وحدة الإحياءدراسات عامة

الحق في الانتماء.. تجربة المواطنة في سياقين حضاريين

لا ريب أن مصطلح المواطنة هو أحد أكثر المصطلحات شيوعا في الأدب السياسي والدستوري الحديث، وذلك بوصفه أحد أهم الحقوق المكتسبة من بعد مخاض طويل من صراع الشعوب ضد الحكم المطلق في المجتمعات الغربية، تلك المجتمعات التي دفعت ثمنا غاليا في سياق صراعها للتحرر من نير الاستبداد وانتزاع كافة حقوقها المسلوبة، وقد أفضى هذا الصراع إلى التسليم لتلك الشعوب بعدد من الحقوق كان منها حق المواطنة؛ الذي ليس فقط مجرد نشوء في وطن أو إقامة على أرضه، بل هو عبارة عن نوع من العلاقة بين الفرد ودولته محددةٍ في قانونها الأساسي، قوامها حقوق وواجبات متبادلة بينهما على نحو من التقابل والتوازن..

 فحق المواطنة، إذن، بما هو إفراز لوضع سياسي، ونتيجة لتصور معين لمعادلة الحكم أساسه التعاقد الاجتماعي والسياسي بين المحكومين من جهة والحاكم من جهة ثانية، هو مصطلح ذو حمولة ثقيلة من الالتزامات المتبادلة بين الحاكم والمحكوم وبين المحكومين فيما بينهم، بما يمكن معه القول: إنه ثمن الحياة الاجتماعية السعيدة التي أساسها العيش في المجتمع السياسي  بوصفه مثلا أعلى للحياة وحلما طالما داعب خيال أنصار فكرة العقد الاجتماعي، فقد تفنن أنصار هذه الفكرة من فلاسفة السياسة[1] الإنجليز، كـ”هوبز” و”جون لوك“، في تصوير حياة ما قبل التعاقد، وسلكوا في ذلك مسالك شتى.

 وخلاصة فكرة العقد الاجتماعي؛ أن الناس كانوا يعيشون حياة العزلة والبدائية فقرروا، لأسباب اختلف فلاسفة هذا العقد، في تحديدها، التعاقد على إنشاء سلطة يتنازلون لها عن حقوقهم مقابل حمايتها لهم، أولا يتنازلون لها عن شيء من ذلك، بل تحميهم من بعضهم البعض، وتتولى حماية حرياتهم وحقوقهم. وقد كان مرد هذا الاختلاف في تصوير العقد الاجتماعي المزعوم، اختلاف هؤلاء الفلاسفة في تصوير حياة ما قبل التعاقد، أو حياة الطبيعة كما سموها، فعلى حين افترض “هوبز Hobbes” أن حياة ما قبل التعاقد كانت حياة بؤس وشقاء وأنانية مفرطة، حيث القوي يأكل الضعيف… يزعم “جون لوك John Locke” أنها كانت حياة يسودها العدل والإنصاف، وكانت نموذجا للحياة السعيدة الرغيدة، حيث كل فرد يتمتع بحقوقه، محترما الاحترام الكامل لحقوق غيره، وحيث العدل والإنصاف قوام تلك الحياة.

تلك هي حياة ما قبل التعاقد كما صورها هؤلاء الفلاسفة، وواضح أن اختلافهم في تصويرها إنما يؤكد بوضوح أن فكرة حياة العزلة هذه لم تعش يوما في غير خيال أصحابها، ومن ثم فليس لها من سند علمي أو تاريخي. ويبدو أن القائلين بها لم يقولوا بها على أنها حقيقة تاريخية، بقدر ما تمسكوا بها على أنها من الافتراضات الجدلية التي تقرب آراءهم إلى الأذهان، والتي يستدلون بها على أن للإنسان حريات يجب على السلطة السياسية في الجماعة احترامها[2].

 إذ إن من الحقائق البيولوجية الأساسية أن الإنسان يولد ولا حيلة له في تفادي الارتباطات الاجتماعية البسيطة التي تصله بوالده ووالدته وسائر من حوله، فضلا عن كون المصالح البشرية متداخلة متشابكة بحيث لا يمكن تحقيق الرخاء لأي فرد إلا بعمليات لا حصر لها من الأخذ والعطاء، يمارسها مع غيره من الأفراد[3]. بما يعني أن حياة العزلة وفق تصويرها السابق أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع.

ومهما يكن الأمر والموقف من نظرية التعاقد تلك، وما يكون قد سبقها قبلُ من أنماط الحياة الاجتماعية والسياسية، فإن الثابت تاريخيا بما لا يقبل الجدال حوله أن شعوب الأرض قاست ويلات من العسف جراء سيادة أنماط من التحكم السياسي وألوان من السلطان الجائر الذي أمعن في العسف والامتهان لكرامات الشعوب في شتى ربوع المعمور، فكان لابد، انعكاسا لذلك كله، أن تستفز هذه الشعوب للدفاع عن كرامتها المهدورة بشتى الوسائل والسبل.

وقد تواصل كفاح الشعوب في هذا الصدد قرونا من الزمان تراوح خلالها بين نجاح تارة وفشل أخرى، غير أن الصراع في مجمله سيؤتي أكله حتما في لحظة من لحظات التاريخ، وسيقلب ميزان المعادلة رأسا على عقب بما سيؤسس لسيادة مفاهيم سياسية جديدة لم يكن لها وجود من قبل، من قبيل مفاهيم: السيادة الشعبية، والحكم الدستوري المقيد بديلا عن الحكم الاستبدادي المطلق، وحقوق الإنسان بما فيها حقوقه السياسية، والعدالة الاجتماعية، وغيرها من المفاهيم التي اعتبرت أهم مكاسب الصراع الطويل بين الشعوب من جهة وبين أنظمة الإقطاع والاستعباد من جهة أخرى.

والمتأمل في طبيعة هذه المكتسبات التي غدت مفاهيم جديدة في القاموس السياسي لمجتمعات ما بعد الثورة على الأوضاع الجائرة، يجد أنها تمثل مفردات للجملة التي سميت فيما بعد [مواطنة].

وأحسب أن المصطلح بصرف النظر عن مرجعيته، وعما قد يُبدى حوله من الملاحظات، من الجاذبية بما يجعل منه مصطلحا مغريا، وذلك بالنظر لما يقتضيه من العدل في توزيع الحقوق والواجبات بين الناس على أساس الانتماء الوطني للجميع، أو بعبارة أخرى: المساواة في مغانم الوطن ومغارمه. ومن ثم فلا غرو إذا رأيناه يأخذ كل هذا الاهتمام من الدارسين والمناضلين السياسيين لإقراره، ذلك أنه حق يجعل لحياة الفرد في المجتمع السياسي معنى من حيث إنه طرف في المعادلة السياسية أساسا، بل من حيث كونه هو مصدر الشرعية لأي سلطة سياسية حاكمة.

وقد لا يكون من المبالغة القول: إن المواطنة بما هي مشاركة في الوطن بكل تبعات هذه المشاركة من تقاسم للفاعلية في خدمته وللانتفاع بمنافعه.. هي خير ما اهتدى إليه الإنسان حتى الآن لجعلها أساسا للتعاقد السياسي بين الحاكم والمحكوم، ومصدرا لنشوء الحقوق والواجبات. ومن ثم فهي بهذا المعنى أهم أساس تنبثق عنه سائر الحقوق والالتزامات المترتبة لكلا الطرفين المتعاقدين في التعاقد السياسي بينهما.

ولا ريب أن المواطنة، بهذا المعنى، مبدأ اجتماعي وسياسي مطلوب توافره لأي فرد في المجتمع السياسي، بوصفه حقا من الحقوق المدنية والسياسية اللازمة، وذلك لما له من أهداف نبيلة تتجلى في إشراك الأفراد (المواطنين) في تدبير حياتهم الجماعية بما يعود عليهم بالنفع، وفي تحقيق إنسانية الإنسان وكرامته الآدمية، ويحارب، من ثم، افتيات الفرد الواحد حاكما كان أو غيره على التصرف في حق المجموع بشكل متفرد، وذلك بالنظر إلى أن استقامة الحياة الاجتماعية والسياسية لأي جماعة بشرية لا يمكن أن تتحقق ما لم تتضافر كافة جهود أفراد الجماعة من مواقعهم المختلفة وبخبراتهم المتنوعة في تسيير دفتها إما عبر التدبير المباشر، وإما عبر التوجيه لها بالرأي والخبرة العلمية والفقهية في مختلف شؤون الحياة.

تلك كانت القصةَ الحقيقية إذن لنشوء ظاهرة الموطنة بمفرداتها السياسية ومدلولاتها الاجتماعية والاقتصادية، وتلك حكاية مخاضها العسير، أما ما سيق ويساق عادة في هذا الصدد من تفسير فلسفي موغل في الفرضية فلم يكن في الواقع سوى محاولة لإضفاء بعد تفسيري على هذا الموضوع. وهي محاولة إن دلت على شيء فإنما تدل على طبيعة البيئة الثقافية التي اعتمل فيها مثل هذا التنظير، إنها بيئة فكرية فلسفية تعلي من شأن التفسير الفلسفي للظواهر الاجتماعية والسياسية أكثر من غيره من التفسيرات.

وقد لاحظنا أيضا من خلال استعراض وتحليل أهم الأسس الفكرية والفلسفية القديمة لفكرة المواطنة في التجربة السياسية الغربية أن مفهومها مرتبط في تصوره بخصوصية السياق التاريخي للمجتمعات السياسية الغربية إلى حد كبير، كما لاحظنا أنه تداخل فيها ما هو فكري وفلسفي وما هو تاريخي يعود إلى طبيعة السيرورة الاجتماعية وما يصاحبها عادة من تحولات وتقلبات فكرية واجتماعية وسياسية تعود بالأساس إلى مستوى الوعي البشري وطبيعة القيم السائدة اجتماعيا واقتصاديا، إضافة إلى وضعية المعادلة السياسية وطبيعة العلاقة القائمة بين طرفي الحكم.

ومن هنا فإنه لفهم قضية المواطنة فهما كافيا وتقديم تفسير علمي لظهورها كفكرة سياسية، ثم كحق من الحقوق الدستورية المسلم بها في كل المواثيق القانونية والسياسية، لابد من وضعها في سياقها التاريخي الذي ظهرت فيه، مع دراسة معمقة لحيثيات وملابسات الواقع الفكري والسياسي والاجتماعي الذي أدى إلى تبلورها، سواء تعلق الأمر بالتاريخ القديم المتمثل في التجربة الإغريقية القديمة في مدنها الفاضلة أم بما تلا ذلك من الحقب والعصور اللاحقة.

وبدهي أن تحقيق هذه الغاية على النحو المأمول يتطلب دراسة متأنية لتاريخ النظم السياسية من حين نشأتها؛ لمعرفة مدى ونوع التطور الذي مرت به إلى أن آل الأمر إلى ظهور هذه الفكرة السياسية الذائعة الصيت، دون أن نغفل ربط ذلك بالأفكار السياسية السائدة في تلك المجتمعات، لما للأفكار من تأثير على النظم الاجتماعية والسياسية، سواء في نشأتها أو تحولها.

إذا كانت تلك حكاية وأهمية هذا المبدأ الاجتماعي في الحياة بشكل عام، فإن السؤال يثور هنا عن موقع هذا المبدأ بمفهومه الشائع في الأدب السياسي للمجتمعات الغربية المعاصرة، في حياة المجتمع السياسي الإسلامي قديما وحديثا، وبعبارة أخرى: إلى أي مدى يصح القول بأن المجتمع الإسلامي قد عرف منذ اللحظات الأولى من تجربته السياسية في التاريخ الإسلامي المبكر هذا المبدأ في الحياة، ثم ما مدى انسجام هذا المبدأ مع مقررات التشريع الإسلامي بما هو المرجع المهيمن على حياة المجتمع الإسلامي، (أو الذي يفترض أن يكون كذلك على الأقل) في كل شُعب حياة هذا المجتمع؟ ذلك ما سيتكشف لنا من خلال السطور الآتية بمشيئة الله تعالى.

أولا: المواطنة في التجربة الإسلامية.. الدلالة، والأهمية

دلالة المصطلح: الواقع أن هذا المصطلح وإن لم يجر استعماله بلفظه في الأدب السياسي الإسلامي إلا أن مضمونه حاضر بقوة كما سنرى. وقبل بيان ذلك لابد من بيان حقيقة المصطلح من الناحية اللغوية لمعرفة مدى وجود أية علاقة بين معناه اللغوي ومعناه الاصطلاحي الشائع، فالمتأمل في الجذر اللغوي للكلمة يجد أنه يدور حول مكان الإقامة ومقرها[4]؛ فالوطن: مكان إقامة الإنسان ومقره الذي إليه انتماؤه، ولد به أم لم يولد. والموطن: المشهد من مشاهد الحرب، وبهذا المعنى جاء قوله تعالى: ﴿لقد نصركم الله في مواطن كثيرة﴾ (التوبة: 25).

فالمواطنة: مفاعلة من واطن الذي يقتضي المشاركة في الفعل، يقال: واطنه على الشيء: وافقه عليه. وواطن القوم: عاش معهم في وطن واحد. والمواطنة بهذا المعنى تعني مقاسمة الآخرين الوطن في استيطانه والانتفاع بمنافعه، وجميع ما تقتضيه الإقامة من مغانم ومغارم.

وليس بعيدا، والحالة هذه، أن يكون المعنى السياسي للمواطنة، بما تعنيه من التعايش والتساكن وفق نظام معين للعلاقات الاجتماعية أساسه الاشتراك في حقوق الوطن وواجباته، تطورا وامتدادا لدلالة اللفظ بوجه من الوجوه، على أساس تعميم مفهوم المشاركة الذي يقتضيه. ذلك أننا ونحن نتحدث عن المواطنة لابد أن نفترض أمرين اثنين:

أولهما؛ ضرورة الانتماء الوطني الذي يعني أن ينتسب المرء، بما لا يملك منه فكاكا، إلى وطن بعينه على نحو من التعلق الفطري بترابه والاعتزاز التلقائي ببنيه، مع ما ينشئه ذلك له من أولوية في الاستئثار بحقوقه، وما يرتبه عليه من واجبات الدفاع عن حوزته وحماية بيضته.

وثانيهما؛ وهو ناشئ عن الأول: أن تقاسم قوم بعينهم من الناس لوطن ما في حقبة ما من حقب الدهر يوجب عليهم ، كي يعيشوا في وئام وسلام، أن يتواضعوا في شكل من أشكال التعاقد على نظام اجتماعي بعينه يعيشون وَفقه، يستند على قواعد من العدل تكفل حقوق الجميع وتضمن للحياة الانسياب على وتيرة من الاستقرار والاطراد، وهو، للإشارة، أمر لم تخل منه جماعة بشرية منذ القدم؛ لكونه من الضرورات الحتمية للحياة الاجتماعية.

ومن هنا وقبل المضي في بيان مفهوم المواطنة في التجربة السياسية في تاريخنا الإسلامي المبكر لابد من بيان بعض الأسس الشرعية والفلسفية التي يمكن أن يرتكز عليها هذا المفهوم السياسي والاجتماعي للقول بشرعيته، وفي هذا الصدد لابد من الإشارة إلى حقيقتين اثنتين:

ـ الحقيقة الأولى؛ أن المواطنة بما هي قائمة على أساس الانتماء للوطن الذي يستوطنه الإنسان ويألفه منذ نعومة أظفاره شعور فطري ينشأ عليه الإنسان ولا يستطيع عنه محيدا، وهذا أمر من البداهة بما لا يقبل المكابرة، فإن الإنسان يعشق وطنه ويجد صعوبة بالغة في مفارقته إلى وطن غيره مهما كان عليه وطنه من سوء، ويظل حنينه إليه قائما ما بقي في نفسه نفَس يتردد. كما قال الشاعر:

كم منزل في الأرض يألفه الفتى          وحنينه أبد لأول منزل

وقد قال النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو يودع وطنه مكة: “إنك لأحب بلاد الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت..[5]” وروي أنه حين قدم أصيل الغفاري من مكة سألته عائشة في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تركت مكة، فذكر من أوصافها الحسنة ما غرغرت منه عينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال له: حسبك يا أصيل لا تحزنا ودع القلوب تقر[6]. ودعا: اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة وأشد، وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها[7]، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك دعاك لمكة، وأنا عبدك ونبيك أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه[8].”

وقد كان بلال، رضي الله عنه، يهتف حين وعُك مع أبي بكر في دار الهجرة بالحنين إلى وطنه مكة في أبيات تسيل رقة وتقطر حلاوة[9]:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة       بواد وحولي إذخر وجليل؟!

وهل أردن يوما مياه مَجَنة         وهل يبدوَنْ لي شامة وطفيل؟!

ولله در عمر، رضي الله عنه، إذ قال في هذا المعنى: لولا حب الوطن لخرب بلد السوء، فبحب الأوطان عمرت البلدان[10].

وبما أن وطن الإنسان بهذه المثابة من الحب الفطري له، فقد كانت حمايته وضمان التمتع به حقا مشروعا لكل الناس، ولا يحرم أحد منه إلا على سبيل العقاب له في جرائم بعينها، كما يقرر القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة[11].

 والإسلام بما هو دين متساوق في تشريعاته مع مقتضيات الفطرة لا يمكن أن يقف موقفا مناهضا لهذا المطلب الفطري، بل لابد أن يشيد به ويشرع له من المؤيدات ما يحميه ويعلي شأنه. ومن هنا نجد أن الإسلام؛ إذ يأذن لأتباعه في قتال أعدائهم يجعل إخراجهم من ديارهم سببا من أسباب ذلك، قال تعالى: ﴿أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق اِلا أن يقولوا ربنا الله.. ﴾ (الحج: 36-38).

وحين تطور الحال من الإذن في القتال إلى الأمر به اعتبر القرآن الإخراج من الديار سببا لقتال أولئك الذين أخرجوا المسلمين من ديارهم، قال تعالى: ﴿وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين. واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم، والفتنة أشد من القتل﴾ (البقرة: 189-190) ﴿ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم، فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مومنين﴾ (التوبة: 13).

 وقد ذكر الشيخ محمد عبده عند تفسير قوله تعالى: ﴿ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم..﴾ ما يلي: “تلك سنة الله تعالى في الأمم التي تجبن فلا تدفع العادين عليها.. فمعنى موت أولئك القوم: هو أن العدو نكل بهم فأفنى قوتهم، وأزال استقلال أمتهم حتى صارت لا تعد أمة.. ومعنى حياتهم: هو عودة الاستقلال إليهم.. إن الجبن عن مدافعة الأعداء، وتسليم الديار بالهزيمة والفرار، هو الموت المحفوف بالخزي والعار، وإن الحياة العزيزة الطيبة هي الحياة الملّية (الوطنية) المحفوظة من عدوان المعتدين..

 ويقرر أن القتال في سبيل الله أعم من القتال لأجل الدين؛ لأنه يشمل أيضا الدفاع عن الحوزة إذا هم الطامع المهاجم باغتصاب بلادنا والتمتع بخيرات أرضنا، أو أراد العدو الباغي إذلالنا والعدوان على استقلالنا، ولو لم يكن ذلك لأجل فتنتنا عن ديننا.. ولقد اتفق الفقهاء على أن العدو إذا دخل دار الإسلام يكون قتاله فرض عين على كل المسلمين…”.

الحقيقة الثانية؛ أن التشريع الإسلامي بما هو تشريع جامع بين المثالية والواقعية معا يهتم بالوطن باعتباره منشأ الدولة ومناطها الذي لا غنى عنه لقيامها واستمرارها في الواقع، تماما كما أن المكلف هو مناط التكليف؛ إذ لا تكليف بغير مكلف، فكما كانت عناية الإسلام بحماية النفس البشرية باعتبارها محور التدين ومناط التكليف، كانت عنايته الفائقة بحماية الأوطان وصيانة خيراتها من النهب والعدوان، باعتبار ذلك كله أساس قيام الدولة، وبل وأساس قيام الإسلام، فإن إقامته كدين لا تتأتى إلا في واقع ووطن ومكان وجغرافيا.. وهذا الواقع والوطن والمكان والجغرافيا لن يكون إسلاميا إلا إذا أصبح الانتماء الوطني فيه بعدا من أبعاد الانتماء الإسلامي العام.. فعبقرية المكان في المحيط الإسلامي، هي واحدة من تجليات الإسلام الذي لا تكتمل إقامته بغير الوطن والمكان والجغرافيا[12].

ومن هنا نجد أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان حريصا غاية الحرص على التماس أرضية أخرى لنشر دعوته وإقامة دولته التي تتكفل بحماية مكتسباتها بعده حين أيقن أن مكة ليست لذلك بأرض، وإذ لاحت له الفرصة من المدينة اهتبلها وسعى لذلك سعيه، مهيئا سبل النجاح لذلك من خلال جملة من الترتيبات والتعهدات كبيعتي العقبة الأولى والثانية، وإيفاد البعثات المسلمة المستطلعة للواقع الجديد والموطئة للمرحلة القادمة التي ستشهد انعتاق الدعوة من أسرها، وانطلاق الدولة الجديدة من عقالها لتحمل النور الجديد إلى كافة ربوع الدنيا في جو من العزة والمنعة يكفل لها ذلك.

ولذلك فما أن وطئت قدماه الشريفتان، صلى الله عليه وسلم،  ثرى المدينة حتى طفق يهيئ العدة لإعلان الواقع الجديد، مستغلا كل الإمكانات لجعل يثرب الوطن الأنسب لتحقيق الحلم الذي طال انتظاره..

ومن هنا يمكن القول: إنه إذا كان الفقه الدستوري إذ يُعَرف الدولة يعتبرها نتيجة تكامل ثلاثة عناصر: [شعب، ووطن، وسلطة]، فإن الدولة الإسلامية كانت، وفق هذا المعيار، الدولة الدستورية بلا منازع، إن لم نقل إنها الفريدة في هذا الباب، إذا أخذنا في الاعتبار أنها حققت ما يشبه المعجزة من صهر لذلك الخليط المتنافر من سكان المدينة في بوتقة واحدة بينها من التناغم والتلاحم ما يجعل منها قاعدة صلبة للانطلاق في بناء الدولة الجديدة بجميع ما يتطلبه ذلك من جهود وتضحيات في مجالات شتى وعلى كافة الأصعدة.

ثانيا: أهمية فكرة المواطنة

سبق القول بأن المواطنة بمعناها المعروف في الأدبيات السياسية والاجتماعية الحديثة، وبالنظر إلى ما تنشده من مقاصد وأهداف في الحياة الاجتماعية مبدأ بالغ الأهمية؛ بحيث لا يسع أحدا إنكاره في أي مجتمع سياسي مهما كانت مرجعيته في الحكم والسلوك. ذلك أنها من حيث كونها تنشأ نشوءًا طبيعياً عن حب الوطن والتعلق به الذي هو غريزة فطرية وشعور وجداني لدى كل إنسان، هي ظاهرة طبيعية لا يملك الإنسان عنها فكاكا، ومن حيث كونها قاعدة للتعاقد الاجتماعي والسياسي هي حاجة اجتماعية لا يملك الإنسان لها بديلا ولا يستطيع عنها محيدا.  فهي، إذن، من كلتا الزاويتين حاجة ملحة لا غنى عنها للإنسان فردا ومجتمعا، ومن ثم فهي أساس صالح لكثير من الحقوق التي على رأسها حق المساواة بين المواطنين لتساويهم في نسبتهم وعلاقتهم بالوطن محل الاشتراك بين الجميع.

والوطن باعتباره العنصر الأساس في تصور المواطنة، هو أهم مكون من مكونات الدولة في العصر الحاضر وفي كل عصر، فلا قيام للدولة بغير وطن تقوم عليه، وهذه مسألة بدهية، ولأن الأمر كذلك، فإن الدولة الإسلامية بما هي التمثيل السياسي للمجتمع الإسلامي ليست بدعا في هذا الأمر، بل يجري عليها في ذلك ما يجري على غيرها، ومن ثم فإن الحاجة إلى بحث موضوع المواطنة فيها بما له من خصوصيات حضارية يكون أمرا من الأهمية بمكان كبير. فإن الدولة الإسلامية إنما قامت يوم قامت على أساس تعاقدي كما هو معروف، وتلك حقيقة لا يسع منصفا إنكارها، ولم يتم هذا التعاقد كما هو معروف إلا بعد أن تهيأت للمسلمين فرصة وجود وطن يؤويها. وقد كانت الحقوق والواجبات موزعة بين مواطني الدولة الجديدة على قدم المساواة، ومعلوم أن مواطني الدولة الإسلامية يومئذ مختلفون في عقائدهم ومللهم، وما ذلك إلا لأن اشتراكهم في الوطن أنشأ لهم حقوقا متساوية.

وبما أن هذا كان حال التجربة السياسية الأولى للمسلمين، فإن ذلك يدل على أن هؤلاء قد أنشأوا تجربة للمواطنة فريدة في التاريخ الإنساني كله، وأن هذا المبدأ السياسي الذي يحلو للبعض أن ينسبه لغيرنا، كما يتوجس البعض من مثقفينا خيفة أن ينسب إلى التجربة السياسية الإسلامية، ليس منها ببعيد. وذلك لسبب بسيط هو أنه، فضلا عن كونه ناشئا عن مبدأ آخر فطري، ضرورة اجتماعية لا محيد عنها لأي مجتمع سياسي.

إن الفكر السياسي الحديث إذا كان قد بهر الدنيا وشغل الناس بما سماه نظرية العقد الاجتماعي أساسا لتفسير نشوء ظاهرة السلطة السياسية في المجتمعات البشرية، فإن المسلمين بقيادة نبيهم العظيم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم قد سبقوا الدنيا إلى هذا التعاقد، بيد أن تعاقدهم كان تعاقدا حقيقيا قامت على أساسه الدولة المسلمة وليس مجرد تنظير فلسفي أوغل ما يكون في الخيال، وتلك حقيقة اعترف بها كبار المستشرقين، بل اعتبر الكثير منهم أن ما قام به النبي الكريم في هذا الصدد كان أقرب إلى المعجزة.

فما الذي قام به النبي، صلى الله عليه وسلم، في هذا الصدد مما استرعى إعجاب خصومه قبل أتباعه؟! إنه ما يسمى في الدراسات التاريخية بالصحيفة أو وثيقة المدينة، أو ما سماه عدد من الباحثين المحدثين بدستور المدينة[13]، باعتبارها وثيقة دستورية متكاملة المضامين والأبعاد.

 هذه الوثيقة التي أبرمها النبي، صلى الله عليه وسلم، بعيد وصوله إلى المدينة بينه وبين سكان المدينة بمختلف مشاربهم وشتى اتجاهاتهم ليرسي من خلالها أسس العلاقة بين أعضاء المجتمع المدني الجديد كانت بحق عملا رائدا بكل المقاييس، ودرسا في سياسة الأمور، وذلك بالنظر إلى مدى ما كان بالمجتمع الجديد من حاجة إلى مثل هذا الإعلان الحقوقي المتكامل للإجابة عن جملة من الأسئلة وتبديد عدد من المخاوف، التي قد تراود بعض فئات المجتمع الجديد من مستقبل العلاقة بينهم وبين شركائهم في الوطن في كل أبعادها، وذلك كي يطمئن الجميع على مستقبله.

 ومكمن البراعة في هذه السياسة النبوية أنه استشعر، صلى الله عليه وسلم، حاجة الوضع الجديد والمجتمع الوليد، باعتباره نواة مجتمع سياسي واعد، وبالنظر إلى الماضي الصعب لعلاقات أفراده إلى مثل هذا الميثاق الذي يضع أسسا جديدة للعلاقة، قوامها العدل في الحقوق والواجبات، والسماحة في التعايش لتعزيز الوحدة والتضامن، والشعور بالمصير المشترك، خاصة وأن المجتمع السياسي الجديد تنتظره، لا محالة، مهام دعوية وسياسية جسام تتطلب بناء الصف الداخلي على نحو قوي.

 وقد راع أطرافَ الوثيقة ما تضمنه الميثاق الجديد من أسس قويمة تقضي على الفرقة بينهم وتؤمنهم على أموالهم، وأعراضهم وممتلكاتهم، وتقر ما كان سائدا بينهم من أعراف صالحة في إغاثة الملهوف وإعالة المحتاج، وتضيف إليه، وتنزع من نفوسهم الحقد والغل والحسد، وتجمعهم على قلب رجل واحد في مواجهة عدوهم، وبالجملة: تضع أسس التعايش السلمي القويم بين فئات ذاقت الكثير من الحروب وفقدانِ النظام والأمن[14]. فكان هذا الميثاق بمثابة بلسم يأسو جراح الماضي الجاهلي.

وقبل إلقاء الضوء على مضامين الوثيقة النبوية الرائدة نشير بداية إلى أن أقدم من أورد هذه الوثيقة هو ابن إسحاق، غير أنه لم يسندها، ثم رواها عنه ابن هشام وغيره من كتاب السيرة النبوية، وجمهور المؤرخين[15]. وأوردها مسندة من طريق ابن شهاب الزهري أبو عبيد القاسم ابن سلام في كتابه الأموال[16].

وقد ذكر الدكتور أكرم ضياء العمري[17] أن نصوصا من الوثيقة وردت في كتب السنة بأسانيد متصلة، وبعضها أورده البخاري ومسلم.. كما أن بعضها ورد في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه والترمذي.. غير أن بعض الدارسين للوثيقة يذهبون إلى أن الوثيقة ليست حديثا حتى يتطلب فيها درجة الصحة في الثبوت، ويرجحون أنها وجدت مكتوبة، خاصة وأنها، كما يؤكد الدكتور ضياء العمري، وردت من طرق عديدة تتضافر في إكسابها القوة، كما أن الزهري الذي أورد أبو عبيد الوثيقة من طريقه علم كبير من الرواد الأوائل في كتابة السيرة النبوية..

 يضاف إلى ذلك أن أسلوب الوثيقة ينم عن أصالتها، فنصوصها مكونة من جمل قصيرة بسيطة وغير معقدة التركيب، ويكثر فيها التكرار، وتستعمل كلمات وتعابير كانت مألوفة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم.. ويضيف المؤرخ والباحث القدير الدكتور أكرم ضياء العمري أنه ليس في الوثيقة نصوص تمدح أو تقدح فردا أو جماعة، أو تخص أحدا بالإطراء أو الذم، لذلك يمكن القول بأنها وثيقة أصلية وغير مزورة، ثم إن التشابه الكبير بين أسلوب الوثيقة وأساليب كتب النبي، صلى الله عليه وسلم، يعطيها توثيقا آخر[18]. ثم إنه علاوة على أنه ليس في نصها ما يشتم منه رائحة ضعفها أو عدم صحتها كما يقول الأستاذ علال الفاسي، رحمه الله، فإن محتويات الوثيقة تتفق تماما مع مقتضيات الشريعة الإسلامية، وفيها عبارات تأكدت فعلا باللفظ أو بالمعنى في القرآن الكريم[19].

ثالثا: دعائم المواطنة كما ترسيها وثيقة المدينة

لقد جرى العرف في الفقه القانوني على أن يطلق اسم الوثيقة على أي ورقة رسمية تصدر من إحدى الجهات الرسمية في الدولة أيا كانت هذه الجهة، ويشترط في الوثيقة كي تسمى كذلك ثلاثة شروط: الكتابة، وهذا شرط أساس. والحفظ، بحيث يجب أن تكون محفوظة في أرشيف ونحوه. ثم تضمن الوثيقة لعمل قانوني. وعلى هذا فالوثيقة بهذه الشروط: “كتابة رسمية محفوظة تتضمن تصرفا قانونيا موثقا”.

ولا ريب أن وثيقة المدينة بهذا الاعتبار هي وثيقة قانونية دستورية بكل معاني الكلمة. وقد سبق القول: بأن المستشرقين تناولوها بالدراسة واهتموا بها اهتماما بالغا، حتى وصفها بعضهم بأنها “هدية السماء”، وأطلق عليها الآخر صفة “دستور المدينة” أو “قانون حياة المجتمع في المدينة” أو “ميثاق العمل الإسلامي”[20]. وواضح أن مرد إعجاب المستشرقين بها إنما هو ما اتسمت به في عمقها من إحكام وشمول في مجال التنظيم الدستوري لمجتمع المدينة الجديد، وما اتصفت به في صيغتها من صبغة تعاقدية مثيرة للإعجاب، بما جعل منها تعاقدا اجتماعيا وسياسيا سابقا لزمانه حقا.

وليس هذا إطراء للوثيقة، إنما هي حقيقة ينطق بها مضمونها، فقد تناولت جملة ما تتناوله بالتنظيم الوثائق الدستورية الحديثة من تنظيم للعلاقات، والاختصاصات، والحقوق والواجبات، مما لم يكن ليخطر ببال أحد من البشر يومئذ فضلا عن الحلم بتحقيقه.

لقد استهلت الوثيقة بالإعلان عن ميلاد كيان جديد في المدينة لم يألفه الناس من قبل، هو كيان (الأمة) بمفهوم جديد قائم على أساس الولاء للدين الجديد باعتباره الإطار الجامع، والسياج الواقي من عيوب الولاءات السابقة ومآسيها التي طالما حولت حياتهم إلى جحيم لا يطاق.

 وبما أن أطراف الوثيقة ليسوا جميعا مؤمنين بالعقيدة الجديدة، فإن الوثيقة اكتفت منهم بأن يكون ولاؤهم متخذا شكل النصرة والاحترام له ولسلطته الجديدة، باعتبار ذلك الضامن لحقوق كل الأطراف بما فيها حق هؤلاء في احترام خصوصياتهم واختيار الدين الذي يشاءون للتدين به.

 وبذلك يكون أساس هذه الأمة الجديدة العقيدةَ من جهة، والتحالفَ والتضامن لحماية الأمة من جهة أخرى، ومما زاد هذه الأمة قوة: أن قيامها كان على أساس اتفاقي تعاقدي وليس على أسس تحكمية، وقد أبقت الوثيقة الباب مفتوحا لانضمام من يشاء إليها إيمانا أو تحالفا مع المؤمنين. حتى يتحقق الغرض المنشود على أتم وجه وأحسنه.

تلك هي (الأمة) بمفهومها الجديد الذي أبدعته الوثيقة النبوية في المدينة، ولا ريب أن التركيز على هذا الأمر في ديباجة الوثيقة أمر ذو دلالة سياسية كبيرة في بابه.

إن الدارسين للفقه الدستوري والنظم السياسية يدركون أهمية هذا الصنيع النبوي المتمثل في عنايته بالجانب النوعي في الأمة، ذلك أنه إذا كان يكفي لوجود الدولة أن توجد جماعة من الناس أيا كان عددها، فإن الدول تعطي أهمية كبيرة لضرورة وجود قدر من الانسجام والتجانس في هذه الجماعة؛ أي أن تكون (أمة)، ومعلوم أن الأمة تعني اصطلاحا: “الجماعة المرتبطة بروابط مشتركة من وحدة الجنس والدين واللغة والعادات..[21].”

 بيد أن النبي، صلى الله عليه وسلم، اختار التركيز من بين تلك الروابط على الرابط الأجدى والأكثر فاعلية، وهو الدين. بوصفه أساسا مكينا للألفة، ودافعا قويا للإيثار بدل الأثرة، وضامنا للانسجام والتعايش بين أفراد الأمة على أساس من التضحية المتبادلة.

على أنه لا ينبغي في هذا السياق أن نغفل جانبا آخر مهما يسترعي الانتباه، ويثير الإعجاب، هو مدى المرونة السياسية المتحلية بها الوثيقة، يتجلى ذلك في جل بنود الوثيقة المنظمة للعلاقات مع المواطنين غير المسلمين وحقوقهم، بل ويتجلى، قبل ذلك، في إدراج هؤلاء في تكوين الأمة بحيث نصت الوثيقة على ذلك صراحة بأن هؤلاء أمة مع المؤمنين، لهم النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم. (الفقرة 16). وتلك مرونة ما بعدها مرونة.

 وبذلك تكون البنود الأولى من الوثيقة قد حددت أساس المواطنة في دولة المدينة في أساس مهم هو الارتباط التعاقدي بالأمة الجديدة، إلى جانب تقاسمهم جميعا الوطن الجديد (المدينة)، فإن الإقامة المرتبطة به عند نشأة الدولة هو الذي أعطى هؤلاء اليهود والمشركين حق المواطنة، وضمن لهم التمتع بالحقوق التي كفلتها الوثيقة لهم[22].

وقد أصبح المجتمع المدني بعد إبرام الدستور الجديد مقسما إلى قسمين اثنين: فهناك من جهة، المؤمنون من مهاجرين وأنصار، وهناك المشركون واليهود. وثمت القبائل العربية من مسلمين ومشركين، واليهود الملحقون بهم. فمن جهة الاحتفاظ بالنظام الخاص والتقاليد بقي كل على ربعته. ومن جهة الدين، تمايز المؤمنون عن غيرهم. ولكن الجميع يتحد في تضامن تام لبناء صرح الأمة والدفاع عن حوزتها تحت رعاية النبي، صلى الله عليه وسلم، وحكمه[23].

ولا ريب أن الوثيقة إذ اعتنت بالعنصر البشري أو الاجتماعي في الدولة لم تغفل العناية بالعنصرين الآخرين وهما: الإقليم، والسلطة الحاكمة، بل حسمت فيهما على نحو جلي، وذلك بالنص في المادة (23) على أن ما اختلف فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد. كما نصت المادة (42) على مرجعيته، صلى الله عليه وسلم، في القضاء وفض النزاعات بين الناس. ونصت الوثيقة أيضا في المادة (40) على أن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة. إلى جانب المواد الأخرى التي توجب الدفاع عن المدينة إذا تعرضت لهجوم من الأعداء.

وإذ أعلنت الصحيفة عن العناصر المكونة للمجتمع السياسي الجديد مضت تبرز أهم معالمه الجديدة، إن على المستوى السياسي والدستوري أو على المستوى الاجتماعي والاقتصادي أو على غير ذلك من المستويات الاجتماعية الأخرى.

فقررت أولا: مبدأي العدل والمساواة أساسا للحكم ولسائر العلاقات الاجتماعية بين المواطنين. وقد أشارت إلى هذين المبدأين الهامين في الحياة المواد: (15، 17، 19، 45) وفي هذا الصدد أشارت المواد (13، 15، 16، 36 ب، 47، 50) إلى مبدأ هام من مبادئ الشريعة الإسلامية، وهو مبدأ عدم إقرار الظلم، والاحتشاد لنصرة المظلوم أيا كان شخصه. إضافة إلى تأكيدها في غير ما فقرة على ضرورة نشر البر بين الناس واعتماده أساسا للتعايش.

كما قررت حقوق الناس وحرياتهم، دونما تمييز بين المواطنين في ذلك، فقد أعلنت الصحيفة أن الحرية مصونة، كحرية العقيدة والعبادة وحق الحركة والأمن..الخ، فحرية الدين مكفولة: “للمسلمين دينهم ولليهود دينهم” المادة (28). وحق التنقل والأمن كذلك مكفول “وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم” المادة (65). بيد أن الصحيفة إذ تقرر حقوق الناس وحرياتهم لم تغفل النص في مقابل ذلك على جملة من الواجبات المشتركة التي هي ثمن المواطنة وشرط التمتع بحقوقها وسائر منافعها. وذلك ما نصت عليه المواد: (46، 47، 48، 57). ومن تكاليف المواطنة التي نصت عليها الوثيقة صراحة: مبدأ وجوب الدفاع المشترك ضد أي خطر يدهم المدينة، الذي تقرره المادة (57).

وفي هذا الصدد أبقت الصحيفة على جملة من الأعراف القديمة للمجتمعات المتعاقدة، التي لا تخلو من خير، محترمة خصوصيتهم في التعامل بها قبل الإسلام، وذلك بالنص في المادة (3 وما بعدها) على أن المذكورين في الصحيفة على ربعتهم يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

ثم قررت الوثيقة المدنية أيضا مبدأ هاما في الحياة هو مبدأ التكافل الاجتماعي الملزم بكل صوره، سواء تعلق الأمر بالتكافل الاقتصادي والمالي أو بالتكافل الاجتماعي العام لصيانة المجتمع من كل مظاهر الانحراف السلوكي في المجتمع، أو ما يعبر عنه اليوم بمبدأ الدفاع الاجتماعي ضد الجريمة. وهذا ما نصت عليه المواد: (9، 11، 12، 24، 25، 26).

ولا ريب أن مبدأ التكافل الاجتماعي في النظام الاجتماعي الإسلامي بشتى صوره ومظاهره مبدأ من الأهمية بمكان، إذ هو الضامن للمجتمع من التفكك والانهيار اقتصاديا وخلقيا. وما واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا انعكاس لهذا المبدأ الخطير. ومن هنا تأتي أهمية النص عليه في الوثيقة.

وفيما يخص السياسة الجنائية قررت الوثيقة مبادئ جديدة تعكس مدى العدل والتكافل والمساواة في المجتمع الجديد، وهو وجوب القصاص في القتلى، وأن العقوبة تلحق من ارتكب الجرم وحده دون غيره. لقوله تعالى: ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾ وهو المبدأ المعروف في الفقه الجنائي المعاصر بمبدأ “شخصية العقوبة” أو “فردية العقوبة”. ثم تجريم التستر على الجرائم، ومنع إيواء المجرمين (المادة 25، 26)

حيث نصت المادة 25 على أنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه.

ونصت المادة 26 على أن من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. وليس الالتزام بهذه المعاني إلا وجها من وجوه التكافل الملزم.

وفي مجال السياسة الخارجية نصت الوثيقة على منع الافتيات بالتصرف الفردي في حق المجموع، وخاصة حين يتعلق الأمر بالمصالح الحيوية للأمة، كقرارات السلم والحرب ونحوها، فإن ذلك من اختصاص القيادة الجديدة متمثلة في الرسول صلى الله عليه وسلم. وذلك ما نصت عليه المادة (18، و22).

فقد نصت المادة 18 على أن سلم المومنين واحدة لا يسالم مومن دون مومن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.

ونصت المادة 22 على أنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن.

ثم إنه ونظرا للظروف السياسية الاستثنائية التي يمر بها المجتمع الجديد، فقد نصت الوثيقة على تقييد حرية التنقل ومغادرة المدينة، استثناءً، بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك حذرا من نشاط حركة التجسس لفائدة خصوم الدولة الفتية، وهي في بداياتها التنظيمية. وذلك ما نصت عليه المادة (41).

وأخيرا نصت الوثيقة على وجوب سيادة القانون في المجتمع الجديد، وأن مضامين الوثيقة ليس من شأنها أن تعصم أحدا من العقاب إذا استوجبه، فالأصل هو خضوع الجميع للقانون. وهذا ما نصت عليه المادة (47) حيث ذكرت أنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم.. ثم تضيف في الفقرة الخاتمة: وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو تذكير توكيدي للجميع بالمرجعية الدينية والسياسية للنبي القائد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.

تلك، إذن، هي أبرز المعالم التنظيمية والدستورية لإعلان المدينة، وهي معالم تكشف بجلاء مدى التكامل الذي اتسمت به في تنظيمها لشؤون المجتمع الإسلامي الأول، ومن ثم فهي صالحة لأن تكون أساسا يستهدى به في التنظيم السياسي وفن إقامة الدول، باعتبارها سابقة عز نظيرها في مجال الفكر التنظيمي والسياسي الكافل لسائر حقوق الانتماء والمواطنة.

إن التأمل في معالم هذه الوثيقة يبين أن مثل هذه التنظيمات لازم من لوازم الحياة الاجتماعية، وأنها خير ضمان لشيوع السلم والوفاق الاجتماعيين، ولاسيما إذا كانت قد تأسست على أسس تعاقدية اتفاقية تعكس الرضا العام. فهي أدعى إلى تحقيق ذلك. كما يبين أن النموذج الأمثل للمواطنة القائم على قواعد من العدل والمساواة في الحقوق والواجبات، وعلى أساس من البر والتكافل منهج في السياسة  ينبغي أن يكون أساس كل تنظيم اجتماعي وسياسي، باعتبار ذلك ضرورة من ضرورات تحقيق السلم والازدهار العمراني بوصفهما مقصدا من المقاصد  الشرعية في الاجتماع والسياسة.

ذلك أن التنسيق بين حقوق الناس وحرياتهم على نحو يحول دون تعارضها أمر لابد منه لاستقامة الحياة الاجتماعية، وإلا لما احتاجت المجتمعات البشرية لتنظيمات تشريعية لإحكام الضبط الاجتماعي ومنع حدوث الفوضى وفساد الحياة، ولما نشأت عبر التاريخ مواثيق وإعلانات حقوقية لتحقيق أهداف اجتماعية نبيلة.

 ومن هنا يمكن القول: إن كل وثيقة تبرم لتحقيق شيء من هذا لن تكون إلا عملا محمودا. فكيف إذا كانت تلك الوثيقة قد استمدت أحكامها من الدين الإسلامي الذي وسع بحلمه وسماحته أتباعه ومعتنقيه كما وسع أعداءه ومعارضيه، فهو في الواقع خير ضمانة ضد التحيف والانحياز.

وهكذا نخلص إلى أن المواطنة إلى جانب كونها حقا فطريا ينشأ مع الإنسان ويكفل انتماءه للجماعة الوطنية، هي حق من الحقوق التعاقدية أو على حد تعبير الفقهاء: هي من الحقوق الجعلية، وأن جماعها أخذ وعطاء، بل هي أخذ قبل أن تكون عطاء، فإن أقرب سبيل لنيل الحق في الإسلام هو أداء الواجب، ومن ثم فإن التضحية، والتكافل، والمسؤولية والاستقامة، مفردات أساسية في نظام المواطنة، ولاسيما إذا كان هذا النظام قد تشبع بقيم الإسلام الذي يقدس الواجب والتكافل، ويمجد الإيثار، ويمقت الأثرة، فإن ذلك من شأنه أن ينشئ نموذجا فريدا للمواطنة، وذلك ما حصل في المدينة.

الهوامش


[1]. يصف أرسطو (علم السياسة) الذي عرفه بأنه: (العلم الذي يضفي على الإنسان الخير) بأنه علم السيادة والسعادة. ويؤكد أن علم السياسة بما هو علم يهتم بنظام المدينة (الدولة) بأجمعها يعتبر شرطا أساسيا لتحقيق السعادة الإنسانية. ويرى أرسطو أنه بما أن الإنسان حيوان سياسي، على حد تعبيره، فإنه من ثم لا يعيش إلا في مجتمع سياسي بحكم طبيعته، حيث يسعى لتحقيق ذاته في المجتمع السياسي أو الدولة التي هدفها الأساس تحقيق سعادة المواطنين. وبهذا المعنى يكون علم السياسة بما هو علم دراسة الدول.. علم السعادة، وأما عن كونه علم السيادة فهو أوضح من أن يحتاج إلى تفسير، لعلم الجميع بأن السيادة هي أهم مكون من مكونات الدولة. (السياسة لأرسطو، ص95 نقلا عن: حورية توفيق مجاهد: الفكر السياسي من أفلاطون إلى محمد عبده، ص79، 80).

[2]. نعيم عطية، في النظرية العامة للحريات الفردية، ص135.

[3]. عبد الفتاح حسنين العدوى، الديمقراطية وفكرة الدولة، ص101.

[4]. الزمخشري،أساس البلاغة. ابن منظور، اللسان. ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر. مادة: (و ط ن).

[5]. ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 18/378.

[6]. الإصابة في تمييز الصحابة 1/92.

[7]. الموطأ، باب ما جاء في وباء المدينة، 2/890.

[8]. الموطأ، باب الدعاء للمدينة وأهلها، 2/885.

[9]. الموطأ، باب ما جاء في وباء المدينة، 2/890.

[10]. إبراهيم البيهقي، المحاسن والمساوئ، 1/138.

[11]. في شأ، جزاء المحاربين وتغريب الزناة.

[12]. محمد عمارة، الإسلام والوطنية، ص7.

[13]. محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، ص39-47.

[14]. جعفر عبد السلام المرجع السابق ص286.

[15]. راجع في معرفة هؤلاء مجموعة الوثائق السياسية، ص57 وما بعدها.

[16]. الأموال، ص212.

[17]. في كتابه السيرة النبوية الصحيحة، 1/274 وما بعدها.

[18]. أكرم ضياء العمري، المجتمع المدني وعهد النبوة.. خصائصه وتنظيماته الأولى، ص108 نقلا عن التحالف السياسي لمنير الغضبان، ص105.

[19]. علال الفاسي، مدخل في النظرية العمة لدراسة الفقه الإسلامي، ص72.

[20]. جعفر عبد السلام: القانون الدولي لحقوق الإنسان ص297.

[21]. المرجع نفسه، الإنسان، ص304.

[22]. محمد سليم العوا، في النظام السياسي للدولة الإسلامية، ص56.

[23]. علال الفاسي، مدخل في النظرية العامة لدراسة الفقه الإسلامي، ص74.

Science

د. عبد العزيز القاسح

باحث في فقه السياسة الشرعية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق