مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثأعلام

الحاج الحبيب مسعود اللمسي

  انتقل إلى رحمة اللّٰه صبيحة يومه الخميس 21 شعبان 1438هـ الموافق لـ 18 مايو 2017م الحاج الحبيب مسعود اللمسي صاحب دار الغرب الإسلامي الشهيرة بطبع الكتب المحققة في التراث العربي والإسلامي، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

  وقد فجع الوسط العلمي بنبأ وفاته بعد معاناة مع المرض وكبر السن.

صورة للمرحوم بجناح مكتبته بأحد معارض الكتب

  والفقيد من مواليد بلدة جربه بتونس عام ١٩٣٠٠هـ، وممن درس العلوم الشرعية في جامعة الزيتونة العريقة، أسس دار الغرب الإسلامي في لبنان واهتم بطبع كتب الفقه المالكي و كتب الأحاديث والتاريخ الإسلامي ، واعتمد على عدم نشر أي كتاب سبق نشره ما لم يُجمع المختصين على أن طبعاته السابقة لا تفي بالحاجة ، فنفع الله بما نشر، وأصبحت كتب داره مقصدا للباحثين وطلبة العلم في كل بقاع الأرض ، كما اهتم بنشر المخطوطات النادرة، ومن أهم الكتب التي نشرتها دار الغرب الإسلامي :

– المعيار المعرّب للونشريسي

– شرح التلقين للمارزي

– البيان والتحصيل لابن رشد الجد

– المسالك في شرح موطأ مالك لابن العربي

– تحفة الأشراف للمزي

– تاريخ الإسلام للذهبي بتحقيق الدكتور بشار عواد

– المسند المصنف المعلل في الأحاديث

– تاريخ مدينة السلام

– موسوعة أعلام المغرب

 وكتب أخرى كثيرة لا يتسع المجال لذكرها ، و قد اشتهر رحمه اللّٰه بحبه وشغفه بالكتب، فكوَّن مكتبة خاصة متميزة، قل أن يجد نظيرا لها في العالم الإسلامي، حوت ما ينيف على خمسة وستين ألف عنوان، وقد تبرع بها رحمه اللّٰه للمكتبة الوطنية التونسية.

صورة جماعية مع المرحوم برواق الرابطة المحمدية للعلماء بمعرض الكتاب لسنة 2013م

 فرحم اللّٰه الفقيد وجزاه عن الأمة الإسلامية خير الجزاء وإنا للّٰه وإنا إليه راجعون.

  تعريف بالمرحوم نقلاً عن موقع اتّحاد الناشرين العرب:

– ولد في مدينة جربة بتونس عام 1930م.

– تدرج في مراحل التعليم الأساسية فيها، ودرس العلوم الشرعية في جامعة الزيتونة حتى المرحلة الجامعية الأخيرة.

– تطوع للمقاومة في فلسطين عام 1948م.

– اعتقل على يد القوات الفرنسية وتم نقله إلى ليبيا عبر البحر، ومن ثم إلى جربة، ومنها إلى صفاقس، ثم فر من السجن وعاد الى مصر للانضمام إلى المقامة في فلسطين.

– بعد الهدنة بخمسة أشهر عاد إلى تونس، فكان مُحباً للكتب والقراءة، فعمل لدى مكتبة كان أسسها سوريون، ثم اعتقل مرة أخرى، وبعدها عمل في بعض المكتبات الخاصة، ثم في القطاع العام.

– انتقل إلى لبنان عام 1979م، وأسس دار الغرب الإسلامي عام 1980م.

– تميز بنشر أهم كتب التاريخ والفقه وخصوصا في شمال أفريقيا.

– أتقن مهنة النشر، وتميز بإنتاجه العلمي، فاعتمد عدم نشر أي كتاب سبق نشره إلّا إذا اجمع المختصين على أن الطبعات السابقة لا تفي بالحاجة.

– له أكثر من 500 إصدار في مختلف العلوم.

– أكبر عمل نشره هو كتاب تاريخ الإسلام للذهبي ب19000 صفحة في 17 مجلدا.

– شارك في معظم المعارض العربية والدولية إما عارضاً أو زائراً مقتنيا نفائس الكتب والمخطوطات النادرة.

– يملك مكتبة خاصة، بدأ بجمعها منذ حرب فلسطين 1948م تضم أكثر من 50 ألف عنوان وحوالي 2000 دورية لا مثيل لها وأكثر من 400 مخطوط و500 عنوان من المطبوعات الأوروبية القديمة التي تعود إلى 500 عام، وأهداها إلى دار الكتب الوطنية في تونس.

– حصل على وسام الدولة الذي قلده له الرئيس التونسي زين العابدين بن علي.

– كُرّم من قبل اتحاد الناشرين العرب في معرض القاهرة عام 2010.

 حوار مع الفقيد منشور بمجلة الفيصل:

الحبيب اللمسي: تزوجتُ الكتاب ولم أعشق امرأة

  دار الغرب الإسلامي.. إحدى أهم دور النشر العربية التي تُعنى بالتراث، وتهتمّ بنشره. وعند الحديث عن دار الغرب الإسلامي لا يمكن أن نغفل اسم مؤسّسها وصاحبها الأستاذ الحبيب اللمسي؛ فهذا الرجل عشق كتب التراث العربي، ووهبها السواد الأعظم من عمره المديد (82 سنة). رجل خبر التراث، وعرف روّاده وخباياه. عاصر الرقابات العربية، عاصر ثوراتها المختلفة وتقلّباتها. اسم معروف لدى جميع الناشرين الغربيين والعرب على حدّ سواء. يتمتّع – أمدّ الله في عمره – بالصدق والتواضع والأدب والعشق الذي يصل إلى حدّ الوله في مطاردة أمهات الكتب وتحقيقها، والسهر على طبعها ونشرها. عاصر أيضاً روّاد الثقافة العربية الكبار؛ أمثال: طه حسين، والمازني، وحمد الجاسر، وسيد قطب، وعبدالله القصيمي، وغيرهم من رواد الثقافة العربية الكبار. رجل مكبّ على عمله، لا يُعنى بالعمل الإعلامي، ولا يهتم بالظهور. التقته «الفيصل» في هذا الحوار (النادر جداً)، الذي جرى من دون تحضير مسبق؛ إذ أردناه حواراً عفوياً مع شاهد مؤثّر في تاريخنا المعاصر، وشاهد متأثّر بما حدث ويحدث لهذه الأمة. جرى هذا الحوار في فندق الخزامى بالرياض حيث يسكن الحبيب.وفي الختام، أودّ أن أنبّه على أنني حاولت جاهداً إلاّ أقاطعه في أثناء استطراده في الحوار وأن أتركه يتحدث على سجيته، إلاّ أن سيل الأسماء والأحداث التي اكتنفت هذا الحوار جعل هذه المحاولة مثل مطاردة السراب في يوم قائظ في الرياض.

كيف بدأت علاقتك بالكتاب؟

بدأت علاقتي بالكتاب في عام 1948م مع حرب فلسطين؛ إذ تطوّعت وذهبت إلى مصر، فكانت تستهويني الكتب، فكانت المكتبات حيثما تذهب، وأذكر أنني في أحد الأيام دخلت مكتبة كبيرة، وظللت أسأل بائعاً عجوزاً أسئلة كثيرة، فسألني: هل ستشتري؟ قلت: لا، لا إمكانات لديّ، فقال: هل أنت مُولَع بالكتب؟. أجبت: نعم، فقال: لماذا لا تعمل في هذه المهنة؟. وعندما عدتُ إلى تونس عملت في مكتبة خاصة للتوزيع، ومنها انطلقت شيئاً فشيئاً، ثم عملتُ في مؤسسة حكومية في قسم الكتاب العربي، ثم استقلتُ وذهبت إلى بيروت وأسّست دار نشر في أواخر عام 1979م، وفي عام 1980م بدأت بإصدار الكتب من خلال دار الغرب الإسلامي.

ما أول إصدار لكم؟

أول إصدار لي تمثّل في أربعة كتب، هي: قطعة من موطّأ ابن زياد، تحقيق: محمد الشاذلي النيف، وكتاب مشيخة ابن الجوزي، وكتاب آخر (لا إله إلا الله سيدنا محمد رسول الله)، ورابع نسيته. وانطلقنا من هناك لطباعة الكتب، والسفر إلى البلاد العربية، ولقيت صعوبةً وقتها، فكانت عندي كتب قليلة يصعب تسويقها، وركزت في الإصدارات، فأصدرت 12 كتاباً دفعةً واحدةً، وهي كلها في التراث والتحقيق، وأنا ملتزم، وعندي قناعة بأن يكون هناك دقة في الاختيار. ومن المعايير التي أحرص عليها أن يكون الموضوع نافعاً، بعيداً من الهزل والاستسهال، والجري وراء المادة، وأن يكون جديداً لم يسبق نشره، أو أن يكون هناك اعتراف من أهل الاختصاص والخبرة بأن الطبعات السابقة لا تفي بالحاجة، بها نقص، وتحتاج إلى جهد، ولا أقبل بغير ذلك. ولا بد من استخدام مصادر جديدة لم تعرف ولم تستخدم في الطبعات السابقة، وأهمّ من ذلك أن يكون الذي يقوّم العمل من أهل اختصاص بذلك الفن؛ فلا بدّ لكلّ علم أهل يحملونه، وعندهم دارية به وبأصوله ومصطلحاته؛ لضمان أن يقدموا شيئاً له قيمة.

لو سمحت لي بمقاطعتك؛ لأنني سآتي إلى هذا الموضوع لاحقاً. أنت انتقلت إلى لبنان في وقت حرج، كانت مدة الحرب الأهلية، لماذا اخترت هذه المخاطرة؟

إذا كان لدى الإنسان شيء عزيز عليه فهو يخاطر من أجله، سواء أكان هذا الشيء مادياً أم روحياً أم غيره؛ فهو إذا كان فعلاً مقتنعاً بشيء، ويحبّه، فهو يخاطر من أجله، ويتحمّل في سبيله المشاقّ، وأنا جئتُ إلى لبنان وقت حرب، فكان كلّ الناس يشتغلون، والحياة تسير.

ألم يكن بإمكانك أن تقيم هذا المشروع في تونس أو القاهرة مثلاً؟

في تونس لا، لم أفكّر؛ لأنها بلد محدود، وبعيد من الاتصال والشحن، فلا يمكن أن تطبع الكتاب من دون أن ينزل إلى الأسواق، فأنت لا تجد في الأسواق كتباً تونسية أو مغربية أو جزائرية، إلا إذا سافرت شخصياً إليها، أو أحضرها إليك أحد، ومصر كانت تعيش في أواخر العهد الاشتراكي، ولم تكن قد خرجت من محنة القيود. ومع احترامي الإخوة المصريين، ومحبتي مصر، إلا أن الوقت لا معنى له عند بعضهم، فترى كلمات تشيع مثل: «توّه، وفي السكة، وبكره، ومعليش»؛ مما يعني التعطّل وعدم قضاء الأمور في أوقاتها.

كم بلغ عدد إصدارات دار الغرب الإسلامي حتى الآن؟

الآن تجاوز 500 إصدار، وأغلبها مجلدات من 3 مجلدات إلى 30 مجلداً.

هناك كتب مثل تاريخ بغداد أو تاريخ الإسلام تمثّل مغامرات أقدمت عليها؛ لأنك دفعت تكاليف لمن حقّقها أو قام بها، هل كانت المغامرات مجزيةً مالياً أم أن الدافع كان النشر فقط؟

أنا اقتناعي بالكتابين وصاحبيهما؛ فالكتابان عندهما ثقل ووزن، وهما من الكتب المفيدة، وهما أداة عمل وبحث، ويصلحان لكل زمان، كما أن المحققين من الكفاءات النادرة في العالم العربي.

عالم النشر أين تراه يتجه بعد زحمة الكتاب الإلكتروني؟

زحمة المكتسبات الحضارية كلها مجتمعة أحدثت في الواقع نقلةً في تاريخ البشرية، ونحن جزء منها، وليست عندنا القدرة لكي نبقى في آخر القافلة، لكن لا بد من الركض لنصل إلى ما وصلت إليه الأمم على الرغم من فوارق الزمن بيننا. لكننا سلكنا الطريق، وتأثير ذلك بالنسبة إلى القراءة والنشر في البلاد العربية مازال يحتاج إلى وقت. الآن مادياً لا تؤثّر بسرعة؛ لأن الكتاب الإلكتروني بمختلف أنواعه ووسائله ليس مربحاً كالكتاب المطبوع؛ فالقراءة من الكتاب المطبوع مربحة أكثر من الكتاب الإلكتروني، ويمكن الإفادة منه بشكل أفضل، لكن الشيء الذي يحدث في العالم كله يجرّنا إليه، ولا بد أن نتقدم ونطوّر فيه؛ لأن هذه المواد تتطور بمقتضى حاجاتهم في بلدانهم، حتى وصلوا إلى هذه الامتيازات والاختراعات، ونحن لا بد أن نصل بما لدينا من الكفاءات لنطوّر شيئاً من داخلنا حسب حاجاتنا، وحسب فهمنا، على الرغم من قدرتنا المادية والبشرية، وحتماً كنا سنصل إليه لولا العرقلة. والعرقلة – مع الأسف – كلمة كبيرة وليست سهلة، لكنني اليوم مقتنع أننا من يوم خروج الاستعمار الغربي، وانجلاء جيوشه عن البلاد العربية والإسلامية، دخلنا مباشرةً في الاستعمار الوطني.

الاستعمار الوطني، هل هذا مصطلح جديد؟

الاستعمار الوطني بدا أشدّ وأسوأ من الاستعمار الأجنبي؛ لأنه بالنسبة إلى الاستعمار الأجنبي عندك حصانة داخلية عند مواجهته؛ فهو دخيل عليك، وجاء لينهبك ويستعمرك؛ لذا تجد لديك القدرة على المقاومة والدفاع. أما الاستعمار الوطني، فتسكن أنت وإياه في بيت واحد، وتأكلان على مائدة واحدة، ويظلّكما ظلّ واحد، ومن هنا تصبح قساوته كبيرة سبّبت تأخّر الحضارة عندنا. ومما نعتزّ به، وأنعم به الله على الدول العربية، أنها رقعة متّصلة، وبها من السكان ما يمكّنها من إقامة حضارة ودولة لها وزن وثقل في العالم، كما أن الثروات المعلومة والمجهولة بين أيدينا، وتنوّع الخبرات الموجودة في جميع البلاد العربية بعرضها وطولها، كلّ هذا كفيل بأن يجعلنا قادرين على الإسهام في الحضارة الإنسانية، لكن – مع الأسف – ما دمّرنا هو الاستعمار الوطني؛ فاليوم بعد 50 سنة نقاسي في أغلب البلاد، وشبابنا ضائع، وكفاءاتنا ضائعة، وأغلبية بلادنا تقوم على التسوّل والوعود!!. في إحدى المرات كنتُ في الجزائر أطالع صحيفة في الفندق، قرأتُ خبراً يقول: اليوم وقّعت الجزائر على قرض مالي. حقيقةً أنا بكيت؛ لأن الجزائر بلد غنيّ، وفيه بترول، ومع ذلك يوقّع عقداً للحصول على قرض، هذا الأمر لا يُعقل!. هذه الأمة لن تنهض إلا بسواعد أبنائها؛ فالجميع يجب أن يعملوا؛ الغنيّ والفقير، العالم والجاهل، لا بد أن يؤدي كلّ دوره في بلاده؛ حتى لا نظلّ نعرج.

ما أكثر كتبك توزيعاً؟

أكثر كتبي توزيعاً هي كتب الفقه والحديث والتاريخ.

عفواً، أريد أن أعرف أكثر كتاب وزّعته؟

عندي كتاب البيان والتحصيل لابن رشد (22 مجلداً) طبع أكثر من مرة، وهو رائج، ويأتي بعده التاريخ الذهبي، وطبعت الطبعة الثانية 32 مجلداً مع استدراكاته.

ما أهم سوق للكتاب العربي

السعودية أهم الأسواق بالنسبة إليّ خارجياً.

أتكلّم عن السوق الأول لك عربياً؟

– نعم، عربياً الأولى هي السعودية، وكانت العراق هي الأولى قبل المحنة، الآن بدأت أسترجع سوقي في العراق، والأسواق الأخرى تتقارب؛ فمثلاً المغرب سوق جيد. الكتاب الجيد والمحقّق الممتاز يحقّقان الرواج للكتاب، أما كتب نشر الأمية فقد زاحمت الكتب الجيدة، وهي غير ذات فائدة. وهناك تكرار للجهد، واعتياد على نشر بعض الكتب المألوفة، بينما هناك ملايين الكتب في حاجة إلى التحقيق؛ لذا يجب أن يهتم الناشرون اليوم بالمخطوطات؛ فالمجهول منها كثير، حتى لو عملوا ليل نهار فلن يستطيعوا أن يغطّوا هذا الكمّ الكبير من المخطوطات؛ ففي تركيا وحدها يوجد ما لا يقل عن مليون كتاب لم يحقّق بعد!. لكن ناشري الأمة يتسابقون إلى الطبعات التجارية لكتب مطبوعة أصلاً، بينما الأَوْلى أن يطبعوا كتباً جديدة؛ لأنهم بذلك يخدمون الثقافة، ويحصلون على عائد مجزٍ.

يعني قضية استعجال الربح أكثر؟

– لا، لا. هؤلاء خسروا أنفسهم، وابتلونا بأكداس من كتب نشر الأمية من دون فائدة.

لكن هذا أيضاً يقودنا إلى مشكلة الحقوق؟

السبب فيها المؤلف، لماذا؟ لأن المؤلف يكتب، وبدلاً من أن ينشر كتابه يجيء ليلحّ على الناشر، فنقول له: هذه مصلحة مشتركة، دعنا نتوافق على ما هو لك، وما هو للناشر. لكن المخجل أنه بعد نشر الكتاب (تولّع لديه العفريتة)، ويأتي ليطالب بـ50% من دخل الكتاب، والمخجل اليوم أننا نطبع 500 نسخة، بينما كنا نطبع 3000 نسخة، ثم نزلت إلى 2000 نسخة، ثم وصلت إلى 1000 نسخة، والآن نطبع 500 نسخة. لكن المؤلف لا يصدق؛ فهو يقول: أمة فيها 200 مليون نطبع 1000 نسخة!. أنا كتابي رأيته في كوناكري مثلاً. لذا أرى أن المؤلفين يجب أن يضبطوا أمورهم مع الناشرين أولاً، والشيء الآخر أن المؤلف يجب أن يعرف مكانته؛ فهو يتصوّر أنه ما دام يعرف يكتب، ويعبئ الصفحات (يعطي هذا قصة، وذلك شعراً، وهكذا…) فهو يتوهّم أنه فتح الأولين والآخرين. ما هو معروف أن الناشر يطبع للقارئ؛ لذا فهناك فارق بين مؤلف عرفه القارئ من خلال مشاركات في الصحف أو المحاضرات، وآخر مجهول يطبع كتابه أول مرة!. لذا على المؤلف أن يتعاون مع الناشر قبل أن يطالب بحقوقه؛ لأن الطبعة الأولى تضحية من الناشر.

هذا يقودنا إلى إشكالات المؤلف مع الناشر؛ فهناك كتب طبعت ويعاد طبعها من دون معرفة المؤلف؛ فقد يكون هناك اتفاق على طبع 3000 و4000 و10000 نسخة، وتجد الناشر طبع 20 ألف نسخة أو 30 ألفاً مثلاً؛ إذ لا توجد جهة رقابية تحكم عمل الناشر والمؤلف؟

الضمير قلّ، اليوم المادة تطغى على كلّ الأطراف، سواء المؤلفون أو الناشرون أو الموزعون، ومع هذا فهناك من يلتزم ويتقيّد، أما الأغلبية فلا يتقيّدون.

من تجربتك كناشر كيف نخلق مثل هذه الضمانات؟

– لا توجد ضمانات. على مرّ الزمن الشارع هو الضمان. الكتاب عندما يكون رائجاًَ الناشر هو الذي يجري وراء المؤلف؛ خوفاً من أن يذهب إلى ناشر آخر، والناشرون يجرون وراء الكتب الرائجة، ويأخذون حقوق نشرها. أما قضية التعدي على حقوق زميلهم (المؤلف)، فهنا الأمر يرجع إلى الضمير، وللأسف الدين لم يعُدْ يحكم!.

هل القرّاء المعاصرون أصبحوا أكثر وعياً من القارئ القديم أو العكس؟ أتكلم الآن في مسألة اختيار الكتاب، في قضية المتابعة، ومعرفة ما هو جيد وما هو دون ذلك؟

أولاً: العصر والتحضّر أوجدا إنجازات كثيرة وقضايا متشابكة، وأصبح المواطن مضطراً إلى المتابعة؛ فالقراء الآن يتابعون الكتب التي تتناول القضايا الحياتية والفكرية والصراعات من أكثر من زاوية، أما في الماضي فكان قليلاً ما يصل إلينا كتاب فيه مثل هذه المسائل. لكن يبقى صراع الناشرين معاً هو الذي يدعم المؤلف، والناشرون الذين لديهم كتب تتوالى طباعتها مرتاحون، والمؤلفون تصل إليهم حقوقهم، بينما العكس للكتب الخاسرة؛ فالقراء – في النهاية – هم من يدعمون المؤلف والناشر.

ما أكثر الكتب توزيعاً من الناحية النوعية: الكتب الدينية أم الأدبية؟

الكتب الدينية دائماً هي رقم واحد على الرغم من الظروف والتغييرات والضغوط عليها، وأعني الكتب الدينية الجيدة ذات الهدف؛ مثل: كتب الفقه الكبيرة، وكتب ابن تيمية، وكتب ابن القيم. وهذه الكتب تحافظ على توزيعها، لكن الآن القضايا المعاصرة الفكرية والحياتية بدأت تجذب القراء، والبدعة الجديدة هو انتشار الأفكار الشاذة؛ فالرواج الآن للجنس والضلال، فإذا أراد المؤلف والناشر الرواج للكتاب أقحما هذين الموضوعين في ثناياه!.

رجل بتجربتك في عالمك وثقافتك وخبرتك الواسعة كيف يمكن له أن يجيب عن سؤال: إلى أين يتّجه العالم ونحن نشهد الثورات العربية؟

حركات التغيير في العالم العربي في بدايتها، وهي بداية جيدة وطبيعية؛ لأنه لا يمكن أن يستمر عيش الشعوب بمذلة ومهانة، وأنا متفائل. وفي اعتقادي في العصر المقبل سيكون للدولة الإسلامية مكانها في العالم من واقع التجارب التي مرّت بها الإنسانية، ومررنا بها؛ فمثلاً: ماذا صنعنا بتركنا القيم؟ هل تقدمنا مادياً أو تقدّمنا علمياً؟ بل عشنا في مذلة، ولم نستطع أن نفعل شيئاً. فعملية التغيير لا بد منها؛ فقد بدأت حركة الوعي في ذهن الناس تعطي مؤشرات، وأنا دائماً أنصح إخواننا الذين أعرفهم، سواء في المغرب أو الجزائر أو تونس أو غيرها، بأن يبتعدوا من الحكم؛ لأنه مسؤولية. لا يمكن أنت اليوم تأخذ الحكم والطاولة التي تجلس عليها اليوم فيها الويسكي وفيها غيره من المحرمات؛ فأنت دينك لا يسمح بذلك، ولا تستطيع أن تغيّره، فلماذا تحمّل الإسلام إثمك؟ الإسلام لا يقوم إلا بالمسلمين؛ لذا حاولوا أن تكونوا مسلمين لتقوم الدولة الإسلامية.

الدولة الإسلامية من أيّ منظور؟ هل تقصد الدولة الإسلامية بشكلها القديم؟

دعنا من عصر الخلفاء الراشدين – رضي الله عنهم – الذين عاصروا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتلقوا مباشرة الأوامر، لكن بعد ذلك أصبح لزاماً على المسلمين أن يجتهدوا. باب الاجتهاد لم يُغلق قط، هذه فرية، لا تجد نصاً من النصوص يقول: إن باب الاجتهاد أغلق. هذا الأمر من جرّاء سيطرة الأمية، الاجتهاد مباح في كل شيء، ما عدا ما حسمه الله سبحانه وتعالى والرسول صلى الله عليه وسلم.

هذا الأمر يعني أنك تؤمن بدولة إسلامية عصرية على تماسّ مع قضايا العصر؟

طبعاً، يمكنها تبني قضايا العصر كلها، وتعمل عليها، ما دام لا يوجد ما يخالف أصلاً من الأصول، والرسول صلى الله عليه وسلم ما عُرض عليه أمران إلا اختار أيسرهما.

أعرف أنك لم تتزوّج، لكن هل الناشر في داخلك يسمح بتعاطي أقصى درجات المسموح به مع المرأة في النشر؟

لكل شيء قيود وضوابط يلتزمها الإنسان، وكل شيء مباح في حدود الأخلاق.

أتكلّم مثلاً عن نواحي النشر، وأسأل: ماذا إذا كانت هناك ضرورات فنية تتطلب مشهداً حميمياً مثلاً؟

هذه الضرورة الفنية التي يدّعونها هي قضية المدارس التي توارثناها من الغرب في الميادين كلها، وأصبحت تعطينا مفاهيم حسب تجربتهم هم. إن الفنون تتطور إذا استنبطت من داخلها قيماً وصوراً معبّرة عن واقعها، وعما يمكن قوله وفعله في هذه المسرحيات والأفلام. هم – أي: الغربيون – استطاعوا العيش هكذا، وعملوا أفلاماً حسبما يريدون، لكن نحن يمكن أن نكوّن فناً وفنانين يستطيعون أن يستلهموا حاجاتنا وتاريخنا وأصولنا وغيرها؛ ليخرجوا لنا منها أفلاماً وبدائع.

هل تراها بضابط أخلاقي صارم أو ترى أن الضرورة الفنية لها مباحاتها أحياناً؟

المباحات لا تتجاوز الأشياء المعقولة؛ فهناك أشياء فاضحة لا تجوز في أفلامنا.

لا، عفواً أنا أتكلم عن الكتاب، عن النشر، أتكلم عن الرواية والقصة على سبيل المثال؟

– لا، حتى القصة لا بد أن تكون في إطار المعقول، لا لمجرد الإثارة. مثلاً: تونسي وضع رواية للسينما تجد فيها مشهداً فاضحاً لا يليق، وهذا أديب كبير مثل سهيل إدريس يكتب في مذكراته أن أباه يحب الغلمان. عندنا في الفقه فارق بين من يعصي ويجاهر بمعصيته، وهناك من يعصي ولا يعلن عن عصيانه، بالله عليك ماذا نستفيد من تلك المعلومة المسيئة للأب؟!

لماذا لم تُحقَّق بعض الكتب الفلسفية العربية؟ هل لملاحظات دينية؟

لا مانع من تحقيقها ونشرها، المهم أن تُعلِّق متى شئت في الهوامش إذا وجدت فيها رأياً مخالفاً ومتجاوزاً؛ فلا يجوز عندي مطلقاً أن يغيّر من يحقّق شيئاً ولو سطراً واحداً أو كلمة واحدة.

لماذا لا تُحقّق بعض المؤلفات؛ مثل كتب الرازي؟

لا، الرازي اثنان، وليس واحداً؛ فهناك الرازي الفقيه السني، والرازي الذي كتب عن الإسماعيلية. أنا نشرت للرازي كتباً في الإسماعيلية، لكني أضع التعليقات تحت، علقّ ما تشاء.

بالعكس، يلزمنا أن ننشر هذه الكتب، ونعرف ما فيها؛ حتى نعرف كيف نسير، بدلاً من أن ندخل في ضلالات تداهمنا وتخرّب شبابنا.

الأمة الإسلامية أنجبت من الفلاسفة من أضافوا إلى الحضارة الإنسانية؛ مثل: ابن رشد، والغزالي، وابن سينا، لماذا لا يوجد فلاسفة عرب في عصرنا الحالي؟

هذا من الجمود والتأخر والقهر؛ فالكبت يولّد مرضاً يتراكم، ويسبّب أمراضاً أخرى. اليوم أمضينا 50 سنة ونحن نعيش في ظلّ العجرفة؛ فالذهن يتبلّد، ولا يستطيع ضبط الأمور. نحن ليس لدينا فلاسفة؛ لأنه لا يوجد لدينا قرّاء للفلسفة!.

لكن هناك مثقفون اشتغلوا بالفلسفة؛ مثل: مالك بن نبي، ود. عبدالرحمن بدوي، وأسماء أخرى كثيرة يمكن أن نقول: إنها تندرج تحت من اشتغلوا بالفلسفة، ولكن وجد الفلاسفة دائماًفي الأمة الإسلامية والعربية حتى في عصور انحطاطها كنت تجد فلاسفة؛ مثل: ابن خلدون الذي ظهر في العصر المتأخّر؟

مع التعليم وانتشاره يمكن التنبؤ بوجود فلاسفة؛ لأن الجامعة تكّون قادةً من القرّاء الذين يهتمون بالبحث العلمي.

لكن هذه الجامعات حديثة؟

المهم هذه الجامعات تكوّن المستقبل بالبحث العلمي، الذي يحتاج إلى اكتشاف الكفاءات التي تكمل المسيرة ودعمها؛ لأنها ستضيف الجديد متى وجدت الدعم والتشجيع.

أين توجد مكتبتك الشخصية؟

المكتبة الخاصة بي في تونس، كلما جئت إلى هنا (المملكة العربية السعودية) أشتري كتباً، وأذهب بها إلى بيروت لأجلدها، ثم آخذها إلى تونس. فكتبي الخاصة كلها هناك، وبعضها يعود إلى 70 سنة، منذ سفري الأول إلى مصر بعد الهجرة إلى فلسطين والتطوع، فوقتها كنت أتسكّع في الشوارع، وأبحث عن الكتب، ومن وقتها ربي ابتلاني بها!.

تزوّجت الكتاب؟

نعم، هذه الكتب – عافاك الله – الابتلاء بها وإدمانها مثل إدمان الحشيش، وعندما أدخل إلى مكتبتي أبكي أحياناً من دون أن أشعر؛ لأنني أجد نفسي عاجزاً أمام هذه الكتب؛ فأنا أضع إلى جواري 20 كتاباً لكي أقرأها، وأحار بعد ذلك ماذا أقرأ، وماذا أدَعُ. صحيح القول: إن كثرة الكتب مضيعة للعلم.

كم بلغ عدد الكتب في مكتبتك الآن؟

لم أُحصها بعد. في تقديري أن الكتب لا تقلّ عن 50 أو 60 ألف كتاب، كما أن بها عدداً كبيراً من الكتب المحكّمة تبلغ نحو الـ90٪، وهي صادرة عن الجامعات والمراكز والمؤسسات العلمية، وكلها كاملة وأصلية ومجلّدة ومرتّبة ومُتابعة ومدقّقة. أما بالنسبة إلى المخطوطات فتبلغ نحو 350 مخطوطة، والمطبوعات الأجنبية المطبوعة في أوربا بعضها قد يرجع إلى عام 1500م، ويوجد لديّ كتب قديمة من أوائل المطبوعات في العالم؛ مثل كتاب العالم الجغرافي الكبير الإدريسي، عندي منها نحو 400 كتاب، وما جعلني أتأخر في إهدائها أنه ليس لدينا وقف، وكان هناك وقف في جامعة زيتونة ألغاه بورقيبة مع كل الأشياء التي تمتّ إلى الإسلام بصلة؛ إذ إن أول شيء عمله بعد الاستقلال هو الاعتداء على الإسلام، وآمل أن يعود الوقف ليكون في دار الكتب؛ لكي نخصّص لهذه الكتب مكانها، وأن تطبع فهارسها إن شاء الله. أنا حريص أدبياً الآن على أن أقدمها بسرعة؛ لأن عمري اليوم 82 سنة، ولم تعُدْ عندي القدرة على العمل ولا الجلَد، وأنا أمس وصلت من المطار إلى جامعة الملك سعود مباشرةً لأشتري كتباً. فأنا أشارك في كلّ معرض بجناح أجعل له من يديره، وأنا أطوف على المكتبات لأشتري الكتب الجديدة التي تهمّني، والتي تعبت فيها مدة 50 سنة. ومع ذلك أنا لا أملك سيارة، ولا أقود سيارة، وليس لديّ تلفاز، ولا أعرف أن أستخدمه، بل لا أقول لأحد: افتح لي التلفاز!!.

أنت رجل تحمل ثقافةً تراثيةً، هل التراث سرقك أو أنك ستضع نفسك تحت مقولة: إن الحبيب اللمسي بخيل، بعيد من أشياء الحضارة، وهو بخيل لأنه لم يتزوّج، ولا يملك تلفازاً؟

لا والله، لا أعرف البخل، ويشهد الله أنني حريص على عمل الخير قبل كل شيء، وعندما كنتُ صغيراً لم تكن لديّ إمكانات للعرس، وكنت أصرف ما أجده على الكتب.

ألم تعشق امرأةً؟

قطّ، لا عشقت امرأةً، ولا عشقتني امرأة.

ألم تسقط في فخّ هذا الحب، ولو في شبابك؟

أقول لبعض الإخوان: لماذا لا تحبّون المساواة الحقيقية؟ لماذا لا تأتي المرأة لتخطبني؟ لماذا أخطبها أنا؟

ألم تخطبك أيّ امرأة؟

لا، لم تخطبني أيّ واحدة منهن!.

أمدّ الله في عمرك، ألم تعْلَق وردة ما من النساء في القلب خلال 82 سنة؟ (سنة2009).

لا قط، ذاكرتي أركّزها في الكتب كي أنسى ما لي وما عليّ في الكتب، عندي الآن أربعة كتب أو خمسة في المطبعة، منها 23 مجلداً في تاريخ الإسلام للدكتور بشار عواد.

هناك جائزة كتاب الشيخ زايد بن سلطان قيل إنها مُنحت لك ثم حوِّلت إلى مركز الإمارات؟

– والله لا أعرف، ليس عندي خبر بهذا الشيء، ولم أقدم طلباً، وأذكر منذ مدة أن الدكتور عزّ الدين إبراهيم رحمه الله، وهو صديق عزيز، كان حريصاً على أن أقدّم للجائزة، وأكد لي أنه سيوصيهم بي، وهناك من قال لي: لا فائدة من التقديم؛ لأنها كلها بالوسائط والدعم وغيره.

وأنا بلا فخر لستُ بحاجة إلى من يقوّم الدار؛ فهي لها ميزة خاصة في العالم العربي، بل في أوربا أيضاً؛ فقد علّق أحد الكتّاب على كتاب للدار في مجلة تصدرها جامعة فرنسية قائلاً: «إن هذه الدار يجب أن تُحتذى في الغرب»؛ فكثير من المؤسسات الأوربية حريصة على متابعة كتب دار الغرب الإسلامي، وكثيرون في معارض الكتب يسألون عنها؛ لأن كتبها دائماً جديدة، فإذا كان هناك من يتابع ويقدّر فلماذا لا ترشّح الدار، وهل لا بد أن يرشّح الإنسان نفسه؟!

ماذا عن ذكرياتك الأولى في المملكة؟

كنت عند وفاة جلالة الملك عبدالعزيز – رحمه الله – في الطائف، وكنت في فندق التيسير، وشاهدت جمعاً من الناس، فسألت أحد المارة، فقال: إن طويل العمر توفِّي، ويتم نقل جثمانه – رحمه الله – إلى الرياض، وقلتُ لصاحب الفندق: إنني أريد أن أذهب إلى الرياض، وأريد سيارة تقلّني إلى هناك، فقال: لا توجد سيارات، لكن هناك قافلة سوف تذهب، وبعد يومين أو ثلاثة قال لي: جهّز حالك، عائلة سمو الأمير محمد بن عبدالعزيز ستتوجّه إلى الرياض، فقلتُ له: لا أعرف أحداً فيهم، كيف سأذهب معهم؟ قال: إن القافلة تضم عائلته، والعاملين معه، وسأكلّمهم. فوافقوا مشكورين، وركبت في سيارة صغيرة، وأخذت الرحلة أسبوعاً من الطائف إلى الرياض، كنا نرتاح في النهار؛ لأن الجو حار، ونتحرّك في الليل، والطريق لم يكن معبّداً، وكانت الحركة فيه قليلة جداً، وكنا ننزل في أمكنة مختلفة، فتذبح الذبائح، ونأكل ونشرب ونستريح، ونبدأ المسير بعد صلاة الفجر، وهكذا امتدت الرحلة أسبوعاً.

أين سكنت في الطائف قبل الرحلة

في فندق التيسير، وجئتُ هنا إلى الرياض، وقال لي أبناء الأمير: تفضّل اسكن عندنا، فاعتذرت لهم شاكراً، ورحتُ أسأل عن فندق، فلم أجد. وكان صديقي الشيخ الدكتور عبدالمنعم النمر – رحمه الله – يُدرّس هنا في المعهد العلمي، فجلست عنده 3 أو 4 أيام حتى ذهبت مع قافلة متّجهة إلى الكويت، ووقتذاك عرفت الشيخ حمد الجاسر

كيف كان لقاؤك معه؟

كان لقائي معه في مجلة اليمامة، وكنت أعرفه، وأتابع اهتماماته بالجغرافيا والتاريخ. ومنذ ذلك الوقت دامت الصداقة، وكان يزورني في الفندق كلما جئت إلى الرياض، وكان يوجّه لي الدعوات فنتلاقى كثيراً.

هل نشرت له شيئاً من كتبه؟

لا، كانت لديه دار نشر خاصة به.

من غير الشيخ حمد من الروّاد كانت لك صلة به؟

كان صديقي الشيخ عبدالقدوس الأنصاري رحمه الله، وكنت أحرص على زيارته في جدة.

ألم تعرف باقي الروّاد؛ مثل: الشيخ عبدالكريم الجهيمان، وعبدالله بن خميس، وعبدالله عبدالجبار؟

لا، عرفتهم فيما بعد.

ما أطرف ما تذكر من لقاءاتك مع الشيخ حمد الجاسر رحمه الله؟

كان مرحاً، ونكتته حاضرة، وكانت أفكاره مستنيرة، ولم يكن عنده جمود، فكانت أفكاره متحررة. أووه، من الذين عرفتهم أيضاً عبدالله القصيمي، وكانت أول معرفتي به في بيروت، وكان يقول لي دائماً: «أنت عندك تخمة دينية، ولا بد من هزّك وخضّك»، فأقول له: بالعكس، أنا عندي نقص ديني، لو عندي تخمة دينية كنت رأيتني في عالم آخر.

كيف كانت علاقتك به؟

كنا كلّ يوم نذهب إلى المقهى معاً.

في أيّ عام كان ذلك؟

في عام 1952م.

كيف كانت علاقتكما مع التباين الفكري الحاد بينكما؟

كانت (ماشية)، وكنت ألومه على أفكاره وغيرها، وكان القصيمي يقول: «أنا فكرتي الهدم»، قلتُ له: كيف يكون الهدم من دون بناء؟!. انظر إلى هذا الحيّ، إذا هدمنا كل عمارة فيه أين سنسكن، في الشارع؟! لا بد أن يصاحب الهدم البناء. وثانياً: قبل الهدم يجب أن يكون عندك تصوّر كامل وتام ماذا ستقيم بأسس جديدة، وهل البديل أفضل من الذي تهدم أو لا؟ هنا أهلاً وسهلاً نسمعك، أما عندما لا تكون عندك بيّنات وأشياء مادية أمامك كيف نتحمّل هذه الأشياء، أنهدم ما نقيم فيه؟! لا.

كيف كنت ترى القصيمي الإنسان والمثقّف؟

يبدو لي أن قضية الضغط على الفكر تولّد عداءً شديداً، وهذا الأمر أراه في الفكر الذي صُبّ في ذهنه من دون أن يترك له مجالاً للفهم ولّد فيه عقدة شديدة، وعداءً لمُجمل الدين؛ فالضغط المبالغ فيه يولّد مثل هذا النوع من رد الفعل. وأنا لمست هذا في إخواننا الأباضية في الجزائر، أولادهم أصدقاؤنا، وتربّينا معهم، ومع ذلك تجد كثيرين منهم في منتهى الانحراف نتيجة الضغط في مجتمعهم؛ فهم لا يتركونهم يقرؤون جريدةً أو مجلةً؛ فهذه الأمور من المحرمات، بل يصبّون الضغط في فكرهم صباً؛ حتى تولدت عندهم عقدة لمجمل الدين حسب مذهبهم.

هل كان هناك صديق ثالث لكما؟

أتذكّر أنه في عام 1952م كان يأخذني إلى أمير شاعر في الشارقة من بيت القاسمي، كان شاعراً معروفاً، كنا نمشي إليه في المصيف في العشية، وكان هناك واحد من أدباء البحرين الكبار شاعر وكاتب كبير.

هل كان القصيمي في سنّك أو أكبر منك؟

لا كان أكبر مني سناً، ووقتها رجعنا إلى القاهرة لحضور المعرض، فسألني عن الفهرس، وجاءني ودعاني عنده – الله يرحمه – مسكين، قال لي: (شنو؟!)، قلت: ازددت إيماناً، قال: ازددت……! قلت: لا تكملها!.

كيف كانت شخصيته الأخرى؟

كان هادئاً ومهذباً. كانت لديه فقط أفكاره الخاصة التي يصرّ عليها.

هل كانت أفكاره عن قناعة؟

أجل، يبدو أنها عن قناعة وإصرار.

متى آخر مرة رأيته؟

آخر مرة في القاهرة، لا أذكر هل في عام 1971 أو 1972 أو 1973م.

ماذا دار بينكما من حوار؟

لا، تحدثنا عن العموميات وبعض الذكريات، كنا نجلس ومعنا شاعر عراقي معروف، لا يحضرني اسمه حالياً.

كيف ترى القصيمي في المتابعة؟

مطّلع ومتابع، كان يتابع.

هل سبق أن التقيتم أنت وحمد الجاسر والقصيمي معاً؟

معاً لا، لكن كنا موجودين في بيروت في وقت واحد.

هل سبق أن التقى الجاسر والقصيمي؟

لا أعرف، لكن القصيمي من الشخصيات التي كان يقدّرها الشيخ حمد الجاسر، وكذلك كان القصيمي يقدّر الشيخ حمد؛ لأنه محسوب على الجيل المتنوّر.

لو عدتَ إلى الوراء وخيّرت طباعة خمسة كتب، فماذا ستختار؟

لا يهم، أنا أتمنى طباعة أيّ كتاب غير مطبوع، المهم أن يكون الكتاب مفيداً ونافعاً.

ألا توجد عناوين في ذهنك؟

تستهويني كتب الفقه والنوازل؛ لأن فيها صوراً عن الحياة اليومية والاجتماعية والتقاليد في ذاك العهد؛ فالفتاوى عن أشياء حدثت في الأغلب؛ لذا تبقى عندها مكانة. كذلك كتب التاريخ، من المهم جميعاً أن نعتني بها. طبعاً هناك أحداث تاريخية كثيرة فيها جميعاً، ويمكن أن نستخرج منها التاريخ الموحّد للأمة العربية؛ فعلى الرغم من المحاولات المتعددة إلا أنه لا يوجد كتاب موحّد من مصدر موثوق، وعلى مستوى علمي وأدبي يؤرّخ لنشأة الأمة العربية منذ نزول الرسالة إلى يومنا هذا، كتاب يتناول فتوحات العرب، والقيم التي دافعوا عنها، مع أن هذا النداء والرجاء لا يزال يخطبنا من القرن الماضي وما قبله على الرغم من وجود دعوات من العلماء إلى إعادة كتابة التاريخ الموحّد للأمة العربية، وكان شيخ العروبة أحمد زكي قد كوّن لجنةً تضمّه هو والشيخ الثعالبي ومؤرّخ كبير وعالم جليل متمكّن من الإسكندرية هو العبّادي عبدالحليم، وعملوا فيها. أحمد أمين بسلسلته، وطه حسين أخذ الجانب الأدبي، والعبّادي أخذ الجانب السياسي والتاريخي، ولم يكتب فيه كثيراً، لكن أشياء قليلة يصدرها مفيدة، والمحاولات الأخرى مع وجود الجامعة العربية وغيرها لم تنتج شيئاً إلى الآن؛ لأن العمل يحتاج إلى مجهود علمي واستيعاب، ومازال كثير من مصادرنا مجهول، خصوصاً في المكتبات الخاصة، الله وحده الذي يعلم ما فيها من كنوز.

لكن الجامعة العربية طبعت كتاباً مهماً؛ مثل قصة الحضارة لويل ديورانت؟

كتاب مترجم، وهو جيد، لكنه يتناول جانباً من الجوانب، وليس شاملاً، مع أن فيه إنصافاً للعرب.

من الأعلام الذين ذكرت طه حسين وأحمد أمين وأحمد زكي، هل من هؤلاء من تعرّفت إليه شخصياً؟

زُرتُ طه حسين ومعي مجموعة جاءت من تونس، وسألناه عن الشيخ الثعالبي، وهو زعيم من زعماء تونس، وكانت عنده مكانة في العالم الإسلامي في أوائل القرن الماضي، فقال: كان الشيخ يجلس في المقهى الفلاني (سمّاه لنا) بعد المغرب، وكنت أمشي – والكلام لطه حسين – لأجلس معه وأستمع إليه، ووصفه بأنه سابق لزمانه.

والعقاد، ألم تره؟

لا، لم أره. لكن كانت لي علاقة متواصلة مع سيد قطب رحمه الله، الذي أرسل إليّ رسالةً، وكنت قد زرته وزارني في الفندق، وبقينا على صلة حتى جاءت المحنة وتفرّقنا.

هل كنت متعاطفاً مع فكر الإخوان؟

نعم، لم أساهم مع الإخوان، لكن كنت متعاطفاً معهم، والزمن يسير الآن لمصلحتهم؛ فهم الآن الموجودون في الساحة في مختلف البلاد العربية والإسلامية، هم المجموعة الأقرب إلى فهم الإسلام المتطوّر والمتنوّر، وهم من لديهم القدرة على التضحية من أجله.

على الرغم من حالات القتل التي قاموا بها؟

انظر، تلك الحقبة مازالت ملتبسة، كان الفكر الديني متشعباً، وكانت فيه عدة نظريات، والعنف عموماً لا يؤدي إلى نتيجة، لكن عندما تسدّ الأبواب لا يبقى أمام الشعوب سوى خيار واحد؛ فإخواننا في ليبيا لا خيار أمامهم غير ما قاموا به، ولا خيار لإخواننا في سورية غير ما يقومون به، ولا خيار لإخواننا في اليمن غير ما يقومون به؛ فهم لم يُترك لهم مجال، بينما الحوار هو الأساس الذي يوصل إلى نتيجة كبيرة، ويحقن الدماء دائماً.

الإخوان المسلمون في مصر شكّلوا حزباً بعد السماح لهم مؤخراً بعد الثورة، وعيّنوا نائباً قبطياً، فهل هذا لتلميع وجه الإخوان الذين كانوا ينادون بإقصاء المرأة، وإقصاء الآخرين؟

– هذا من التطور والاجتهاد؛ لأن المواطنة يجب أن تُراعى.

أليست هذه الخطوة مناورة سياسية؟

– لا، لا. هم ليسوا بحاجة إلى مناورة سياسية؛ لأن الإسلام نظيف لا يقبل إلا الطريق النظيف. نحن كمسلمين لم ننتصر بالمؤامرات والخيانة، الإسلام انتصر بالصدق والأمانة والعدل؛ فهو يقول لك: إذا أتاك من استجارك فأجره وبلّغه مأمنه، ولا تحمه فقط، بل لازم توصّله، يعني: لا تقول له رح منا، لو يجيء منا واحد يقتله أو يضربه، لا بل يجب أن توصله إلى مأمنه، هذا هو ديننا، وهذا هو الإسلام.

هل الإخوان هم الامتداد الطبيعي للإسلام؟

– نعم، هم الامتداد الطبيعي للإسلام؛ لأن الوقت يسير لمصلحتهم، والحركات المترابطة في العالم الإسلامي منهم.

ماذا لديك لتضيفه إلى ما هو مقبل في مشهدنا السياسي؟

– المستقبل لا يعلمه إلا الله، لكن الآمال آمالنا. أنا متفائل بالتغيير، والتغيير حاصل، ونأمل – إن شاء الله – أن يتفهّم الموجودون، ويجنبوننا ويجنبوا بلادهم المحن والفتن، هذا الأمر هو ما نرجوه، ونرغب فيه.

لو انتقلنا إلى تونس كيف ترى وضع المرأة مع وجود حزب النهضة مثلاً والتيارات الإسلامية الأخرى؟

المرأة هي صنو الرجل، والمجتمع لا يقوم على رجل واحدة، فلا بد من الرجلين؛ فهما يمشيان معاً، والمرأة يلزمها أن تناضل، وأن تحاول أن ترقى بفكرها ورأيها، وتساهم في البلاد، وتأخذ مكانها، لماذا علينا أن ندافع عنها؟! هي التي يجب عليها أن تناضل وتدافع عن نفسها، ونحن نقول لها: تفضّلي أدّي ما عليك حتى تصلي إلى ما تريدين، وستصلين. رأيتُ في فرنسا وأوربا، منذ نحو 20 سنة، إعلاناً في الشوارع به امرأة عارية بملابسها الداخلية، كان الإعلان عن أكل الكلاب، فهل يرضى هؤلاء الذين يدّعون التقدم ذلك لنسائهم؟! إذا كانوا يرضون ذلك فنقول لهم: يجب أن تعملوا كالذي رأيتم إذا كنتم مقتنعين به.

أنا أتكلم عن الجانب العربي والتونسي؟

نعم، أنا مع المرأة التي تناضل بفكرها، التي تدرس، وتعرف عقيدة بلدها، وعاداتها، وتنطلق من هذا المرمى، المرأة التي لا تقلّد غيرها.

كيف ترى تونس في الحقبة المقبلة؟

أجيال جديدة ستفرز مجموعات جديدة، والمعركة الصعبة ستكون من العلمانيين الذين يحاولون التخويف بالإسلاميين، وجعلهم بعبعاًَ يخيف الناس. وأقول: يا ولدي، أنت مش مسلم. يا سيدي انزع هذه الحجة من يد الآخرين، وقم أنت بواجبك. لماذا تدعها لهم؟! المطلوب هو المعقول، الإنسان يكون بأدب، وأخلاق، ولياقة، وحبّ الخير، والتعاون، وحبّ البلد، والتحلّي بمجموعة من القيم الإنسانية المشتركة. لماذا تتركونها للإسلاميين وحدهم؟! لكنهم يريدون ما علّمتهم إياه أوربا عن الفرق الباطنية والفرق الضالة؛ ليقوموا بحملة على الإسلام كله. هناك كتب تصدر في تونس لا يمكن أن تصدر في بلد آخر. إلا الإسلام، هل نحصره فقط في الصلاة؛ اطلع، واهبط، واطلع. وهناك من يقول: أنا مع القرآن. طيب ماذا عما لا تفهمه. يأتي من يدّعي أن الحديث فيه مكذوب. هذا مكذوب عندك، وليت العلوم العربية والإسلامية وصلتنا كما وصلنا علم الحديث من ناحية الدقة والضبط والتمحيص. تصور أحد رواة الحديث يردّ حديثاً؛ لأن المحدث هربت دابته، فأراد أن يقربها، فأراها رداءه، وظنّت الدابة أن في الرداء عشباً، فأقبلت، وأمسكها وشدّ زمامها. فقال: إن الذي يكذب على دابته لا آمنه أن يكذب على المصطفى صلى الله عليه وسلم.

هل ارتفع هامش الحريات بعد الأحداث الأخيرة؟

نعم؛ فقد تمّ رفع الرقابة في تونس، كما خفّت كثيراً في السعودية، وأصبحت معارض الكتب من كل العالم؛ لأنه أصبح هناك تنوير ووعي، وأصبحت هناك قدرة على معرفة الشيء المعقول، بل إن الرقابة في المغرب والجزائر شكلية. كانت هناك حقبة منعت فيها دول عربية كثيرة الكتب الإسلامية الحركية؛ مثل: كتب القرضاوي، وسيد قطب، والغزالي، وابن باز، وابن تيمية، وغيرها.

هل سبب السماح لها الآن هو خفوت الحركات الإسلامية؟

لأنهم تركوا لها المجال، ودائماً من الأفضل أن تترك البشر يعملون فوق الأرض بدلاً من تحتها؛ لأن من يعمل تحت الأرض لا تعرف متى سيؤذيك. فالأفضل أن تتاح الحريات، وهي بلا شك لها ضوابط وقيم، شريطة أن تقوم على احترام غيرك، واحترام رأيه؛ فأنت حرّ في رأيك، إذا اقتنعتُ به أهلاً وسهلاً، وإذا لم أقتنع فلكم دينكم ولي دين. والحوار فيه التعاون، وفتح الأبواب والنوافذ، وكلها تنتج خيراً، وتكوّن الكفاءات والعلماء. أما إذا أغلقت الدماغ فلن ينتج لك غير الانغلاق.

هل هناك شيء تودّ إضافته إلى هذا الحوار؟

ليس لديّ شيء غير أن أدعو الله أن يعين إخواننا في كلّ مكان، ويدلّهم على الخير؛ ليسلكوا السلوك القويم، وأن يجنبنا المحن والفتن؛ لأنها ليست في مصلحة أحد.

أشكر لك هذا الحوار، وأشكر لك سعة قلبك وعقلك وثقافتك، وأنا سعيد بهذا الحوار معك. لقد تعمّدت ألا يكون ثقيلاً، وأن يكون عفوياً؟

هذا يا سيدي لعلمك، والله يشهد أنني لا أقبل إجراء أحاديث صحفية، ولا التصريح في الصحف، ولا في الإذاعة، وأقول لمن يطلبون مني ذلك: اتركوني مع كتبي، وقد استجبتُ لك ولأخي د. يحيى محمود بن جنيد، وأنا شاكر لكما، وربنا يجمعنا على الخير.

Science

الدكتور جمال القديم

باحث مؤهل بمركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث بالرابطة المحمدية للعلماء،

ومساعد رئيس مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث بملحقة الدار البيضاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق