وحدة الإحياءدراسات عامة

الثقافة والتنمية في العالم العربي والإسلامي أزمة النخب المثقفة

د. حسن مسكين
أستاذ التعليم العالي
كلية الآداب-الجديد

إن الحديث عن الثقافة في بعدها التنموي، هو حديث عن مشروع حضور أو غياب أمة بكاملها في سياق عالمي، يعرف الآن تحولات جارفة في شتى المجالات، بحيث يستحيل بقاء مجتمعات، لا تزال تعتمد في ضمان وجودها واستمرارها على الغير.

1. في مفهوم الثقافة والتنمية

   إذا انطلقنا من أن الثقافة هي ذلك “النتاج الذي ينتظم جماع السمات المميزة لأمة، من مادية وروحية وفكرية وفنية ووجدانية، وتشمل مجموعة من المعارف والقيم والالتزامات الأخلاقية المستقرة فيها وطرائق التفكير والإبداع الجمالي والفني والمعرفي والتقني وسبل السلوك والتصرف والتغيير، وطراز الحياة . كما تشمل أخيرا تطلعات الإنسان للمثل العليا، ومحاولته إعادة النظر في منجزاته والبحث الدائم عن مدلولات جديدة لحياته وقيمه ومستقبله،وإيداع كل ما يتفوق به على ذاته” 1 أدركنا أن الثقافة هي كل ما تملكه الأمة حين تنخرط في عملية البناء الحضاري لإثبات الذات في مسيرة النماء الإنسانية، وهي التي تسمها بميسم العلم النافع الخلاق والمعرفة النيرة،تمشيا مع مبدأ الاستخلاف الذي أقره الحق تعالى والهادف إلى تحقيق التنمية الشاملة.

 وإذا استوعبنا الأساس البنيوي لمفهوم التنمية، المستند إلى شموليتها وقيامها على شرط الحرية والمعرفة ودعمهما في عملية دائمة وجدلية بينها وبين كل المجالات التي تقوم عليها حياة الأمة واستمرارها منتجة، سنكون آنذاك قد أسسنا لمنطقات سليمة ومهدنا لوعي عميق بأهمية هذين المفهومين المركزيين، بوصفهما الضامن الأساس لإنجاز التحدي الكبير نحو تخليص شعوبنا من التخلف والتبعية وكل مامن شأنه تعطيل أي تجربة رائدة، تدفع باتجاه التطور وخلق مناخ إيجابي يجعل من بلداننا العربية والإسلامية فضاءً للعلم والمعرفة، تمهيدا لإنجاز تنمية شاملة، هذه الأخيرة التي لم تعد مرتبطة بمستوى الدخل الفردي أو مستوى ارتفاع الناتج السنوي القومي فحسب، وإنما أيضا بالمستوى المعرفي والثقافي والصحي والاجتماعي والديموقراطي لأي أمة، بما يكفل لأفرادها إنجاز مشاريع وتصورات وأفكار حرة ومسؤولة في ظل دعم قوي لمثقفيها قصد مواصلة هذا الإنجاز بما يؤدي إلى تطوير شعوبها وضمان مشاركتهم في بناء نهضة أمتهم. غير أن هذه الثقافة كما التنمية محكومة بضوابط أخلاقية وقيم ربانية تميزانها عن التصورات المادية الأخرى2.

ويبدو أن بلداننا العربية والإسلامية لم تستطع إنجاز هذا التحدي في تهيئ شعوبها للانخراط في هذا المشروع الحضاري، رغم إمكاناتها المادية والبشرية والطبيعية الهائلة ودعوات مفكريها العديدة التي تمت في هذا الاتجاه.

 وهكذا ظلت التنمية بالمفهوم الذي حددناه سابقا مطلبا بعيد المنال، في ظل ما يشهده الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي من أزمات خانقة وتدهور ظهرت آثاره جلية في كافة الميادين، التي كان من المفروض فيها أن تدعم محاولات النهضة والخروج من دائرة التبعية والتخلف.

2. لا تنمية بدون ثقافة فاعلة

خلافا لما يشاع في كثير من الأدبيات العربية التي تستبعد الفعل الثقافي من مشاريعها، حيث تنظر بنوع من الازدراء والدونية المعلنة أو الخفية لكل ما هو ثقافي، بحجة أنه قطاع غير منتج، يستنزف ميزانية الدول؛ فإننا نرى ضرورة تغيير هذا التصور السلبي، الذي كرس قيما مغلوطة ومشوهة عن الثقافة، هذه الأخيرة التي آمن بها كل منظري قضايا التنمية، مؤكدين أنها تندرج في قلب كل مشروع ينشد تحقيق تنمية شاملة، تؤمن بالتكامل وتستبعد أي إقصاء أو تجزيء، ويكفي هنا التذكير بأن رواد التنمية أجمعوا على أن جوهر وكنه إشكالية التنمية ظاهرة ثقافية بالأساس، ثم إن تحقيق تنمية مدنية مرتبط بشرط نهضة ثقافية حقيقية3. هكذا قدم لنا المختصون البعد الأشمل والأعمق للتنمية في علاقتها البنيوية بالثقافة، التي هي الوجه الأنصع لكل فعل تنموي متكامل غير مبتور، على عكس مايروج في كثير من الأوساط في البلاد العربية والإسلامية إلى الحد الذي غدت عندهم قناعة آمنوا بها ودافعوا عنها في مواقع كثيرة وتحث مبررات عدة. وبهذا تلاشت قنوات التواصل المنتجة، فتعمق ذلك الشرخ الذي أحدث في المشهد الثقافي العربي الإسلامي الذي كان من قبل المدخل الرئيس الذي راهنت عليه النخب، فتأثرت بذلك جميع المجالات الأخرى وعطلت فيها كثير من المبادرات الجريئة والمضيئة، وأجهضت بسببها العديد من المحاولات الطموحة، الرامية إلى إحداث تغيير بنيوي قادر على الانطلاق نحو بناء مشروع تنموي شامل .

 ويبدو لي أن من وراء هذا الفشل والانحدار في التصور والإنجاز أسباب عديدة، ساهمت في تعميق هذا الشرخ، ليصبح بنيويا، شاملا وعميقا، يصعب إصلاحه أو تجاوزه في ظل ما يشهده العالم من تحديات وتطورات متسارعة. ومن ذلك انحصار الفعل الثقافي في بلادنا العربية، بشكل جعل الثقافة غريبة في أمة كانت من قبل سباقة إلى المعرفة والعلم، حين كانت الأمم الأخرى تعيش في تخلف عميق. وحسبي أن هذه مفارقة غريبة وإشكالية أخرى من بين إشكاليات عديدة تميز مجتمعنا العربي الإسلامي، ألقت بظلالها القاتمة على حركة التثقيف التي تتشبث بها كل الدول الطموحة نحو التغيير والتقدم، تلك التي لم تقصر الثقافة عند حدودها الأدبية والفكرية والفنية فحسب، بل تعدت بها إلى مجال الاقتصاد والسياسة والمجتمع وكل الميادين التي تعكس الوجه المشرق لشعوبها، مادامت هذه الشعوب قد انخرطت في مسيرة تواصلية مع مثقفيها الذين يجسدون نبض أناسهم وآمالهم داخل وطنهم الذي هو ملك لهم جميعا، لأنهم هم من نظر لهذا الأفق المشرق والصورة المضيئة التي هي المقصد الأوفى والمطمح الأقصى في العملية التنموية.

لقد توارى مفهوم التنمية عند العرب والمسلمين اليوم وثم إقصاء هذا البعد الحيوي والهام، مما جعل الفعل المعرفي والتنموي يعيشان أزمة مستعصية ومركبة ، آن الأوان لتوصيفها وتشريحها ، أملا في إيجاد بدائل ممكنة تحيي فيهم دور الاستخلاف وتنمي فيهم روح المسؤولية في عمارة الأرض وتنميتها حتى يستحقوا تلك الأمانة التي كلفهم الحق تعالى بحملها ونشرها في الناس جميعا.

3. المفارقات وعمق الأزمة 

المتأمل في واقع الأمة الإسلامية اليوم تصدمه مفارقات صارخة تكرس الأزمة وتعمقها، منها: هذه الازدواجية بين القول والفعل أي بين ما يدعيه المثقف وغير المثقف وبين ما ينجزه في الواقع المعيشي، ذلك أنه كثيرا ما تجد الخطاب “يتسم في كثير من الأحيان بالمثالية وبالأخلاق والسمو على حين أن السلوك الفعلي والتطبيقي يكون عكس ذلك، فهذه الازدواجية خطيرة جدا، لأنها تحول فكرنا في كثير من الأحيان إلى مجرد مواعظ كلامية تقال فقط على سبيل إرضاء الناس في ظروف معينة على حين أن القائل وربما المستمع في كثير من الأحيان لا يأخذ ما يقال محمل الجد يضاف إلى ذلك اعتقاد كل فريق من الفرق التي تمثل طريقة فكرية في عالمنا العربي بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة، وبالتالي فإن خصومه على باطل مطلق، بصورة تامة وكاملة ولا مجال للتفاهم معه”4. ليس من شك إذن أن الفكر العربي والإسلامي يعيش أزمة خانقة، ومفارقات صارخة لا مجال لإخفائه تحت ذرائع أو مظاهر خداعة، ولأن ذلك لا ينبغي أن يحجب عنا تصورات ورؤى متميزة، فيها من الحكمة والتبصر ما يؤهلها كي تفتح أبواب الأمل في إمكانية إقامة مشروع عربي إسلامي ثقافي جاد، تساهم فيه كافة الأقلام الصادقة، المؤمنة بقضايا العدل والحرية والنماء، ضمن الثوابت الإسلامية الواضحة، التي يحاول البعض أن يتجاهلها أو يتنكر لها بدعوى أنها أصبحت من الموروث القديم أو الماضي البعيد. ولعله من الغريب أن تصبح هذه الأقوال رائجة حتى بين مثقفينا دون تمحيص وتدقيق، لأنها مفاهيم مغلوطة أو محرفة عن الرؤية الإسلامية مثل الادعاء بتعارض الإسلام مع العقل والتنوير والتحديث وما إلى ذلك من أوهام صنعوها بأنفسهم وأطلقوا عليها مسميات شتى وسعوا إلى نشرها بين الناس وكأنها حقائق مطلقة” فقد تحدثوا عن الحرية ولم يقيدوها بضوابط تحفظ الكرامة، وتحدثوا عن الديمقراطية فأحجموا عن الاجتهاد فيها، في الوقت الذي يعيبون على المفكرين المسلمين عدم الاجتهاد في ثوابت الدين. ورددوا مصطلح العقلانية، وأنكروا على المسلمين عدم إعمالهم العقل، والحال أنه “ليس هناك دين على ظهر الكواكب يجعل معرفة الله طريقها العقل سوى الإسلام. بل إن الإسلام يقدم العقل على النقل، لا تقديم تشريف بل تقديم ترتيب لأنك لن تفهم النقل إلا بالعقل”5. ثم تحدثوا عن التنوير6، ونزعوا هذه الصفة عن الإسلام والمسلمين، متجاهلين أن الإسلام هو التنوير عينه، والله هو النور “فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا(التغابن: 8)قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين(المائدة: 15)الله نور السموات والأرض(النور: 35).

4. الإيديولوجيا وصراع المواقع

 ومما يميز سيرة النخب العربية والإسلامية المثقفة ، يمينها ويسارها ووسطها هذا الاستعلاء والاحتكار والتوظيف المسرف للإيديولوجيا في إنزال ما تراه حقا مطلقا على الواقع العربي الإسلامي، وإخضاع شعوبه، وتدجينها لتكون في كل الحالات تابعة، مسيرة باسم ما تعتبره هذه الاتجاهات سلطة النخبة التي تملك الحق في الزعامة والقيادة، والتوجيه، نافية بذلك خاصية إشراك الآراء الأخرى في بناء مسيرة المجتمع نحو التغييروالنماء المنشود. وهكذا تبخرت تلك الشعارات البراقة التي كانت تنادي بها هذه التيارات بما فيها تلك التي تدعي الديموقراطية والحرية والعدالة، لأنها لم تمارسها حتى في تنظيماتها الحزبية الداخلية، أو في برامجها، مما تولد عن ذلك انفصام واضح بين الأقوال والأفعال، بين ما تدعيه، وبين ما تقوم به فعلا. فكان أن فقدت فكرة النهضة التي كانت تعد الكلمة الأكثر تداولا في أدبياتها روحها، بل انقلبت إلى نداءات جوفاء، بعيدة كليا عن وقائع مثقلة بالتجزيء والتبعية، والتطاحن الداخلي والاتهامات المتبادلة، التي عكست، بجلاء المستوى المتدني الذي آلت إليه هذه القوى التي كان من المفروض تاريخيا أن تساهم في إنجاز تحولات إيجابية، غير أن شيئا من هذا لم يقع، حيث غرق الجميع، رغم بعض التباينات البسيطة، في إيديولوجيات بائدة، لازال البعض يراهن عليها حتى الآن، “فالمثقف الليبرالي لم يتمكن من الاندماج عضويا في مجتمعه، مما منعه من إنتاج وعي مجتمعي قادر على التغيير، أما الفكر القومي، ومعه القومية فقد عاش -كما فعل الفكر التقليدي- في ماض عقائدي، لا عقلاني، ومع أن الفكر القومي رفع في أغلب الأحيان شعار العلمانية، إلا أنه وظف الدين الإسلامي من أجل كسب مشروعية ما لمشروعه. وبذلك سقطت العلمانية في التسويغ الديني عبر محاولتها علمنة الدين الإسلامي الذي هو في حد ذاته نفيا للعلمانية. لذلك تحولت فكرة النهضة إلى فكرة تنموية تغاضت فيه عن مسائل التخلف والاستبداد والوعي. فالاشتراكية، مثلا، عملت في العالم العربي على تبرير الاستبداد، وقمع الوعي باسم العدالة الاجتماعية، متجاهلة البعد الإنساني والاجتماعي والديني للمجتمعات العربية. باختصار كانت التنمية عملية مشوهة، لم تتمكن من تحديث أسس المعاش الاجتماعي والسياسي، ولم تتمكن من خرق الوعي التقليدي السائد لأنها لم تُبْنى على أساس معرفي حقيقي، بل على تهميش الوعي وتقليد الغرب”7.

 ومن المفارقات المميزة لهذا المثقف أيضا رغبته الملحة في التغيير، لكن من منطق الوصاية، لا المحاورة، أي من خلال فرض “حقائقه الثابتة، وهو يسعى للتأثير في العامة، عينه على الخاصة. وهو يقول بالانتماء إلى العامة، وفي ذاته إحساس بالفوقية والتسامي على العموم. إن المثقف منافس في ساحة السلطة من خلال محاولته التأثير على اتجاهات العامة”8.

 ولا يشد عن ذلك خطاب كثير من الجماعات الإسلامية التي تشترك في خاصية إقصاء الغير، والتسلط الفكري، والاستبداد بالرأي الذي وصل إلى حد التناحر، ذلك أن “الحالة التناحرية السائدة بين كثير من الجماعات تعكس مظاهر التأزم في بنية الفكر الدعوي، وبنية التنظيمات على مستوى الأفكار وقيم العلاقة مع الآخر المسلم المفترض أن تقوم على قاعدة “الأخوة الإيمانية”. وعلى المستوى الإجرائي، تعكس من جانب عزلة الخطاب الدعوي عن المؤثرات الفكرية والثقافية وإغراقه في شؤونه الفردية وتصوراته الضيقة. ومن المفارقة أن يتم هذا في الوقت نفسه الذي يتم فيه الحديث عن “العولمة” و”الحوار” بين الحضارات والأديان وغير ذلك. لكن السبب الأبرز في حالة التأزم هذه يرجع إلى شخصنة الدعوة، وأسرها في حدود تصورات وفلك الأشخاص. وهذه الشخصنة تبدأ من الفرد رئيس الجماعة في حدود تابعيه، لتتحول “الجماعة” كلها إلى تجسيد حالة “الفرد” في جدول العلاقة مع الجماعات الأخرى نحن وهم”9. وهنا تتحول الثقافة والفكر إلى أحجار صماء لا تسمع ولا تجيب، بلا إنها تضر ولا تنفع تشتت ولا تجمع، يتم التراشق بها بعد أن تغلف بأقوال وخطابات منمطة ومسكوكة.

  وعلى الرغم من الانتقادات التي كان يوجهها اليسار إلى باقي التيارات الأخرى، لاسيما الاتجاه الإسلامي، فإنه كان أسير هيمنة الإيديولوجيا، بحيث كثيرا ما نلمس لديه نزوعا واضحا نحو الإقصاء، والتسلط، وتغييب الحوار سواء منه الداخلي أو بينه وبين من يخالفه الرأي والتوجه. أضف إلى ذلك جنوحه إلى التضخيم والتهويل، وتقديم نفسه باستمرار في موقع الضحية.

 وليس معنى ذلك أن هذه حالة طارئة، أو ظاهرة عابرة، بل إن اليسار كان في ممارساته وهذا هو الخطير امتداد لبنية ذهنية وثقافية موروثة من حيث النظرة التجزيئية والنظرة الإيديولوجية القائمة على ثنائيات نقيضة إما خضوع أو تسلط، أنا أو آخر، ولا تعتمد الحوار القائم على حركة جدلية منهجا وحافزا للتغيير المطرد… وعلى الرغم من أن المنهج اليساري التفكير يرى، نظريا الحركة الجدلية بين الفكر والواقع، وكذا الجدل بين الأفكار بشهادة الواقع أساسا معتمدا، إلا أن نهج التناول اليساري جاء متسقا مع البنية الذهنية الثقافية الموروثة التي هي بنية قبل علمية، على نقيض ما بشر به المنهج الجدلي. ومن هنا جاء الخطاب اليساري خطابا أيديولوجيا لا فكرا علميا يتصف بالشمول ومنهجية البحث والنظر. والصفة الأساسية للإيديولوجيا هي أنها تعتمد الإيمان والاكتفاء الذاتي، واللاتاريخية مع تجاوز خصوصيات الزمان والمكان، ومن تم ترى في نفسها حقيقة منغلقة على نفسها ونهائية”10 وهكذا يتبين أن كثيرا مما كان محط نقد واتهام للآخرين، كان بارزا، بل مهيمنا في فكر وعمل هذا التيار. ويبدو أن غلبة الإيديولوجيا على الفكر قد ساهم في تعطيل مشاريع التنمية في البلاد العربية، ذلك “أن كل اتجاه إيديولوجي قد فسر الأحداث التاريخية والوقائع المحاطة لها حسب منظوره وتأويله الخاص في استبعاد كلي للمستويات الأخرى التي تبدو حسب زعمه غير ذات جدوى. دون أن يتم الوعي بخطورة النتائج المترتبة عن هذا المنحى الإقصائي، غير الحواري، وغير المؤمن بالاختلاف المفضي إلى تخصيب التنوع الفكري المنتج لثقافة التكامل التي لا يمكن أن تتحقق في ظل هيمنة الفكر النمطي، أو تتطور في ظل أحادية الرؤية ومنطق المنع11. وإنه لمن المفارقات الغريبة أيضا أن تكون هذه هي المفاهيم نفسها التي ناضلت هذه التيارات من أجل تحقيقها، تحت مسميات العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والحرية في الرأي وتداول السلطة.

 ومن مساوئ هيمنة الإيديولوجيا على مشاريع الثقافة والتنمية في العالم العربي والإسلامي كونها خلقت لديهم خطابا مهزوزا منكسرا يتوسل الحلول إما في الماضي، أوفي الآخر. وهذا ما يعكس في الحقيقة خللا بنيويا في هذا الفكر بكل اتجاهاته، حتى لدى المثقفين الذين راهنوا كثيرا المنحى العقلي ورفعوه إلى مستوى التقديس، حيث أصبح لكل فريق نموذجه، ولكل حزب وثوقيته، ولكل مجموعة إيديولوجيتها التي لا تقهر، ولا ينبغي الخروج عنها أو نقدها، أو محاورتها. مما تولد عن ذلك صراع دائم ومحتدم بين مختلف هذه الإيديولوجيات، نتجت عنه أزمة خانقة ألقت بسلبياتها على كل المجالات، ووسمت الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية بسمات الضعف والتخلف حتى وإن بدت في الظاهر حديثة في بعض وجوهها أو خطاباتها. هذا ما نلمسه بجلاء فيما يعرف بمطلع عصر النهضة، باعتباره الملجأ الآمن والحاضن الوفي، والمخلص الحقيقي من التخلف العربي. فلا غرابة إذن أن يهيمن هذا المصطلح في أبرز الكتابات التي تناولت موضوع الثقافة والتنمية.

5. الاجتهاد المعطل

 لقد أضحى التقليد ثقافة شملت جل الميادين في العالم العربي والإسلامي، وتعطل باب الاجتهاد تحت ذرائع ومبررات عديدة، وهكذا “ومع مرور الزمن، وتوالي القرون، لم يبق التقليد اختيارا إراديا ولا توجها يؤخذ عن وعي وإدراك، وإنما أضحى ثقافة يتلقاها الفرد من خلال قيم المجتمع وثقافته الفكرية والسلوكية حتى امتزجت المذهبية بالدين.. ويؤكد قوة هذه الثقافة أنها فرضت نفسها حتى على الفقهاء الذين يقلقهم تعدد المذاهب ويؤرقهم تشتت المسلمين بين خلافاتها. فلم يزيدوا على الدعوة إلى التقريب بينها. حيث عقدت عشرات الندوات واللقاءات في الموضوع”12. غير أن هذه الدعوة لم تثمر نتائج هامة تنعكس على المجتمع وتثمر فكرا يؤمن بالتعدد والاختلاف في إطار الثوابت الإسلامية، وهذا يفرض ضرورة تدبير هذا الاختلاف وترشيده ليغدو اختلاف رحمة ونماء، بدل تشتت وتخلف وهدم وإقصاء كما هو قائم اليوم. وهذا التدبير للاختلاف لابد أن يستند إلى مقومات وشروط أساسية لا غنى عنها، منها: اعتماد مقاصد الشريعة ونبذ التعصب والإيمان بالحوار الخلاق، واحترام الرأي المختلف، والإقناع بالحجج، لكن في حدود الجدال بالتي هي أحسن. ومن اللافت والغريب أن يتغاضى هؤلاء عن المفكرون والمثقفون والفقهاء عن الأساس في الإسلام الذي هو السلم والسلام والأخوة والوئام بدل العنف والخصام والقهر والإجبار، فعجبا كيف يعرضون عن قوله تعالى: “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين” (النحل:125) وقوله عز من قائل: “إنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين” (سبأ:24). إنها لمفارقة كبرى أن يتجاهل أصحاب الفكر هذه الآيات الربانية الهادية التي هي الأساس في الحوار وبناء الأفكار من غير تعسف ولا إجبار.

 ولعل تفاقم هذه المفارقة في جسم العالم العربي والإسلامي، وتغلغلها في فكر العديد من المثقفين والمفكرين ما يستدعي دعوة صريحة وجريئة لتدارك خطر تفشي هذه الظاهرة التي لم تقتصر على عنف الخطاب فحسب بل تجاوزته إلى عنف الأفعال. ذلك ما نلمس آثاره واضحة في العديد من التصرفات الهدامة، البعيدة عن روح الإسلام ومقاصده، ولن يكون ذلك إلا بفتح حوار داخلي بين المسلمين أنفسهم قبل الحوار مع الغير، إذ لا يكفي أن يردد المسلمون أنهم أصحاب رسالة عالمية، ولا يكفي أن يفخروا بهذا التكريم الرباني، بل عليهم أن يجسدوه فعلا لا قولا إنجازا لا شعارا.

 وهذا لن يحصل إلا بتحقيق التواصل والحوار الذاتي الذي يؤهل ويفضي إلى حوار خارجي، من موقع التساوي، لا الضعف ذلك أن “المسلم الذي يجد نفسه عاجزا عن التواصل مع المسلم الآخر، سيفشل حتما في إجراء حوار مع الآخر غير المسلم، فالمسلم الذي يواجه أخاه بالعنف، ويدعي أنه في مكان يؤهله للتخطيء، والتصويب إنما هو يحجب حقيقة أخرى، هي أنه يعيش حربا داخلية، حربا مع قناعاته. وكلما ازدادت قسوة المحاورين لفكره فإنه يختزن ذلك إلى حين تفجيره في الآخر الذي يتقاسم معه الحقيقة”13.

 وأمام هذه المفارقات التي ذكرنا بعضا منها، هل يتعلق الأمر بأزمة في العقل العربي والإسلامي كما قال بذلك أغلب المفكرين؟ أم أن القضية مرتبطة بإشكالات أخرى يجب الكشف وتحليلها وتقديم مداخل لتجاوزها؟ وهل تكمن هذه المداخل في تقديس العقل على غرار التجربة الغربية؟

إذا كان الغرب قد أعلى من سلطان العقل فجنى ثماره وجعل ثقافته كلها رهينته بحيث غدا الإله والمبتغى والمنتهى، وإذا كانت هذه الثقافة لم تعترف بالآثار المدمرة لهذا الغلو في تقديس العقل، فإن الثقافة الإسلامية لا ينبغي أن تعيش دائما على هذه المقولة التي لا ننكر جانب الصدق فيها، وتركن لكسلها وتخلفها الذي طال أمده وتجدرت سلبياته لتكتفي فقط بترديد خطورة التمادي في إعماله، بل هي الآن مدعوة أكثر من أي زمن مضى إلى الأخذ به، والسير في طريق العلم والمعرفة والاجتهاد، لأن ذلك أولى من صميم روح هذه الثقافة، ولأن العلم أيضا هو السبيل إلى تحقيق نهضة شاملة ولأن طلب العلم والنهل من المعرفة المنتجة من أوجب الواجبات على كل مسلم كما أقر بذلك الإسلام وحث عليه وجعله فريضة. ثم إن هذه “الثقافة الإسلامية التي منبعها فكري ديني عقلي روحي، من أساسها الوحي والعقل، مدعوة أن تثبت وجودها في وجه هذا التيار المادي الذي اكتسح، فيما اكتسح، كثيرا من المجتمعات الإسلامية. والثقافة المستقبلة إذا لم تواجه هذا التيار بنفس منطقها العقلاني ستنهزم أمامه، وتنعزل في جزيرة منعزلة عن مسيرة العصر العلمية وهي مدعوة إلى تكوين المثقفين الإسلاميين، ليس في علوم القرآن والحديث كما رويناها عن المفسرين والمحدثين فحسب، ولكن تكوينا ثقافيا شاملا لمناحي المعرفة الإنسانية والعلمية والتقنية”14. وهنا لابد من التأكيد على ضرورة إشراك جميع الفئات في هذا التحدي، بحيث لا يقتصر الأمر على العلماء والمفكرين والنخب، بل إن كل عربي مسلم ملزم بالانخراط في عملية البناء والنماء، انطلاقا من الوعي السليم لواجباته وللأمانة التي على عاتقه بوصفه من الأمة التي اختارها الله تعالى لحمل رسالة الإسلام والنماء للعالمين كافة، من خلال فهم تعاليمها، ومقاصدها، وروحها الحضارية، التي تتطلب جهدا ووعيا واجتهادا يضمن استمرارها وسريانها حية، مؤثرة، ونافعة، كيف لا والحق تعالى يؤكد على خاصة التكليف الفردي لكل مسلم مادام سيسأل عن ذلك بكل تأكيد كما في قوله عز وجل: “وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا” ( الأعراف:13-15).

 فلماذا إذن يتم تعطيل هذه الآيات الربانية النيرة، ولماذا لا يتم الاقتداء بها في إنتاج خطاب إسلامي فكري ثقافي تنموي شامل يمحو هذه الصورة السلبية التي تهيمن على واقع الفكر الإسلامي المعاصر، رغم إقرارنا بوجود استثناءات لم تستطع بعد التأثير في كثير من الآراء والأفكار والتصورات الشاذة على الرؤية الإسلامية السليمة، الصافية من الأهواء الضالة المضللة، التي هي الآن تنخر جسد الأمة قاطبة.

ولعل العصر الحالي وما تنتابه من تناقضات ومفارقات وصراعات دامية خير شاهد على توحش العقل الحديث، وطغيان الفكر المادي، البعيد كل البعد عن القيم والأخلاق وروح الإنسانية التي انهارت بشكل مخيف، فحلت محلها الفردانية والتسلط والعنف بكل أشكاله، حتى بين المفكرين والمثقفين والعلماء أنفسهم، فتحول الجميع إلى مشارك في تدمير ذاته والآخرين باسم الحضارة، والعلم وسلطة العقل، مما ينبئ بانهيار وشيك للحضارة، هذه الأخيرة التي تنكرت للقيم والأخلاق وآمنت إلى حد التقديس بالمادة والتجريب والصورة.

 إلى مستوى أصبح فيه هؤلاء “يعبدون دواتهم بدل الذات الإلهية. وأوقعتهم الذاتية والأنانية في الفتنة بما حلت منهم محل الإله. وما هو إلا عبادتهم لهذا الإله الكاذب –الذاتية- ما سيوقعهم الآن في كل ميادين الفكر والعمل على طرق لا شك أن منازلها الوسطية زائفة تسر النظر ولكن منزلها النهائي ليس إلا التردي والهلاك.

 فهذه العبادة للذاتية هي التي قد اتخذت العلوم التجريبية آلة لتدمير الإنسان، وصبت الأخلاق في قوالب الأثرة والرياء والخلاعة والمجون، وسلطت على الاقتصاد شياطين الاستبداد والظلم والحرمان. ونفشت في نواحي الاجتماع كلها سموم الأثرة وحب الترف، وأفسدت السياسة بمفاسد ضيقة مثل مفارقات اللون والجنس وعبادة آلهة القوة والسلطة، فجعلتها آفة شقاء للإنسان. وجملة القول إن هذه البذرة الخبيثة التي بذرت إبان النهضة الجديدة في الغرب وقد انشقت عن شجرة باسقة خبيثة للحضارة والتمدن، أكلها لذيذ ولكنه مسموم وزهرها جميل ولكنه شائك، وأغصانها بهيجة ولكنها تنفث سما غير مرئي ولا يزال يسمم دم النوع البشري في الداخل . وهذه الشجرة بدأ يتأفف منها الآن أهل الغرب أنفسهم الذين غرسوها بأيديهم لأنها قد خلقت في كل شعبة من شعب الحياة مشاكل وعقد”15. غير أن المثير واللافت هو أنه في الوقت الذي اعترف كثير من الغرب بشرور تقديسهم للمادة والعقل، نجد العديد من المفكرين العرب من ينكر هذه الحقيقة، ويتمادى في تقديس الحضارة المادية، وتأليه عقلها الجامح، بل ونعت التراث العربي والإسلامي بأحط النعوت، مما لا يخلو من قول عنيف وارتماء سافر في أحضان “الحداثة” الفاحشة على نحو ما نجده في قول العفيف الأخضر: “الحداثة هي انتصار العقل على النقل أي انتصار الاستدلال على إيمان العجائز والمعقول على المنقول من الأسلاف من عادات ومعتقدات عاجزة عن إثبات شرعيتها العقلانية أمام محكمة العقل”16. بهذه المقارنة المتعسفة والتي لا تخلو من تحامل وعنف على إحدى مكونات الثقافة الإسلامية ومصادرها الأساسية، يتابع هذا الأخضر سلسلة اتهاماته، بل ويتمادى في رمي المفكرين والباحثين العرب والمسلمين بأحط النعوت، حيث يخلص إلى القول: “هكذا يبدو مصطلح العقل العربي الذي طرحه الجابري في سوق التداول الفكري تناقضا في الحدود كقولنا: “نهار مظلم” فالعقل ليس له انتماء إثني أو جغرافي وإلا كف عندئذ عن أن يكون عقلا. انتشرت عبارة “العقل العربي” رغم جرعة الخطأ القاتلة التي تنطوي عليه لأنها داعية النرجسية الجمعية الجريحة.. لو سمى الجابري عقله العربي “العقل المغربي” أو الموريتاني أو الصحراوي لاستفز عندئذ الحس النقدي، فضلا عن الحس النقدي لدى قرائه واكتشفوا المفارقة العبثية. من أين جاء الجابري بهذه الحماقة الفلسفية هو الذي حاول بنقد عقل العربي محاكاة كالنط في “نقد العقل” المحصن والعملي”17.

 ورغم المحاولات التي قدمها كثير من المثقفين في المغرب والمشرق للإجابة عن أسباب تخلفنا وتقدم غيرنا، فإنها لم تستطع تقديم مشاريع متميزة، يمكنها أن تقدم رؤية موضوعية متكاملة لهذا الواقع العربي الإسلامي المتردي. ويبدو أن لذلك أسباب عدة تتمحور أساسا حول موقفهم من مفاهيم مثل: الحداثة التراث الماضي الحاضر وغيرها. ولقد استطاع د. طه عبد الرحمن أن يكشف بعض سلبيات هذه المشاريع المتنوعة ظاهرا، المتماثلة أو المتشابهة عمقا، يستوي في ذلك من يسمون “بالحداثيين والتقليديين” فكلاهما مقيد حسب د. طه عبد الرحمن والجميع مشترك في استمرار هذا التيه الفكري الذي تحياه الثقافة العربية الإسلامية اليوم إلى الحد الذي تحول إلى “فتنة مفوهمية كبرى” لا يعرف كيف يخرج منها، إذ لا تفتأ تتوارد عليه كثرة متكاثرة من المفاهيم التي تضعها المجتمعات الأخرى، فيأخذ في التخبط في معاقدها ومغالقها، بل في متاهاتها وأحابيلها، لا قدرة له على استيعابها، ولا طاقة له على إيداع مفاهيم غيره، حتى كأنها من إبداعه ابتداء، فلا مطمع في أن يخرج من هذا التيه الفكري الذي أصاب العقول فيه. ومع هذا نجد زمرة من أهله تدعي أنها استطاعت أن تهتدي في هذا التيه المهلك، وما هذه الزمرة إلا فئة لمقلدين من أبنائه، وهؤلاء ليسوا على خلاف الاعتقاد السائد نوعا واحدا، وإنما نوعين اثنين فأحدهما يضم الذين يتقلدون المتقدمين من المسلمين، ولنسميهم “مقلدة المتقدمين” والنوع الآخر يضم الذين يقلدوا المتأخرين من غير المسلمين ولنسمهم “مقلدة المتأخرين” 18.

 مثقفونا إذن وجهان لعملة واحدة، طابعها التقليد وغياب الإبداع الخلاق، الذي نحن بحاجة إليه، شرط أن نعي مقوماته ونستوعب خصائصه، ونهيئ أسباب نجاحه حتى ننعم بنتائجه التي تعكس دواتنا ووجودنا، بلا استنساخ أو اجترار أو نقل كما هو الحال فيما قدمه المثقفون المتصارعون، المتصادمون تحت مسميات الحداثيين والليبراليين والتقدميين واليساريين بالمقابل القوميين والعروبيين والإسلاميين.

 وإذا كان طموح المثقفين العرب والمسلمين شديد وأكيد وحماستهم ظاهرة تصل أحيانا إلى حد الجموح، ورغباتهم في التغيير معلنة، بل ومنصوص عليها في الكثير من أدبياتهم ومؤتمراتهم، فإن ذلك يظل من الأماني التي تكرس الأزمة ولا تحلها، تعطل المبادرة ولا تعجلها، تكرس الواقع المتخلف ولا تعمل على تجاوزه، إذ التجاوز أو التغيير يتطلب شروطا وإمكانات ومواقف واضحة وحاسمة، يساهم فيها الجميع، وفي مقدمتهم المفكرون والمثقفون المؤمنون بالتغيير والاجتهاد القائم على فقه الواقع والإجابة عن أسئلته الراهنة، الشائكة في ظل تحولات متسارعة، وجارفة. وهذا يتوقف أيضا على التخلص من تلك التصورات المتحجرة التي لازالت بعض القوى تراهن عليها وتنشرها في الناس، وتعادي كل من خالفها، حتى ولو أقام الحجة على عدم صدقها وعدم واقعيتها. ولعل ذلك يعود في بعض وجوهه إلى تلك “العلاقة التي يبنيها العمل الإسلامي المعاصر بنصوصه المرجعية والتي تقف وراء ظاهرة الضعف في التعامل بشكل فعال مع الواقع [مما ساهم] في تعطيل مفعولية/فاعلية الخطاب الداعي إلى الاهتمام بالواقع، حيث تحول الخطاب إلى مجرد خطاب نظري، ساكن غير متحرك، جامد غير مستقل، هذه الظاهرة يمكن تسميتها بظاهرة “التعالي المرجعي” في العمل الإسلامي، ذلك أن استناد/انسداد العمل الإسلامي على/إلى كل نص من هذه النصوص المرجعية قد أشعر العمل الإسلامي بنوع من الارتياح لما يملكه من أفكار ورؤى، هذا التعالي المرجعي قد أورث في العمل الإسلامي نوعا من الإحساس بإمكانية التعالي- بإفراط عن الواقع”19.

 فكانت النتيجة ما نراه في واقعنا العربي والإسلامي من جمود وتعطيل لما كان يجتهد فيه السابقون، وعدم اجتراح اجتهادات تكشف عن قدرات مفكرينا ومثقفينا في مجال الاقتصاد والسياسة والفقه، المعاملات أساسا، فتحولت الأفكار إلى أحجار ليتها كانت للبناء، بل للزينة فقط، كل حزب وكل فريق وكل جماعة تتباهى بفضائها المحصن، ولما تضمنه من فسيفساء لفظية، وخطابات أخاذة، حولتنا من أمة العمل إلى أمة الخطاب العابر، تذهب به الريح في كل اتجاه.

آن لنا الآن كي نؤسس لثقافة جديدة، أن نصارح أنفسنا وأن نعترف بصدأ كثير من المفاهيم التي صنعناها، وبنينا عليها أحلامنا، دون أن يكون لها أي سند واقعي، أو مقومات حقيقية. لقد أوهمنا أنفسنا أن الفرج قريب وأن الحل موجود، وأن المسألة لا تعدو أن تكون مجرد كبوة أو عثرة، سرعان ما سنستفيق منها، لكن التخلف عمر فينا زمنا طويلا، ألفناه ، وأقمنا له كل مقومات التعمير والتفريخ، فأبى إلا أن يكون جزءا منا، نغذيه بأفكارنا، وننميه بتصوراتنا، ونقويه بأخطائنا القاتلة، وفي كل مرة ننمي النفس بأماني غريبة وعجيبة، ترسخ أوهامنا حول موضوعات قديمة مثل الوحدة والعضوية والخصوصية وما ينطوي تحتها، فأضعنا الجهد وهدرنا الزمن، واكتفينا بشعارات كبيرة هي كل ما تبقى في جعبتنا، بعد أن تهاوى كل شيء فينا، أصبحنا عراة أمام العالم، لم تستطع كل الأقنعة سواء كانت إيديولوجية أو سياسوية أو خطابية أن تواري سوأتنا.

 إذا اعترفنا أولا بكل هذا يمكن أن ننطلق في تفكير نقدي جريء وصريح وواقعي يقينا من أوهام أخرى ابتلينا بها اسمها: التوفيق والتجديد والحداثة، إذ التوفيق كما دعونا إليه ومارسنا شوه الصفحات المشرقة في تاريخنا، والتجديد غدا شعارا أجوف، لا يمارس فعلا وإنما مجرد خطاب، كما أن الحداثة تحولت عندنا إلى فكر يستهلك أو بضاعة تجلب “وغاب عن مثقفينا أن الحداثة هي أشبه بصيرورة اجتماعية ارتبطت بتحولات عميقة ليس لها نظير في مجتمعاتنا، كما أنهم لم يفهموا أن الحداثة ليست دينا جديدا يبشر به وتترجم تعاليمه وتنشر قواعده باللغة العربية فيصبح العرب حداثيين”20.        .

 الأجدى والأنفع أن يكابد ويثابر، ويخرج من حالة الكسل والاتكال والاستهلاك المتواصل إلى الاعتماد على قدراته الذاتية، وكفاءاته التي عطلت لقرون، فألفت الاعتماد على الغير، وطاب لها المقام، وذلك حتى يبني حاضره ويستشرف مستقبله ويمحو عنه هذه الصورة القاتمة من التخلف والتبعية التي لا تليق بأمة الإسلام حاملة لواء النماء والسلام والحضارة والبنيان. على أن ذلك يجب أن يكون مقرونا بوعي الذات وإمكاناتها، ووعي العالم وما استجد فيه، ليكون العمل بانيا، خلاقا ونافعا، ويكون التجاوب مع الفضاء الكوني طوعيا لا كرهيا أي عبارة عن إبداع واع، يحفظ قدرة أبنائه على إبداع الأفكار وإنتاج المعارف القائمة على مبادئ النقد والرشد والتخليق21.

6. هل من أفق لإنجاز مشروع ثقافي تنموي عربي إسلامي؟

 يصعب كثيرا الحديث عن مشروع عربي إسلامي في ظل غياب تحديد دقيق للأدوار ومعرفة عميقة بالحاجيات وفشل واضح في مد جسور التواصل الفعال. فإذا كنا نؤمن بأن الثقافة والتنمية ليستا حكرا على المثقفين فقط، بل هي مسؤولية كل مكونات المجتمع، بدء من كل فرد إلى الحكومات والمؤسسات وهيئات المجتمع المدني، فإننا نقر بأن دور المثقفين أكبر وأعظم بحكم ما يتميزون به من تكوين معرفي ورؤية عميقة واستشراف لأحوال المجتمع ومتطلباته. غير أنه لابد من التأكيد أيضا على ضرورة أن تتحمل الحكومات العربية والإسلامية بمختلف قطاعاتها مسؤولية تهيئ المناخ الملائم الذي يكفل للمثقفين القيام بدورهم كاملا في إنجاز مشاريع التنمية، في إطار من الحرية والمسؤولية والدعم الكافي، تقديرا لمجهودات هذه النخب. وهنا لابد من الإشادة بالمبادرات المشجعة التي تقوم بها بعض البلدان العربية والإسلامية لدعم الفعل الثقافي ومد جسور التواصل بين جميع الفاعلين في المجتمع مع إشراك كافة المواطنين في اكتساب المعرفة، بلا حواجز أو قيود. غير أن ذلك وإن كان يمثل إشارات هامة إلى ضرورة المراهنة على مجتمع المعرفة التي تنمحي فيها الطبقية والتمييز؛ فإن ذلك يظل غير كاف في ظل وجود شريحة كبيرة من المجتمع العربي لازالت تعيش أمية تامة تحت ذرائع واهية مثل شح الإمكانيات ناهيك عن شح الميزانيات المرصودة للمجال العلمي والثقافي، وضعف التشجيع وغياب الوعي بأهمية الفعل الثقافي، إضافة إلى التضييق الممارس على حرية الفكر والثقافة في كثير من البلدان العربية والإسلامية.

 غير أن ذلك لا يعد مبررا يعفي مثقفينا من القيام بدورهم الريادي في النهوض بأوضاع الأمة، من خلال التأسيس لمشروع ثقافي تنموي قابل للتنفيذ، غير قائم على شعارات طوباوية أو أحلام بعيدة عن إمكاناتنا، تساهم فيه كل الفعاليات بصبر ونكران الذات، اعتبارا للمصلحة العليا للأمة كافة، مع التأكيد على ضرورة المراجعة والتصحيح وأخذ العبرة من أسباب إخفاق التجارب السابقة.

 وهكذا تتم مشاركة كل طرف من موقعه وفق المسؤولية الملقاة على عاتقه، والتي يبدو أن للمثقف الدور الأهم في تفعيلها، دون هروب أو أقنعة وذرائع تعفيه من واجبه وتحمل الآخرين نتائج إخفاقه، ليكتفي المثقف بعد ذلك في الظهور بمظهر الضحية: ضحية المجتمع غير الواعي والشطط في استعمال السلطة؛ بل يجب النظر للمسألة من الزاوية الأخرى حتى تكتمل الصورة وتتضح معالمها، بعيدا عن أي تأويل موجه، لأن المثقف نفسه “قلما يتنازل عما تمنحه له السلطة من امتيازات. إنه يطمح إلى اكتمال سلطته”22. وبهذا يتحول المثقف إلى سلطوي، يرمي بأفكاره التحررية والتنويرية وراءه ويتخلى عن مبادئه التي نظر لها طويلا، ليكشف القناع عن مفارقات صارخة، كانت متوارية خلف عبارات براقة، غدت طي النسيان، بعد عبوره نحو الضفاف الأخرى حيث الإغراءات والطموحات الممتدة هنا وهناك.

نعم، لاشك أن المثقف العربي الإسلامي واقع تحت وضع إشكالي: بين مطرقة مجتمع مليء بالتناقضات ومظاهر التخلف، التي تتطلب منه المساهمة في تجاوزها، وبين سندان العيش الكريم الذي عليه أن يكفله له ولأسرته، بعيدا عن الإغراءات الزائدة، الشيء الذي يجعل منه إما الحلقة الأساس في مسيرة النماء أو على العكس من ذلك العامل الحاسم في تكريس وضعية التخلف، حين تحضر المصلحة الفردية الضيقة التي تكتسي صبغة سياسية أوسياسوية مقنعة أو مكشوفة، فيتم تداولها على نطاق عام، فتتلاشى بذلك قوتها المعرفية وتفقد بعدها التثقيفي والحضاري، لتستقر أخيرا في ثوبها المنفعي الذاتي. وهذه أيضا حلقة أخرى من حلقات أزمتنا الثقافية. ذلك أن كثيرا من هؤلاء المثقفين لا يقيمون فواصل بين المنفعة الآنية، المرتبطة بالسياسة، وبين ما تتميز به الثقافة من أبعاد تنموية، شاملة لطموح أمة بكاملها. ثم إن دور المثقف لا ينحصر في تزكية السلطة؛ بل في توجيهها وإرشادها ونقدها إذا لزم الأمر، بحيث تكون للمثقف الجرأة اللازمة والشجاعة الكافية لممارسة عملية النقد البناء سواء لذاته أو لغيره، لكن النقد الذي لا يفيد الاعتراض المقيت أو التشهير البشع، بل بتقديم النصح والرأي والبدائل الممكنة لحل المشاكل وتطوير المجتمع بتعاون مع كل الأطراف وفي مقدمتهم الحكومات التي عليها أن تدرك وتؤمن بأن قوتها تنبع من قوة مثقفيها، الذين عليهم أن يعملوا في مناخ من الحرية والكرامة والمسؤولية. فإذا شعر المثقف بهذه المكانة الهامة التي يحتلها، سيكون ذلك حافزا قويا له لمواصلة مجهوداته في المشاركة التنموية، معتزا بسلطته: “المعرفية والرمزية التي لاتقل أهمية عن السلطة التنفيذية أو القضائية، لأن للمثقف سلطة هو الآخر مادام الناس يقبلون به ويرجعون إليه في بعض القضايا والموضوعات، لأنه محل ثقة. وأكثر من هذا، فإن سلطة المثقف لا سلطة فوقها تقومها، لأنها هي من يقوم السلط الأخرى، ولكن دائما بشكل نسبي، حتى لا تتحول وظيفة المثقف إلى عقيدة مغلقة. ومن ثم تبدأ في التحول إلى سلطوية”23. هذه الأخيرة التي نبهنا إلى خطورتها سابقا، وأكدنا سلبياتها في تعطيل دور المثقف وتحويل مساره من مساهم في مشروع التنمية إلى مكرس لواقع متخلف.

ثمة فكرة أخيرة لابد من الإشارة إليها في هذا السياق، وتهم تصحيح العلاقة القائمة بين الساسة والمثقفين والتي يبدو أنها في أغلب البلاد العربية والإسلامية إما علاقة انفصام أو علاقة صدام: فإذا لم يتم النظر إلى هذه العلاقة في إطارها التكاملي، غير الصدامي، وإذا لم يراهن الساسة العرب على دور الثقافة والمثقفين في خلق مشروع تنموي، سنظل نراوح مكاننا وستزداد تبعيتنا للمجتمعات الأخرى وسنجتر المقولات ذاتها حول الهوية العربية والوحدة ونظام الحكم والديمقراطية والأصالة والمعاصرة والتقليد والحداثة والتخلف والتنمية، دون أن ننتهي إلى تقديم حلول مقنعة قادرة على تحقيق طفرة نوعية بإمكانها وضع أمتنا العربية والإسلامية في الطريق الصحيح نحو التنمية التي هي أمل ومبتغى شعوبها.

  وصلى الله وسلم وبارك على مولانا محمد نبي الهدى والحق المبين وعلى آله وصحبه أجمعين.

الهوامش

 1. تعريف اعتمدته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.

2. انظر: روح الحداثة: د. طه عبد الرحمن: ص: 15-16: المركز الثقافي العربي بيروت ط: 1- 2006 .

3. التنمية من منظور المشروع الحضاري : د. نصر محمد عارف – ص: 575. مركز دراسات الوحدة العربية -2001 – بيروت.

4. انظر أزمة العقل العربي: مناظرات بين د. فؤاد زكريا ومحمد عمارة ص: 12 دار نهضة مصر ط: 1- 2003.

5. ومن الأخطاء البنيوية التي سقط فيها د. محمد أركون عدم إدراكه للبعد الفكري والثقافي الذي تحمله اللغة العربية، إذ أنها في اعتقاده “ليست إلا أداة للتعبير”.

6. انظر رد محمد عمارة على د. فؤاد زكريا: ضمن كتاب أزمة العقل العربي: ص: 30-32 دار نهضة مصر ط: 1-2003.

7. تجارب التنوير وإخفاقاتها في العالم العربي: د. أحمد الموصلي -عالم الفكر: عدد: 3- مجلد 29 يناير- مارس 2001 ص:131.

وانظر أيضا: أزمة التنوير: شرعنة الفوت الحضاري: د. عبد الرزاق عيد: الأهالي للطبعة والنشر والتوزيع -1997- دمشق – سوريا.

8. فكر الوصاية ووصاية الفكر: د. تركي حمد الحمد: عالم الفكر: عدد: 3-4 يونيو 1998- ص:321- الكويت.

وانظر لمزيد من الإيضاح:

ـ الصفوة والمجتمع: بوتومور: دار المعارف – القاهرة: 1978.

ـ سيكولوجية الجماهير : غوستاف لوبون : دار الساقي: 1991.

ـ تجديد الفكر العربي: د. زكي نجيب محمود – دار الشروق – بيروت: 1978.

9. انظر: العمل الدعوي بين وصاية الشيخ ونصرة الدين: ذ. معتد الخطيب : المنار الجديد: ع خريف: 2003.

10. اليسار العربي وسوسيولوجيا الفشل: د. شوقي جلال: عالم الفكر عدد:3-4- يونيو1998 ص: 193- الكويت.

11. هناك تنازع صريح بين إيديولوجيات، وتيارات عديدة: من أبرزها: التيار القومي والتيار اليساري والتيار الاشتراكي والتيار الإسلامي والتيار الليبرالي، إلا أن أهم قاسم مشترك بين هؤلاء هو تخطيء الآخر، والجري وراء سوءاته، وإحصاء عثراته، وعدم إقامة حوار جاد، ينطلق أولا من حسن الاستماع والإصغاء والإقرار بنسبية التصور والرأي.

12. انظر (لماذا لا نربط بين التنظير والممارسة): د. أحمد الخمليشي: ص:14-15- منشورات الزمن: ط: 1- 2004- المغرب.

13. انظر د. إدريس هاني: الحوار الإسلامي – الإسلامي: محاولة لاستجلاء الحوار الإسلامي – الإسلامي: سلسلة الكلمة: ع:3-ط:1- 2004 – بيروت. ص: 30.

14. انظر: في الثقافة الإسلامية والآداب القرآنية: ذ.عبد الكريم غلاب: ص: 140 مطبعة النجاح الجديدة: المغرب ط:1-1992.

15. نحن والحضارة الغربية: أبو الأعلى المودودي ص: 38-41 مؤسسة الرسالة –بيروت.

16. انظر الحداثة وانتقاداتها: إعداد وترجمة د.محمد سبيلا ود.عبد السلام بنعبد العالي ص:78-80-دار توبقال- المغرب -2006.

17. المرجع نفسه.

18. انظر: روح الحداثة: د.طه عبد الرحمن: ص:11-12 المركز الثقافي العربي: 14-2006 – المغرب .

وانظر أيضا:

ـ سؤال الأخلاق: المركز الثقافي العربي: ط:1- بيروت 2000.

ـ تجديد المنهج في تقويم التراث: المركز الثقافي العربي- بيروت 1994.

ـ العمل الديني وتجديد العقل: المركز الثقافي العربي، بيروت 1997.

ـ اللسان والميزان أو التكوثر العقلي: المركز الثقافي العربي، بيروت 1998.

ـ الحق العربي في الاختلاف: المركز الثقافي العربي، بيروت 2002.

ـ حوارات من أجل المستقبل: دار الهدى – بيروت: 2003.

19. انظر العمل الإسلامي المعاصر بين جدلية المرجع والواقع: د. جواد الشقوري: مجلة المنطلق الجديد: ع 5- صيف 2003 –ص: 193- بيروت.

20. الإيديولوجية المستعارة: د. رضوان جودت زيادة: عالم الفكر: عدد: 4 – أبريل – يونيو 2005 الكويت.

21. روح الحداثة: د. طه عبد الرحمن: ص: 267.

22. المثقف العربي: دوره وعلاقته بالسلطة والمجتمع: د. طاهر لبيب ص: 33. وقائع حلقة الرباط الدراسية 4-5 مايو- أيار 1985- المغرب.

23. مصير المجتمع المغربي: د. عبد الله حمودي. ص: 28. دفاتر وجهة نظر –عدد: 5- 2004- المغرب.

Science

د. حسن مسكين

أستاذ التعليم العالي

كلية الآداب-الجديدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق