وحدة الإحياءحوارات

الخطاب الإسلامي.. ومتطلبات المرحلة الراهنة

تغليبُ السياسي وحصرُ آليات التغيير المجتمعي في الحكم وتطبيق الشريعة تسطيحٌ لجوهر الإسلام!

حاوره: جواد الشقوري

دعا د. محمد الكتاني، عضو أكاديمية المملكة المغربية، إلى التمييز في الخطاب الإسلامي بين الخطاب المرجعي الذي هو وحده يعتبر خطابا على الحقيقة، والخطاب الاجتهادي الذي يعتبر خطابا إسلاميا على سبيل “المجاز”. وقال في حوار مع “الإحياء” إن التعددية في الخطاب الإسلامي ينبغي ألا تتحول إلى فوضى في الخطاب الديني. وبخصوص التحديات التي تواجه العالم الإسلامي قال الكتاني إنها تقتضي مواجهة خيار مصيري للحفاظ على الوجود الذاتي لهذا العالم… وانتقد الكتاني غلبةَ السياسي في الخطاب الإسلامي وحصرَ آليات النقد الذاتي والتغيير المجتمعي في الحكم وتطبيق الشريعة، واعتبر هذا المنزع تسطيحاً لجوهر الإسلام.
من ناحية أخرى، أكد الكتاني على ضرورة مراعاة التنوع العرقي والتنوع الحضاري والتعدد المجالي البيئي والثقافي، وهذا انسجاما مع عالمية الإسلام.

وفيما يتعلق بدور العلماء في صياغة خطاب إسلامي يكون في مستوى انتظارات الإنسان المعاصر قال الكتاني: العلماء هم الذين تتسع مداركهم وعقولهم لما يعرفه العصر من علوم إنسانية جديدة، بعد استيعابهم العلوم الإسلامية… ورأى أن مهمة علماء الإسلام اليوم تقتضي أولا استكمالهم للمعرفة بالحياة المعاصرة وبالعلوم الإنسانية.
وفيما يخص المشهد الديني والعلمي المغربي قال الكتاني إنه ما يزال يشكو من القصور البنيوي عن تحقيق أهدافه المطلوبة، وما يزال “العلم الديني” كما يمثله العديد من “علمائنا” التقليديين محصوراً في الأحكام الشرعية… كما لاحظ عدم حضور نخبة معروفة من العلماء المغاربة في المشهد الإعلامي المغربي على الصورة المطلوبة، وهو “ما يشكل فراغا فكريا وإعلاميا بالنسبة لجماهير الشعب المغربي، التي تنفتح اليوم على الفضائيات العربية في الشرق العربي بمختلف ألوانها وتوجهاتها، وتتأثر بما يروج فيها من أفكار وتوجيهات وفتاوى تتعلق بالإسلام وقيمه وشريعته”.

وفيما يلي نص الحوار.

في البداية، ما الذي يتداعى في ذهنك عندما يُذكر الخطاب الإسلامي؟

أول ما يتبادر إلى الذهن مسألة المفهوم والمرجعية والانتماء. ولابد في البداية من تحديد مفهوم “الخطاب الإسلامي” الذي هو مدار هذا الحوار. و”الخطاب” اصطلاحا هو الكلام الموجه إلى المخاطَبين به، إخباراً بشأن أو طلبا لأمر أو تبليغاً لرأي أو موقف. وعندما ننسب هذا “الخطاب” إلى عقيدة أو مذهب أو فلسفة، فالأمر يعني التعبير عن المنظور العقدي أوالمذهبي إلى واقع قائم أو قضايا إشكالية يفرزها هذا الواقع، بقصد تحليلها في إطار سياقها العام، أو نقدها أو تقويمها. بيد أن الإضافة التي جاءت بها الدراسات اللسانية والسيمولوجية المعاصرة أكدت النظر إلى الخطاب كسلطة، بمعنى من المعاني؛ لأن العلاقة بين طرفي المخاطِب والمخاطَب عبر الخطاب تتضمن في الغالب اعتبار الأول بمثابة مرجعية، في موضوع الخطاب أو ممثلا لها، بينما تعتبر الطرف المتلقي في موقع المأمور أو المكلف بالاستجابة والانقياد لما يتلقاه.

إن هذا المفهوم ينطبق في الحقيقة على خطاب القرآن للإنسان عبر” الوحي” الذي تلقاه محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغه للناس. ولهذا عرّف الأصوليون الفقهاء الحكم الشرعي بكونه الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين؛ أمراً أو اقتضاء أو تخييراً.

هذا عكس ما يذهب إليه البعض من أن مصطلح الخطاب ينتمي للمجال التداولي الغربي؟

مفهوم الخطاب مفهوم إسلامي أصيل؛ باعتباره أداة للبيان والتواصل بين الإنسان والإنسان. وقد تجلى في أسمى مراتبه في التواصل بين عالمي الغيب والشهادة، وذلك في القرآن الكريم الذي هو خطاب إلهي للإنسانية في كل زمان ومكان.

هل إضافة صفة “الإسلامي” إلى الخطاب تقتضي بالضرورة إضفاء القداسة عليه؟

هنا أذكِّر بضرورة التمييز بين ما هو تاريخي من الفكر الإسلامي، أي محكوم بقوانين التطور الاجتماعي والمعرفي. وبالمفاهيم التي يكونها الفكر عن واقعه في سياق المتغيرات التي تؤثر فيه، وبين ما هو ثابت ومطلق في الإسلام؛ أي التميز بين النص وبين الاجتهاد.
هذا ما يجعلنا مطالبين بالتمييز بين خطابين للإسلام؛ الخطاب المرجعي الذي هو وحده يعتبر خطابا على الحقيقة، والخطاب التأويلي أو الاجتهادي الذي يعتبر خطابا إسلاميا على سبيل “المجاز” أو التجوز.
وعندما نستعرض منظومة القيم المرجعية في الإسلام، ابتداء من الإيمان بالحق، والعلم به وانتهاء بالمسؤولية المترتبة على هذا العلم، نجد “الخطاب الإسلامي” يأخذ مرجعيته التأسيسية من هذه المنظومة الشاملة. وحديث “العلماء ورثة الأنبياء” ليس سوى تعبير عن الأمانة الملقاة على العلماء في التبليغ. ويؤكد ذلك ما ورد في خطبة الوداع للنبي عليه السلام “ألا فليبلغ الشاهد الغائب”.

ومن ثم فإن “الخطاب الإسلامي” ليس جديداً إلا في “اصطلاحيته” الحديثة. وأما مضمونه فكان حاضراً في كل الحركات الإصلاحية والإحيائية والتجديدية، التي عرفها الفكر الإسلامي. لأن هذا الفكر لم ينقطع خطابه للأمة على مر العصور، ولأن تجديد هذا الخطاب ظل من مقومات وجوده واستمراره.
وقد أقر الإسلام بمبدأ الاختلاف، واعتبره “رحمة بالناس” وجعل الاجتهاد من أسس بناء الفكر الفقهي والديني بصفة عامة. ومن ثم يجوز القول بانتماء الفكر أو الخطاب إلى الإسلام بهذا المعنى، وذلك في إطار التعددية الفكرية التي هي وليدة الاجتهاد، والتطور التاريخي للأمة.

الخطاب الإسلامي.. التعددية والانشغالات

على ذكر مسألة التعددية الفكرية، ووجود خطابات إسلامية كثيرة لا خطاب واحد… كيف تقَيِّم ظاهرة التعدد على مستوى الخطاب رغم وحدة المصدرية؟

إذا كنا اليوم أمام تعددية في الخطاب الإسلامي، فإنه ينبغي ألا تتحول هذه الظاهرة إلى فوضى في الخطاب الديني. ومن ثم يتعين وضع الأمور في نصابها، وذلك بحصر الخطاب الإسلامي فيما يصدر عن “العلماء” المتخصصين في ثقافة الإسلام فقهاً وأصولا وعقيدة وعلماً بالقرآن والسنة… فضلا عن العلم باللغة التي نزل بها القرآن وفقه بلاغتها، وبالتاريخ الذي هو السياق العام لنزول القرآن. فهذه شروط لابد منها قبل الإقدام على الاجتهاد الفكري في إنشاء أي خطاب باسم الإسلام، وذلك لسد الطريق أمام ظاهرة “تسويق الخطاب الإسلامي” اليوم على أيدي أشباه الأميين أو على يد الذين تسخرهم الجهات التي تكيد للإسلام، وتشيع الفتنة بين أهله، أو تخدم مذهبيتها التي تعتقد أنها وحدها تمثل الإسلام الحق.

ما هي في رأيك الاهتمامات الرئيسة التي شغلت الخطاب الإسلامي في هذا العصر، والتي تعكس صلته بواقعه؟

يمكن القول بإيجاز أن الخطاب الإسلامي المعاصر انشغل بموضوعين محوريين، الأول الدعوات التصحيحية للعقيدة والسلوك لدى عامة المسلمين؛ بالنظر إلى ما سادهما من انحرافات وشعوذة وخرافات في أوساط الجماهير. وقد تفرع عن هذا المحور طائفة من القضايا منها محاولات لتجديد علم الكلام، ومحاولات أخرى لبناء العقيدة على أسس عقلانية، تعتمد ما جد في الفكر الإنساني من علوم وحقائق. والثاني محاولات الملاءمة بين قيم الإسلام ومبادئه ومنهجيته وبين الواقع الجديد الذي أصبح المسلمون يعيشونه في خضوع تام لحضارة الغرب ونظمها وقيمها، في إطار السعي للتوفيق بين الأصالة والمعاصرة. وقد تفرعت عن هذا المحور أيضا قضايا أفرزها الصدام الحضاري، منها قيام الخطاب الإسلامي بمواجهة الفكر الغربي في اتجاهاته الفكرية الكبرى، الوضعية والماركسية والعلمانية. ومنها قيام الخطاب باسترجاع مقومات الهوية الإسلامية انطلاقا من النقد الذاتي، وانتهاء بالدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وطرح مسألة إسلامية الحكم. ومنها محاولات تجديد الفكر الفقهي وإعمال الاجتهاد، والاشتغال على فقه المقاصد بغية تطوير الفقه الإسلامي وملاءمته مع الفكر القانوني المعاصر.

الخطاب الإسلامي.. التحديات والإكراهات

ما هي أبرز المشاكل/التحديات التي تواجه الإنسان في عصرنا الحاضر والتي يجب أخذها بعين الاعتبار أثناء صياغة أي خطاب يُراد له أن يكون في مستوى اللحظة الراهنة؟

إن تساؤلك عما هي أبرز المشاكل والتحديات التي تواجه الإنسان في عصرنا الحاضر، بقصد معرفة ما يخص عالمنا الإسلامي منها، وما يواجهه “المسلم” في حاضره من انعكاساتها، مسألة تتطلب متسعا من الوقت للوقوف على تفاصيل واقع العالم المعاصر التي يعانيها؛ لأن اعتماد التعميمات الفضفاضة، في هذا الصدد لا ينتج سوى أحكام سطحية.
ومع  ذلك فإنه بالإمكان القول بأنه مما لا اختلاف فيه بين المفكرين أن العالم الإسلامي يواجه اليوم تحديات شتى، والتحدى هنا بمعنى مواجهة خيار مصيري للحفاظ على الوجود الذاتي؛ فإما الاستسلام والتلاشي، وإما رفع التحدي بالتغيير المطلوب طبقا لسنن الله الكونية.
أجل، يواجه العالم الإسلامي تحديات شتى. أذكر من بينها تحدي الجهل المطبق بالإسلام عقيدة وشريعة، لدى غالبية المسلمين، وهو أثر من آثار الأمية الكاسحة التي تطال ثمانين من المئة منهم على الأقل، بحيث لا يعتبرون اليوم على المستوى الديني سوى كتلة بشرية قابلة للانقياد لكل ناعق باسم الإسلام؛ كتلة محكومة بعواطفها لا بعقولها، كتلة لا علاقة لها بالإسلام إلا من خلال “الوسطاء” الذين نعرف منهم وننكر. ولهذا نرى أن حضور الشعوب الإسلامية على المستوى الوطني وخصوصياتها الثقافية القومية هو أقوى من حضورها كدول إسلامية أو أقوى من تجسيدها للهوية الإسلامية.
خذ مثلا ظاهرة وقوع بعضها في الصراع المسلح فيما بينها، وظاهرة الانقسام والتجزئة. فهذه كلها تمثل الدوافع القطرية المحدودة، أو الدوافع العرقية والقومية. ولا تمثل الهوية الإسلامية في شيء، وهنا أستحضر ضمن التحديات تحدي التجزئة والتفرقة المذهبية والسياسية والعجز عن تحقيق الوحدة المطلوبة، كقوة لها أبعادها في الاقتصاد والسياسة العامة، والتربية والاستراتيجيات النهضوية والتنموية.

هل من تحديات أخرى؟

من هذه التحديات، تحدي التخلف بمعناه الاجتماعي والاقتصادي والفكري، سواء تعلق الأمر بالفقر المدقع وتدني الإنتاج  والعجز عن تحقيق الاكتفاء الذاتي في معظم ضروريات الحياة في جل الشعوب الإسلامية، أو تعلق الأمر بالثروات التي تتوافر لبعض هذه الشعوب المحكومة بمصالح القوى العالمية، التي تستثمرها في تسويق إنتاجها… أو تعلق الأمر بأشكال الأنظمة السياسية القائمة المسكونة بهاجس الحفاظ على الأمن والسلطة، والتوجس خيفة من إشاعة الديمقراطية وحقوق الإنسان، والحريات العامة.
وأذكر من تلكم التحديات تحدي التأقلم مع التطور الحضاري الذي يرسخ اليوم دعائم مجتمع المعرفة والاتصال، وتحدي العولمة، وزوال الحدود بين الدول والشعوب، وفقدان القدرة على التحكم في توجيه الأجيال الصاعدة من أبناء المسلمين، الذين تُوجههم اليوم عبر الانترنيت مئات مواقع التطرف والخلاعة والاستقطاب في خنادق الشر والفتنة، أمام عجز كل من الأسرة، والدولة عن مراقبتها أو سد طريقها.
وينطوي هذا التحدي الخارجي على قيام الفكر المعادي للإسلام والمسلمين بشتى أساليبه في تشويه الإسلام والافتراء على تاريخه وتراثه، في إطار حركات التنصير والغزو، الإلحادي، أو التشكيك في قيم الإسلام، استغلالا للجهل والأمية بين أبنائه، بل استغلالاً للأجيال التي لم يتح لها سوى التكوين الثقافي (العصري) بلغاته، وحرمت في تعليمها وتثقيفها من الثقافة الإسلامية، فغدت أكثر استعداداً للاقتناع بموقف الفكر الغربي عن الإسلام وتاريخه، والانحياز إليها.

هل هناك انعكاسات لهذه التحديات على النسيج الاجتماعي والثقافي الإسلامي؟

أجل. ترتب على هذه التحديات مجتمعة حالة عامة من الإحباط النفسي، وشيوع روح الانهزامية والاستسلام والتشكيك في قدرات المسلمين على المواجهة، وتفسر لنا أنماطا شتى من ردود الفعل في المجتمعات الإسلامية.
أولها: رد الفعل الغريزي للحفاظ على الهوية، والرفض للآخر والانكماش والانغلاق، وتكفير المخالف، واسترجاع منطق الخوارج في العنف واستباحة النفوس والحرمات.
وثانيها: رد فعل الانسلاخ من الهوية، والانبهار بالآخر والانفتاح بغير حد على كل ما هو حداثي “وتقدمي” والانسياق لدعوات فصل الدين عن الدولة.
ثالثها: رد الفعل التوفيقي الذي يأخذ بمعطيات التطور الفكري والحضاري للإنسانية وبتمظهراته السياسية والاقتصادية، في محاولة لتنزيل قيم الإسلام على مقاسها، حفاظا منه على حركية المجتمعات الإسلامية وتقدمها، وإعطاء للصورة الإيجابية عن الإسلام بالنسبة للآخر في إطار مقولة أن “الإسلام صالح لكل زمان ومكان”. ويكتسي الخطاب الإسلامي المعاصر ردود الفعل بمختلف توجيهاتها.

الخطاب الإسلامي.. وقضايا العالم والإنسان

نفهم من مقولة “الإسلام صالح لكل زمان ومكان” أنه يملك الإجابات على كل الأسئلة التي تعترض مسيرة الإنسانية وتحول دون عيشها الكريم… ما الذي يتميز به الإسلام حتى يكون في مستوى متطلبات الإنسانية على مر العصور؟

إن مقولة أن “الإسلام صالح لكل زمان ومكان” تعبير عن كون الإسلام دينا عاما خالداً، باعتباره خاتمة الأديان. ولا يكون كذلك إلا إذا كان وافيا بكل مقاصد الرسالات السماوية.

هذا الأمر يطرح تساؤلا جوهريا: هل صلاحية الإسلام المستمرة تعني قابليته للتطور وللمتغيرات عبر الزمان والمكان وعبر الحضارات والثقافات… ومن ثم نتساءل عن الآليات التي اعتمدها الإسلام لهذا التطور. أم تعني أنه يفرض نظامه كحكم إلهي يرفض كل المتغيرات التي لا تتلاءم مع هذا النظام؟

وهنا ينبغي ألاَّ يَغيب عنا عنصر مهم من مكونات الإسلام، وهو أنه دين عالمي، تخاطب به الإنسانية كلها، وليس خاصّاً، بفئة أو شعب واحد أو عصر معين. ولكي يكون كذلك لابد من أن يراعي التنوع العرقي والتنوع الحضاري والتعدد المجالي البيئي والثقافي. إن الناظر في عقيدة الإسلام وشريعته وقيمه لا يجد فيه ما يخالف سنّة التطور، ولا قانون التغيير. والتاريخ الحضاري للإسلام أقوى دليل على قيام الإسلام على هذا المبدأ. واستمرار الإسلام داخل مجتمعات بشرية متعددة الثقافات، على مر أربعة عشر قرنا خير برهان على تلك القابلية.

في هذا السياق، هناك من الكتابات؛ باسم عالمية الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان… تنادي بتطويع ثوابت المنظومة الإسلامية، وذلك من أجل مواكبة تطورات العصر. ما رأيك؟

لابد هنا من توضيح أمر أساسي، وهو ضرورة التفرقة من جهة أولى بين العقيدة الثابتة، التي لا مجال فيها للتطور، لأنها عقيدة تتعلق بطبيعة الوجود وسننه الثابتة. ومن جهة ثانية بين الشريعة والنظام الاجتماعي، لأنهما يتجددان ويتسعان بتجدد الحياة الاجتماعية واتساع آفاقها.
وهذا هو المبدأ الذي قامت عليها الأديان السماوية كلها؛ وهو ما يفسر تعاقبها على أساس تثبيت العقيدة وتجديد الشريعة، ولذلك يقول تعالى في محكم كتابه “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا”.
والحقيقة كما يقول أحد المفكرين المسلمين أن ختم الرسالات السماوية “بالإسلام ” إنما يؤكد انتهاء طور من تاريخ البشرية اعتمد فيه الإنسان على الوحي والنبوة، وبداية طور جديد يعتمد فيه على العقل الموجه بنور الوحي؛ أي اعتماد آليات الاجتهاد الفكري، مع الالتزام بثوابت الإسلام وقيمه المطلقة. فارتضاء الله سبحانه للإسلام دينا للإنسانية، وإكماله إياه على الصورة التي جاء بها القرآن، إنما هو إعلان عن رشد الإنسانية وقدرتها على اكتشاف الحقيقة بإعمال المناهج الموصلة إليها، مع الالتزام بالكليات التي اعتبرها الإسلام مناط السير على الصراط المستقيم.
لقد حرر القرآن العقل الإنساني من التقليد للسلف، والجمود على منهج الأسلاف، ومن الخنوع للسلطة الجائرة، ومن النكوص أمام ضرورة التغيير، وحث المسلم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ أي شرعنة حق المعارضة في أي نظام سياسي وفي وجه أي حاكم مهما كان، بقدر ما دعاه إلى تكوين المعرفة العلمية عن طريق الملاحظة والاستقراء في عوالم المادة والحياة والتاريخ، وطالب العقل بالبرهان على ما يعتقده، ودعاه إلى الحوار مع المخالف بالحكمة والموعظة والجدل بالتي هي أحسن. ولا مجال لذكر الآيات القرآنية العديدة الواردة في كل باب من هذه الأبواب.
وقد استوعبت أجيال المسلمين الأولى هذه الدعوة الحضارية فأنشأ المسلمون مناهج لتوثيق النصوص الموحى بها في الكتاب والسنة، والمناهج لفهمها وللاستنباط الفقهي من أحكامها الكلية، كما عملوا على تفعيل الأسس المعرفية لظواهر الحياة النفسية والاجتماعية والمادية والثقافية التي قدمها القرآن، حينما طالب بالنظر في الكون وآياته وثبات سننه، وحث المسلم على الأخذ والعطاء في ميادين العلوم العقلية، وعلى التعايش الحضاري في المجال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. وبهذه المناهج التي جمعت بين النقل الموثق، والفكر المسدد، يستطيع الإسلام تقديم كل الإجابات على كل الأسئلة المطروحة عليه في كل زمان ومكان.

يميلُ بعضُ المراقبين إلى القول بعدم قدرة الخطاب الإسلامي المعاصر على تقديم رؤية للعالم تساهم في ترشيد مسيرته وتحديد وجهته. كيف تقارب هذا الإشكال؟

هذا الاستفسار يطرح قضية أخرى يجب توضيحها. ويتعلق بضرورة التمييز بين مرجعية الخطاب الإسلامي المنحصرة في الوحي. وبين اجتهادات الفكر الإسلامي في مجال الملاءمة بين الإسلام وبين متغيرات الواقع وتطور الفكر الإنساني. فإذا كان المقصود “برؤية العالم” المنظور العام الذي يمثل  المبادئ التأسيسية للمعرفة الإسلامية، التي تقوم عليها العقيدة وكافة التصورات المنبثقة عنها حول القيم العامة للحياة؛ فهذه الرؤية قد حددها القرآن في خطابه العام للبشرية، من حيث بيان مصدر الوجود ووحدانية الخالق، وثبات السنن الكونية، وقيام الكون على الحق المطلق، وتحديد رسالة الإنسان في هذه الحياة، وإثبات النبوات والرسالات، وحقائق البعث والمعاد والجزاء، وكل القيم الثابتة التي يجب أن تستقر عليها علاقاته وأنظمته الاجتماعية، فهذا ما يمثل، إن صح القول فلسفة شاملة تستوعب مبادئ المعرفة وكليات الاعتقاد ومقاصد التشريع. وهي رؤية الإسلام ومنظوره الذي لا يتغير ولا مجال لأي فكر أن يقدم بديلا عنها.
وأما إن كان المقصود” برؤية العالم” صياغة عقلانية متجددة للرؤية الإسلامية المرجعية، رؤية تستفيد من تقدم العلوم الطبيعية والإنسانية، وتعيد صياغة الثوابت في إطارها فهذا هو مجال الاجتهاد في ملاءمة الإسلام للمستجدات وللتطور العقلي الذي لا يقف عند حد محدود. وفي هذا السياق قام عدد من المفكرين المسلمين والعلماء في العصر الحديث بصياغة عدة محاولات اجتهادية قيمة. ويمكن اعتبارها حلقات متتابعة في مسار الفكر الإسلامي، يعرفها المتخصصون في هذا الفكر وتاريخه. ونظراً لطبيعتها الأكاديمية، فإنها تظل خطابا للخاصة من العلماء والمفكرين.

ما المطلوب، في رأيك، حتى تكون المحاولات الاجتهادية في مستوى “نوازل” اللحظة العالمية الراهنة؟

القيام بالمحاولات التجديدية من هذا المستوى يتطلب استرجاع “العقل” لدوره الحيوي في بناء الفكر الإسلامي، داخل المجتمعات الإسلامية، كما كان عليه الأمر في عصور ازدهار الثقافة الإسلامية. وهنا نذكر أن الفكر الإسلامي لم يتوقف عن الاجتهاد إلا عندما تحكمت سلطة الفهم الأحادي للنص، وساد التقليد للسلف، وصودرت حريات الإنسان، وحكم على الفلسفة، أي النظر العقلي المجرد، بالتفسيق، وعلى علم الكلام بالزيغ والإلحاد… فانتهت ثقافة الإسلام إلى العقم الذي استمر حتى مشارف العصر الحديث.

الخطاب الإسلامي.. بين المدخل المعرفي والانشغال “السياسي”

هناك من يقول بأن تغليب ما هو “سياسي” (بالمفهوم الضيق لكلمة سياسي ) على ما هو معرفي ووجودي في الخطاب الإسلامي كان وراء ما يمكن تسميته بانسحاب المسلمين من العالم. هل تتفق مع هذا الرأي؟

تجديد الخطاب الإسلامي يشكل سنة من سنن هذا الدين. ويمثل دورة تاريخية متجددة كما هو معلوم. انطلاقا من الحديث النبوي المروي في تجديد الدين. فعلى أساس هذا التجديد، قامت حركات الإصلاح الديني والاجتماعي في العصر الحديث. وتعاقب كبار المصلحين والمفكرين المسلمين، لكن وقع النظر إلى هذا التجديد من موقعين.
أحدهما موقع من نظر إلى ضرورة التجديد على مستوى حياة المسلم وذاتيته، فدعا إلى بعث الإيمان في وجدانه وتفعيل العقيدة في مواقفه، وتقويم السلوك الأخلاقي في معاملاته؛ باعتبار أن الإسلام حقيقة روحية بالدرجة الأولى، هدفها السمو بالإنسان إلى معارج الفضائل ومكارم الأخلاق، واقترح لذلك منهج التربية والتوعية. والثاني موقع من نظر إلى ضرورة التجديد على مستوى حياة الجماعة التي هي بوتقة صياغة حياة الفرد. فدعا من هذا المنظور إلى تغيير أوضاع المجتمع، بآلياته السياسية. واقترح لذلك ضرورة رد المجتمع إلى منهجه الإسلامي وتطبيق شريعته.
وهذان المنزعان الإصلاحي والأصولي تجاذبا جل محاولات التجديد في عصرنا، وقد وقع تغليب المنهج السياسي لدى الأصوليين المعاصرين أمثال سيد قطب وأبي الأعلى المودودي، ووقع تغليب المنهج الإصلاحي التربوي لدى الإصلاحيين أمثال محمد عبده ورشيد رضا وعلال الفاسي. ووقع تغليب المنهج العقدي والمعرفي عند طائفة ثالثة أمثال محمد إقبال ومالك بن نبي وحسن حنفي وغيرهم.
وهنا تثار قضية “الإسلام السياسي”، وهو المفهوم المتداول اليوم عن الحركات الأصولية في العالم الإسلامي الداعية إلى استرجاع نظام الحكم الإسلامي في الخلافة وتطبيق الشريعة، وقيام الأمة على العقيدة لا غير.

ما هو في رأيك السياق التاريخي الذي أفضى إلى تحول حركات الإصلاح الديني إلى حركات احتجاجية أو رافضة أو ثورية؟

 هذه الحركات تنامت في عالمنا الإسلامي بصورة لافتة للنظر بفعل ثلاثة أسباب رئيسية:
– فشل المناهج الليبرالية والاشتراكية، الديمقراطية والعسكرية التي عرفتها الدول الوطنية في عالمنا الإسلامي في تحقيق وعودها في الإصلاح والتنمية الاجتماعية، وتخليص شعوبها من التخلف والتبعية للغرب.
– انحسار القناع عن وجه الغرب كقوة للهيمنة المطلقة والعولمة الكاسحة، وانكشاف نياته الحقيقية في وقوفه ضد العالم الإسلامي جملة وتفصيلا، في كل الأوقات والقضايا المصيرية، مثل قضية الشعب الفلسطيني، واصطناعه لمنهج الكيل بمكيالين، في كل ما له صلة بالشعوب الإسلامية.
– تنامي حركة الإحباط النفسي تجاه كل الإخفاقات التي منيت بها تجارب اصطناع السياسات التنموية، ودعاوى الديمقراطية داخل البلدان الإسلامية. وهو ما وجد فيه الدعاة الجدد فرصة لزعزعة شرعية الأنظمة السياسية القائمة وتعميق الالتزام الديني بضرورة التغيير. وبالتالي فإن عالمنا الإسلامي يعيش معاناة الشعور بالعجز عن تحقيق أي شيء من انتظاراته وتطلعاته المشروعة، على مستوى الممارسة السياسية. وبذلك انفتح المجال أمام حقل خصب لتأجيج الميول الدينية في إطار ما يسمى “بالإسلام السياسي” أو الأصولي أو “الحركي” بالمعنى المتداول لهذا التعبير. بيد أنه يجب أن يسجل في هذا الصدد أن انتماء هذه الحركات إلى “السياسة” مسألة خلافية؛ إذ ليس في الخطاب السياسي لهذه الحركات أو جلها ما يعد من قيم الإسلام الأساسية؛ وفي مقدمتها بناء ذاتية المسلم أولا وقبل كل شيء وتأهيله أخلاقيا وتوعيته بحقوقه الأساسية، وتنمية قدراته الذاتية على رفع تحديات العصر.
وكيفما كان الحال فقد وجدت كل المناهج التجديدية والإصلاحية في الخطاب الإسلامي المعاصر، ما هو منها سلفي يهتم بإحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة، وما هو عقلاني يهتم بصياغة رؤية جديدة للحياة العقلية في إطار ثوابت الإسلام، وما هو معرفي يهتم بتعميق العقيدة وممارسة الاجتهاد في العلوم الشرعية، ومنها ما هو سياسي يعتبر من الضروري قيام الحكومات الإسلامية بتفعيل قيم الإسلام والحفاظ على هويته في مجتمعاتها، ومنها ما هو حركي يهتم بتغير الأوضاع الاجتماعية لدى المسلمين، وبقيام حكم إسلامي يسهر على تطبيق الشريعة.
والملاحظ أن ما يباعد بين هذه المناهج، هو سعة الرؤية وضيقها إلى طبيعة التاريخ الإنساني وسننه في التطور، ومدى الثقة أو عدمها في نهوض العقل بمسؤوليته في توجيه الحياة وتفاعله المستمر مع التجارب الإنسانية، بل سعة الخبرة بالواقع الاجتماعي وآليات عمله أو ضيقها؛ مما يترتب عليه وصف هذا المنهج أو ذاك بالواقعية أو بالمثالية.

الخطاب الإسلامي.. السمات والآفاق

نفهم مما سبق أن الحاجة قائمة لإحداث التجديد على مستوى الخطاب الإسلامي المعاصر. في رأيك ما هي أهم سمات هذا الخطاب الذي تدعو إليه؟

هناك ضرورة لقيام خطاب إسلامي مؤسّس على مشروع إسلامي حضاري متكامل؛ مشروع يستوعب كل أبعاد التطور الذي حققته البشرية اليوم في علومها ونظمها الاجتماعية، ويراعي كل التحديات التي يطرحها هذا التطور، من غير تقيد باجتهادات السلف وما فرعوه من فروع على الأصول والمقاصد الشرعية المقررة… استرجاعا لحق الاجتهاد من جهة ولمشروعية الإجماع من جهة أخرى اللذين لا يجوز حصرها على عصر معين ولا قصرهما على أشخاص بأعيانهم، ويمكن إعطاء هذين الآليتين صفة مؤسسية بعيداً عن الذاتية والظرفية.
وإذا كان الواقع الذي يعيشه الإنسان بمشكلاته وتحدياته هو الذي يحدد أهداف الخطاب؛ وطبيعة المنهج الذي يحققها من خلال استيعابه للحظة التاريخية، بما تزخر به من تناقضات وإكراهات وسلبيات وإيجابيات، فإن الخطاب الإسلامي اليوم مَدعو لتجديد منهجه، في ضوء المستجدات الحضارية والعلمية والاجتماعية، وتجديد آلياته في الإفادة من التكنولوجيا الإعلامية، واعتماد المعرفة الشاملة بطبيعة الأوضاع الاجتماعية وفقه الواقع، ومتطلبات التنمية البشرية، ورفع التحديات التي وقعت الإشارة إليها من قبل.
وأهم ما يتعين الانتباه إليه هو الاستفادة الإيجابية من تاريخ الإسلام في مجتمعاته، وتاريخ الإنسانية كلها، ولاسيما الأمم المتقدمة، في تحقيق ما بلغته من رفاه اجتماعي وقوة علمية تكنولوجية، وديمقراطية سياسية.
إن هذا التاريخ يعلمنا أن أنظمة الحكم الفردي، والاستبداد السياسي، والسلطة القمعية لا تعمر طويلا مهما طال أمدها. وإذا كان الخطاب الأصولي يدعو إلى قيام حكم يقمع الحريات العامة ويفرض الفهم الأحادي للنصوص ويسترجع مقولة الحاكم بأمر الله، فإن سنة الله في مداولة الأيام بين الناس تدل على فشل هذا التوجه في كل زمان ومكان. ولن تجد لسنة الله تبديلا. لأن النظام لن يفرز سوى تداعيات العنف والعنف المضاد على حساب التنمية البشرية، ويكرس دكتاتورية السلطة على حساب الحقوق السياسية للأمة، ويجهض تطلعاتها إلى الحرية والأمن الاجتماعي في ظل التعددية والمساواة وسيادة القانون؛ لاسيما والمسلمون لا يعيشون وحدهم في العالم ولا يمكنهم تجاهل التفاعل الحضاري، والتعاون الدولي، في إطار احترام هويتهم وخصوصياتهم… ومن ثم يتعين على الخطاب الإسلامي أن يساهم فيما تعتبره الإنسانية اليوم قضاياها المحورية في إقرار السلام والتعايش بين الشعوب ورفع تحديات الفقر والحرمان، وشيوع الإرهاب والتطرف واستعلاء النزعات المادية والتحلل الأخلاقي، ووقوع الحضارة البشرية تحت رحمة دكتاتورية التكنولوجيا الإعلامية وقطبية العولمة.

نلمس في الآونة الأخيرة تناميا لمسألة الاهتمام بالخطاب الإسلامي؛ خاصة على مستوى تقويمه وتقييمه… وغالبا ما تتراوح عمليتي التقويم والتقييم بين التفاؤل والتشاؤم… كيف تنظر إلى هذه القضية؟

يرجع هذا الاهتمام إلى عدة أسباب، منها الوعي بأهمية تفعيل الخطاب الديني لدى الشعوب الإسلامية، التي يعتبر الدين أحد مكونات هويتها الراسخة، وذلك في مجالات التنمية والتخليق وتأهيل الموارد البشرية، والحفاظ على الأصالة في عالم مضطرب القيم. ومنها نمو نزعة النقد الذاتي للواقع السياسي والاجتماعي، من منطلق البعد عن الإسلام وعن قيمه المثلى. ومنها تطور وسائل الإعلام والتواصل التي جعلت المعنيين بهذا الخطاب يتمكنون من إشاعته على أوسع نطاق.
وفي هذا الصدد تطرح مسألة مصداقية هذا الخطاب، وحقيقة انتمائه إلى الإسلام الصحيح، لاسيما وهو  يصدر من شتى الجهات المعروفة والمشبوهة، ومن العديد من الأشخاص والجماعات المذهبية المنغلقة، وذلك في غياب المرجعية القرآنية والتعمق في العلوم الشرعية. وبذلكم تعددت مناهج هذا الخطاب بتعدد مستويات المخاطبين به وأهدافه الخفية والمعلنة.
والواقع أن التوجه الغالب في هذا الخطاب إلى تسييس الإسلام، وحصر آليات النقد الذاتي والتغيير المجتمعي في الحكم، وتطبيق الشريعة يعد تسطيحاً لجوهر الإسلام، باعتباره يقوم على منهج متكامل من المعرفة والسلوك وعقيدة التوحيد ومنظومة القيم المنبثقة عنها، ومن الفرد والمجتمع ومن الحاكمين والمحكومين… وتفكيك هذه المنظومة الشاملة لحساب ما هو سياسي فقط يعد مجرد مغامرة من مغامرات السياسة الشمولية التي لا يُرجى منها طائل. فالمسلم اليوم قبل كل شيء يفتقر إلى ما يوقظ ضميره، ويحفّزه على العمل المنتج والنهوض بالمسؤولية في كل قطاع من قطاعات الحياة التي يحياها، ومراقبة الله تعالى في كل معاملاته والإنصاف من نفسه، والاستقامة في المنشط والمكره وتنقية القلب من كل غلّ وحقد وعدوانية وتمسك بالاعتدال والوسطية، فهذا هو جوهر الإسلام الذي تقوم عليه شخصية المسلم حتى يكون نموذجاً في الاستقامة والتعايش مع الآخر. إنها كلمة التقوى؛ الكلمة الجامعة لكل فضيلة، والفضيلة المحورية المغيّبة اليوم في سلوك المسلمين أفراداً وجماعات.

علماء المغرب.. وواجب التفاعل مع اللحظة العالمية الراهنة

ما موقع ومنزلة العلماء في صياغة خطاب إسلامي يكون في مستوى المرحلة العالمية الراهنة؟

حينما يرجع المرء إلى تراث الإسلام الكلامي أو الفقهي الأصولي أو الفلسفي يلاحظ في مبدعي هذا التراث من العلماء صفتين حاضرتين في ممارستهما للتفكير العلمي والاجتهاد الفقهي والدراسة لأي موضوع، وهما المعرفة الشاملة والمنهجية الواضحة. فما أبدعه الغزالي وابن حزم والشاطبي وابن رشد وابن خلدون وغيرهم يشهد لهذه الحقيقة، وبفضل موسوعيتهم ومنهجيتهم تمكنوا من إبداع تراث سيظل حاضراً في عقول كل الأجيال المتعاقبة. فبفضل هذين المكونين تمكنوا من تقويم المعارف ونقدها وإغنائها في حقول الثقافة الإسلامية؛ فقها وكلاما وأصولا وتفسيراً ومناهج، في النظر والتحليل والاجتهاد.
ولذلك فالعلماء في المنظور الإسلامي، ليسوا هم الفقهاء العارفين فقط بأحكام الحلال والحرام، ولا الوعاة للتراث الكلامي والأصولي فقط، القادرين على ترديده، وإنما العلماء هم الذين تتسع مداركهم وعقولهم لما يعرفه العصر من علوم إنسانية جديدة، بعد استيعابهم العلوم الإسلامية، وبما يضفيه الفكر الإنساني المعاصر من غِنى وعمق في شتى مناحي الحياة، وهم الذين يستخلصون من المعرفة الشاملة والعصرية في هذه المجالات التصورات المتكاملة والمفاهيم التجديدية التي يجب أن يتضمنها الخطاب الإسلامي في المرحلة الراهنة.
فالسنن الاجتماعية، التي على العالم المسلم أن يكتشفها في الأنفس والآفاق، والتي يجتهد في ضوئها إنزال حكم الإسلام عليها لا يمكن تحصيلها إلا من خلال تكامل المعارف وتداخل مناهجها في بحثه ونظرته واستنتاجاته؛ لأن تعددية العلوم حول الموضوع الواحد الذي هو الإنسان مثلا تعني أن الإنسان لا يمكن فهمه ولا تقدير حاجاته المادية والروحية ولا سبر أغوار نفسه، ولا تصور النظام الأمثل لتحقيق الحياة المتوازنة المكتملة لديه إلا من خلال استحضار معطيات كل العلوم التي يبحث فيها.

هل يمكن القول أن انحسار عملية الاجتهاد في الأمة كان من أهم أسبابه بُعد الفقيه المسلم عن واقع الناس والعالم؟

الفقيه المجتهد لا يمكنه أن يقدم جديداً في اجتهاداته إلا إذا كان يدرك تفاصيل واقع الحياة الحضارية المعاصرة للإنسان المسلم، وما تفرزه من مشكلات عويصة ونوازل إشكالية بفعل تطور العلم، وتعقيد الحياة، ومتطلبات رفع التحديات. لهذا أعتقد أن مهمة علماء الإسلام اليوم تقتضي أولا استكمالهم للمعرفة بالحياة المعاصرة، وبالعلوم الإنسانية التي تبحث ظواهرها وتفسر سننها الطبيعية لتنزيل أحكام الإسلام التي يجتهدون في صياغتها على وقائعها وأسبابها العامة، في إطار المقاصد الشرعية، ومواكبة طبيعة التنمية والإسهام في الحياة الإنسانية. كما تمكنهم هذه المشاركة العلمية في الوقوف على كل الإيديولوجيا المادية السائدة، ومن التصدي لها بالنقد الموضوعي وكشف تهافتها بنفس المنهج العلمي الذي تدعيه. وهذا ما فعله طائفة من علماء الإسلام في هذا العصر على قلتهم.

وماذا عن المشهد الثقافي والعلمي المغربي؟ هل هو مؤهل للتفاعل مع اللحظة العالمية الراهنة؟

المشهد الثقافي والعلمي المغربي في “المجال الديني” الإسلامي، يتميز من حيث هيكلته بتوافر مؤسسات “جامعية” تسهر على التكوين العلمي الديني في اختصاصات العلوم الشرعية والنقلية، مع الانفتاح على شتى العلوم الإنسانية، كما يتميز بمؤسسات المجالس العلمية التي تسهر على التوعية والتوجيه والفتوى، وتقديم أنشطة عامة وندوات وملتقيات تتضمن أفكاراً وتصورات ذات ارتباط بواقع حياة الناس. ومن هذه الناحية يمكن القول إن هناك مشهداً علميا إسلاميا مؤسسيا يبذل جهوداً طيبة في نطاق اختصاصاته.
ولكن هذا المشهد ما يزال يشكو من القصور البنيوي عن تحقيق أهدافه المطلوبة. فما يزال “العلم الديني” كما يمثله العديد من “علمائنا” التقليديين محصوراً في الأحكام الشرعية، وربما بصيغتها التراثية ومفرداتها القديمة. وما يزال العمل المنهجي والمعرفي القادر على الحوار المفتوح مع شتى الإيديولوجيات والتيارات الفكرية العلمية، محدود الفاعلية، محدود الأطر المؤهلة. وما يزال الصمت واللامبالاة تجاه الفكر الإلحادي والمادي يصول ويجول، ويحول بين علمائنا وفقهائنا وبين خوض النضال الفكري الذي هو أرحب ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأوجبها عليهم. ولا عذر لهم في هذا الصمت؛ فالمؤسسات الحقوقية والدستورية في المغرب تكفل حرية التفكير والتعبير في هذا المجال.
وفي هذا السياق ألاحظ عدم حضور نخبة معروفة من العلماء المغاربة في المشهد الإعلامي المغربي على الصورة المطلوبة، وهو ما يشكل فراغا فكريا وإعلاميا بالنسبة لجماهير الشعب المغربي، التي تنفتح اليوم على الفضائيات العربية في الشرق العربي بمختلف ألوانها وتوجهاتها، وتتأثر بما يروج فيها من أفكار وتوجيهات وفتاوى تتعلق بالإسلام وقيمه وشريعته؛ منها الموضوعي المقبول ومنها المذهبي المنحاز، ومنها المحدود الفهم والاطلاع؛ علما بأن هذه الفضائيات لها من التأثير اليوم أكثر بكثير مما لإعلامنا المكتوب والمشاهد في هذا المجال.

أخيرا، هل يمكن أن تحدّد -بشكل مركز- بعضاً من المهام المستعجلة التي تتطلب من العالم المغربي القيام بها؟

أعتقد أن توظيف “الدين” في استقطاب الجماهير من لدن الجماعات المتطرفة، واستغلال الأمية والأوضاع الاجتماعية الهشة من المسائل الخطيرة التي لا يجوز الصمت تجاهها. ومن المؤكد أن هوية المجتمع المغربي الإسلامية تتعرض اليوم للتفكيك والتجاذب بين نوازع التطرف والإلحاد والمسخ، في استغلال ممنهج للأمية والجهل بالإسلام.
كما أعتقد أن مهمة علماء المغرب واضحة تجاه هذه الحركات، وأن المؤسسات التي تمثل هيكلة الفضاء الديني في المغرب مدعوة لوضع الاستراتيجيات الكفيلة بمواجهة التسويق للدين بأسلوب غير علمي ولا نزيه. لأن العمل الجماعي المتناسق والمدعوم بالكفايات والأهليات هو الجدير بالنجاح، كما أنها مدعوة للانفتاح على طاقات واعدة من الشباب المسلم المغربي ذي الفكر المنهجي والرؤية الواضحة، التي أصبحت تشارك اليوم في البحث والدراسات الإسلامية المعمقة. وهو ما يجعلنا نعلق الأمل على أخذها بالمبادرات المنهجية في تفعيل الخطاب الإسلامي على الوجه المطلوب الذي يرقى إلى انتظارات اللحظة الراهنة.

د. محمد الكتاني

المفكر وكاتب الدولة وعضو أكاديمية المملكة المغربية

  • ولد الأستاذ محمد الكتاني بمدينة فاس سنة 1934، وتلقى تعليمه الابتدائي بمدينة الدار البيضاء، ثم عاد بعد حصوله على الشهادة الابتدائية سنة 1946 إلى مدينة فاس، ليتلقى تعليمه الثانوي بجامعة القرويين.
  • حصل على دكتوراه الدولة في الآداب سنة 1980.
  • عضو مشارك ومقيم بأكاديمية المملكة المغربية التي تعتبر من الأكاديميات المرموقة عالميا.
  • مكلف بمهمة بالديوان الملكي، برتبة (كاتب الدولة) منذ سنة 1997، وهو المنصب الذي يشغله حتى الآن.
  • نال عددا من أوسمة الدولة مكافأة له على جهوده الوطنية والمهنية.
  • اشتغل بسلك التعليم الابتدائي والثانوي أستاذا ثم مفتشا؛ حيث أسهم في عدد من المؤلفات التعليمية والتربوية التي كانت مقررة من لدن وزارة التربية الوطنية على مدى العقود الثلاثة 1960-1990 في التعليم الثانوي.
  • انتخب كاتبا عاما للنادي الثقافي الفني بمدينة الدار البيضاء، خلال سنوات 1956/1960.
  • حصل على اللسانس في الأدب العربي سنة 1963، ثم على شهادة تكميلية في الأدب المقارن سنة 1964، ثم على دبلوم الامتحان الخاص لولوج الدراسات العليا سنة 1966، محرزا بعد ذلك على دبلوم الدراسات العليا سنة 1970.
  • شغل منصب عميد كلية الآداب بجامعة عبد الملك السعدي بمدينة تطوان، فقضى في عمادتها نحو الخمسة عشر عاما، لم ينقطع خلالها عن التدريس بأقسام الدراسات العليا فيها وفي كلية آداب فاس، وفي كلية أصول الدين (جامعة القرويين)، كما لم ينقطع عن الكتابة والبحث العلمي. بعد أن سبق له شغل منصب نائب عميد كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط. ورئيسا لقسم الدراسات الإسلامية بها.
  • تولى رئاسة تحرير مجلة كلية الآداب.
  • عضو اتحاد كتاب المغرب.
  • عضو بمجمع اللغة العربية بالسودان.
  • عضو بالمجلس العلمي الإقليمي لمدينة فاس وبمدينة تطوان.
  • وعضو مشارك في عدد من اللجن العلمية المحكمة منها: اللجنة الوطنية للثقافة (المغرب) سنة 1982، ولجنة جائزة الملك فيصل العالمية (الرياض) 1993/1996/1998/2001، ولجنة التحكيم في جائزة البابطين (القاهرة) 1994.
  • شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات الوطنية والدولية.
  • صدرت له العديد من المؤلفات منها:

ـ محمد إقبال مفكرا إسلاميا، (إصدار دار الثقافة بالمغرب) سنة 1978.

ـ الصراع بين القيم والجديد في الأدب العربي الحديث. (مجلدان). دار الثقافة 1982.

ـ من المنظور الإسلامي. دار الثقافة 1990.

ـ جدل العقل والنقل في مناهج الفكر الإسلامي القديم. دار الثقافة 1991.

ـ جدل العقل والنقل في مناهج الفكر الإسلامي الحديث. دار الثقافة 2000.

ـ معجم التفاسير القرآنية بالاشتراك مع مؤلفين آخرين. الإيسسكو 1997.

ـ حقوق الإنسان في الإسلام، مقارنة مع القانون الدولي العام. إصدار الرابطة المحمدية للعلماء 2015.

ـ شخصية الحسن الثاني في مناقبها وأبعادها. دار الثقافة 2000.

ـ من تساؤلات عصرنا، دار الثقافة 2001.

ـ منظومة القيم المرجعية في الإسلام، إصدار الإيسيسكو 2004.

ـ مسارات مغربية في الحضارة والثقافة، دار الثقافة 2005.

ـ ثقافة الحوار في الإسلام، إصدار وزارة الأوقاف بالمغرب 2007.

ـ مطارحات منهجية حول الأدب والنقد، دار الثقافة بالمغرب 2009.

ـ رهانات الجامعة المغربية، إصدار كلية الآداب بتطوان 2011.

ـ موسوعة المصطلح في التراث العربي الديني والعلمي والأدبي. في ثلاثة مجلدات، إصدار دار الثقافة بالمغرب 2013.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق