مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

التصوف والسياق الانساني

د. محمد غاني، أكاديمي وباحث مغربي. 

     يشكل التصوف اليوم أكثر من أي وقت مضى رهانا لدى مجموعة من الجهات الفكرية والثقافية من أجل الحفاظ على مكتسبات الإسلام المعتدل التي زُرعت منذ القدم من طرف الصالحين من هاته الأمة في أرض روح الإنسان الخصبة وعلى رأسهم سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه

                   و كلهم من رسول الله ملتمس         غرفا من البحر أو رشفا من الديم1

     فهل بالفعل يمكن أن يكون التصوف في مستوى الرهان المعول عليه في هاته الأزمنة الحالية التي اختلط فيها الحابل بالنابل؟ وما موقع التصوف من الإسلام؟ و أي دور يمكن أن يلعبه في المجتمع؟ وهل بالفعل ساهم التصوف في فهم السياق الانساني في هذا الوجود؟

     لكل شيء في هذا الوجود قلب وقالب سواء كان مخلوقا ماديا أو مجردا: التفاحة، التمرة، كوكب الكرة الأرضية، بل حتى القرآن الكريم له ظاهر وباطن؛ فالمنطوق من مصطلحه مثلا هو ما دل عليه اللفظ في محل النطق،  فإن احتمل معنيين فحمل على الراجح فهو الظاهر، وإن حمل على المرجوح فهو المؤول، ومفهوم مصطلح “الإسلام” كذلك لا يخرج عن هاته القاعدة حيث أن الإسلام ظاهره “شريعة” عبارة عن قوانين تنظم حياة الإنسان في علاقته بخالقه وبغيرة من المخلوقات في هذا الوجود، حتى يحيى حياة سعيدة كما أرادها الله سبحانه وتعالى  له، فينال السعادة في الدار الآخرة كنتيجة لفلاحه في هاته الحياة الدنيا إن هو قام بحسن الاستخلاف كما أن باطنه حقيقة بمعنى روح الدين الإسلامي أو العلوم اللدنية التي يهبها الله تعالى للمتقين من هاته الأمة، وتأصيلها شرعا هو قصة موسى مع الخضر؛ فموسى يمثل الشريعة والخضر يمثل الحقيقة، كما يؤصل لهذا العلم أيضا قول الله تعالى: (واتقوا الله ويعلمكم الله) وأيضا يؤصل له تعليم الله تعالى علم تأويل الأحاديث بمعنى الرؤى ليوسف عليه السلام .

    من المسلمات أنه بعد البعثة النبوية انبثق عن الاسلام علوم كثيرة لم تسم بمسمياتها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي بذلك من البدع أو السنن الحسنة التي لا مناص منها لتقدم الأمم والحضارات كعلم أصول الفقه وعلم النحو العربي وعلم مقاصد الشريعة وعلم مصطلح الحديث وعلم الجرح والتعديل… وإن علم التصوف لا يخرج عن هاته القاعدة فهو “العلم الذي اهتم بالتقعيد لسبيل كيفية الهجرة إلى الله ورسوله ” المذكورة في الحديث الشريف الذي اعتبره الجهابذة من العلماء أن عليه تدور رحى الإسلام، “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه”، حيث صدر به أهل العلم كتبهم، وابتدئوا به مصنفاتهم؛ قال الإمام الشافعي رحمه الله: “هذا الحديث ثلث العلم، ويدخل في سبعين بابا من أبواب الفقه، وما ترك لمبطل ولا مضار ولا محتال حجة إلى لقاء الله تعالى”.

     وهكذا فإذا كانت الأعمال صور قائمة وروحها وجود سر الإخلاص فيها كما ذهب الى ذلك ابن عطاء الله السكندري، – الحكيم الصوفي المعروف الذي عاش خلال النصف الثاني من القرن السابع الهجري وتوفي سنة 709 هـ-، وإذا كانت النيات هي محط نظر الحق لأن الله سبحانه وتعالى “لا ينظر الى أجسادكم ولا الى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم” (مقتبس من حديث أخرجه مسلم)،  فهذا لا يعنى أن الله لا ينظر الى الأعمال أو صاحب الأعمال في الشكل بل المقصود أنه يتجاوز الظاهر الى الباطن وذلك هو مقياس قبول الأعمال، ذلك أن السلك الكهربائي داخل خيط العمل الانساني هو الإخلاص وهو الذي يوهج العمل الإنساني ويجعله منورا بنور الحق ويميزه عن عمل غير المسلم وإن كان أخلاقيا منورا فقط بنور الضمير.

     من هذا المنطلق اعتنى الفقهاء القدامى بالتصوف كدعامة أساسية يقوم عليها فقه الاسلام فكان أغلب الفقهاء من السلف يتخذون شيخا يعالج ويصحح نياتهم من أجل القيام بالأفعال الشرعية بالكيفية المرادة من طرف الحق دون انزلاق في الحيل النفسية التى تلجأ لها النفس الأمارة بالسوء فتقذف بصاحبها في الدرك الأسفل من النار، ناهيك عن أعوان هاته النفس وجنودها التي تودي بالعديد من الصالحين غير المحنكين في خباياها الى التهلكة والعياذ بالله كما وقع للعديد من الصالحين من هاته الأمة الذين ظنوا أن مفتاح الدخول الى الجنة هو الأعمال في حين أن المقياس هو الروح و الجوهر التي تجري فيها  ونقصد به سر الإخلاص في العمل.

     يقول الشاعر حمد بن هادي بن حمد بن علي الجابر الغيهبان المري، – يقال أنه عاش في أواخر القرن السابع عشر:

                       انا بليت بخبرةٍ لم يخلقوا ….. إلا لسبب شقوتي وعنائي

                    إبليس والدنيا ونفسي والهوى….. كيف النجاة وكلهم اعدائي

                إبليس يوزي بي لدرب مهونتي …. والنفس توزي بي على البلوائي

     وهذا الفقيه المالكي عبد الواحد بن عاشر الذي عاش في القرن الثامن الميلادي و الذي اشتهر في العالم الاسلامي بمنظومته “المرشد المعين على الضروري من علم الدين”  ـــــ والتي أصل لها وحققها رئيس المجلس العلمي المحلي لمدينة تازة الفقيه المالكي عبد الواحد بن عاشر في أطروحته لنيل دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية تحت عنوان “التمكين لأدلة المرشد المعين” إشراف الدكتور: محمد ابن معجوز، (رسالة ماجستير)، نوقشت في: 25/10/1989ــــــ أخذ طريق التصوف عن العالم العارف الشيخ سيدي محمد بن أحمد التَجيبي الشهير بابن عزيز دفين الدرب الطويل في فاس –المتوفى عام 1022هـ. يقول في منظومته وبالضبط في الفصل الخاص بالتصوف كمبحث من مباحث الفقه الإسلامي:

                      يَصْحَبُ شَيْخًا عَارِفَ الْمَسالِكْ     يَقيهْ في طريقِهِ الْمَـهَالِكْ

                      يُذْكِـــــــــرُهُ اللَّـــــــــهَ إذَا رَآهُ     وَيُوصِلُ الْعَبْدَ إلـى مَوْلاهُ

                      يُحَاسِبُ النَّفْسَ عَلَى الأنْفاسِ      وَيَزِنُ الْخاطِرَ بالقِسْطاسِ

                     وَيَحْفَظُ الْمَفْروضَ رَأسَ الْمالِ      والنَّفْلُ رِبْحُهُ بِهِ يُوَالــــِي

                     وَيُكْثِرُ الذِّكْرَ بِصَفْوِ لُبِّــــــــــهِ      وَالْعَوْنُ في جَميعِ ذَا بِرَبِّهِ

                     يُجاهِدُ النَّفْسَ لِرَبِّ الْعـــالَمينْ      وَيَتَحَلَّـــى بِمَقَاماتِ الْيَقينْ

                     خَوْفٌ رَجَا شُكْرٌ وَصَـبْرٌ تَوْبَهْ     زُهْدٌ تَوَكُّلٌ رضَـــــــا مَحَبَّهْ

                     يصْدُقُ شَاهِدَهُ فــــي الْمُعامَلَهْ     يَرْضَى بِمــا قَدَّرَهُ الإلَهُ لَهْ

                     يصيرُ عِـــــــنْدَ ذَاكَ عَارِفَا بِهِ     حُرًا وَغَيْرُهُ خَــلاَ مِنْ قَلْبِهِ

                     فَحَبَّهُ الإلـــــــــــــهُ وَاصْطَفَاهُ     لِحَضْــرَةِ الْقُدُّوسِ وَاجْتَبَاهُ

     وهذا الامام الشاطبي المعروف بأنه رائد علم مقاصد الشريعة، يقول في كتابه الموافقات عن الصوفية: “وقد بنو نحلتهم على اتباع السنة وهم باتفاق أهل السنة صفوة الله من الخليقة.”

     وذاك ابن خلدون في مقدمته يرى أن طريقة هؤلاء “القوم” (الصوفية) لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالفة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم “الصوفية”.

     إذا كان الأمر كذلك فهناك من سمى هذا الجانب من الإسلام بروح الدين كالدكتور طه عبد الرحمان الذي لا يخفي تصوفه، ومنهم من سماه تصوفا، ومنهم من سماه علم السلوك، ولا مشاحة في الاصطلاح إن كان المقصود لا يتنافى ومقاصد الشريعة، ومن بدّع هؤلاء القوم فإنما ذلك نابع من أمرين:

– إما جهل بمقاصد القوم

– أو تبني إديولوجية معينة ونية مبيتة.

    وكلاهما لا ينقص من مشروعية هذا العلم في شيء لأن مبناه شرعي ونتيجته وثمرته ليست فقط شرعية بل مطلوبة ومرغوب فيها، حيث أن هذا العلم يحفز جانبا مغفولا عنه عند كثير من العباد وهو ما يسمى في العلم الحديث بالذكاء الروحي.

     علم الذكاء الروحي هو العلم الذي يبحث في فهم السياق الإنساني في هذا الوجود وربط الرؤية الشخصية لدى كل إنسان بالرؤية الشاملة للكون حيث أن عماد مبادئ الذكاء الروحي هو المبدأ التالي “اكتمال رؤاك الشخصية مع الرؤية الشاملة، وتميز علاقتك بالآخرين، والطبيعة وبالعالم والعالمية.”2 كما يرى ذلك دانا زوهار وإيان مارشال في كتابهما: “الذكاء الروحي أطروحة القرن الحادي والعشرين طريق ثالث بين العقل والعاطفة”.

     يرى المختصون في هذا العلم أننا مدفوعون، ومحدّدون بالأحرى، بتوق إنساني نحو إيجاد معنى وقيمة في ما نفعل وما نجرّب، لدينا توق لرؤية حياتنا في سياق أوسع مانح للمعنى، سواء كان هذا السياق عائلة أو جماعة أو ناد رياضي، أو عملنا أو إطارنا الديني أو الكون نفسه· إن لدينا توقا نحو شيء يمكن أن نطمح إليه، لشيء يأخذنا إلى ما بعد أنفسنا واللحظة الراهنة، لشيء يمنحنا ويمنح أفعالنا معنى تستحقه· ويقول بعض علماء الإنثروبولوجيا (علم الأناسة) وعلماء الأحياء العصبي أن هذا التوق للمعنى والقيمة التي يمنحها للتطور، هو أول ما أخرج الكائنات الإنسانية من الغابات قبل مليوني سنة أو نحوها· ويقولون بأن الحاجة الى المعنى هي السبب وراء ظهور المخيلة الرمزية وتطور اللغة والنمو الاستثنائي للدماغ البشري.3

     إن الإسلام في عمقه وروحه وجوهره الذي يسميه البعض تصوفا هو خير مجيب عن هاته التساؤلات الكونية الكبرى وخير منم للشعور الإيماني القلبي كما هو في نفس الآن أكبر محفز للتفكر في آيات الله الكونية كما القرآنية وبالتالي فهو مدرسة بكل ما تحمل الكلمة من معنى لكيفية قراءة تشفير الرموز الكونية المبثوثة في السبورة الكونية وأجود منكه لقهوة المعاني الإيمانية4 وأوضح مبين لكيفية التعلق بسبابة الجسد الكوني المسبح للحق، حيث أن المتصوف يرى هذا الوجود ذاتا واحدة مسبحة للكون في صلاتها للحق عز وجل، وسبابة هاته الذات المشيرة إلى الله ومشهدة في صلاتها له عز وجل هي رسول الله صلى الله عليه و سلم، لأنه سيد هذا الوجود بما فيهم صلحاؤهم من الأنبياء والأولياء.5

     لكن البعض لم يفهم هاته الحقيقة وسماها وحدة الوجود أو وحدة الشهود ضانين أن الصوفية يعتقدون أن هذا الكون هو الإله في حين أن الله سبحانه وتعالى تعالى عن ذلك علوا كبيرا وإنما الكون مرآة له أو ظل له في الأرض يمكن للمتفكر أن يرى صفات الحق فيه.

     فنور القرآن والسنة شمس تسطع في القلب ليظهر ظل حقيقتك أيها الإنسان من خلال أفعالك في هذا الوجود فإن رأيت في نفسك مسارعة لفعل الخيرات كلما سمعت الخطاب الإلهي فاعلم أن حقيقتك القلبية أميل الى الخير وإن رأيت في نفسك مشقة شعورية كبيرة لفعل الخيرات عندما تصغي للنص القدسي فاعلم أن حقيقتك القلبية أنزع الى الشر وعليك المسارعة لإصلاحها.

     قد يعترض معترض على هذا الكلام بأن من غير المؤمنين من يسارع لفعل الخيرات ولهذا ففعل الخير ليس بالضرورة دافعه إيماني وجوابه على ذلك أن أولئك دافعهم في ذلك أن قلوبهم أشرق فيها نور الضمير فانعكس ذلك على ظل حقيقتهم وهي أفعالهم في هذا الوجود وهذا مستوى معين من الأخلاق الانسانية والتي هي في حقيقة أمرها الهية أيضا وإن صدرت عن ملحدين، ذلك أن الله عز وجل قال في وحيه (وعلم آدم الأسماء كلها) بمعنى أن الله خلق في الانسان قدرة كبيرة على تمييز الأشياء الحسية كالسماء والأرض والعلو والدنو والكل والجزء كما فطره على تمييز الأشياء المعنوية والقيم الكونية كالكرم والبخل والشهامة والخبث والنبل….الخ.

     وإنما أتى الوحي والرسالة الإسلامية لتتميم هاته الأخلاق التي زرعت أصلا من طرف الحق في قلب كل إنسان وإنما المطلوب منه إعادة إحيائها والحفاظ على هذا الزرع بالصحبة الصالحة للعلماء والأولياء الذين هم بمثابة راعين للزراعة النبوية في هذا الوجود حتى تثمر في كل وقت وحين كما أثمرت صحبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لورود سقيت بماء التوحيد فأزهرت علما وفكرا شق الآفاق فإن قرب المسلمون آوانيهم للعلماء الصادقين لملئت بماء التوحيد الذي لا يمكن أن يثمر إلا ورودا مزهرة كما أزهرت ورود الصحابة والتابعين والصادقين على مر العصور.

                 روض قلبي قد تزهر       و فؤادي قد تنور

               مذ سقي الماء المطهر      ماء التوحيد يا ماحلاه

             غصنه الباهي المعطر       لا إله الا اللــــــــــــــــــــــه

الهوامش:

1- الإمام البوصيري، متن البردة في مدح خير البرية.

2- سبعة طرق لتمية الذكاء الروحي، مجلة التبيان الإلكترونية.

3- دانا زوهار وإيان مارشال، كتاب الذكاء الروحي أطروحة القرن الحادي والعشرين طريق ثالث بين العقل والعاطفة، بلومسبري، لندن، 2000

4- انظر مقالنا قهوة المعاني، موقع إسلام مغربي

5-انظر مقالنا، سبابة الجسد الكوني المشيرة إلى الحق، موقع إسلام مغربي، وشبكة ضياء للمؤتمرات والدراسات والأبحاث.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق