مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

“الحسد” آفة من آفات القلوب المهلكة… أسبابه وبواعثه وطرق التخلص منه

        يتخبط العالم في عصرنا الراهن عصر التطور التكنولوجيا والثورة المعلوماتية عصر السعادة الفانية في مطبات الوهم المزيف، وأخد هذا الوهم يسري في القلوب العليلة بفعل التوجه الكبير لملذات الدنيا ونعيمها الزائف، والانجراف وراء الماديات وتوجهاتها اللامتناهية، التي تستدرج الإنسان يوما بعد يوم الى عالم غارق في اللا معنى، وبالتالي أصبح الإنسان عرضة للاستيلاب المدمر للقيم فصارت تسحقه المتناقضات تلو المتناقضات. يفقد الانسجام مع ذاته تارة ومع غيره تارة أخرى، وتولد عن ذلك اندثار حس المسؤولية التي هي جوهر التفكير وروح العقيدة الإسلامية وقطبها الحقيقي.

    وقد تشكل هذا المد الجارف بفعل تفشي آفات القلوب وعللها الظلمانية التي تحجُب القلوب عن النور الحقيقي للإيمان، وتبعد عنه قيم المحبة والجمال، والتسامح.. الشيء الذي جعل هذه الآفات القلبية تعصف بمستقبل الحضارات الإنسانية التي أصبحت تفقد الثقة في بعضها البعض يوما بعد يوم. ومن تم أصبح لزاما أن نلتمس الطرق والوسائل والمناهج الفعالة التي تُفعل عملية صلاح القلوب وطهارتها آخذين بآيات الله من خلال كتابه الحكيم، وسنة نبيه المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث رحمة للعالمين حينما قال: “إن في الجسد مُضغةٌ إذا صلُحت صلُح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب”[1].

       وقد تبلورت هذه التصرفات الظلمانية وأنتجت صراعات وتجاذبات بين الأفراد بعظهم البعض، وبين الشعوب والحضارات بفعل الأمراض الباطنية التي سيطرة على القلوب وزرعت فيها الكراهية والعنف، والحسد والحقد والكبر والضغينة والكره والرياء وحب الرئاسة… مما لا يمكن حصرُه وولدت أنماطا سلوكية منحرفة؛ فإذا سَلِم القلب سلِمت الجوارح لأن القلب هو مصدر الإيمان، ومنبعه الصافي؛ فإذا صلح القلب صلح الجسد كله، وصلحت المعاملات، وإذا فسد القلب فسد الجسد كله، وفسدت المعاملات، والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المضمار؛ أي دور للتربية الصوفية في صناعة الإنسان المثالي القدوة الحسنة؟ وأي دور للتجربة الصوفية في طهارة القلوب من هذه الآفات المهلكة؟

      لقد أسست الشريعة الإسلامية منهجا ربانيا يعتمد على التربية، والتزكية، والمواكبة، والتتبع، والتقويم، والتقدير الذاتي، والتفكير الإبداعي، والتفكير الناقد بسلوك المنهج التزكوي الذي يهتم بطهارة القلوب، وهو منهج أسسه القرآن الكريم، وعمل به الرسول صلى الله عليه وسلم، وطبقه على الصحابة والتابعين، وأعطى نتائج ملحوظة في صفوفهم؛ والمتصفح لكتب السيرة النبوية يجد بالفعل كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في  السمو الأخلاقي، والقدوة الصالحة للصحابة والتابعين، وخير دليل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان دائما حريصا على صفاء القلوب وطهارتها، وكان يدعوا بهذا الدعاء: “اللهم إني أسألك…قلبًا سليمًا، وأسألك لسانًا صادقًا“[2].

     فمن خلال مناهج وأسس ومقاصد التربية النبوية نجد أن الصحابة رضوان الله عليهم يتسابقون لتشرب القيم الأخلاقية في حلقات العلم ومجالس الذكر التي كانت تجمعهم مع نبي الرحمة الذي زرع في قلوب الصحابة معنى السعادة الباطنية الحقيقية، والتي جعلتهم يتسارعون ويتنافسون من أجل فعل الخير، وتطبيق هذه القيم في معاملتهم الاجتماعية، وبالتالي أصبح المجتمع الإسلامي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجتمعا يفور نورانية بالقيم الأخلاقية المقتبسة من مشكاة النبوة. قيم المحبة والتعاطف والتراحم والتعايش السلمي بين مختلف الأديان.

     فمن الأهمية بمكان الاقتداء بالمنهج النبوي المتمثل في التربية والتزكية الباطنية، وهو منهج تطبعه قيم الجمال والسعادة القلبية التي يستشعر الإنسان حلاوتها بعد التجربة والممارسة من خلال سلوك منهج التربية والسلوك المتمثل في التصوف السني الذي يهتم بطهارة الظاهر والباطن، ويجمع بين الشريعة والحقيقة، والذي يستلزم أخذه عن أهله ذوي الاختصاص المهتمين بطهارة القلوب من الأمراض البطينة.

    والمقال الذي بين أيدينا ما هو إلا محاولة لتسليط الضوء على جملة من آفات القلوب المهلكة من خلال ذكر حقيقتها وأسبابها، وأعراضها، وبواعثها، وطرق معالجتها، والتحرر منها، ولهذا كانت بداية هذه المقالة الحديث عن العلة الأولى من علل القلوب ألا وهي “الحسد”.

الحسد مفهومه وحقيقته

      يعتبر الحسد من بين الآفات المهلكة التي تحدت عنها القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وفصل في مفهومه وحقيقته السلف الصالح من العلماء، وعده علماء التربية الباطنية أصحاب التجربة والذوق العرفاني من بين الآفات المهلكة التي تسكن في القلب فتبعد عنه نور الإيمان وروح اليقظة الباطنية، وقد وصفه الإمام أبو حامد الغزالي: “على أنه من الأمراض العظيمة للقلوب”[3]. ذلك أن الحسود كثيرا ما يحسد أخاه المسلم على ما أنعم الله به عليه من خيرات مثمرة كالمال، وكثرة الجاه.. حيث أنه يحقد عليه، ويغضب قلبه على ما أتاه الله له من ذلك الفضل العميم، ويُحب زوال هذه النعم عنه ويتمنى ذلك بكل شغف وتلهف.

      فالقرآن الكريم دم آفة الحسد في مجموعة من الآيات القرآنية، ومنها قوله جلت قدرته: “أم يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله” [النساء، 45]، وقوله تعالى “ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد” [الفلق، 5]. كما أن السنة النبوية الشريفة صريحة في ذم آفة الحسد ومنها الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا“[4]. وقوله صلى الله عليه وسلم: “الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.. “[5] وقوله صلى الله عليه وسلم: “إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب“[6].

     كما ورد في بعض الأخبار: “أن الحسد حرام وآفاته كراهة نعمة الله تعالى وقضائه وراحة المسلم، وفعل المعاصي كالتملق والغيبة والشماتة فورد “ومن شر حاسد إذا حسد”[7] وقال وهب بن منبه: “قرأت في التوراة أن أم المعاصي ثلاثة: الكبر، والحرص، والحسد؛ وإنما هو نتيجة خمسة أشياء: كثرة الأكل، وكثرة النوم، وراحة الجسم، وحب الدنيا، ومدح الناس”[8]. ويقول الإمام أبو حامد الغزالي: “أن من أسباب الحسد هو فساد الطاعات، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: “الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب”[9] أما الإمام عماد الدين الأموي فيذكر: “أن الحسد من نتائج الحقد الذي هو من نتائج الغضب فهو فرع الغضب والغضب أصله”[10].

أسباب الحسد وبواعثه

     ذكر الإمام أحمد بن محمد المقدسي بأن الحسد له أسباب أحدها العداوة والبغضاء..[11] ويفصل الإمام أبو حامد الغزالي في ذكر هذه الأسباب مبينا خفايا النفس وعللها المهلكة بقوله: “إن العداوة والبغضاء هما أشد أسباب الحسد، وأن من آداه شخص يسبب من الأسباب أو خالفه في غرض بوجه من الوجوه أبغضه قلبه وغضب عليه، وقد رسخ في نفسه الحقد والحقد يقتضي التشفي والانتقام فإن عجز المبغض عن أن يتشفى بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمن وربما يحيل ذلك على كرامة نفسه عند الله تعالى فمهما أصابت عدوه يليه فرح بها وظنها مكافأة له من جهة الله على بغضه، وأنها لأجله ومهما أصابته نعمة ساءه ذلك لأنه ضد مراده.. وأن الحسد يلزم البغض والعداوة ولا يفارقهما، وإنما غاية التقي أن لا يبغي، وأن يكره ذلك في نفسه..[12].

     ويُبين الإمام أبو حامد الغزالي كذلك بعد أن تحدث عن أسباب الحسد وبيان بواعثه: “أن التكبر والعجب يعتبران كذلك من دوافع الحسد؛ فأما الكبر وهو أن يكون في طبعه أن يتكبر على شخص آخر ويستصغره، ويستخدمه، ويتوقع منه الانقياد والمبايعة في أغراضه” [13] وأما التعجب أو العجب فقد أخبر الله تعالى عن الأمم السالفة “إذ قالوا وما أنت إلا بشر مثلنا” “قالوا أنومن لبشرين مثلنا” فتعجبوا من أن يفوزوا برتبة الرسالة وما الوحي والقرب من الله تعالى بشر مثلهم فحسدوهم وأحبوا زوال النبوة عنهم جزعا.. وقالوا متعجبين “أبعث الله بشرا رسولا” وقالوا “لولا أنزل علينا ملائكة” وقال تعالى: “أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم”[14].

  أما حب الرياسة فيذكر الغزالي: “أنها من أسباب الحسد ويمثل لها بذلك الرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون إذا غلب عليه حب الثناء واستفزه الفرح بما يمدح به من أنه واحد الدهر وفريد العصر في فنه وأنه لا نظير له في أقصى العالم لسائه ذلك وأحب موته أو زوال النعمة عنه”[15].      ويذكر الإمام عماد الدين الأموي أن الحسد: “هو كراهة حصول النعمة لغيرك، ومحبة زوالها عنه؛ وله أسباب منها: أن يكون عدوا له أو مبغوضا له، ومنها أن يكون قبول الناس عليه أكثر ومحبتهم له أقوى وأكثر ما يكون الحسد بين الأقران، والأمثال، والإخوة، وبين العم والأقارب، وإنما يكون غالبا بين أقوام تجمعهم روابط يجتمعون بسببها في مجالس المخاطبات، ويتوارد في الأغراض فإذا خالف واحد صاحبه في غرض من الأغراض نفر طبعه عنه وأبغضه، وثبت الحقد في قلبه فعند ذلك يريد أن يستحقره”[16]. ويذكر أبو حامد الغزالي: “أن الحسد يكون بين الإخوة في التزاحم على نيل المنزلة في قلب الأبوين (…) وكذلك تحاسد التلميذين لأستاذ واحد على نيل المرتبة من قبل الأستاذ..”[17].

بيان الدواء الذي يطهر القلب من آفة الحسد

يقول الإمام أبو حامد الغزالي: “ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل، والعلم النافع لمرض الحسد هو: “أن تعرف تحقيقا أن الحسد ضرر عليك في الدنيا والدين، وأنه لا ضرر فيه على المحسود… بل ينتفع به فيهما، ومهما عرفت هذا عن بصيرة ولم تكن عدو نفسك، وصديق عدوك فارقت الحسد لا محالة”[18].

      ويذكر الإمام أبو حامد الغزالي كذلك في قوله: “وأما العمل النافع فيه فهو أن يحكم الحسد. فكل ما يتقاضاه الحسد من قول وفعل فينبغي أن يكلف نفسه نقيضه فإن حمله الحسد على القدح في محسوده كلف لسانه المدح له والثناء عليه، وإن حمله على التكبر عليه أن يلزم نفسه التواضع له والاعتذار إليه، وأن بعثه على كف الإنعام عليه ألزم نفسه الزيادة في الإنعام عليه فمهما فعل ذلك عن تكلف وعرفه المحسود طاب قلبه وأحبه، ومهما ظهر حبه عاد الحاسد فأحبه، وتولد عن ذلك الموافقة التي تقطع مادة الحسد؛ لأن التواضع والثناء والمدح وإظهار السرور بالنعمة يستجلب القلب المنعم عليه ويسترقه ويستعطفه ويحمله على مقابلة ذلك بالإحسان..”[19]؛ ويؤكد كذلك الإمام أبو حامد الغزالي: أن هذه هي أدوية الحسد وهي نافعة جدا إلا أنها مرة على القلوب جدا، ولكن النفع في الدواء المر، فمن لم يصبر على مرارة الدواء لم ينل حلاوة الشفاء”[20].

يتبع…

  1. رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، 1/ 28 (52)، صحيح الإمام مسلم كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، 3/ 1219 (1599).
  2. رواه الإمام أحمد في المسند، ج: 4/ 123، 125، والترمذي في السنن كتاب الدعوات، باب (23) 5/ 476 (3407).
  3. إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي، ج: 3، ص: 196.
  4. صحيح الإمام مسلم، ج: 4، ص: 1985، كتاب البر والصلة والأدب.
  5. سنن ابن ماجة، ج: 1 – الطبعة الكاملة، ص: 683.
  6. سنن أبي داود، ج: 4، ص: 299 باب الحسد.
  7. شرح عين العلم وزين الحلم، ج: 2، ص: 15/16.
  8. التبر المسبوك في نصيحة الملوك للإمام أبي حامد الغزالي، ص: 332.
  9. سراج الطالبين شرح الشيخ إحسان محمد دحلان الجمفسي الكديري على منهج العابدين الى جنة رب العالمين، ج: 1، ص: 439.
  10. حياة القلوب في كيفية الوصول الى المحبوب، ص: 32 على هامش كتاب قوت القلوب.
  11. مختصر منهج القاصدين للمقدسي، ص: 203.
  12. إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي، ج: 3 -ص: 139.
  13. المصدر نفسه، ج: 3، صفحة: 193.
  14. نفسه: ج: 3، صفحة: 193.
  15. نفسه: ج: 3، صفحة: 193/194.
  16. حياة القلوب في كيفية الوصول الى المحبوب لعماد الدين الأموي، ج: 1- ص: 33، على هامش كتاب قوت القلوب لبي طالب المكي.
  17. إحياء علوم الدين، الغزالي، ج: 3، ص: 193.
  18. المصدر نفسه، ج: 3، ص: 196.
  19. نفسه: ج: 3، ص: 196.
  20. نفسه: ج: 3، ص: 196.
Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق