مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمفاهيم

التفسير الصوفي الإشاري من خلال نموذج لطائف الإشارات للقشيري (21)

ذ. عبد الرحيم السوني.

باحث بمركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك.      

2ــ الحروف المقطعة:

بعد أن يفرغ القشيري من تفسير البسملة في كل موضع على النحو الذي عايناه، يبدأ في تفسير السورة آية آية، ونادرا ما نجده يغفل عن تفسير بعض الآيات.[1] كما قد يفسر الآية أو الآيات الطويلة بإشارة موجزة ومختصرة، بعكس ما قد يفعل في تفسيره لبعض الآيات القصيرة التي يطيل فيها الإشارة. وأول ما نصادفه، تفسيره للحروف المقطعة من أوائل السور رغم ما أثير حولها من جدل كبير بين العلماء، وأفضل ما نورده في هذا الشأن قوله في ﴿ألم﴾ التي افتتحت بها سورة البقرة، وهي أول الحروف المقطعة في القرآن، حيث يقول: «هذه الحروف المقطعة في أوائل السور من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله عند قوم، ولكل كتاب سر، وسر الله في القرآن هذه الحروف المقطعة. وعند قوم أنها مفاتيح أسمائه، فالألف من اسم “الله” واللام يدل على اسم “اللطيف”، والميم يدل على اسم “المجيد” و”الملك”. وقيل أقسم الله بهذه الحروف لشرفها لأنها بسائط أسمائه وخطابه، وقيل أنها أسماء السور، وقيل الألف تدل على اسم “الله” واللام على اسم “جبريل” والميم تدل على اسم “محمد” صلى الله عليه وسلم، فهذا الكتاب نزل من الله على لسان جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم. والألف من بين سائر الحروف انفردت عن أشكالها بأنها لا تتصل بحرف في الخط، وسائر الحروف يتصل بها إلا أحرف يسيرة، فلينتبه العبد عند تأمل الصفة لاحتياج الخلق بجملتهم إليه واستغنائه عن الجميع. ويقال يتذكر العبد المخلص من حالة الألف تقدس الحق ـ سبحانه وتعالى ـ عن التخصص، ذلك أن سائر الحروف لها محل من الحلق والشفة واللسان إلى غيرها من المخارج، غير الألف فإن هويته لا تضاف إلى محل. ويقال الإشارة منها إلى انفراد العبد لله سبحانه، ليكون كالألف لا يتصل بحرف، ولا يزول عن حالة الاستقامة والانتصاب بين يديه. ويقال يطلب العبد في سره عند مخاطبته بالألف بانفراد القلب إلى الله تعالى، وعند مخاطبته باللام بلين الجانب، وعند سماع الميم بموافقة أمره فيما يكلفه. وقد اختص كل حرف بصفة مخصوصة، وانفردت الألف باستواء القامة والتميز عن الاتصال بالأمثال والأشغال فحظي بالمرتبة العليا، وفاز بالدرجة القصوى، وصلح للتخاطب بالحروف المنفردة التي هي غير مركبة على سنة الأحباب في ستر الحال، وإخفاء الأمر على الأجنبي من هذه القصة. قال  شاعرهم: قلت لها قفي قالت قاف، ولم يقل وقفت سترا عن الرقيب ومراعاة لقلب الحبيب، وهكذا تكثر العبارات للعموم، والرموز والإشارات للخصوص، أسمع موسى كلامه في ألف موطن، وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: «أوتيت جوامع الكلم فاختصر لي الكلام اختصارا»، وقال بعضهم: قال لي مولاي ما هذا الدنف قلت: تهواني قال: لام ألف»[2].

هكذا نلاحظ أن تعامل القشيري مع الحروف المقطعة يتخذ منحى ذوقيا، فيستقي منها إشارات ولطائف جليلة، تفيد المتدبر والمتفكر في النص القرآني، وبالتالي فهو لا يتعامل معها باعتبارها من المتشابه الذي يتوقف عن تأويله العلماء.

 

 


[1]  ـ وربما غفل عنهن لان معناهن كان مشهورا عند الناس في تلك الفترة، فرأى ألا يفصّل فيهن، والله أعلم.

[2] ـ لطائف الإشارات، ج1، ص.65ـ 66

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق