبكي، وابن حجر…

وقد بقي الأزهر ، كذلك، منارة هادية حين أطبقت الظلمات في العصر العثماني، ولعل “شوقيا” قصد هذه الفترة من تاريخ الأزهر حين قال فيه:

ظلمات لا ترى في جنحها            غير هذا الأزهر السمح شهاب

قسما لولاه لم يبق بـ                 رجل يقرأ أو يدري الكتابا

       حفظ الدين مليا ومضـ               ينقذ الدنيا فلم يملك ذهابا…![15]

وثمة أسباب أخرى لضعف المسلمين بعد حياة الازدهار العلمي الذي لم تعرف الدنيا له مثيلا في وقتها؛ ونحن نرى أن من أعظم هذه الأسباب أن المسلمين لم يعودوا يستفيدون من مواقفهم، ولم يعتبروا من ماضيهم، فالأمور عندهم أصبحت وقتيه تنتهي بانتهاء وقوعها دون عبرة واستفادة…!

ولو قلبنا صفحات ماضينا التليد، لوجدنا أن المسلمين الأوائل كانوا يطبقون مبدأ الاستفادة خير تطبيق…

ففي غزوة “حنين” مثلا؛ على الرغم من كثرة الغنائم التي تركها العدو في انسحابه فإن المسلمين لم ينشغلوا بالاستيلاء على غنائم العدو بل أوغلوا في تعقبه، ومستفيدين في ذلك من درس غزوة أحد.

لذلك وجدناهم في سنين قلائل يفتحون العالم وينشرون الإسلام على ربوعه، ويقيمون حضارة فريدة في وقتها دانت لها جميع الحضارات…

أما حين ترك المسلمون مبدأ الاستفادة، ماتت فيهم روح الطموح، وأسلموا راية حضارتهم إلى أعدائهم…

فالمسلمون في أثناء الحروب الصليبية كانوا يتمتعون بحضارة منقطعة النظير ومتكاملة الجوانب، مزجت تراث اليونان والإغريق والمصريين بأعظم تقدم وابتكار إضافة الإسلام إلى هذه الحضارة وقت أن كانت أوربا تحيا في ظلام الجهل، وتعيش في محيط التخلف، إلا أن المسلمين حين لاقوا الصليبيين في حروبهم وانتصروا عليهم، راضوا الخمول والكسل، وفترت همتهم وعزائمهم، ولم يستفيدوا من موقفهم مع أعدائهم.

أما في الغرب فقد كان الأثر عكسيا، فقد عرف الأوروبيون كيف يعبرون من الهزيمة إلى النصر ومن الجهل إلى العلم، ومن التأخر إلى التقدم، ومن حياة الدعة والخمول والكسل إلى حياة الجد والعمل، ومن حالة اليأس إلى حالة الطموح، فالتهموا الحضارة الإسلامية كالجائع المحروم من الطعام عندما يقدم إليه الطعام الشهي لا يبقى منه شيئا…!

بهذا أقاموا حضارة من لاشيء…! ذلك لأنهم عرفوا الاستفادة ولو في أحلك الظروف؟![16]

الأصل والنقل

الأصالة قدر مشترك بين جميع الحضارات؛ فكل حضارة أبدعت ونقلت وكانت لها سمة تميزها بين الحضارات العالمية، ولم توجد قط حضارة تفردت بالإبداع أو تفردت بالنقل أو خلت من السمة التي تميزها بين سمات الحضارة.

إلا أن البدعة الحديثة التي نشأت حول الآرية والسامية قد جنحت بالأوروبيين منذ ظهرت فيهم إلى اختصاص الحضارة الإسلامية بالنقل دون الإبداع، وحببت إليهم أن يميزوا عليها حضارات الأمم الآرية، ولو كانت شرقية، بملكة الإبداع والتفكير الحر ولاسيما في المباحث النظرية التي يراد بها العلم للعلم ولا يراد بها العلم للتطبيق أو للانتفاع به في مرافق المعيشة؛ لأن تمييز الشرقيين الآريين ينتهي إلى تمييز العنصر الأوروبي في أصوله الأولى، وهي الدعوى التي يسوغ بها سيادته على أمم العالمين!

وقال منهم قائلون: إن حضارة العرب التي ظهرت بعد الإسلام كانت حضارة منقولة على أيدي الأعاجم الذين دخلوا الإسلام![17].

وأول ما يوجب التشكيك في هذه الدعوى أن نسأل؛ أين هي الحضارة التي أبدعت ولم تنقل؟ وأين هي الحضارة التي يقال عن جميع علمائها إنهم من عنصر محض خالص ينتمون إليه ولا يمتزج بالعناصر الأخرى؟.

والحقيقة التي لا يشوبها شك؛ أن كل حضارة مبدعة ناقلة، والحضارة الإسلامية ليست بدعا في هذا المجال، وإنما اطلعت على فكر السابقين من يونان وإغريق وهنود وفرس وغيرهم من الأمم، إلا أن هذه الحضارة تميزت بهضم هذا التراث وأضافت إليه الكثير، فما من أمة تستطيع استيعاب التراث العلمي لغيرها من الأمم التي تفوقها حضارة إلا إذا كانت قد وصلت إلى هذا المستوى من التراث… وقد كانت الأمة الإسلامية جديرة بذلك في وقت قصير؛ ذلك لأن مظلة العلوم الفقهية وعلوم القرآن والسنة قد أمدتها بإشعاعات أسرعت في تكوين الفيتامينات للفكر العلمي الجديد[18]

أما عن الفرية القائلة بأن الحضارة الإسلامية ظهرت على أيدي غير العرب، فنقول مجيبين عليهم: إن الإسلام لا يفرق بين جنس وآخر، ما دام الجميع قد دخل تحت مظلته، والحضارة الإسلامية قد اشترك في تكوينها المسلمون من جميع الأجناس، وكان للأمم الأعجمية حقا قسط كبير في بناء صرحها في مختلف العلوم والدراسات، إلا أنه ينبغي أن يعلم أن هذه الأمم الأعجمية لم تنهض هذه النهضة إلا بعد ظهور الإسلام فيها، ولم تكن لها في إبان مجدها القديم فضيلة على العنصر العربي في الدراسات النظرية التي يراد بها العلم للعلم ولا يراد بها العلم للتطبيق أو للانتفاع به في مرافق المعيشة…

ومن الثابت أنه ليس كل ما انتقل على أيدي الحضارة الإسلامية عربيا محضا في الأصول والفروع، ولكن حسبها أنه لم ينقطع على أيديها، فاتصلت بفضلها وشائجه بالتاريخ القديم والحديث، فحفظت تراث الإنسانية كلها وزادت عليه ونقلته إلى من تلاها. وكل حضارة صنعت ذلك فقد صنعت خير ما يطلب من الحضارات[19]، كما أن ابتكارات الحضارة الإسلامية في شتى مجالات المعرفة، مما لا يتطرق الشك إليه، دليل على أن حضارة الإسلام مبدعة وليست ناقلة، فحسب، كما يزعم المغرضون الحاقدون!

ومضات من ابتكارات المسلمين[20]

أولا: في الرياضيات

الجبر: اخترعه العرب اختراعا، ونقلته أوربا باسمه، والخوارزمي هو أول من ألف فيه بطريقة منظمة، واعتمدت أوربا على كتابه “الجبر والمقابلة”

الحساب: ابتكر العرب النظام العشري والصفر ونقلته أوروبا باسمه العربي ووضع العرب مؤلفات كثيرة في الحساب والنسب العددية والهندسية والتناسب واستخراج المجهول والجذور.

المثلثات والفلك: وهم واضعوا علم حساب المثلثات وسهلوا حل كثير من المسائل، وربطوا بين الفلك والرياضة، ونبغ في ذلك: الطوسي، والبيروني والخازن…

الطبيعة والميكانيكا: عالج ابن سينا سرعة الضوء والصوت، ويعتبر ابن الهيثم في مقدمة علماء الطبيعة في جميع العصور وهو من أئمة علم الضوء…

ثانيا: الكيمياء

بطلها جابر بن حيان، فقد عرف عمليات التبخير والتقطير والترشيح والتكليس والتبلور، وحضر كثيرا من المواد الكيميائية مثل نترات الفضة وكبريتور الزئبق، وقد ترجمت كتبه إلى اللاتينية، واشتهر الرازي بالطب والكيمياء، وقد ابتكر أجهزة ووصف أخرى، وكان لمعرفته بالكيمياء أثر في طبه، وقد حضر الأحماض كحامض الكبريتيك والكحول…

ثالثا: الطب

لقد عرف العرب المستشفيات، وعنوا بالطب عناية فائقة، ويحدثنا التاريخ أنه قد دعي إلى الامتحان في بغداد نحو تسعمائة طبيب على عهد المقتدر بالله، وهم غير الأساتذة الثقات الذين تجاوزوا مرتبة الامتحان، وهي عناية بالطب والصحة لم تشهدها قط حاضرة من حواضر التاريخ القديم، هذا في الوقت الذي كانت فيه الكنيسة الغربية في أوروبا تحرم صناعة الطب، لأن المرض في زعمهم عقاب من الله لا ينبغي للإنسان أن يصرفه عمن استحقه، وظل الطب محجورا عليه بهذه الحجة إلى ما بعد انقضاء العهد المسمى بعهد الإيمان، عند استهلال القرن الثاني للميلاد، وهو إبان الحضارة الأندلسية.

وكانت مؤلفات العرب في الطب هي عمدة المؤلفات التي اعتمدت عليها أوروبا ولا زالت في مجال الطب كمؤلفات ابن سينا والرازي وابن الهيثم وغيرهم…

فهذا قبس من ابتكارات المسلمين في بعض العلوم، وهناك ابتكارات للمسلمين في شتى مجالات العلوم لا يكفي لحصرها مجلدات، تلك التي بنت عليها أوربا حاضرها بعد سباتها العميق…!

ولعل هذا كله يلغي تلك الفردية القائلة: بأن حضارة الإسلام كانت حضارة ناقلة وليست مبدعة.

ولا يسعني أخيرا إلا أن نسوق قول المستشرقة الألمانية المنصفة “زيغريد هونكة”؛ وإننا لندين، والتاريخ شاهد على ذلك، في كثير من أسباب الحياة الحاضرة للعرب، وكم أخذنا عنهم من حاجات وأشياء زينت حياتنا بزخرفة محببة إلى النفوس، وألقت أضواء باهرة جميلة على عالمنا الرتيب، الذي كان يوما من الأيام قاتما كالحا باهتا، وزركشته بالتوابل الطيبة النكهة، وطيبته بالعبير العابق، وأحيانا باللون الساحر، وزادته صحة وجمالا وأناقة وروعة[21]…”.

الهوامش


1. أحمد صبحي منصور، تاريخ الفكر في الحضارة الإسلامية، كتاب مقرر على طلاب السنة النهائية لكلية اللغة العربية، جامعة الأزهر، المقدمة: ص: أ، بدون ذكر الطباعة والتاريخ.

2. أحمد سعيد الدمرداش، مسيرة الفكر العلمي عبر التاريخ، دراسة منشورة في مجلة المنهل السعودية، الحلقة الأولى، العدد 450، جمادى الأولى سنة 1407هـ، ص123.

3. أحمد صبحي منصور، تاريخ الفكر في الحضارة الإسلامية، المقدمة: ص: أ، ب، بتصرف.

4. الشيخ الصابوني، صفوة التفاسير، من أعلام المفسرين 20، ص: 581، ط، دار الرشيد بسوريا.

5. لمزيد من التفصيل راجع مجلة الهداية البحرانية، العدد 113، رجب سنة 1407ﻫ، ص38-41، مقال: كيف يحض الإسلام على طلب العلم؟، لطفي نصر.

6. تفسير المراغي، ج 11، ص48.

7. لطفي مصر، كيف يحض الإسلام على طلب العلم؟ مجلة الهداية، العدد 113، رجب سنة 1407ﻫ، ص: 41 وما بعدها.

8. أحمد الدمرداش، سيرة الفكر العلمي عبر التاريخ، مجلة المنهل، العدد 450، جمادى الأولى سنة 1407ﻫ الحلقة الأولى، ص123، بتصرف.

9. عبد الرحمن البهلول، الإسلام دين العلم والمعرفة، مجلة منبر الإسلام، القاهرية، العدد 27، السنة 45، رجبسنة 1407ﻫ، ص: 72- 73، بتصرف.

10. أحمد صبحي، تاريخ الفكر في الحضارة الإسلامية، ص: 8، بتصرف يسير.

11. عبد الرحمن البهلول، الإسلام دين العلم والمعرفة، مجلة منبر الإسلام عدد رجب سنة 1407ﻫ، ص: 70، بتصرف.

12. الدمرداش: مسير الفكر العلمي عبر التاريخ، مجلة المنهل، عدد رجب سنة 1407هـ، الحلقة الثالثة، ص138- 139 بتصرف.

13. عبد الرحمن البهلول، الإسلام دين العلم والمعرفة، مجلة منبر الإسلام، عدد رجب سنة 1407هـ، ص: 75، بتصرف.

14. الدمرداش، مسير الفكر العلمي عبر التاريخ، مجلة المنهل، عدد 452 رجب سنة 1407ﻫ الحلقة الثالثة، ص138- 139 بتصرف

15. علي محمد حسن العماري، التاريخ الأدبي للعصرين العثماني والحديث، ص: 28- 31، ط: الإدراة العامة للمعاهد الأزهرية، سنة 1399هـ، فراجعه تجد تفصيلا.

16. محمد السيد علي بلاسي، لابد أن نستفيد؟ مجلة البريد الإسلامي، وهي مجلة فصلية تصدر عن دار تبليغ الإسلام بمصر، العدد 7- 9، سنة1404، ص: 13-14.

17. عباس محمود العقاد، أثر العرب في الحضارة الأوروبية، ص: 28- 29، ط 2، دار المعارف، 3691م.

18. الدمرداش، مسيرة الفكر العلمي، مجلة المنهل، عدد 452، رجب سنة 7041ﻫ، الحلقة الثالثة، ص831.

19. العقاد، أثر العرب في الحضارة الأوروبية، ص: 30- 33 بتصرف، ط 2، دار المعارف، 1963م.

20. لمزيد من التفصيل راجع، المرجع السابق، ص: 34- 129، تاريخ الفكر في الحضارة الإسلامية، د. صبحي منصور، ص88-105.

21. زغريد هومكه: شمس الدنيا تسطع على أوروبا، ترجمة: فاروق بيضون وكمال الدسوقي، ص: 20، ط 6، سنة 1401ﻫ، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق