وحدة الإحياءدراسات عامة

التربية على القيم وإصلاح التعليم.. رؤية مقاصدية

يعد المنهج المقاصدي منهجا فكريا شاملا يبحث في الحكم والأسرار، وفي العلل والغايات، ولذلك فإنه منهج يستند إلى فلسفة شمولية وعقلانية، تعد من أهم ما أنتجه العقل المسلم. فإذا كانت مقاصد الشريعة كما يقرر ذلك علماء المقاصد المحدثون “هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو بعضها” كما يقول ابن عاشور[1]، أو هي “الغاية منها؛ (أي من الشريعة) والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها” كما يذكر علال الفاسي[2]، فإن كل بحث في الحكم والغايات والأسرار هو بحث مقاصدي بالأساس، سواء تعلقت هذه الحكم والأسرار بالشريعة أو بغيرها.

وقد انتهى علماء المقاصد إلى التأكيد على وجود مقصد عام من التشريع تندرج تحته كافة المقاصد الأخرى، في محاولة منهم لبناء منهج نسقي شامل يمكن تطبيقه في كافة مناحي الحياة. يقول ابن عاشور: “إذا نحن استقرينا موارد الشريعة الإسلامية الدالة على مقاصدها من التشريع استبان من كليات دلائلها ومن جزئياتها المستقرة أن المقصد العام من التشريع فيها هو حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان.

ويشمل صلاحه صلاح عقله، وصلاح عمله، وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه[3]”.
يترتب على هذا أن المقصد العام والأساس هو حفظ الإنسان وصلاحه، وكل المقاصد الأخرى بمختلف تصنيفاتها وترتيباتها إنما هي فرع عن هذا المقصد العام وتفصيل له.

وبما أننا هنا معنيون أساسا بمكانة القيم في التربية، فإننا نرى أن المنظور المقاصدي أفضل طريق لترسيخ القيم في النظام التربوي. فمعلوم أن التربية على القيم تمثل أقوى أساليب إصلاح الإنسان، فما دام المقصد الأعظم من الشريعة كما يقول ابن عاشور: “هو جلب الصلاح ودرء الفساد” وأن “ذلك يحصل بإصلاح حال الإنسان ودفع فساده” وبما أن الإسلام، كما يقول: “عالج صلاح الإنسان بصلاح أفراده الذين هم أجزاء نوعه، وبصلاح مجموعه وهو النوع كله[4]”، فإن صلاح الإنسان وإصلاحه إنما يتم في الأصل بالتربية، فقد أثر عن الفيلسوف كانط قوله: “لا يصير الإنسان إنسانا إلا بالتربية”.

وحتى نتبين المنظور المقاصدي الإسلامي للتربية على القيم، يجب علينا أن نلتمسه من خلال النظر في مصطلحين قرآنيين هامين هما: “الفطرة” و”التقويم” الواردين في آيتين كريمتين هما قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدٍّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ التِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّم﴾ (الروم: 29)، وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الاِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ (التين: 4).

أولا: الفطرة أساس التربية على القيم

يعد مفهوم الفطرة مفهوما أساسيا في هذا السياق لكونه الأساس الذي تبنى عليه تربية الإنسان وتنشئته حتى يؤدي دوره في عبادة الله وفي عمارة الأرض، قال ابن عطية في تفسير هذه الآية: “والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي معدَّة ومهيَّأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى، ويستدل بها على ربّه ويعرف شرائعه ويؤمن به[5]”.

وقال عنها أبو حيان الأندلسي: “ورجح الحذاق أنها القابلية التي في الطفل للنظر في مصنوعات الله والاستدلال بها على موجده، فيؤمن به ويتبع شرائعه[6]”.

إن تفسير الفطرة بأنها الخلقة أو الهيئة أو القابلية الموضوعة في الإنسان ليس فقط للإيمان وإنما للنظر في المصنوعات وتمييزها والاستدلال بها، يعني أن المعنى الجوهري للفطرة هو كونها “قدرة” كامنة موضوعة في الإنسان ومبرمجة بصورة تلقائية ومباشرة للقيام بأعمال النظر والاستدلال والإيمان. ولعل ذكر هذه “القدرة” التي خلقها الله في الإنسان والتي لا يستطيع أحد أن  يبدلها أو يغيرها ﴿لا تبديل لخلق الله﴾؛ أقول لعل ذكرها متوسطة بين “الدين الحنيف” في أول الآية، و”الدين القيم” في آخر الآية، يكشف أن هذه القدرة العظيمة التي خلقها الله في الإنسان ترتبط بالدين. ولما كان الدين هو التجلي الأعظم للنظر والاستدلال وللقيم كان ذكرها بهذه الصورة الواضحة دليلا على أن الفطرة تتضمن كل شيء يتصل بإعمال النظر وإجراء الاستدلال بصورة سليمة صحيحة موافقة لخلق الله بالصورة التي تؤدي إلى الإيمان بالله الذي هو جوهر الدين.

وهذا تقريبا ما انتبه إليه العلامة الطاهر ابن عاشور في تفسيره لهذه الآية حيث يقول: “والذي نأخذه من هذه الآية أن الإنسان مخلوق على حال الفطرة الإنسانية التي فطر الله النوع ليتصف بآثارها، وهي الفطرة الإنسانية الكاملة في إدراكه إدراكا مستقيما مما يتأدى من المحسوسات الصادقة؛ أي الموافقة لحقائق الأشياء الثابتة في نفس الأمر، بسبب سلامة ما تؤديه الحواس السليمة، وما يتلقاه العقل السليم من ذلك ويتصرف فيه بالتحليل والتركيب المنتظمين[7]”.

وإذا تقرر هذا فإن هذه القدرة المبثوثة في الإنسان هي التي تمكنه من إعمال العقل والفكر وتطويرهما للوصول إلى الصورة المثلى للإنسان الموافقة “للدين القيم”، وبناء عليه، فإن تعهد هذه القدرة بالإصلاح والتقويم لتستقيم على ما تم خلقه عليها هو واجب المجتمعات لتكوين الإنسان الصالح النافع. ولذلك فإن عملية التربية على القيم هي تنشيط للفطرة وإعمال لها وإحياء لما هو مبرمج فيها في أصل خلقتها، ولابد لبرامجنا التعليمية أن تبنى بصورة موافقة لما هو أصيل في هذه الفطرة. ولذلك فإن التقويم الذي تتحدث عنه آية سورة التين يعد تكميلا لآية سورة الروم التي ذكرناها.

ثانيا: التقويم تكميل للتربية على القيم

يذهب المفسرون مذاهب مختلفة في تفسير قوله تعالى: ﴿لقد خلقنا الاِنسان في أحسن تقويم﴾ (التين: 4)، وقد لخص الإمام الماوردي (توفي 450ﻫ) هذه المذاهب في تفسيره حيث يقول: “وفي قوله (في أحسن تقويم) أربعة أقاويل: أحدها؛ في أعدل خلق، قاله ابن عباس، والثاني؛ في أحسن صورة. قاله أبو العالية، والثالث؛ في شباب وقوة، قاله عكرمة، والرابع؛ منتصب القامة؛ لأن سائر الحيوان منكب غير الإنسان فهو منتصب، وهو مروي عن ابن عباس، ويحتمل خامسا؛ أي في أكمل عقل؛ لأن تقويم الإنسان بعقله، وعلى هذا وقع القسم[8]”.

وواضح أن الأقوال الأولى في تفسير التقويم ترجع إلى الصورة الظاهرة للإنسان، أما القول الخامس الذي جعله الماوردي محتملا، فهو الذي يرجع إلى السيرة الباطنة للإنسان وهي المقصودة في الترقي إلى الأحسن، كما أشار إلى ذلك الإمام الرازي في تفسيره منوها  بقول الأصم الذي يرى أن معنى الآية هو “في أكمل عقل وفهم وأدب وعلم وبيان[9]”، وهذا القول الذكي في فهم الآية نسب بالإضافة إلى الأصم إلى أبي بكر بن طاهر أيضا كما أشار أبو حيان الأندلسي في تفسيره بقوله: “قال أبو بكر بن طاهر: عقله وإدراكه، زيناه بالتمييز[10]”.

وهذا ما انتبه إليه بعض المفسرين المحدثين النابهين مثل سيد قطب ومحمد الطاهر ابن عاشور، فقد قال الأول: “والتركيز في هذا المقام على خصائصه الروحية فهي التي تنتكس إلى أسفل سافلين حين ينحرف عن الفطرة ويحيد عن الإيمان المستقيم معها، إذ إنه من الواضح أن خلقته البدنية لا تنتكس إلى أسفل سافلين[11]”.

أما الثاني؛ فقد أجاد وأفاد وبلغ الغاية في فهم الآية الكريمة رابطا إياها بآية سورة الروم عن الفطرة، فقال كلاما نفيسا يخدم غرضنا في هذا البحث، قال رحمه الله: “وقد استبان لك أن الفطرة النفسية للإنسان هي الحالة التي خلق الله عليها عقل النوع الإنساني سالما من الاختلاط بالرعونات والعادات الفاسدة، فهي المراد من قوله تعالى ﴿فطرت الله التي فطر الناس عليها﴾ (الروم: 29)، وهي صالحة لصدور الفضائل عنها كما شهد به قوله تعالى: ﴿لقد خلقنا الاِنسان في أحسن تقويم. ثم رددناه أسفل سافلين. إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات﴾ (التين: 4-6)..
فلا شك أن المراد بـ”التقويم” في الآية تقويم العقل الذي هو مصدر العقائد الحقة والأعمال الصالحة، وأن المراد برده أسفل سافلين انتقال الناس إلى اكتساب الرذائل بالعقائد الباطلة والأعمال الذميمة، وليس المراد تقويم الصورة؛ لأن صورة الناس لم تتغير إلى ما هو أسفل؛ ولأن الاستثناء بقوله: ﴿إلا الذين ءامنوا﴾ يمنع أن يكون المستثنى منه صورا ظاهرة، إذ ليس للمؤمنين الصالحين اختصاص بصور جميلة[12]”.

بين، إذن، أن التقويم مرتبط بروح الإنسان وعقله؛ لأنه عملية تحتاج إلى التمييز والتقدير وحسن التأتي. ولذلك يمكن أن نقول إن التقويم هو عملية إسباغ القيم على الإنسان أو قل إن التقويم هو التربية على القيم، وهي عملية مستمرة طيلة حياة الإنسان حتى تصل إلى الدرجة المثلى “الأحسن” التي خلق الله تعالى الإنسان عليها.

ويؤكد ذلك أن حقيقة الإنسان هي في سلوكه وأخلاقه وأن عقله هو الأداة التي تتولى تقويم سيرته وسلوكه لتتم له حقيقته الإنسانية المثلى كما أرادها الخالق عز وجل. وبناء على هذا نفهم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”  أن المقصود هو تتميم حقيقة الإنسان حتى يكون في صورته المثلى.

ويتم التقويم بهذه الصورة التي ذكرنا من خلال ثلاث مراحل أساسية، مرحلة تعلم القيم ثم مرحلة التشبع بالقيم ليصل أخيرا إلى مرحلة التلبس بالقيم حيث يتحول المرء إلى الصورة المثلى النموذجية التي أشارت إليها الآية الكريمة ﴿في أحسن تقويم﴾، حيث يفهم من ذلك بمقابلته بقوله ﴿أسفل سافلين﴾ أن هناك سلما قيميا مكونا من درجات تصل إلى حدها الأقصى “الأحسن”، ودركات تصل إلى حدها الأدنى ﴿أسفل سافلين﴾، ويتوزع الناس في هذه الدرجات والدركات بحسب جهدهم واجتهادهم وأفعالهم.

ومعنى قوله تعالى: ﴿لقد خلقنا الاِنسان في أحسن تقويم﴾ أنه خلق الإنسان مهيأ ومستعدا ليصل إلى الدرجة العليا التي هي “أحسن”، ويقع عليه هو بذل الجهد والتعلم للترقي في درجات الأحسن، والتوقي من الارتداد والتقهقر نزولا في الدركات السفلى إلى أسفل سافلين.

ولا يتأتى هذا إلا باتباع برنامج خاص للتربية على القيم مستمد من المنهاج القرآني والنبوي. ولا شك أن هذه مسؤولية كبيرة للأمة في إعداد الأفراد والجماعات على هدى هذا المنهج. وهي مسؤولية تبدأ من الفرد إلى الأسرة وأنظمة الدولة المختلفة الإعلامية والسياسية والتعليمية.

ولذلك فإن التربية على القيم هو عمل أصيل من الأعمال التي ينبغي أن تقوم بها برامجنا التعليمية، ومقصد أساسي من مقاصد النظام التعليمي، بل به يمكن أن تقاس درجات نجاح المؤسسات التعليمية في مهامها.
وسوف نسلط الضوء فيما سيأتي على إصلاح التعليم مقدمين رؤية نقدية مقاصدية لواقعه وحاله.

ثالثا: إصلاح التعليم

لم يعد الحديث عن أزمة التعليم والتربية والتكوين في بلدنا أمرا يحتاج إلى تدليل أو تعليل، فقد تكاثرت الدراسات والتقارير التي ترصد الأزمة وتبين عللها وأسبابها، بل إن مجرد مشاهدة الواقع المعيش تغني في إدراك ذلك عن كل تقرير ودراسة، فقد صارت الأزمة من الاستحكام والظهور ما جعلها واضحة للعيان بارزة أمام الجميع.

ومن نافلة القول أيضا الإشارة إلى أن أزمة التعليم أزمة مركبة ومعقدة ولا يمكن تبسيطها بردها إلى سبب واحد، لكن كثيرا من مظاهرها تشير إلى أزمة قيمية مستحكمة، ولعل غياب آثار القيم في التعليم هي التي حدت بالمجلس الأعلى للتعليم ببلادنا بعدما أصدر تقريره الشهير سنة 2008 والذي رصد فيه مظاهر أزمات التعليم، أن يخصص أول ندوة له للسلوك المدني بالمدرسة المغربية، فهذا إحساس عميق منه بأن أساس الأزمة يرتد إلى القيم بصفة أساسية.

فكثير من المظاهر التي يتحدث عنها الناس في التعليم من قبيل: العنف والغش والإخلال بالأمانة وسوء التدبير والتهافت على طلب المسؤوليات دون أهلية حقيقية، كلها مظاهر أخلاقية وقيمية لأزمة تنخر المؤسسات التعليمية.

ولعل توالي الإصلاحات منذ سبعينات القرن الماضي إلى اليوم دليل على استحكام هذه الأزمة واستمرارها، فما أن نبدأ في إصلاح حتى يتبين، بعد فترة، أننا في حاجة إلى إصلاح غيره، وما أن نعمل على تقويم عملنا في الإصلاح لنرى آثاره حتى ننتهي إلى حاجتنا إلى إصلاح الإصلاح وهلم جرا. وقد جاء ما سمي بالبرنامج الاستعجالي لإصلاح التعليم بوصفه آخر حزمة من الإصلاحات بذلت الدولة جهدا كبيرا وتضحية مادية عظيمة لتقريرها، وهو في الحقيقة عمل كبير يتسم بالشمول والدقة، والدراسات التي أعدت في هذا السياق بالغة الأهمية. لكن تنزيلها على الواقع شابته أخطاء مهلكة ستجعل نتائجه للأسف دون المتوقع منها بكثير، وهذه الأخطاء المهلكة يمكن اختصارها في خطأين قاتلين:

الأول: عدم التشاور عند الإعداد والإنجاز مع العاملين في ميدان التعليم، حيث ظل الإعداد محاطا بسرية مطبقة واكتفى القائمون على أمره باستشارة أشخاص لهم معرفة إجمالية وليس لهم دراية تفصيلية بكل أمور التعليم، أقصد رؤساء الجامعات ومديري الأكاديميات. وكان هذا خللا كبيرا يفقد مشروعا وطنيا كبيرا فضيلة التنزيل الديمقراطي التشاوري النافع، فقد غاب عنه رؤساء المؤسسات والأساتذة والإداريون والطلبة.

والخطأ الثاني: يتصل بعملية تنزيل هذا البرنامج في الواقع، فقد حجبت العقلية غير الديمقراطية وغير المنفتحة للمسؤولين على الجامعات والأكاديميات عنهم فضيلة إشراك الفاعلين في الميدان، فصار كل منهم يكون اللجن بطريقة شابها كثير من الخلل مما أدى إلى إهدار جزء هام من فلسفة هذا البرنامج، وهي ربطه بإستراتيجية الجامعة أو الأكاديمية لتطوير فضائها الجهوي، ولما كانت هذه الإستراتيجية باهتة في أحسن الأحوال ومنعدمة في أغلب الحالات فإننا للأسف لم نشهد تنزيلا حقيقيا لهذا البرنامج بما يؤدي إلى تطوير التعليم وإنقاذه من أزماته.

إذا تأملنا هذين الخطأين القاتلين واللذين لا يزالان قائمين للأسف، وجدناهما نتيجة لعدم تبني منهج مقاصدي في النظر إلى قضايا التعليم. وبناء على هذا فإن  أهم معضلة يواجهها التعليم، في نظري، هي غلبة المنظور الشكلاني في الإدارة التربوية وفي التدبير البيداغوجي للمؤسسات التعليمية. ومن أهم مظاهر هذه الشكلانية الضارة:

ـ اعتبار التنزيل الشكلاني لصورة النظام التعليمي في الجامعات، مثلا، عد إرساء نظام (LMD) نجاحا باهرا، دون التساؤل عن كيفية إرسائه ونجاعته؛
ـ اعتبار الحاجيات المادية هي الأساس، وإهدار الجوانب القيمية؛
ـ اعتبار التقييم الحسابي الشكلاني لتحقيق الأهداف هو عمدة التقويم لبيان نجاعة البرنامج ومدى تقدم تطبيقه؛ أي اعتماد التقويم الكمي وليس الكيفي (انظر التقريرالسنوي المرحلي للبرنامج الاستعجالي في موقع وزارة التعليم العالي)؛
ـ غياب التخطيط الاستراتيجي المتوسط والبعيد المدى؛
ـ غياب رؤية واضحة للتدبير لدى أغلب المسؤولين الجامعيين؛
ـ غياب المنظور التشاركي الديموقراطي؛
ـ غياب رؤية واضحة لإصلاح التكوينات وضعف الإستراتيجية المؤسسية في وضع خريطة التكوينات؛
ـ إهمال العنصر البشري واتباع إجراءات شكلانية في تكوين الموارد البشرية بصورة لا تؤدي إلى تحقيق الأهداف المقصودة (انظر، مثلا، ما فعلته الجامعات بالبرنامج الاستعجالي، المشروع رقم 15).

ولكون هذا المنظور الشكلاني من أخطر ما يواجه نظامنا التعليمي، فإننا نرى أن تجاوز سلبيات هذا المنظور لا يتأتى إلا بمواجهته بمنظور مناقض وهو الذي سميناه بالمنظور المقاصدي العقلاني، ويمكن أن نصور الفوارق بين المنظورين بصورة مختصرة من خلال الجدول الآتي:

المنظور المقاصدي العقلاني

المنظور الشكلاني

التركيز على الغايات التركيز على الوسائل
التأكيد على المقاصد والمآلات التأكيد على المساطر والإجراءات
التعامل الشمولي مع القيم (مجموع القيم الإنسانية) التعامل التجزيئي مع القيم (قيم حقوق الإنسان ومقاربة النوع فقط)
اعتبار الجوانب المعنوية أهم اعتبار الجوانب المادية أهم
الدين أقوى موجه للقيم استبعاد ارتباط القيم بالدين
التفكير في المستقبل الآتي الارتباط بالحاضر الآني
منظور تشاركي ديمقراطي منظور سلطوي فوقي
اعتبار المسؤولية التربوية أمانة اعتبار المسؤولية التربوية سلطة

يظهر من هذا الجدول أن المنظور المقاصدي يقوم على التخطيط الاستراتيجي؛ لأنه ينظر في المآلات والغايات، ويعتمد القيم الإنسانية في التدبير مستنهضا همة الإنسان للعمل النافع، كما يستند إلى نظرة ترى المسؤولية أمانة وليست سلطة قهرية استبدادية. وهذا يعني أن المنظور المقاصدي يستند أساسا إلى القيم الأخلاقية.

الحاجة إلى ميثاق أخلاقي

أعتقد أن إدماج القيم في نظامنا التعليمي يحتاج وضع ميثاق أخلاقي يشمل ثلاثة جوانب متكاملة: أخلاق المتعلم، وأخلاق المعلم، وأخلاق التدبير الإداري التربوي. وفي هذا الصدد فإن تراثا زاخرا مما خلفه الأقدمون في كتب آداب العلم والمتعلم وآداب الفقه والمتفقه تعد مصدرا هاما لبناء هذا الميثاق الأخلاقي الذي يشعر الجميع بالحاجة إليه ويتخوف البعض من التصريح بهذه الحاجة مخافة أن يكون للدين دور كبير في صياغته. لكن أظن أنه يمكن البناء على ما هو مشترك بين كافة التيارات الفكرية وهو ضرورة العودة إلى القيم والفضائل النبيلة في فضاءاتنا التعليمية.

وما لم نتمكن من صياغة هذا الميثاق وتفعيله فإن حلقات الإصلاح وإصلاح الإصلاح سوف تستمر دون جدوى، والأزمات سوف تتجدد وتتواصل من غير زوال.

وإذا أردنا أن نفصل القول في أنواع الفضائل الضرورية لبناء الإنسان واللازمة لفضائنا التربوي، فلا بأس أن نشير إلى أن الأخلاقيين العرب تحدثوا عن أهم الفضائل التي تشكل حقيقة الإنسان، وقد استمدوا ذلك مما وصل إليه الحكماء اليونان وخصوصا أرسطو وجالينوس وأضافوا إليه ما طوره العلماء العرب المسلمون أنفسهم في هذا السياق.

وقد اجتمعت كلمة هؤلاء الأخلاقيين على اعتبار الفضائل الأساسية أربعة، كما أشار ابن مسكويه وغيره في قوله: “أجمع الحكماء أن أجناس الفضائل أربعة؛ وهي الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة، ولهذا لا يفتخر أحد ولا يتباهي إلا بهذه الفضائل فقط[13]”.

ولئن كانت هذه الأربع هي أمهات الفضائل عند الأخلاقيين العرب فإنني أرى أن نضيف إليها فضيلة خامسة لابد منها وهي المحبة، وهي أصل عظيم لا غنى عنه، ومنه تتولد كثير من الفضائل والخلال النبيلة. وبهذا يمكننا أن نصوغ نسقا للقيم التي يمكن تعليمها والتربية عليها لتكوين إنسان متوازن ومتزن وذو رؤية إيجابية ومنفتحة للكون والحياة.

ويقوم هذا النسق القيمي كما نتصوره على خمس مجموعات قيمية:
1. القيم القلبية؛ وأساسها (المحبة) وتصدر عنها قيم متنوعة يأتي على رأسها الإخلاص والصدق.
2. القيم العقلية؛ وأساسها (الحكمة) وتصدر عنها قيم متعددة على رأسها الحلم والسياسة.
3. القيم الفكرية؛ وأساسها (الشجاعة)، وتصدر عنها قيم مختلفة على رأسها البيان والصبر.
4. القيم النفسية؛ وأساسها (العفة)، وتصدر عنها قيم متنوعة على رأسها الحياء والقناعة.
5. القيم الاجتماعية؛ وأساسها (العدل) وتصدر عنها قيم متعددة على رأسها السخاء والرحمة.

وهذه المجموعات الخمس هي التي تنتظم فيها مختلف القيم الأساسية لتحقيق السعادة وبناء الإنسان المتوازن والمجتمع السليم والدولة المتماسكة القوية والفاضلة. وثمة قيمة عظمى تشكل المقصد الأعلى لكل هذه المجموعات القيمية وهي قيمة وردت في القرآن الكريم بصيغة فريدة وهي “التعارف”، وقد وردت في سورة الحجرات في قوله تعالى: ﴿يَأَيهَا النَّاس إِنَّا خَلَقْنَاكم مِّن ذَكَر وَأُنثى وَجَعَلْنَاكمْ شعُوباً وَقَبَائلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكرَمَكمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات: 13).

فالتعارف، هنا، مصطلح قرآني عظيم يحدد دستور التعامل الأخلاقي بين البشر ذكورا وإناثا، شعوبا وقبائل وأمما. فالتعارف اشتراك في المعرفة وتبادل لها، وهو مصطلح أقوى من كل المصطلحات التي يستعملها الناس مثل “التسامح”، ذلك أن التسامح مجرد علاقة شكلية لا تتجاوز السماح للغير بالاختلاف، بينما التعارف علاقة عقلانية تتجاوز السماح للغير بالاختلاف إلى الاعتراف بهذا الاختلاف وجعله اختلافا مؤسسا على المعرفة، و العمل على بناء معرفة مشتركة مع الغير.

ولم أجد أحدا من المفسرين، فيما اطلعت عليه، قال كلاما ذا بال في تفسير هذا المعنى في آية سورة الحجرات، باستثناء سيد قطب من المحدثين،  فقد أجاد في إدراك معنى “التعارف” المقصود في الآية حيث قال في تفسيرها: “يا أيها الناس، يا أيها المختلفون أجناسا وألوانا، المتفرقون شعوبا وقبائل، إنكم من أصل واحد، فلا تختلفوا ولا تتخاصموا ولا تذهبوا بددا (…) والذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم (…) وهو يطلعكم على الغاية من جعلكم شعوبا وقبائل، إنها ليست التناحر والخصام، إنما هي التعارف والوئام. فأما اختلاف الألسنة والألوان واختلاف الطباع والأخلاق واختلاف المواهب والاستعدادات فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات. وليس للون والجنس واللغة والوطن وسائر هذه المعاني من حساب في ميزان الله. إنما هناك ميزان واحد تتحدد به القيم ويعرف به فضل الناس ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ (…) وهكذا تتوارى جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض، وترخص جميع القيم التي يتكالب عليها الناس[14]”.

ولا تترسخ هذه القيمة العليا “التعارف” المؤدية إلى التعاون والوئام بين البشر إلا بالتربية على القيم بالصورة التي تجعل نظامنا التعليمي يخرج أشخاصا مكتملي العقل ومكتملي الإنسانية.

وأظن أن إدماج هذا النسق القيمي في نظامنا التعليمي من شأنه أن يحسن الأداء الكيفي للمنظومة التربوية بصورة غير مسبوقة، وقد أشار أحد الخبراء وهو فراي D.FREI في دراسة نشرت بالكتاب الذي أصدره نادي روما سنة 1986 بعنوان: “القيم الأخلاقية في التعليم”، يقول: “إن إدماج تعليم الأخلاق في كل المستويات التربوية من رياض الأطفال إلى التكوين المستمر للكبار يعد في غاية الأهمية، هذا إذا أردنا أن نخلق انسجاما جيدا بين الإنسان ومحيطه البيئي، وعلاقة ممتازة بين الشعوب وبين المجتمعات[15]”.

وبذلك تكون التربية على القيم الأخلاقية من أقوى الأسباب التي تؤدي إلى السلام الاجتماعي والسلام العالمي بين الشعوب والأمم، وهذا من أعظم مقاصد الدين الإسلامي، بل هو جوهر كونه دينا للناس جميعا.

يتبين مما سبق أن الفطرة هي القدرة التي وضعها الخالق عز و جل في الإنسان ليستطيع تقويم نفسه أحسن تقويم متشبعا بالأخلاق النبيلة التي تمكنه من حسن التعارف مع غيره بصورة تجعله نافعا لنفسه ولأمته ولغيره من بني جنسه.

الهوامش

1. مقاصد الشريعة الإسلامية، ص191.
2 . المرجع نفسه، ص7.
3 . المرجع نفسه، ص68.
4 . ابن عاشور: مقاصد الشريعة، م، س، ص70.
5 . المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ت: عبد السلام عبد الشافي، لبنان: دار الكتب العلمية، 2007، 4/336.
6 . تفسير البحر المحيط، ت: عادل أحمد عبد الموجود وآخرين، دار الكتب العلمية، 2007، 7/167.
7 . التحرير والتنوير، تونس: دار سحنون للنشر والتوزيع، 8/90.91.
8 . النكت والعيون، ت: السيد بن عبد المقصود بن عبد الرحيم، دار الكتب العلمية، 1992، 6/302.
9 . مفاتيح الغيب، ت: عماد زكي البارودي، المكتبة التوفيقية، القاهرة، 16/11.12.
10 . البحر المحيط، ت: عادل أحمد عبد الموجود وآخرين، بيروت: دار الكتب العلمية، 2007، 8/486.
11 . في ظلال القرآن، القاهرة: دار الشروق، 6/3933.
12 . مقاصد الشريعة الإسلامية، م، س، ص63.
13 . تهذيب الأخلاق، وانظر: قدامة بن جعفر، نقد الشعر، ص65-66.
14. في ظلال القرآن، 6/3348.

15 . Valeurs éthiques dans l’éduction, p61.

Science

الدكتور عبد الجليل هنوش

• عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القاضي عياض مراكش.
• دكتوراه الدولة في النقد الأدبي من جامعة القاهرة.
• أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، مادة النقد والبلاغة.
• منسق ماستر: الأدب العربي القديم: أصوله اللغوية ومناهجه، بكلية الآداب مراكش.
من أعماله:
ـ التأسيس اللغوي للبلاغة العربية في القرن 2 هـ.
ـ ابن طبا طبا العلوي والتصور التداولي للشعر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق